|
اليسار بين التراجع والصعود.. الأسباب والتحديات
رشيد غويلب
الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 22:51
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
لا شكّ في ان العالم يعيش اوقاتا صعبة، ويواجه تحديات جدية، يمكن تكثيف ملامحها بصعود اليمين الشعبوي المتطرف، الذي منحته عودة ترامب الى البيت الابيض زخما اضافيا. وعودة حروب الهيمنة بين المراكز الرأسمالية المتنافسة، التي لا تستبعد المواجهة النووية، كما هو الحال في اوكرانيا، وكذلك التطورات المتسارعة في منطقة الشرق الوسط. الى جانب ذلك تتصاعد اخطار الكوارث البيئية والمناخية المتصاعدة، وانعدام العدالة في الاقتصاد العالمي. وليس من المبالغة الحديث عن حقل الألغام الذي يلف العالم. وفي المقابل هناك توق انساني إلى حياة أفضل، وعالم اكثر أمنا للأجيال المقبلة(1). الرأسمالية ليست بديلا صورة الرأسمالية اليوم، تؤكد أكثر من أي وقت مضى اهمية النضال من اجل بديل ديمقراطي تضامني، يتجاوز الرأسمالية، ويفتح آفاقا لبديل اشتراكي، يستوعب ما هو ايجابي في التجارب السابقة، ويتجاوز اخطاءها، ويسعى جاهدا لتحقيق التلازم الضروري بين الاشتراكية والديمقراطية، على اساس الشفافية والمشاركة الواسعة. لا تمثل الرأسمالية نهاية التاريخ، وهي ليس بديلا انسانيا. تقول معطيات الأمم المتحدة، إن 15 في المائة فقط من سكان العالم تتوفر لهم الخدمات الصحية الأساسية. وان هناك فائضا في إنتاج الغذاء، لكن 20 ألف انسان يموتون يوميا نتيجة الجوع. ويهاجر يوميا ثلاثة آلاف من سكان إفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، الى بلدان الشمال الرأسمالية الغنية(2) والرأسمالية غير قادرة على حل مشاكل العالم الاجتماعية والبيئية. إن تقسيم العالم إلى الدول المتقدمة صناعيا في أوروبا وأميركا الشمالية ودول الجنوب باعتبارها مستعمرات سابقة لها، ومصدرا للمواد الخام والعمالة الرخيصة يعكس طبيعة الرأسمالية. كما ان نسخة الليبرالية الجديدة من الرأسمالية، التي بدأت في عام 1973 مع دكتاتورية أوغستو بينوشيت في تشيلي، ادت إلى المزيد من التفاوت والتهميش والخصخصة. اضافة الى ان الرأسمالية، لا تجد بديلا للحرب كحل واضح لأزماتها: الحرب في أوكرانيا، وحرب الابادة الجماعية في الشرق الأوسط. وهناك 54 حربًا صغيرة وكبيرة على مستوى العالم. وهذا يعني تحقيق أقصى قدر من الأرباح لشركات الأسلحة؛ إذ تحقق صناعة الأسلحة إيرادات بقيمة 70 ألف دولار في الثانية الواحدة(2). مفهوم اليسار تعدد توصيفات اليسار يعود لأسباب منهجية، تاريخية، وحتى ثقافية. وكذلك ان تطور الصراع السياسي والاجتماعي ومروره بمراحل مختلفة اضافة لموضوعات واهداف ومطالب مختلفة في هذا البلد او ذاك: "وبالاستناد الى تقاليد النضالات الاجتماعية في القرنين الـ 19 والـ 20، لقد ترسخ تفسير عام مشترك: “اليمين” للتعبير عن القوى المحافظة، و"اليسار” يعني قوى التغيير. “اليمين” هو الرجعية، و"اليسار” يعني الثورة. “اليمين” مرادف للرأسمالية، و"اليسار” مرادف للاشتراكية... الخ"(3). اليسار مفهوم نسبي تتحرك حدوده بدرجات مختلفة من قارة الى اخرى ومن بلد الى آخر، ووفق حاجات الصراع وتوازن القوى، والتجربة التاريخية وطبيعة البنية الثقافية في البلد المعين، لذلك فحدود التوصيف في الولايات المتحدة، هي غير حدود التوصيف في أوروبا او امريكا اللاتينية. اما في البلدان العربية، فان تجربة اليسار متأثرة بأوروبا، الموطن الأول لليسار المعاصر. وعلى الصعيد المنهجي فاليسار، كما أراه: مضاد للرأسمالية، ويناضل من اجل بديل لها جوهره العدالة الاجتماعية الجذرية وإعادة توزيع الثروة لصالح الأكثرية، هذا البديل هو الاشتراكية. وان يكون علميا أمميا، متضامنا، تحرري الموقف من حقوق المرأة وفي رؤيته للعلاقات الاجتماعية وخصوصية الأفراد. وعلى هذا الأساس هناك كثير من القوى والافراد يمكن ان يكونوا اليوم شركاء لليسار وحتى جزء منه، ويسيرون معه محطات تطول وتقصر. والفيصل في هذا مدى تقبلهم لفكرة اعادة توزيع الثروة. وسياسيا يمتد اليسار بالمعنى الواسع من الاحزاب الديمقراطية الاجتماعية، مرورا بالأحزاب الشيوعية واليسار الماركسي بقراءاته الفكرية المختلفة، والعديد من احزاب الخضر والدفاع عن البيئة وصولا الى تيارات الفوضويين واليسار المتطرف. اهمية اليسار مع تصاعد اليمين المتطرف وتراجع نموذج الليبرالية الجديدة، وعودة حروب الهيمنة لتقاسم مناطق النفوذ، وتراجع العديد من المجتمعات، وخصوصا في البلاد العربية والعديد من بلدان الجنوب الأخرى الى اشكال ما قبل الدولة، فان كل المضامين التي رافقت صعود اليسار، تحافظ على راهنيتها، بل تصبح اليوم ذات اهمية استثنائية. وبالعودة الى ما أشرنا اليه في المقدمة، يتفق الكثير من الباحثين على أن الرأسمالية لا تحل أو لن تحل، بأي شكل من الأشكال، مشاكل البشرية الحالية أو المستقبلية، على الرغم من امكانياتها في التكيّف وتجاوز الأزمات. وبالمقابل ليس هناك بديل جذري مناهض للإمبريالية خارج منهجية اليسار التحررية، فالمشاريع القومية والطائفية، حتى وان اختلفت سياسيا مع المراكز الرأسمالية، فأنها لا تطرح مشروعا اقتصاديا اجتماعيا خارجها. أسباب الصعود والتراجع منذ تفكك الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية في شرق أوربا، كتب وقيل الكثير عن هذه الاسباب، وما زال وسيبقى البحث بشأنها مستمرا، اذ لا يمكن استنهاض اليسار وتعزيز دوره، دون بلورة رؤية موضوعية معاصرة عن تجربته التاريخية. وفي البلدان التي تناضل فيها قوى اليسار في ظل ظروف غاية في الصعوبة، وامكانيات محدودة، لا بد من العودة مرارا وتكرارا لأسباب صعود وتراجع اليسار، في محاولة لتفعيل الحوار بين الناشطين والمهتمين والمتابعين للصراع الدائر في عالمنا المعاصر عموما، وعلى الصعيدين الإقليمي والوطني. وبهدف التكثيف، سنركز في تناول اهم محطات الصعود والتراجع في القرن العشرين، الذي شهد انتصارات اليسار الكبرى، وكذلك نهاية نموذجه الاشتراكي الأول. وبالتالي سنبدأ من الحرب العالمية الأولى، التي كان الموقف منها، بالإضافة الى اسباب اخرى، وراء انشقاق الحركة العمالية، الى يسار جذري اممي رفض الحرب باعتبارها حربا امبريالية لاقتسام مناطق النفود بين مراكز الرأسمال حينها. كان أبرز رموزه على سبيل الاشارة لا الحصر، لينين، روزا لوكسمبورغ. وآخر وقع في فخ القومية، واصطف مع الأسمال المحلي، وبرر اقتتال عمال البلدان المتحاربة، لخدمة اهداف امبريالية. الصعود في سياق تناول عوامل نهوض اليسار واسبابه يمكن الاشارة الى ما يأتي: كانت ثورة اكتوبر الحدث الأهم في نهوض يسار القرن العشرين، لانها كانت ثورة من السلام العالمي. وبانتصارها دشنت اول قطيعة ناجحة مع الموت الجماعي في الحرب العالمية الإمبريالية الأولى. وكانت ثورة من أجل الديمقراطية والتحرر الاجتماعي، ومثلا يحتذى به للثورات اللاحقة التي هزت أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ولأول مرة منذ هزيمة كومونة باريس في العام 1871، وضعت ثورة أكتوبر، الثورة الاجتماعية بالملموس على جدول اعمال التاريخ. لقد قدمت الثورة نموذجا ملموسا على امكانية كسر سلسلة الهيمنة الامبريالية. وعبرت عن مطامح الاكثرية المستغلة والمضطهدة في العالم. وقدم النظام الاشتراكي الذي انبثق عنها مساعدات مكشوفة ومستترة للعديد من الحركات والبلدان. لقد ادى هذا التطور العاصف، خصوصا بعد فضح المعاهدات الاستعمارية، ونداءات التضامن مع شعوب الشرق، الى جانب اسباب أخرى، الى نهوض حركات التحرر في العالم، وتصدر اليسار لأغلبها، لامتلاكه اطرا تنظيمية وتعبوية معاصرة تجاوزت القوى والاطر التقليدية، واستيعابه لمضمون تحرري لمناهضة البلدان المستعمرة، واهمية حق تقرير المصير، وبالاستناد الى الماركسية أكد ان المقاومة يجب ان تؤدي الى تحرير الفرد والمجتمع، وبعكسه ستنتج استبدادا محليا، وهذا ما حصل في العديد من بلدان منطقتنا. لقد قدم اليسار مثالا نضاليا، وتبنى شعارات واهدافا تمس حاجات الشبيبة التواقة لعالم أفضل، وانفرد في تقديم رؤية تقدمية انسانية لتحرر النساء(4). معروف ان الاتحاد السوفيتي تحمل القسط الأكبر في هزيمة الفاشية والنازية، والى جانب انقاذ العالم من هول جرائم الفاشيين والنازيين، انفتح افق واسع للمشاريع التقدمية، مقابل انكماش اليمين في السنوات والعقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. وكذلك الدور المحوري الذي لعبته الاحزاب الشيوعية واليسارية في حركة مقاومة الفاشية ومساهمتها الرئيسية في تحرير العديد من البلدان منها فرنسا، ايطاليا، اليونان، ويوغسلافيا. تعزز صعود اليسار بدور مميز للمثقفين والمبدعين اليسارين، في الرد على الثقافة التقليدية، وطرح انموذجا شمل كل مجالات الابداع، وتحول الى ماكينة للتنوير وكسر هيمنة منظومة الافكار المحافظة، وفتح الباب واسعا امام رياح التقدم والتنوير، وخصوصا في بلدان المستعمرات السابقة. الدور الذي لعبته الطبقة العاملة في النمو الاقتصادي وتصاعد دور عالمي للنقابات، واتساع حركة السلام على خلفية الدمار الناتج عن قصف هيروشيما وناكا زاكي، وانتشار الاحزاب اليسارية باعتبارها حاملة للبديل المرجو وكذلك حركات النساء والشبيبة والطلبة، ارتباطا بالإمكانيات التي وفرها قيام بلدان المنظومة الاشتراكية. لقد مثلت التجربة الاشتراكية في شرق أوربا، خصوصا في عقودها الأولى، تهديدا وخطرا على الرأسمالية الغربية، ما دفعها الى تبني نموذج دولة الرفاه، التي حققت العديد من المكتسبات الاجتماعية، ودفعت بعض اوساط من جمهور اليسار الى اعتبارها نموذجا اشتراكيا، ولكن سرعان ما انكشف الوهم، وعملت قوى الوسط واليمين، في العقود التي تلت نهاية النموذج السوفيتي، على قضم المكتسبات الاجتماعية المتحققة، واليوم تشارك احزاب اليمين المتطرف في حكومات العديد من البلدان، التي اعتبرت رائدة في هذا المجال. التراجع مثلما كانت ثورة اكتوبر رافعة لنهوض اليسار، فان نهاية النموذج الاشتراكي وغياب المثل، كان عاملا رئيسيا في تراجع اليسار، حتى لقوى اليسار التي كانت ناقدة بحق للجوانب السلبية في التجربة الاشتراكية الأولى. وهنا يمكن الاشارة الى جملة من الاسباب التي تقف وراء هذا التراجع: الآثار المدمرة لاعتماد التصفيات لإدارة الصراع في عقود سيادة الستالينية، وانعكاسها في موجة انشقاقات في الحركة الشيوعية وعموم اليسار، وتوفيرها فرصة لمنافسي اليسار من قوى الوسط، وخصومه في معسكر اليمين للنهوض مجددا. وجرى تبرير هذه التصفيات بالاستناد الى نظرية المؤامرة والعمالة للأجنبي، وهي ذات النظرية التي توظف حتى اليوم ضد اليسار والقوى الديمقراطية في العديد من بلدان العالم. تحويل الماركسية الى عقيدة جامدة، وتحديد مسارات ادارة الصراع بعيدا عن توسيع المشاركة وتعزيز الديمقراطية، والتمسك بنظم داخلية تجاوزتها الحياة. وحتى الاحزاب الشيوعية، التي اعتمدت عمليات تجديد تحت السيطرة، وعلى الرغم من انفتاحها خطابها السياسي، الا انها ما تزال على صعيد البنى والذهنية السائدة فيها تعاني من الإرث الثقيل للستالينية. تقاسم مناطق النفوذ خلال عقود الحرب الباردة، بين البلدان الرأسمالية، ومنافستها الاشتراكية، حدّ من فرص وصول الاحزاب الشيوعية واليسارية الى السلطة في العديد من البلدان، كما حدث في فرنسا، ايطاليا، واليونان. ولذلك ليس غريبا ان تشهد اسبانيا وفرنسا وايطاليا ظهور الأورو شيوعية. وكان تقاسم مناطق النفوذ عاملا مساعدا في توسيع دائرة انقلابات المخابرات المركزية ضد نظم وحركات تقدمية، في العراق، ايران، إندونيسيا، تشيلي وأغلب بلدان امريكا اللاتينية. البيروقراطية التي تراكمت في النظم الاشتراكية انتقلت الى الاحزاب الشيوعية واليسارية بحكم العلاقة، وبالتالي سببت خسائر غير قليلة لهذه الاحزاب، وحالة اغتراب بينها وبين حواضنها الجماهيرية. وكذلك ضعف التضامن مع عمال بلدان الاطراف نتيجة لنشوء ارستقراطية عمالية في بلدان المراكز الرأسمالية. ولعل المثل الابرز ما حل بحكومة حزب اليسار اليوناني، في حين اكتفت النقابات العمالية في البلدان الأوربية بدور المتفرج. صعود الليبرالية الجديدة، وتراجع التصنيع لصالح رأس المال المالي، ادى الى اضعاف دور الطبقة العاملة المنتجة في المركز والاطراف، وقلص الحاجة للمواد الخام، ولم تعد البلدان المنتجة لها اسواقا مهمة. وبدأت ظاهرة الانتاج في الاطراف، والمثل الابرز النمور الآسيوية. ان هذا الواقع عمق تبعية الاطراف، وأضعف معارضة رأس المال المالي، وانعكس في تراجع التأثير الثوري لليسار. لقد اتسع نطاق رأس المال الرقمي، وكذلك قطاع الخدمات، مقابل تقلص دور العاملين. ولعل المثل الأبرز هو تحالف (غلاسكو) المالي العالمي، الذي يملك 130 ترليونا (ألف مليار دولار)، أي ما يعادل 137 في المائة من الناتج الاجمالي العالمي(11). التحديات الراهنة تتمثل التحديات العامة التي تواجه اليسار بالآتي: (1) التحدي الاول الذي يواجه اليسار هو تجاوز التعصب والانغلاق. لقد كان التعصب أحد أكبر اخطاء اليسار، وانعكس ذلك في مفهوم "الطليعة وثنائية الاستقطاب من ليس معنا، فهو ضدنا. وشكل ذلك ارضية خصبة للانشقاقات وغياب الشفافية، وانشغال بالذات وفي سلسلة من المناقشات غير المجدية. وتحول الى جدار عازل عن كل جديد وفقدان القدرة على التعامل مع اسئلة الواقع الجديدة، وغيب العديد من المنظمات اليسارية التي تسعى الى مساهمة جدية في النضال ضد الرأسمالية وفي سبيل الاهداف الآنية وطنيا. لقد أدى هذا السلوك الى التعارض مع جوهر الماركسية، اذ كيف ترفض قوى تريد تغيير العالم، عملية التغيير الموضوعية داخلها؟(5). (2) وضع رؤية علمية عن العالم، تمثل واحدة من الصراعات الرئيسية في المواجهة مع الرأسمالية. واليسار اليوم بحاجة إلى استعادة رؤية علمية تساعد على إلقاء الضوء على التفاعلات في العمليات الاجتماعية المعاصرة. عراقيا يعني هذا دراسة الخراب الاجتماعي القائم وسيادة التخلف، بترابط بين الفترات المختلفة، وكذلك قراءة الاحداث اليومية المتسارعة، وعدم الانجرار الى التفسيرات السطحية التبسيطية القائمة على التجييش الطائفي، والمقارنات الساذجة. (3) وضع التثقيف في المقدمة، والذي يشمل كل الفاعلين. وهو تثقيف يجب ان يكون مبدعا في جميع جوانبه، في محتواه وفي الشكل الذي يتم فيه. وللأسف يكون التثقيف السياسي في كثير من الأحيان تكرارا للبديهيات، وبلغة قديمة، وكأن شيئا لم يتغير في العالم. والتحدي في هذا، هو قدرة اليسار على ان يكون خلاقا مرة أخرى، وهو بحاجة لمعرفة نفسه أكثر وتعزيز وعيه على اساس الالتقاء اليومي لروح النضال الثوري مع الحياة اليومية للمجتمع. ولهذا ليس لديه خيار آخر سوى مغادرة اخطاء العقلية السابقة، وإذا كان الابداع يعني دائما القطيعة مع أخطاء الماضي، فانه يعني الاستمرارية أيضا(6). (4) الربط بين الفكر والممارسة هو العنصر الأساسي في العلم. ولهذا يجب ان يكون "الفكر اليساري المناهض للرأسمالية مصحوبا بالنشاط. ان يسارا يفكر فقط ويحدد المواقف والحجج، ولا يمارس عمليا الفعل السياسي، ولا يتجشم المخاطر، ويصف ما يحدث فقط، سيكون في الواقع متضررا جراء فقدانه للفهم العملي، وما عدا ذلك سيكون ضئيلا او عديم الفائدة للمجتمع، ويساهم في تسريع عملية تهميشه التي يعمل ويسعى لها منافسوه"(3). ويتضمن ربط الفكر والممارسة أيضا وحدة الممارسة والسلوك، وبالتالي يجب ان يتوافق السلوك اليومي للناشط اليساري مع ما يفكر به. ان سلوكية الاقناع تتجسد فقط بالممارسة السياسية. وهذا يعني ان بناء عالم جديد يبدأ فينا، في الحركة الثورية، وفي تعامل اي فرد في هذه الحركة، في بناء نوع جديد من العلاقات داخل الحركة نفسها، والذي يتضمن ممارسة جديدة، سلوكاً مختلفاً يعكس الأخلاقيات الجديدة. اي ان تجديدا للفكر يشترط تجديدا للسلوك على الصعيد المجتمعي والفردي، وفي هذا السياق من الضروري مكافحة النفعية وتبريرات تسويقها، والعودة لاعتماد الكفاءة والروح النضالية في اصطفاء الكادر، بعيدا عن المحاباة والمحسوبية. نعتقد أنه لا يمكن لليسار أن يزدهر في عالم يُغرق فيه صخب اليمين كل ما تبقى، إلا بالاستناد على أسس اليسار الراسخة ومبادئه. لهذا الغرض، يجب القيام بتحليل معمق ومنهجي للحالة المعنية. ويجب أن يكون هذا التحليل عمليا وأن يتم على أساس رؤية ماركسية.. وان تكون الرؤية الطبقية هي الأساس وبلا جمود(7). (5) تضافر الالتزام بالمبادئ والمرونة. واليسار المرن هو القدرة على التكيف مع الظروف التي يعمل فيها. والتكتيكات جزء لا يتجزأ من المنهج الماركسي. توفر التكتيكات الذكية لحظات من الهجوم والتراجع. لكن التكتيكات تخضع دائمًا للاستراتيجية. والهدف هو إحراز تقدم استراتيجي. والتكتيكات يجب ان تجعل الاهداف قريبة، لا أن تبعدنا عنها. ولهذا فإن قوى التحالف الاجتماعي الرئيسي، هي الطبقة العاملة والنساء والشباب وجميع المتضررين. ويتمثل التحدي الأساسي بتحويل هذه القوى الاجتماعية الى حركات اجتماعية تتميز بدرجات متباينة من الوحدة، والقدرة التنظيمية، والتعبئة، والعلاقات التحالفية، وايضاً بدرجة لا تقل أهمية، في عمق تطلعاتها السياسية وثباتها. ومن الثابت انه لا جدوى حقيقية من التحالفات الشكلية، التي تضم قوى وافراد خارج دائرة التأثير السياسي. ان تراجع اليسار لا يعود لانحسار اهميته، او ضعف تأثير قيمه، بل يكمن في احيان كثيرة في تقادم اطره التنظيمية، وهذا تحد آخر مهم، في ان يستطيع اليسار التوصل الى سياسة واطر وآليات وانظمة داخلية قادرة على تعبئة كل الذين يعون قدرة مشروع اليسار على تحقيق احلامهم. وهؤلاء يتجاوزون بكثير الناشطين في اطر اليسار اليوم. ملاحظات ختامية هذه الملاحظات لا تغفل الظروف الموضوعية التي هي في اغلب فترات التاريخ المعاصر ليست لصالح اليسار (عدم وجود نقطة شروع عادلة، هيمنة قوى الرأسمال على السلطة، المال، الاعلام، والمؤسسات الثقافية). واليوم اصبحت الظروف الموضوعية أكثر صعوبة، ولكن يجب ان لا تتحول هذه الصعوبات الجدية الى شماعة او مصدر لتبرير التراجع. من المعروف ان تغييرها لصالح مشروع اليسار لا يرتبط بالرغبة، او قرار يتخذه اليسار، ما يستطيع اليسار التأثير فيه هو اداؤه الذاتي: (1) على الرغم من تراجع اليسار في الإطار العام، الا ان هناك نجاحات لا يمكن اغفالها، وتعد مؤشرا مهما لإمكانية النهوض رغم المعوقات، ويمكن الاشارة الى نجاحات العديد من تحالفات اليسار في امريكا اللاتينية. تجربة حزب العمل البلجيكي، الحزب الشيوعي النمساوي، نجاحات اليسار في الانتخابات الأوربية ليسار شمال أوربا، واخير النهوض غير المتوقع لحزب اليسار الالماني. تمثل هذه النجاحات رافعة تفاؤل ومنطلقا لتحقيق المزيد. لقد جاءت هذه النجاحات على أرضية المراجعة التفصيلية (سياسة، فكر، اطر تنظيمية، ووسائل تعبويه) وعلى اساس المشاركة الواسعة وتعزيز الديمقراطية(8). ان الاهتمام بتجارب اليسار الناجحة، لا بهدف استنساخ تجربة ما، بل للاستفادة من اتجاهاتها العامة، فالتجارب تُدرس ولا تُستنسخ، وتاريخ الحركة العمالية العالمية يعلمنا أن الاستنساخ الميكانيكي وتجاوز التباين الموضوعي بين ظروف عمل وإمكانيات الأحزاب وساحات عملها المختلفة يقود بالضرورة إلى الفشل، او على الأقل إلى تحجيم اي نجاح متوقع، وفي مقابل ذلك يجري افراغ هذه الفكرة من محتواها، لتبرير حالة الانغلاق التي تعيشها العديد من الاحزاب، التي تؤدي الى المراوحة ومن ثم التهميش. ولكن المعركة المشتركة التي يخوضها اليسار العالمي ضد المراكز الرأسمالية العالمية، والانظمة التابعة لها في الأطراف، تؤكد وحدة مشروع اليسار العالمي في الإطار العام، وتجعل من الطبيعي ان يتبادل هذا اليسار دراسة تجاربه المختلفة بروح تضامنية، فالنجاح في بلد ما هو حافز ومثال يعلم الآخرين أن النهوض والانتصار ممكنان، مهما بدت لوحة الصراع في العالم قاتمة وغير مشجعة. (2) لماذا يعجز اليسار عن الاستفادة من أزمات الحكومات ويعزز دوره كمعارضة؟ إحدى المشاكل الرئيسية هي أن اليسار يُنظَر إليه باعتباره جزءا من النظام السياسي السائد ولم يعد كما كان في عقود صعوده قوة المعارضة الأكثر حسماً والقادر على الوصول إلى ناخبي الاحتجاج وحشدهم. وان يستطيع مواجهة المخاوف التي تدفع المتضررين، بما في ذلك جزء من انصاره الى الاحتماء بالبدائل الخطأ (قوى السلطة في بلداننا، واليمين المتطرف في أوربا). لا ينبغي تكييف مواقف اليسار مع ما هو سائد. بمعنى آخر لا استسلام للسائد ولروح العصر! بغض النظر عن التبريرات والتفسيرات التي تبدو شكليا مغرية. لم يأت اليسار ليكون صورة للأغلبية السائدة بل ليغيرها، ولا يمكنه التنازل عن قناعات لأنه غير قادر حالياً على الحصول على الأغلبية. واليسار ليس شركة يمكنها تغيير استراتيجية التسويق حسب الرغبة، أو تغيير المنتج بأكمله إذا لزم الأمر. ومن الضروري أيضا تجنب استنساخ الخطاب الليبرالي بحجة الانفتاح، وردة فعل على أخطاء الماضي(9). (3) يجب على اليسار أن يضع دائمًا حياة الناس اليومية في مركز حججه. ولا ينبغي له أن يتحدث عن الأزمات المنفردة بشكل مجرد، بل يجب أن يتحدث عن مدى تأثيرها على تفاصيل حياة الناس اليومية الملموسة، وارجاعها الى جذورها الكامنة في القراءة الطبقية للصراع الاجتماعي، وطرح البدائل الملموسة، بعيدا عن العموميات. (4) مهمة اليسار دفع عمليات التحول الى امام، وإحداث التغيير، وتحمل المخاطر. لأنه إذا لم يفعل ذلك، ويفضل التمسك بالمراوحة والتردد بحجة الاعتدال فلن تحل المشاكل. يتحمل اليسار اعباء شعوره بالمسؤولية الوطنية، ويقدم تنازلات على حساب تعزيز دوره، يصح ذلك في اوقات الكوارث الوطنية، ولكنه يتحول خارج دائرة الكوارث الى مطب، على اليسار ان يتجنبه لصالح تعزيز دوره والتأكيد على مشروعه. من الضروري تذكر ما قاله ماكس ريمان بشأن رفض الحزب الشيوعي في المانيا للقانون الأساسي (الدستور) في عام 1949: "لن نوقع. ولكن سيأتي اليوم الذي ندافع فيه نحن الشيوعيين عن هذا القانون الأساسي ضد من اقره". (5) من الضروري جدا لحزب اليسار أن يكون راسخا في النقابات العمالية والحركات الاجتماعية وأن يدعم نضالاتها، ومن الأفضل أن يكون جزءًا منها. إن اليسار الذي يرى نفسه بديلا للأحزاب الأخرى، يجب ان ينأى بنفسه بوضوح عن السياسات السيئة لهذه الأحزاب، فبدون معارضة حاسمة، لن يكون هناك تقدم اجتماعي. وبالتالي فان تحديد الموقع في الصراع ضروري. يجب أن يكون يسارا مناضلا من أجل المساواة والحرية، وفي جميع المجالات المهمة التي تؤثر على البلاد، سواء في سوق العمل وسياسة الدخل، او في انجاز السيادة الحقيقية(10). لنمنح مشروع اليسار المستقبل الذي يستحقه، بشجاعة ومثابرة، ونقد ذاتي، أساسه الاعتراف بالأخطاء وعدم محاولة تحجيمها مع استعداد دائم للتعلم، باعتبار أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن يصبح اليسار أقوى. ختاما، قد يدور في اذهان الكثيرين السؤال التلي: ماذا عن اليسار العراقي؟ اعتقد ان المرور السريع في هذه المساهمة، على الواقع الملتبس لليسار العراقي لا يلبي الغرض، فالإجابة تتطلب تناولا ضافيا لهذا الواقع، وربما يحتاج الى أكثر من وقفة، والى جهد متنوع يساعد على تغطية مفردات هذا الملف، وجميع المعنيين والحرصين على مستقبل اليسار مطالبون بتقديم رؤيتهم بروح تضامنية تتجاوز المخاوف والتخندق والعيش على اخطاء الآخر المنافس. الهوامش (1) مانفريد نورفات "أسئلة برؤية يسارية مستقبلية"، رابط المقال: https://iraqicp.com/index.php/sections/afkar/67531-2024-11-16-18-34-28 (2) حوار بالألمانية مع مارسيلو كولوسي: على الرابط: https://www.jungewelt.de/artikel/496351.antiimperialismus-der-sozialismus-hat-eine-schlacht-verloren-nicht-den-krieg.html (3) داريو رودريغيز ماشادو، "ماذا يعني ان تكون يساريا اليوم؟"، على الرابط: https://althakafaaljadeda.net/index.php/translated-texts/333-2022-11-27-20-15-02 (4) "في مئوية ثورة اكتوبر.. تقييم اللجنة التاريخية في قيادة حزب اليسار الألماني"، رابط المقالة: https://iraqicparchives.com/index.php/sections/objekt/67648-2017-12-20-18-12-48 (5) ماشادو. (6) رشيد غويلب، (اعداد) "تحولات المجتمع وأزمة حزب اليسار الألماني"، رابط المقالة: https://iraqicp.com/index.php/sections/orbits/67363-2024-09-20-16-45-03 (7) بيتر مارتينز، "الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار"، رابط المقالة: https://www.ahewar.net/debat/show.art.asp?aid=783799&nm=1 (8) رشيد غويلب، "قراءة في النجاح الانتخابي لحزب اليسار الألماني"، رابط المقالة: https://www.tareeqashaab.com/index.php/sections/articles/22564-2025-03-01-17-17-56 (9) غويلب، "تحولات المجتمع وأزمة حزب اليسار الألماني". (10) المصدر نفسه. (11) جريدة القدس العربي في 3 تشرين الثاني 2021 . رابط التقرير /www.alquds.co.uk/ تحالف-شركات-خاصة-قيمتها-130-تريليون-دولا/ وانظر كذلك https://www.statista.com/statistics/268750/global-gross-domestic-product-gdp
#رشيد_غويلب (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل هناك تعارض بين الطبقة وسياسة الهويات؟ السياسة الطبقية مشر
...
-
دعوة إلى التفكير خارج إطار الدولة القومية / منتدى الصين ودول
...
-
حزب العمال الكردستاني يحل نفسه ويُنهي الكفاح المسلح
-
حزب اليسار الألماني.. المرحلة الثانية للمؤتمر التاسع محطة نج
...
-
قراءة في كتاب {التمرد - كيف يهتز نظامنا العالمي} /أولريكه إي
...
-
في مواجهة غطرسة ترامب.. أمريكا اللاتينية مرتاحة لفوز الليبرا
...
-
عَلّمَنا ان هزيمة الامبريالية ممكنة / في الذكرى الخمسين لانت
...
-
البابا الذي وُصف بأنه شيوعي
-
زعيم الشيوعي الأمريكي: عن تجديد الحزب ورؤيته للبديل الاشتراك
...
-
مقاومة لمنطق العودة الى الحرب / تصاعد المشاركة في مسيرات الس
...
-
الذكرى الخمسون لانتصار فيتنام / الصين وفيتنام تشكلان تحالفا
...
-
في ذكراه الثانية والعشرين.. كيف غيّر غزو العراق العالم نحو ا
...
-
ردا على سياسات ترامب العدوانية / دول أمريكا اللاتينية والبحر
...
-
ما يحدث في إندونيسيا يذكر بدكتاتورية سوهارتو
-
بعد أن تجاوز الصدمة / الشارع الأمريكي ينتفض ضد ترامب
-
محاولات لشقّ المعارضة التركية بدلاً من قمعها المباشر / احتجا
...
-
عبر حيلة برلمانية.. إقرار تخصيصات هائلة للعسكرة والحرب في أل
...
-
الحاجة إلى نظرية جديدة للإمبريالية
-
صربيا.. استمرار الاحتجاجات ضد الحكومة والفساد
-
سلطة ترامب مبنية على الرمال / بقلم: أنغار سولتي*
المزيد.....
-
بهية مارديني: لا خلافات أساسية بين موسكو ودمشق وتجربة بغداد
...
-
Golden Children 789club – Hành tr?nh s?n vàng cùng c?c bet t
...
-
صفارات الإنذار تدوي في وسط إسرائيل عقب رصد إطلاق صاروخ من ال
...
-
المستشار الألماني يدعم تخصيص 5% من الناتج المحلي الإجمالي لل
...
-
-تشات جي بي تي- يورط محامين في الولايات المتحدة
-
رئيس وزراء مصر: نعتذر لأي مواطن تم تعليق معاشه بسبب إجراءات
...
-
صحيفة: بريطانيا تخطط لتعديل استراتيجيتها الدفاعية مع التركيز
...
-
بعد فرنسا وإيطاليا.. البرتغال تستدعي السفير الإسرائيلي بسبب
...
-
مجلس الشيوخ الأمريكي يعتزم التحقيق في هوية الشخص الذي أدار ا
...
-
إسرائيل: اعتراض صاروخ أُطلق من اليمن
المزيد.....
-
اليسار بين التراجع والصعود.. الأسباب والتحديات
/ رشيد غويلب
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
المزيد.....
|