أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جبار قادر - محاولة لتفسیر قرارات حزب العمال الکردستاني















المزيد.....


محاولة لتفسیر قرارات حزب العمال الکردستاني


جبار قادر

الحوار المتمدن-العدد: 8351 - 2025 / 5 / 23 - 16:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لا تُجيب قرارات المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني المتعلقة بالتخلي عن الكفاح المسلح وحل تنظيمات الحزب، ولا تصريحات المسؤولين الأتراك عن "الأخوّة الممتدة لألف عام بين الأتراك والكرد"، على جميع الأسئلة المتعلقة بالعملية التي لا تحمل اسمًا متفقًا عليه والتي بدأت في تركيا. فهذه العملية تُعرف بـ"تركيا من دون إرهاب" بالنسبة للحكومة، و"عملية سلام" لدى الأوساط القريبة من حزب العمال الكردستاني والكرد عمومًا. أي شخص لديه بعض الخبرة السياسية والإدارية يعرف عدد المرشحات (الفلترات) التي تمر بها مثل هذه التصريحات والخطابات قبل نشرها. وتبقى الحقائق المجردة الواردة فيها هي الأهم في تفسير القضايا. فقد جاء في إعلان حزب العمال الكردستاني أنه سينهي كفاحه المسلح وسيحلّ نفسه كحزب، كما أن هناك إشارات غامضة في الخطاب الرسمي للحكومة التركية تشير إلى أنها قد تتخذ بعض القرارات لصالح المواطنين الكرد في البلاد بعد التأكد من تنفيذ الحزب لتلك القرارات. ويبقى من غير الواضح ما هي شروط حزب العمال الكردستاني لتنفيذ هذه الخطوات، وما هي القرارات التي ستتخذها الحكومة إزاء ذلك. ويلاحظ أن الطرفين يعلنان وجهات نظر ومطالب مختلفة من خلال ممثليهما، ولا يُعرف ماذا يحدث خلف الكواليس.
لعل الإجابة على السؤال التالي قد تُلقي مزيدًا من الضوء على هذه العملية: ما هو السبب الحقيقي وراء قرارات حزب العمال الكردستاني هذه، والمواقف الجديدة للحكومة التركية؟. حزب العمال الكردستاني هو نتاج متوقّع للسياسات الاستعمارية التركية في كردستان الشمالية، والمواقف العنصرية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة للجمهورية التركية طوال القرن الماضي. لم تُسفر الجهود الكردية، خلال سلسلة الانتفاضات في أعوام 1925 و1930 و1938، والنضالات السياسية للشخصيات الكردية والمنظمات الاجتماعية والسياسية في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عن نتائج تُذكر تدفع الحكومات التركية إلى التخلي عن سياساتها العنصرية. كما أن نضال الكرد في صفوف الأحزاب والمنظمات التركية، سواء اليمينية منها أو اليسارية، لم يثمر عن نتيجة تُذكر لصالح الشعب الكردي في هذا الجزء من كردستان. وأدّت سلسلة الانقلابات العسكرية في أعوام 1960 و1971 و1980 إلى جعل وضع الكرد أكثر صعوبة وتعقيدًا.
ينتمي حزب العمال الكردستاني، الذي تأسس عام 1978، إلى فترة الحرب الباردة، في ظل وضع سياسي داخلي متأزم وصراع دولي على النفوذ في المنطقة، وكانت الأيديولوجية السائدة بين حركات التحرر في دول العالم الثالث هي الماركسية بتوجهاتها ومراجعها المختلفة. ومن هذا السياق، تأسس الحزب كجماعة يسارية ماركسية لينينية متطرفة، وبدأ نشاطه السياسي في عام 1978، ثم حمل السلاح ولجأ إلى الكفاح المسلح في أغسطس/آب 1984.
هناك طرح يُردد كثيرًا مفاده أن حزب العمال الكردستاني لعب دورًا كبيرًا في إيقاظ الكرد في شمال كردستان، وتعريفهم بحالة الخضوع التي يعانون منها وبالاحتلال الذي تعاني منه بلادهم. ليس لدينا مقياس دقيق لمدى نجاحه في ذلك، ونتساءل: كم من الوقت كانت ستستغرق صحوة الكرد من دونه؟ وهل كان بإمكان تركيا أن تمنع هذه الصحوة في ظل الثورة المعلوماتية والتكنولوجية التي انفجرت في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي؟. ومما لا شك فيه أن عددًا كبيرًا من الكرد في ذلك الجزء من كردستان كانوا قد تكيفوا مع ظروف الاستعباد، وكان شعارهم: "لا أحد يستطيع أن يفعل شيئًا ضد الدولة التركية!". وليس من المستبعد أن تعود هذه النظرة إلى الحياة وتتطوّر من جديد بعد هذه التطورات الدراماتيكية
.
العوامل التي دفعت تركيا إلى الدعوة لهذه العملية
لعبت المخاوف التركية من التغيرات السياسية الهائلة على المستوى الدولي، واختلال موازين القوى في المنطقة لصالح خصوم تركيا، دورًا رئيسيًا في بدء هذه العملية مع حزب العمال الكردستاني. يشير الصحفيون والمراقبون السياسيون الأتراك القريبون من مراكز القرار إلى خمس مراحل لتنفيذ العملية. فمن وجهة نظرهم، بدأت المرحلة الأولى بتصريحات أردوغان في ذكرى معركة ملازكرد في 26 أغسطس/آب 2024، عندما تحدث عن "تعزيز حصن تركيا الداخلي في مواجهة التهديدات الدولية والإقليمية"، وذكّر "بالأخوة الكردية التركية الممتدة لألف عام".
وقد بدأت المرحلة الأولى فعليًا بالمصافحة التي جرت بين دولت باخچلي ونواب حزب "مساواة الشعوب والديمقراطية"، المدافع عن حقوق الكرد، في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وتبعها بدعوته إلى زعيم حزب العمال الكردستاني لنزع سلاح الحزب وحل تنظيماته، وذلك في 26 من الشهر نفسه. وفي وقت لاحق من أكتوبر، أيّد رجب طيب أردوغان دعوة باخچلي من خلال تصريحات علنية، دون أن يتعهد بشيء أو يحمل نفسه التزامات محددة. يبدو لي أن المراقبين الأتراك لا يرغبون في الاعتراف بالحقائق المعروفة؛ فبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، انتاب الرعب المسؤولين الأتراك، وبدأوا يخططون لمواجهة جميع الاحتمالات والسيناريوهات الناجمة عن الحرب الإسرائيلية ضد حماس وحزب الله وإيران. وشملت هذه السيناريوهات انتصار إيران أو هزيمتها، مما يعني هزيمة إسرائيل أو انتصارها، وما يترتب على أي من هذه الاحتمالات من عواقب إيجابية أو سلبية على تركيا. وكان خطر تصاعد العامل الكردي، وإمكانية استخدام خصوم تركيا للورقة الكردية، قضية رئيسية بالنسبة لها. لذلك، برأيي، بدأت المرحلة الأولى من العملية فعليًا في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وليس في أغسطس وأكتوبر من عام 2024 كما يروّج بعض المراقبين. بدأت المرحلة الثانية بإعلان زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، في 27 فبراير/شباط من هذا العام، إذ استجاب لطلب باخچلي بشأن حل حزب العمال الكردستاني والتخلي عن أسلوب الكفاح المسلح. وعقد حزب "مساواة الشعوب والديمقراطية" سلسلة اجتماعات مع الأحزاب السياسية التركية وبعض القوى السياسية الكردية، واختتم لقاءاته بالاجتماع بكل من باخچلي وأردوغان. وبهذا انتهت المرحلة الثانية، وبدأت المرحلة الثالثة في 12 مايو/أيار مع إعلان نتائج المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني بشأن التخلي عن الكفاح المسلح وحل تنظيمات الحزب. وحسب نفس المراقبين السياسيين الأتراك، نعيش الآن في هذه المرحلة التي تُعدّ أكثرها حساسية وصعوبة، ويتوقف مستقبل العملية كلها على مدى نجاح الطرفين في تنفيذ الفقرات المتفق عليها خلال هذه المرحلة. أما المرحلتان الرابعة والخامسة، فستتضمنان خطوات التحول الديمقراطي في تركيا، والإصلاحات الدستورية والقانونية اللازمة، والتي يُفترض أن تبدأ عندما تتأكد الدولة كليًا من قيام حزب العمال الكردستاني بإلقاء السلاح وحل تنظيماته. ويُفترض أن يلعب البرلمان التركي دورًا حاسمًا في هذه المرحلة. وستكون الإصلاحات الدستورية والقانونية نتيجةً للمفاوضات بين جميع الأحزاب السياسية. وقد دعا باخچلي قبل أيام إلى ضرورة تشكيل لجنة خاصة في المجلس الوطني الكبير لتنفيذ متطلبات هذه المرحلة العليا. أما المرحلة الخامسة والأخيرة، فيُتوقع أن تكون فترة مصالحة اجتماعية وعودة المقاتلين الكرد إلى مناطقهم بعد إعادة إدماجهم في المجتمع، وفتح الآفاق أمام مسار العمل السياسي الكردي في إطار أحزاب قانونية، بعيدًا عن ضغوط الجماعات المسلحة وسيطرتها.
بُنيت خارطة الطريق على أساس سير العملية بسلاسة ودون ظهور عوائق تعرقل تقدمها. غير أن تصريحات مسؤولي حزب العمال الكردستاني تشير إلى خارطة طريق مختلفة بعض الشيء، حيث يصرّون على أن الحكومة التركية يجب أن تتخذ خطوات عملية بعد قرارات مؤتمرهم الثاني عشر لضمان تقدم العملية دون مشاكل. ولكن يبدو أن الحكومة ملتزمة بالمسار الذي رسمته، والذي يؤكد على ضرورة تنفيذ عملية إلقاء السلاح وحل تنظيمات الحزب قبل أن تقوم هي بأي خطوات ملموسة. وسوف تُظهر الأيام المقبلة ما إذا كانت هذه الاختلافات ستشكل عائقًا أمام هذه العملية. وما يمكن ملاحظته هو غياب الإعلان عن مواعيد محددة للمراحل، الأمر الذي يمنح الطرفين نوعًا من الحرية، إذ لا يعملان تحت ضغط زمني، لكنه من ناحية أخرى يبقي العملية مفتوحة على احتمالات متعددة.
من المؤكد أن السلطات التركية أدركت، بعد قرن من قمع الكرد ومحاولات إسكاتهم، وأربعين عامًا من الصراع المسلح مع حزب العمال الكردستاني، أنها لا تستطيع الاستمرار في انتهاج هذه السياسة، كما أنها لم تتمكن من القضاء على الحزب، وهو ما يشكل عاملًا مهمًا في بدء هذه العملية. وينطبق الأمر على حزب العمال الكردستاني أيضًا، والذي لم يتمكن من تحقيق أهدافه من خلال القتال طوال هذه السنوات، فاختار هذا المسار الجديد.
كانت الأحداث في غزة ولبنان وسوريا لحظةً مهمة ومصيرية بالنسبة لتركيا من وجهتين؛ فمن ناحية، قد تُشكّل نتائجها تهديدًا خطيرًا للأمن القومي للبلاد وتؤدي إلى تنامي وزن ونشاط الحركة القومية الكردية في الشرق الأوسط. ومن ناحية أخرى، كان من الممكن أن تُشكّل تلك الأحداث فرصةً فريدة لتركيا لو أنها استعدت لها بشكل جيد. انتهت التطورات في سوريا لصالح إسرائيل وتركيا، وفشلت المخططات الإيرانية فشلًا ذريعًا. وفي الوقت نفسه، أدى ابتعاد ترامب عن دول الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز موقف تركيا في مجال الدفاع عن أوروبا، مما أعاد مسألة عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي إلى الواجهة من جديد. كما أصبحت تركيا في هذه الأيام مقرًا للمحادثات الروسية الأوكرانية واجتماعات وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي، وتشير هذه المؤشرات إلى الموقع الجديد الذي ستحتله تركيا في السنوات المقبلة، ما لم تضل القيادة التركية طريقها أو تُوهِمها الأحلام الإمبراطورية مرةً أخرى.
ويأتي تبنّي تركيا لهذه السياسة الجديدة إزاء مواطنيها الكرد نتيجةً للضغوط المحلية والدولية. أما على مستوى الضغوط الداخلية، فإن أول ما يجب ذكره هو الجهود المبذولة لوقف القتال وسفك الدماء. لقد تسببت هذه الصراعات في الكثير من الدمار والمعاناة للكرد في شمال كردستان على مدى الأربعين سنة الماضية، وخلفت عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين والعسكريين. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، يُقال إن نحو٤٠ ألف شخص قُتلوا في هذا الصراع بين قوات الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، وهو رقم يُحتمل أن يكون غير دقيق، لأن آلافًا آخرين قُتلوا خلال السنوات الأخيرة. ووفقًا لمصادر موثوقة، يُقدَّر العدد الحقيقي الآن بأكثر من ٥٠ ألف شخص، نظرًا لأن المعارك تجري في مناطق جبلية وعرة، ولا توجد جهات مستقلة تقوم بإحصاء دقيق للضحايا. وغالبًا ما يقدم الطرفان أرقامًا متناقضة حول قتلاهم وخسائر الطرف الآخر كجزء من الحرب النفسية.
لقد أعطى هذا الصراع الدموي والمستمر صورةً قبيحة لتركيا أمام العالم الخارجي، وأثار الكثير من الانتقادات. كما أن الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الحرب كبيرة جدًا، إذ يعترف المسؤولون الأتراك حاليًا بإنفاق ما يقرب من تريليوني دولار، وهو عبء ثقيل على بلدٍ مثل تركيا. ومنذ عهد الرئيس التركي تورغوت أوزال، تم طرح العديد من المشاريع لإنهاء الحرب، لكنها كانت مشروطة بشروط تفرضها السلطات التركية، ولم تُسفر عن نتائج تُذكر. وكانت تلك المشاريع تركز على مسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في شمال كردستان كحل للقضية الكردية، في محاولة للتهرّب من الاستحقاقات القومية والسياسية للمواطنين الكرد، التي تُشكّل جوهر القضية الكردية في تركيا والدول الأخرى في المنطقة. ولم يكن بالإمكان أن تسفر مثل هذه المحاولات عن نتائج تُذكر. ولا ينبغي أن نغفل، في هذا السياق، عامل الطاقة؛ إذ بدأت المنطقة الكردية تتحول إلى مركز مهم للطاقة في تركيا، ليس فقط بسبب اكتشاف واستخراج النفط في شرناق وگابار والعديد من المناطق الأخرى، بل أيضًا بسبب موقعها الجغرافي الحيوي على طريق نقل الطاقة من إقليم كردستان والعراق.
وتواصلت الضغوط الدولية على تركيا بشأن القضية الكردية، كما انتقدت منظمات حقوق الإنسان باستمرار سياسة تركيا تجاه مواطنيها الكرد، ولتركيا سجل أسود في تقارير هذه المنظمات. وفي واقع الأمر، يُشكّل موقف السلطات التركية تجاه الشعب الكردي طوال عمر الجمهورية التركية نقطة سوداء في تاريخها، وكلما انتقد المسؤولون الأتراك حقوق الإنسان في أي بلد، يُواجَهون على الفور بمحنة الكرد في تركيا، ويُقال لهم: لا يمكنكم إلقاء الدروس على الآخرين فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وعليكم أن تنظروا في سياساتكم العنصرية تجاه الكرد. ويجري هذا بوضوح في العلاقة مع المسؤولين الإسرائيليين.
إن جهود تركيا الرامية إلى أن تصبح عضوًا في الاتحاد الأوروبي في السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية أجبرت المسؤولين الأتراك على القيام بسلسلة من الإصلاحات القانونية لجعلها متوافقة مع المعايير الأوروبية. لقد استفاد جميع المواطنين في تركيا، بما فيهم المواطنون الكرد، من نتائج تلك الإصلاحات، إلى جانب الأقليات العرقية والدينية. ولكن تركيا أرادت أن تصبح عضوًا في الاتحاد الأوروبي بشروطها الخاصة، ورفضت تنفيذ معايير كوبنهاغن. وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي، أدارت تركيا ظهرها لأوروبا واتجهت نحو الشرق الأوسط على أمل أن تصبح قوة عظمى وتجبر الغرب على التعامل معها كقوة كبرى. وخلال الحرب ضد داعش، تعرضت أيضًا لضغوط كبيرة لتغيير موقفها تجاه الكرد وحل قضيتهم القومية عبر الوسائل الديمقراطية.
وهناك عامل مهم آخر دفع المسؤولين الأتراك إلى البحث عن حل، وهو أن حزب العدالة والتنمية حاول كسب أصوات السكان الكرد في الانتخابات منذ وصوله إلى السلطة، واتخذ بعض الخطوات الخجولة لتخفيف الضغوط على الأخيرين ولغتهم. وقد تصرف في هذه الخطوات بتردد شديد خوفًا من الجيش، متقدمًا خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء. لم تثمر تلك الإجراءات الشكلية عن نتائج تُذكَر، ولم يتمكن حزب أردوغان من كسب ثقة الناخبين الكرد. ولكنه، بعد أن عزز مكانته السياسية وقيّد سلطة الجنرالات، أطلق مشروعًا بشأن القضية الكردية في عام 2009 شمل محادثات أوسلو، وما سُمي حينها بـ"الانفتاح الكردي"، ثم "الانفتاح الديمقراطي"، وقد أدار أردوغان العملية بنفسه. ولكن عندما فشلت، عانى من بعض الخسائر السياسية، ولذلك نراه يختبئ هذه المرة خلف دولت باخچلي.
وتخلى حزب العمال الكردستاني عن شعاراته الأولية، وفي مقدمتها إقامة دولة كردستان المستقلة وإنهاء الاستعمار التركي في كردستان، إذ بعد اعتقال عبد الله أوجلان في ١٥ فبراير/شباط ١٩٩٩، حلّ شعار "المجتمع الديمقراطي" محلّ الاستقلال والفيدرالية والحكم الذاتي وغيرها، وقد سهّلت هذه الأطروحة الأمور على الحكومة التركية إلى حد كبير. وقد دفعت هذه الأسباب مجتمعة السلطات التركية إلى الشروع في هذه العملية.
سباب قرارات حزب العمال الكردستاني:
لا توجد معلومات موثوقة حول العملية السلمية برمّتها أو الأسباب الحقيقية لمواقف السلطات التركية وحزب العمال الكردستاني. أعتقد أن هناك عاملين أساسيين لعبا دورًا هامًا في قرارات المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني. الأول هو الضغط الدولي على الحزب؛ فقد عانت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والغرب عمومًا من الكثير من الإحراج بسبب تعاونهم مع قوى قريبة من حزب العمال الكردستاني في كردستان سوريا. فرغم أن هذه الدول أدرجت الحزب على قوائم الإرهاب بناءً على طلب تركيا، فإن تبرير التعاون مع أطراف مقربة منه كان أمرًا صعبًا. ولا يعني هذا أن هذه الدول غير قادرة على التحرك خلافًا للشعارات التي ترفعها حين يتعلق الأمر بمصالحها الوطنية، لكنها لا تبدو مستعدة لفعل ذلك من أجل الكرد. من هنا، مارست هذه الدول ضغوطًا على حزب العمال الكردستاني، ويمكن ملاحظة هذه السياسة في السنوات الأخيرة في العديد من البلدان الأوروبية. وقد ألحقت هذه القضية أضرارًا كبيرة بالحزب وبحركة التحرر الكردية عمومًا، ولم تفلح محاولات الحزب الكثيرة للتخلص من آثارها السلبية. نقطة أخرى مهمة ينبغي مراعاتها في هذا السياق، وهي أنه من غير المرجّح أن يُقدِم أي حزب سياسي تركي ذو وزن حقيقي على التعامل مع حزب العمال الكردستاني في المستقبل القريب. ويبدو أن الحزب توصّل إلى قناعة مفادها أن تقديم نفسه للرأي العام التركي والعالمي ضمن أطر سياسية أكثر قبولًا سيكون أكثر فاعلية.
لقد تطورت التكنولوجيا الحربية والقدرات العسكرية التركية في السنوات الأخيرة، وأصبحت موازين القوى بين الجانبين تميل بشكل واضح لصالح تركيا، مما يجعل مهمة المقاتلين أكثر صعوبة. كما لا يوجد عمليًا نشاط عسكري ملموس في شمال كردستان منذ سنوات. وفي ظل هذا الواقع، الذي تسيطر فيه المسيرات والقوات الجوية التركية على ساحات القتال، فإن الاستمرار في النضال المسلح لا يؤدي إلا إلى الإضرار بالجانب الكردي. ويُذكر أن العديد من الشخصيات السياسية والثقافية والاجتماعية الكردية أبلغت قادة الحزب خلال السنوات الأخيرة بأن زمن النضال المسلح قد ولّى، لا سيما في ظل تقدم الآلة الحربية التركية، ولن يُفضي إلى نتيجة. وإذا كان هذا النضال قد لعب دورًا في إيقاظ الوعي القومي لدى الكرد في شمال كردستان، فإن نتائج المعارك نفسها لا تشير إلى أي تقدم يُذكر. ومن الطبيعي أن يتساءل الناس عمّا سيجنيه الكرد مقابل التخلي عن هذا الشكل من النضال. ويعتقد كثيرون أنه كان من الأفضل للحزب أن يتخلّى عن السلاح استجابةً لنداءات الأصدقاء والأوساط الكردية، لا انسياقًا وراء رغبات باخچلي وأردوغان.
من جهة أخرى، تشير تقارير موثوقة إلى أن الشباب الكردي في شمال كردستان لم يعودوا يستجيبون، في السنوات الأخيرة، لنداءات الحزب للالتحاق بالمقاتلين في الجبال. وقد أجرى صحفيون أجانب مقابلات وأعدوا تقارير تشير بوضوح إلى أن الشباب الكردي يميل إلى الانخراط في النضال السياسي من خلال الأحزاب القانونية التي تدافع عن حقوق الكرد في تركيا، ويسعون لإيصال ممثليهم إلى البرلمان عبر صناديق الاقتراع، مما يدل على اعتقادهم بأن زمن حمل السلاح قد انتهى. ومن المؤكد أن قيادة الحزب قد استشعرت هذا التحول وأدركت أن الحرب المستمرة على مدى الأربعين عامًا الماضية أنهكت الشعب، وأن التمسك بهذا النهج ستكون له نتائج سلبية على الحزب وعلى الكرد في تركيا.
يعاني حزب العمال الكردستاني من مشاكل أيديولوجية منذ تأسيسه؛ ففي الوقت الذي يُنظر إليه عالميًا كممثل لحركة قومية كردية تناضل من أجل تحقيق الأماني القومية الكردية، يُعارض هو بشدة وصفه بالحزب القومي أو الحركة القومية. وقد قدم نفسه من خلال اسمه كحزب بروليتاري، رغم أن هذه الطبقة، حسب التوصيف الماركسي-اللينيني، غير موجودة فعليًا في كردستان. ويلاحظ الباحثون أن للحزب خطابين: أحدهما كردي يثير المشاعر القومية والوطنية، والآخر تركي يتبنى خطابًا ثوريًا يساريًا. ففي الماضي كانت شعاراته ماركسية، أما اليوم فهي تتعلق بالمجتمع الديمقراطي، والكونفدرالية الديمقراطية، والأمة الديمقراطية، وغيرها. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، أصيب الحزب، كغيره من الأحزاب اليسارية، بارتباك فكري، وبدأ يتحدث عن "اشتراكية حقيقية" لم يمثلها النموذج السوفيتي. واستغرق الأمر وقتًا طويلًا لتلاشي الشعارات الماركسية-اللينينية. أما اليوم، وتحت تأثير أطروحات زعيمه عبدالله أوجلان، تُطرح مفاهيم مثل "المجتمع الديمقراطي" و"المجتمع الديمقراطي الاشتراكي" كأهداف جديدة للحرکة. لقد حلم العديد من المفكرين والفلاسفة، عبر التاريخ، بمجتمعات خالية من الاستغلال واللامساواة بدءا من "جمهورية أفلاطون"، ومرورا ب "المدينة الفاضلة" للفارابي، و"يوتوبيا" لتوماس مور، و"مدينة الشمس" لتوماس كامپانيلا، ووصولًا إلى ماركس وإنجلز ولينين وغیرهم کثیرون، وكلهم فکروا وناضلوا من أجل تحقیق هذە الأحلام الإنسانیة الرفیعة. وتعود فكرة المجتمع الديمقراطي والاتحاد الديمقراطي إلى الفيلسوف الأمريكي الفوضوي موراي بوكچين، وقد جرت محاولات لتطبيق هذه الأفكار في روژآفا (كردستان سوريا)، ومنطقة چياباس (الزاپاتیستا) في المكسيك، و"كومونة كتالونيا" خلال الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، لكن التجربة التاريخية أثبتت أنه لا وجود لمجتمعات ديمقراطية ناجحة خارج إطار الدولة ومؤسساتها القانونية. عـموما، ينتمي حزب العمال الكردستاني، بأيديولوجيته وبنيته التنظيمية، إلى حقبة الحرب الباردة، وبدأ یکرر نفسە منذ منتصف التسعينيات بطريقة غیر مقبولة. وقد ورد مثل هذا التقييم في إعلان مؤسس الحزب ورئيسه الأخیر، والذي لا يمكن تجاهل دعوته لأعضاء حزبه للبدء بهذه المراجعة، والتي لعبت، برأينا، دورًا حاسمًا في قرارات المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الکردستاني.
سيُكشف في المستقبل عن كثير من الأسرار التي رافقت وترافق مسيرة هذه العملية، وقد تُجيب تلك الأسرار والخفایا على العديد من الأسئلة، وتُظهر صحة أو خطأ الكثير من التحليلات والآراء التي طُرحت مؤخرًا. کما تبقى احتمالات النجاح أو الفشل لهذه العملية، والآثار المترتبة علیها موضع متابعة واهتمام کبیرین بالنسبة للكرد وتركيا وشعوب المنطقة.



#جبار_قادر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما لم یقلە المتهم نزار الخزرجي في روایت ...
- أردوغان وحکایة إنتهاء مدة صلاحیة معاهدة لوزان!
- کتاب مختلق لمؤلف زائف عن الکرد قبل قرن !
- زهیر عبدالملك: حیاتە ونتاجە الفکري و ...
- الإرهاب والکباب في کرکوك
- القرارات السریة لمجلس قیادة الثورة المنحل
- هل یحق للمحکمة الإتحادیة العلیا العراق ...
- هاهم یتذکرون أن الکردیة لغة رسمیة في العرا ...
- هل أصبح العراق محمیة دولیة لإیران وترک ...
- التهدیدات الترکیة الإیرانیة ضد کوردس ...
- بالإستفتاء أو من دونە ... إصطدام الکرد بالحشد في حکم ا ...
- أین الکرد من دولة المراجع والمیلیشیا ...
- کرکوک من جدید
- هل تریدونها إسرائیل ثانیة ام دولة صدی ...
- محنة اردوغان في اقناع العالم بتقلباتە السیاس ...
- الجزيرة والقضية الكردية
- وثائق جديدة تدين صدام واعوانه بضرب الكرد بالأسلحة الكيمياوية ...
- وثائق جديدة تدين صدام واعوانه بضرب الكرد بالأسلحة الكيمياوية ...
- ضرب كوردستان بالأسلحة الكيمياوية عام 1987 كما ترويه الوثائق ...
- بوصلة السيد الجعفري


المزيد.....




- العراق يوضح حقيقة نقل وزير خارجيته رسالة من ترامب لإيران لـ- ...
- -لم نكن مستعدين لذلك-: الغموض يكتنف مصير الطلاب الدوليين في ...
- من هو الجنرال ديفيد زيني، ولماذا يثير تعيينه رئيسا للشاباك ج ...
- روسيا تفرج عن 390 أوكرانياً في المرحلة الأولى من صفقة تبادل ...
- إحراق سيارات وتدمير منازل وتهجير: اعتداءات على الفلسطنيين في ...
- ترامب: لا نعول على عقد صفقة مع الاتحاد الأوروبي
- شاهد.. روسيات يذرفن الدموع بعد استعادتهن من الأسر الأوكراني ...
- باحث فرنسي: على باريس أن تقود القطار الأوروبي المناهض لإسرائ ...
- استشهاد يقين حمّاد الطفلة الفلسطينية الناشطة على مواقع التوا ...
- ماذا حققت جولة مفاوضات واشنطن وطهران الخامسة؟ وما علاقة إسرا ...


المزيد.....

- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جبار قادر - محاولة لتفسیر قرارات حزب العمال الکردستاني