عيّال الظالمي
الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 14:00
المحور:
الادب والفن
دور الشاعر في النص الثقافي
من قول عبدالرحمن بدوي: إن اللغة هي بيت الوجود الذي يسكنه الإنسان، وفيه يتخذ كل شيء مكانه " أصبح للشاعر دور تأثيري مهم في كتابة النص الثقافي لأنه يتعامل مع النص بوعاء اللغة حيث يضعه من أجل توصيله إلى المتلقي، ومتأتياً من وضعه النفسي الذي هو به عند الكتابة، فاذا طرحنا السؤال لماذا تكتب مثل هذه النصوص هل هي ترف كتابي، أم حاجة انسانية، أم عوز في أخلاق أو مواهب مجتمعية حديثة؟
أَجِد ان هناك فوارق قيمية في حياة هؤلاء الرجال كشعراء وكمادة من الأشخاص الآخرين في المجتمع، أو المجتمع المنقول منه والمجتمع المنقول اليه، فالرجال اللصوص لديهم قيم أخلاقية خاصة بهم، وقد انتصرت هذه القيم على المصلحة الخاصة والكل يعلم أن اللصوص في ذلك الزمان أصحاب مهنة، فنرى تتركز المصلحة في المجتمع السياسي، لكون المصلحة لا عقلانية ولا أخلاقية، فهل كانت تضحيات اللصوص أثناء عملهم للمواقف السالفة بلا معنى؟
الجواب سيكون أبداً .. في وقتها أي في ذلك الزمان والمكان أيضا، وأن عملية إحيائها في نص ثقافي مائز في حاضرنا لها كل المعاني العليا ضمن الحقل الأخلاقي العُرفي، أي لكل عمل أخلاق حتى وإن كان شاذاً دينياً، فهو اليوم تحت مسمى آخر وبلا أخلاق خاصة به، فلو وضعنا هؤلاء تحت منهج التحليلي النفسي من وجهة نظري طبعاً، فهو يقع ضمن جانب إنساني أكثر من أي دافع اجتماعي آخر، لم يفكر أي احدٍ منهم بما سوف يقال عنه، بل كان قراراً داخليا بحتاً حكمته التربية الأولى للعائلة، ولم ينقله للتباهي بين السامعين، إنما نقله غيره، وهم الناس الذين واجهوا هؤلاء اللصوص أو من رفاقهم الذين إطَّلعوا على هذه المواقف، وهذه نزعة نفسية خاصة تنبع من نفس أبيّة على الرغم من العمل الذي يهدد ممتلكات الناس وحياتهم أحيانا.
مثل هذه الأعمال لا تنضوي تحت الحقائق، فهي في مشهد كما يطلق عليها الناقد المرحوم (حسين سرمك) مشهد العدالة المهزومة ، لأن قلوب الناس تعشق مثل هكذا مواقف، ولأن العالم اليوم ينظرها من جوانبها الطبيعية والمنطقية والعلمية والفكرية، وأن السلوك الذي انتهج مضطرب، أو متناقض بين الحرام الذي يعيشه والموقف الذي وقفه اللص، لذلك فهو أسس لعدالة إنسانية في أنساق الفرد القائم بالعمل، ولا يجري على لصوص آخرين ربما يتميزون بالخسة والجرم.
يحضرني سؤال يرتبط بالزمن الضائع أو المفقود، كما أورده ( مرسيل بروست) في بحثه، حيث يقول : ( حكاية وجودنا ليست خطاً مستقيماً يسير كعربات القطار منطلقة وهي محملة بالحوادث من الماضي مرورا بالحاضر ووصولاً للمستقبل، فالماضي يمكن أن يستدعى ليصبح حاضرا على المتصل النفسي للزمان، في حين أن الحاضر هو ماضٍ ينطلق بسرعة نحو الماضي، أما المستقبل فهو حاضر مؤجل وماضٍ إنطلق قبل أوانه على محيط دائرة وجودنا المغلقة .)
من هنا أن النص الثقافي منطلق من الماضي إلى الماضي، ماراً بالحاضر وقد يدرك المستقبل الذي سيكون ماضياً مؤجلاً، فأعمارنا التي نعيش هي ماضٍ يستدرج الحاضر لغدٍ وهو المستقبل، وكل أحداثنا في متصلات نفسية خاصة بالزمن.
استخدام الكلمات العامية:
عملية استقدام الكلام الشعبي وتضمينه ضمن الشعر العربي له مداليل وعلامات تخدم النص وتقوي من صدق ما انتج الشاعر، وكذلك يزيد من ثقة الشاعر في نصه لإيصال ما يعتمل في داخله من حب، أو غضب، أو توضيح، أو اشادة، فالكلام العربي خاص في العراقيين كثيمة دخلت في الشعر العراقي العربي، أو ضمن المنلوج في الشعر، وهو إحساس سردي بتاریخ المتحدث وبصیرة نفسه الشخصیة المونولوج الدرامي ثاني اقدم شكل من اشكال الشعر بدأت في الثقافة الیونانیة ، وقد استخدم ( معن غالب سباح) ضمن مجرى النص الشعري جملاً من الكلام الشعبي العامي، واعتقد أن مثل هكذا نوع من التضمين ويُدرج دائماً ضمن الشتائم أو الإنتقاد اللاذع لزيادة زخم الدعم، وهو تعبير نفسي للشاعر قبل أن يكون نقل لقائليه، لما يعبر عما في داخل الشاعر من غضب يشعره بالراحة لما يقدمه من نص يذهب به نحو الكمال الكتابي، ففي قصيدة (أم ديوان) وضع (معن) جملة لها تقول فيها: ( يا حيف الهدانات تحكم مذاريب)
فأمهم ناقمة على المسؤولين، وعائلتها الكبيرة محتاجة هذا الدعم لأنها تعاني من
الفقر والتخلف وعسر الحال، فقد أضاف الشاعر مقدار من الصدق في نقل المسموع بصدقه المتوارث والذي سمعه كما هو، والمتداول بين العامة عن ( أم ديوان) القابلة، فحضور الأمومة ( الأم الشجاعة) وهي تعلم فأن قولتها هذه ستسري كالنار في الهشيم، ستصل الساسة آنذاك، وهذا التعبير عن رأيها وهي تدعم الجمع غير مكترثة بالعواقب، فمن خلال الشعر يزداد الزخم الادهاشي، وخاصة في الشتائم من تضمين الكلام العامي الشعبي، وهناك حاجة لادخاله في النص الشعري وهو ما يعبر عن نفسية الشعب العراقي في شتى المراحل من تأريخ العراق السياسي، ووصفهم بأهازيج شعبية تقع في بحر الشتائم، وبمختلف العصور السياسية، كأهزوجة:
(نوري سعيد القندرة ( الحذاء) وصالح جبر قيطانها.)
وكانت من أهازيج الشعب وكان هناك موقف لنوري السعيد أنقله عن كاتبه: [ وأقول حينما أعدنا إلى الأذهان تلك (الهوسة) اتصل بنا صديقنا الساخر عبدالعزيز الشمري وقال لنا: (يا أبا سامي) هل تعرف ماذا حدث بعد تلك المظاهرة؟.. وحينما أجبناه بالنفي قال: أنا سآتيك لأكمل القصة وسأرويها لك شفهياً، لأنني قد كتبتها في ورقة مطبوعة وسأرسلها إلى أحد الأصدقاء الذين يشرفون على مجلة أسبوعية تصدر في إحدى دول الخليج، وذلك رداً لـ(جميلهم) معي في إرسال أعداد المجلة لي بشكل دائم، ولأنني أعرف أن الوفاء من طبيعية صديقي أبي فيصل.. عبدالعزيز، فقد شجعته على هذه الخطوة وأنا (أضمر) شيئاً في نفسي ولذلك طلبت منه رواية ما حدث بعد المظاهرة شفهياً، وحينما جلس وعدّل من قامته الطويلة على الأريكة و(شفط) فنجان القهوة كعادته دفعة واحدة قال: اسمع يا - رعاك الله -: قيل إنه في عام 1956م قامت المظاهرات الطلابية في بغداد تدعو بسقوط حكومة نوري السعيد وكان نوري السعيد بذاته يجلس في شرفة مجلس الوزراء ويستمع للهتافات فأعجبه هذا الهتاف (الخاص به): (نوري سعيد القندرة.. وصالح جبر قيطانها) فأمر الشرطة بعدم اعتقال المتظاهرين، وحينما عاد إلى البيت أخذ يدندن بالمعزوفة واستدعى مربية ولده الوحيد، وكان اسمها (حليمة الملاية) وطلب منها أن تُلحّن وتغني هذه الكلمات لما عُرف عنها من جمال الصوت ومهارة العزف ولكنها حوّرت الهتاف إلى قولها: (نوري سعيد الوردة وصالح جبر ريحانها) ولكنه (رفض تزوير التاريخ) وعدم الإخلال بحقوق الملكية الفكرية!! ولذلك أخذ يبحث عن مؤلف هذا (النشيد) العجيب فقيل له إنه من تأليف طالب اسمه (محمد الحبّوبي)، أصبح فيما بعد من أشهر شعراء العراق في تلك الفترة، ولذلك استدعاه بشكل خاص ليتناول العشاء معه، وحينما وصل الحبّوبي إلى القصر وجد (الباشا نوري) في الحديقة وقد وضع أمامه سمكة كبيرة مشوية على الطريقة العراقية (أي المسكوف) وهو يدندن بالنشيد إياه ويبتسم في وجه الطالب الحبوبي، بل ويحتضنه وهو يربت على كتفه بقوله: (لا لوم عليك لقد قلت رأي الشارع بحكومته) وبطريقة فنية لاذعة، ثم أخذ يتبادل النكات مع الشاعر، وبعدها دعاه إلى تناول السمكة فقال الحبوبي - حذراً -: لا آكل السمكة حتى أشمّها لكي أتأكد من صلاحيتها للأكل وعدم (خياسها)، لا سيما على موائد الرؤساء(!!).. في غمز مبطن يُفهم منه أنه يشك في أن السمكة قد تكون مسمومة، لذلك قام الحبوبي بـ(شم السمكة) من ذيلها، وهنا ضحك نوري السعيد وقال له: (ولِك.. شمّ خياس السمكة يجي من ذيلها لو من رأسها؟!).
وهنا قال الحبوبي: أما خياس الرأس فنحن متأكدون منه ولكننا نريد أن نعرف هل وصل (الخياس) إلى الذيل يا سيادة الرئيس؟.. فضحك الرئيس كثيراً، وقال له: اسمع يا محمد بمناسبة ذكر (الخياس) أو العفن.. فأنا - الآن بمثابة غطاء (بالوعة المجاري) بالنسبة للعراق، فإذا ما أزيلت هذه البالوعة فستخرج عليكم الروائح والأوبئة والصراصير والجرذان السياسية، لذلك أوصيك يا ولدي - إذا ما أزيلت هذه البالوعة يوماً ما والتي اسمها نوري السعيد وجاءكم رئيس أفضل منه فلتتجه إلى قبري ولـ(تفعلها) عليه، أما إذا جاءكم من هو أسوأ مني فلتبلغه بكل ما دار بيني وبينك هذا المساء. ]
ومن نص (أم ديوان) أيضا ضمن قول الدفان:(دير بالك عليه وليدي تره مثلك شباب ) من نص (أم الشامية، أم ديوان)، ليوصل مقدار الفاجعة التي أوجدتها الحروب وحلت بالشعب واخذت مقدار كبيرا من الشباب، فهي عملية حصاد جماعي لأجيال من الشعب العراقي والإيراني على السواء، وهذا ما يجعل الشاعر في حالة تعاطف كبير مع ضحايا الحرب، ليعيد إلى الأذهان فواجع الحصاد وفقد الأحبة، وتعطيل الحياة بكر حجم الحزن والاضطراب وانتشار الأمراض النفسية التي أصابات الشعب وأحدثت تشوهات نفسية في نسيج المجتمع نتجت عنه انحرافات وظهور تشوهات وظواهر غير اخلاقية لم يشهدها المجتمع العراقي سابقاً.
وما قاله اللص:( يا منعولة الوالدين ) في نص اللصوص الـ (ظرفــاء،، أصدقاء الليل،، حراس الشامية ولصوصها العظماء)، ويقصد اللص (يا ملعونة الوالدين) وفي الشعبي ليس مسبة من جهة الغضب، ولكن من جهة التعجب على قيمة الحكمة التي تحملها ربة البيت وصبرها على السارق وخوفها على يتيمها وتبيان خسة اللص بأن يسرق بيت أرملة، وكان من قيم اللصوص عدم سرقة بيت الأرملة، لهذا اجد ان اغلب النصوص مدعمة بمواقف وكلام شعبي لزيادة ثقة القاريء بحقيقة النص ومقدار صدق الشاعر وانه لا ينقل نصاً خيالي أو نص مختلق من مخيلة الشاعر نفسه.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟