|
أزمة عقل لم يكسر قيده بعد
منال حاميش
مهندسة مدني.. باحثة بالباراسيكولوجي
(Manal Hamesh)
الحوار المتمدن-العدد: 8345 - 2025 / 5 / 17 - 07:51
المحور:
قضايا ثقافية
العنوان: الفكر العربي بين الجمود والخوف من المجهول: أزمة عقلٍ لم يُكسر قيده بعد
في أعماق المشهد الثقافي العربي، تطفو أزمة عميقة لا يمكن إغفالها أو التقليل من حدتها: إنها أزمة فكرٍ متجمد، عقلٍ مأسور، يخاف من الانفتاح على آفاق جديدة، ويتوجس من كل فكرة تتجاوز المألوف أو تسائل الثابت. إننا أمام عقل جماعي يتعامل مع "المجهول" – لا بوصفه تحديًا معرفيًا – بل كتهديد وجودي، وخطر على "الثوابت" التي لم تُفكك أو تُفهم في أصلها بعد. هذا الجمود العميق، وهذا الخوف غير المبرر من كل ما وراء الطبيعة، هما سبب تأخرنا الحضاري وتخلفنا الفكري، وجوهر ما يجعلنا من أكثر الأمم استهلاكًا، وأقلها إنتاجًا للمعنى والمعرفة.
---
جمود العقل العربي وخوفه من الميتافيزيقا
الميتافيزيقا، التي هي التأمل في ما وراء الطبيعة، لم تكن يومًا علمًا معاديًا للدين أو خصمًا للوحي، بل كانت عند الأمم الأخرى – من اليونان حتى الفلاسفة المسلمين الأوائل – مدخلًا لفهم الكون والنفس والخالق بطريقة أعمق. أفلاطون وأرسطو لم يُعدما بسبب تأملاتهما في العلل الأولى، وابن سينا والفارابي لم يُنفَوا من الحضارة إلا بعدما ضاق صدر التقليد بهم. في المقابل، نرى اليوم أن أي محاولة عربية معاصرة للغوص في أسئلة الميتافيزيقا تُقابل بتهم الإلحاد، والزندقة، و"هدم الثوابت".
نخاف من فيزياء الكم لأنها تشكك في "السببية الصارمة"، ونرفض نظريات الوعي الجديدة لأنها لا تضع "الروح" في مركز الصورة كما نحب، ونستنكر النقاشات حول تعدد الأكوان أو الذكاء الاصطناعي وكأنها تمسّ الذات الإلهية. هذه الرهبة من التفكير في المجهول، وهذا الربط العاطفي غير المبرر بين كل فكرة جديدة وبين تهديد القرآن، هما ما يحولان دون قدرة الفكر العربي على التقدم.
فعلى سبيل المثال، النقاش حول نظرية التطور ما زال يُستقبل برفض واسع في الأوساط الثقافية العربية، لا لأنه فاسد علميًا، بل لأنه يُظن – بجهل أو سوء فهم – أنه يناقض قصة الخلق القرآنية، رغم أن فقهاء وفلاسفة كبارًا من تراثنا – كالجاحظ وابن خلدون – لم يجدوا غضاضة في التأمل في تطور الكائنات أو تحولات الطبيعة.
---
الموروث كقيدٍ لا كجذرٍ حضاري
ليست المشكلة في الموروث بحد ذاته، بل في طريقة التعاطي معه. لقد حوّلنا التراث إلى نصوص مقدسة فوق النقد، متناسين أن من صنعوا هذا التراث – من الفقهاء والمفسرين والمتكلمين – كانوا نتاج عصرهم، ونتاجًا لأسئلة محددة. فكيف نُطالب العقل الحديث أن يبقى أسير أجوبة عمرها ألف عام، لأسئلة لم تعد تُطرح اليوم، أو تغيرت شروطها؟
حين نُقدس الموروث دون نقد، نحوله من مصدر إلهام إلى حجر عثرة. وهذا ما يفسر لماذا لا تزال كتب القرون الوسطى تُطبع وتُدرّس، بينما كتب الفلاسفة المعاصرين تُهمل أو تُحرق. فحين كتب نصر حامد أبو زيد عن ضرورة تأويل النص الديني بوصفه خطابًا ثقافيًا، واجه التكفير والملاحقة، لا لأن ما قاله باطل بالضرورة، بل لأن العقل العربي لا يحتمل من يسائله من الداخل.
---
ثقافة الاستهلاك لا الإنتاج
إن الجمود المعرفي والخوف من المجهول لم يؤثرا فقط في مجالات الفكر المجرد، بل تسربا إلى سلوكنا الحضاري. لقد صرنا شعوبًا تستهلك التكنولوجيا ولا تنتجها، تحفظ المفاهيم دون أن تخلقها، وتردد المصطلحات دون أن تساهم في توليدها. الهواتف الذكية بين أيدينا، لكننا لا نعرف كيف نُبرمجها. نستخدم الخوارزميات، لكننا لا ننتج الرياضيات. حتى الدين، الذي نُفاخر به، أصبح عند البعض طقوسًا ميتة بلا روح، بدلًا من كونه مشروعًا لتحرير الإنسان وتكريم العقل.
لا يمكن أن تزدهر حضارة في ظل عقل خائف. أوروبا لم تنهض إلا حين كسرت سلطة الكنيسة عن الفكر، والصين لم تتقدم إلا حين جعلت من العقل العلمي معيارًا. أما نحن، فنراوح مكاننا لأننا لم نحسم خيارنا: بين أن نكون أحرارًا، أو أن نظل عبيدًا للخوف.
---
الطريق إلى استنهاض الفكر العربي
إن خروجنا من هذه الأزمة لا يتم بشعارات فضفاضة، بل بخطوات جريئة وصريحة:
1. فصل المقدس عن المعرفي: لا يجوز أن نظل نعامل كل فكرة كأنها دين، وكل تساؤل كأنه كفر. القرآن نفسه دعا إلى التأمل، والسنة حثت على طلب العلم، فلا يُعقل أن نحول الدين إلى أداة لمنع التفكير.
2. إحياء العقل الفلسفي: يجب أن يعود تدريس الفلسفة إلى المدارس والجامعات، لا كمادة هامشية بل كأداة لفهم الذات والعالم. الفلسفة ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء عقل ناقد.
3. نقد التراث بجرأة: لا إصلاح دون مواجهة التراث، لا من أجل هدمه، بل من أجل إعادة قراءته وتفكيكه. يجب أن نتعلم كيف نميز بين ما هو "مقدس" وما هو "تاريخي".
4. تشجيع البحث في العلوم الكونية والميتافيزيقية: نحتاج إلى مراكز بحث تتناول أسئلة ما وراء الطبيعة، من وعي وذكاء اصطناعي ووجود وأخلاق، بروح علمية ومنهج نقدي.
---
خاتمة: من الغفوة إلى النهضة
لقد طال سبات العقل العربي، وها نحن نعيش على هامش العصر، نراقب ولا نشارك، نستهلك ولا ننتج، نُحاكي ولا نبدع. لكن الغفوة ليست قدرًا محتومًا. إن أي أمة تستطيع النهوض إذا أعادت الثقة إلى عقلها، وحررت الفكر من أصفاده، وفتحت أبواب المجهول لا باعتباره تهديدًا، بل فرصة للاكتشاف.
النهضة تبدأ من الرأس، من العقل، من السؤال الأول الذي لا نخاف من طرحه. فإذا أردنا أن نكون يومًا من صُنّاع الحضارة لا من عالة عليها، فعلينا أن نعيد الاعتبار للفكر، للحرية، وللمجهول بوصفه بابًا لا قيدًا.
فلنكسر القيد، ولنعد إلى موقعنا الطبيعي في صناعة الوعي الإنساني.
#منال_حاميش (هاشتاغ)
Manal_Hamesh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
علم الايزوتيريك
-
حكمة الطاوية
-
الخريطة الميتافيزيقية للوجود.
-
العلم و الروح
-
(أولو) بوابة نحو بعد.خفي
-
فلسفة الزمن و الترددات
-
الظل في عقل نيوتن
-
ازدواجية الزمن
-
ما هو الزمن ؟؟؟
-
ماهي الميتافيزياء،الحية ؟؟
-
عذرا .الارض ليست بيتزا
-
سر ارقام تسلا 3,6,9
-
الرياضيات المقدسة
-
عندما خرجت من المصفوفة
-
تفكيك لعنة الدوغمائية
-
القادم صادم
-
من نحن ؟لماذا جئنا ؟اين سنذهب ؟
-
العدالة الكونية ام ظلم المقادير
-
بين المونادولوجيا و الميتافيزياء،الحية
-
نبضات الوجود الخفية
المزيد.....
-
ترامب: سأتحدث مع بوتين لـ-وقف حمام الدم- في أوكرانيا.. والكر
...
-
إسرائيل و-حماس- تستأنفان مفاوضات الدوحة بعد هجوم -عربات جدعو
...
-
ليبيا.. كلمة رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة عقب الأحداث الأ
...
-
اتصال بوتين وترامب المرتقب.. ما المنتظر؟
-
صراخ وبكاء طلبًا للطعام.. الأطفال يصطفون أمام المطابخ الخيري
...
-
مطار صنعاء يعود للعمل بعد غارات إسرائيلية مدمّرة
-
منصة -إيكاد-: -الذباب الإلكتروني- يشن حملة تقودها حسابات مؤي
...
-
عمرو موسى يكشف سر اهتمام مصر بزيارة ترامب الخليجية رغم تجاهل
...
-
تحقيق بسلوك مدعي -الجنائية الدولية-
-
هل يوقف العرب الحرب في السودان؟
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|