حسين أحمد
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 8350 - 2025 / 5 / 22 - 14:13
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
تُشير التطورات الأخيرة في الساحة السياسية التركية إلى لحظةٍ مفصليَّةٍ في ملف عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني (PKK). ففي ظلِّ تصريحاتٍ متضاربةٍ وشروطٍ متبادلةٍ، يبدو المسار نحو السلام محفوفاً بالتحديات، مُهدِّداً بتجميد ما بدا وكأنها فرصةٌ سانحةٌ للتقدُّم.
إعلان حزب العمال الكردستاني: خطوةٌ تاريخيَّةٌ لكنها مشروطةٌ
شَكّل البيان الختاميُّ للمؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني، الصادر في 12 أيار 2025، نقطةَ تحوُّلٍ كبرى. فقد أعلن الحزب عن حلِّ هيكله التنظيميِّ وإنهاء أسلوب الكفاح المسلح، إضافةً إلى وقف الأنشطة التي كانت تُمارس باسمه. يُؤكِّد البيان أن هذه الخطوة التاريخيَّة، المستلهمة من رؤى قائد الحزب عبد الله أوجلان، جاءت بعد إنجاز "المهمة التاريخية" للحزب في مواجهة سياسات الإنكار والإبادة.
يُشير البيان إلى أن قرار نزع السلاح يتطلب إدارة أوجلان للعملية، مع "الاعتراف بالحقِّ في السياسة الديمقراطية وضمانةٍ قانونيَّةٍ متينةٍ وكاملةٍ". هذا المطلب الأخير يُلغي كون خطوة نزع السلاح أحادية الجانب، بل يُشير إلى كونها جزءاً من صفقةٍ أوسع تتطلب من تركيا تقديم ضماناتٍ.
كما تُذكّر لغة البيان بتاريخ الصراع، مُشيرةً إلى "الدولة العميقة" التي أحبطت محاولات السلام السابقة في التسعينات، مما يُلقي بظلالٍ من عدم الثقة على التفاعل المستقبليِّ.
الموقف التركيُّ: "انتصارٌ وإصرارٌ" على نزع السلاح أولاً
جاء رد الفعل التركيِّ الأوّليِّ على إعلان حزب العمال الكردستاني مُتأرجحاً بين الترحيب الحذر والإصرار على الشروط. فقد عبّر الرئيس رجب طيب أردوغان عن تفاؤله بأن "حزب العمال الكردستاني سيلقي السلاح وسيتمُّ حلُّ التنظيم"، مُبشِّراً بـ"مرحلةٍ جديدةٍ شاملةٍ". هذا التصريح يُركِّز بوضوحٍ على الجانب الأمنيِّ المتمثِّل في "إلقاء السلاح" كشرطٍ لا غنى عنه.
يُعزِّز هذا الموقفَ حليفُ أردوغان، دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية (MHP). فبينما شَكَرَ بهجلي عبد الله أوجلان على دعوته للسلام، إلا أن مقترحه لـ"سبع خطواتٍ للبدء بعملية السلام" في البرلمان، والتي تتضمن تشكيل لجنةٍ برلمانيةٍ، جاء مُقيَّداً بشرطٍ أساسيٍّ: عدم تشكيل اللجنة إلا بعد تسليم حزب العمال الكردستاني سلاحه. هذا يُظهر التزاماً تركياً راسخاً بإنهاء الكفاح المسلح قبل أيِّ حوارٍ سياسيٍّ مؤسسيٍّ حول القضية الكردية.
صوت حزب DEM: بناء الثقة مفتاح التقدُّم
على النقيض من الموقف التركيِّ، تُؤكِّد الرئيسة المشتركة لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب (DEM)، عائشة غول دوغان، على أن إعلان حزب العمال الكردستاني هو "أساسٌ لبناء الديمقراطية"، وليس مجرد قرارٍ بإنهاء الكفاح المسلح. وتُشدِّد على ضرورة "عدم تضييع هذه الفرصة"، مُطالِبةً بـإجراءاتٍ عاجلةٍ لبناء الثقة قبل العيد. تتضمَّن هذه المطالب:
* إعادة الأكاديميين طالبي السلام المفصولين إلى وظائفهم.
* إطلاق سراح المعتقلين المرضى.
* سحب الأوصياء المُكلَّفين بإدارة البلديات المنتخبة.
* منح الحرية للسياسيين والصحفيين.
تُمثِّل هذه المطالب اختباراً حقيقياً لنوايا الحكومة التركية، حيث يرى حزب DEM أنها خطواتٌ لا غنى عنها؛ لتهيئة مناخٍ إيجابيٍّ يسمح بتقدُّم عملية السلام وتحويل القضية الكردية إلى مسارٍ سياسيٍّ وديمقراطيٍّ بحتٍ.
زيارة بروين بولدان، عضوة وفد إيمرالي، لصلاح الدين دميرتاش في السجن، وحملها رسالةً منه تحمل تحياته إلى أردوغان وبهجلي وغيرهم، تبرز محاولة حزب DEM لفتح قنوات اتصالٍ على مستوياتٍ عليا وتخفيف التوتر السياسيِّ.
قادة حزب العمال الكردستاني: دعْمٌ مشروطٌ وغموضٌ في التنفيذ
يُؤيِّد قادة حزب العمال الكردستاني الإعلان عن حلِّ التنظيم، لكنهم يُشدِّدون على ضرورة استجابة الدولة التركية.
مراد كارايلان، قائد قوات حماية الشعب HPG، يُصرُّ على أن "الدولة التركية يجب أن تقوم أيضاً بإجراء تغييراتٍ قانونيةٍ في أقرب وقتٍ ممكنٍ حتى يتمَّ تنفيذ قرار إنهاء الكفاح المسلح...". ويُضيف: "نحن بحاجةٍ أيضاً إلى الثقة في الدولة لإلقاء السلاح"، مؤكداً أن "على من يدَّعون تحقيق السلام الداخليِّ أن يغيروا أولاً عقلية الإنكار والتدمير".
هذا يُشير إلى أن نزع السلاح لن يكون مجرد فعلٍ أحاديٍّ، بل عملية تبادلية تتطلب من تركيا إظهار حسن النيَّة وتغيير نهجها.
من جهته، يُسلِّط وزير داخلية إقليم كردستان، ريبر أحمد، الضوء على الجانب العمليِّ، مُعلنًا أنه "لم تُتَّخذ بعد أيُّ خطواتٍ عمليةٍ لنزع سلاح PKK، وأنه غير واضحٍ متى وكيف سيتمُّ ذلك". هذا التصريح يُؤكِّد على وجود فجوةٍ بين الإعلانات السياسية والتطبيق على الأرض، مما يُلقي بظلالٍ من الشكِّ على مدى جدية التقدُّم في عملية السلام حالياً.
الدستور الجديد: رؤيةٌ تركيَّةٌ للمستقبل لا ترتبط مباشرةً بعملية السلام
تتزامن هذه التطورات مع إصرار الرئيس أردوغان على ضرورة صياغة دستورٍ جديدٍ لتركيا. يُؤكِّد أردوغان أن الدستور الحاليَّ لم يعد يُناسب التطلعات المستقبلية للبلاد، وأن العمل جارٍ لإعداد "دستورٍ من الجيل الجديد" يُعالج أوجه القصور. ورغم أن أيَّ دستورٍ جديدٍ قد يُلامس قضايا الحريات والحقوق التي تهمُّ الأكراد، إلا أن طرح أردوغان لهذا المشروع يبدو كجزءٍ من رؤيةٍ شاملةٍ لتحديث الدولة، وليس كاستجابةٍ مباشرةٍ أو مشروطةٍ بعملية السلام مع حزب العمال الكردستاني.
رفضٌ جزئي من العدالة والتنمية لمقترح حليفهم بهجلي: الأولوية المطلقة لنزع السلاح
في تطورٍ لافتٍ، استخدم حزب العدالة والتنمية "الفيتو" ضد دعوة حليفه دولت بهجلي لتشكيل لجنةٍ برلمانيةٍ لعملية السلام.
أوضح رئيس الجمعية الوطنية التركية الكبرى، نعمان كورتولموش، ونائب رئيس حزب العدالة والتنمية، ظافر صاري كايا، أن تسليم السلاح يجب أن يكون "واضحاً وجلياً" أولاً، وأن البرلمان سيتدخل بعد ذلك. صاري كايا شدد على أن "من غير الممكن مناقشة هذه العملية في الجمعية الوطنية الكبرى التركية في بيئةٍ تُشكِّل فيها الأسلحة قضيةً أكثر أهميةً على جدول الأعمال".
هذا الرفض يُؤكِّد أن تركيا تُفضِّل أن تكون عملية السلام "أمنيّة" بحتةً في مراحلها الأولى، مُتجنِّبةً أيَّ تسييسٍ قد يُضفي شرعيةً على حزب العمال الكردستاني، أو يُثير مطالب سياسيةً قبل تحقيق الشرط الأساسيِّ. كما يُشير إلى أن تركيا تُفّضل التعامل مع الملفِّ بخطواتٍ حذرةٍ ومُتحكّمٍ بها، بعيداً عن ديناميكيات اللجان البرلمانية التي قد تُؤدّي إلى تنازلاتٍ.
مأزق الثقة والشروط المتبادل
يبدو أن عملية السلام تُعاني من مأزقٍ حقيقيٍّ يتمثَّل في انعدام الثقة والشروط المتبادلة. تُطالب تركيا بنزع السلاح أولاً، بينما يصر حزب العمال الكردستاني على خطواتٍ لبناء الثقة وإصلاحاتٍ سياسيَّةٍ وقانونيَّةٍ كشروطٍ مسبقةٍ.
هذا الجمود يُعيق أيَّ تقدُّمٍ ملموسٍ ويُهدِّد بإهدار فرصةٍ تاريخيَّةٍ. مما يعني الدخول في دوامة عنف يتخوف منها الجميع، على غرار ما كان يحدث عقب كل محادثات سلام فاشلة.
لتجاوز هذا المأزق، يمكن استكشاف عدَّة سيناريوهاتٍ:
* وساطةٌ دوليَّةٌ أو داخليةٌ مُحايدةٌ: قد تُساعد وساطةٌ قويةٌ ومُحايدةٌ في تقريب وجهات النظر ووضع خارطة طريقٍ تُحدِّد خطواتٍ متزامنةً ومُشروطةً لكلا الطرفين. هذه الوساطة يجب أن تُركِّز على بناء الثقة وتوفير الضمانات اللازمة لتنفيذ الالتزامات.
* حزمةُ إصلاحاتٍ قانونيَّةٍ وأمنيَّةٍ مُتزامنةٍ: بدلاً من التسلسل الصارم (نزع السلاح ثم الإصلاحات)، يمكن لتركيا أن تُقدم حزمةً من الإصلاحات القانونية والإنسانية (مثل إطلاق سراح المعتقلين المرضى أو إعادة الأكاديميين) بالتزامن مع خطواتٍ عمليةٍ وواضحةٍ من حزب العمال الكردستاني لنزع السلاح. هذا يُمكن أن يُقلِّل من مخاطر استعصاء طرف ويُعزِّز الثقة.
* تحديد آلياتٍ واضحةٍ ومُراقبةٍ لنزع السلاح: بما أن الغموض يكتنف كيفية نزع السلاح، فإن الاتفاق على آلياتٍ شفافةٍ ومُراقبةٍ دولياً أو محلياً (من منظماتٍ مدنيةٍ موثوقةٍ أو طرف دولي محايد) لجمع الأسلحة وتدميرها، يمكن أن يُبني الثقة ويُزيل الشكوك.
* حوارٌ سريٌّ ومُكثّفٌ برعاية أوجلان: بالنظر إلى الدور المحوريِّ لأوجلان، فإن تعزيز الحوار السريِّ والمباشر بين الدولة التركية وأوجلان، وربما بمشاركة قادة حزب العمال الكردستاني في قنديل، يمكن أن يُسرِّع التوصل إلى تفاهماتٍ حول تفاصيل التنفيذ بعيداً عن الضغوطات العلنية.
* تهيئةُ رأي عام داعم للسلام: على كلا الطرفين العمل على تهيئة الرأي العام الداخليِّ لدعم عملية السلام، من خلال خطابٍ يُركِّز على المنافع المشتركة للسلام والتنمية والديمقراطية، بدلاً من خطابٍ يُعزِّز الانقسام والعداء.
تبقى الأيام القادمة حاسمةً في تحديد ما إذا كانت هذه اللحظة التاريخية ستُشكِّل بدايةً لسلامٍ دائمٍ، أم مجرد حلقةٍ أخرى في سلسلةٍ طويلةٍ من الفرص الضائعة، وبداية لصراعٍ دامٍ قد يأخذ المنطقة كلها وليس تركيا فحسب إلى دوامة عنف لا يريدها أحد.
#حسين_أحمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟