حكمة الطاوية

منال حاميش
مهندسة مدني.. باحثة بالباراسيكولوجي
(Manal Hamesh)

الحوار المتمدن-العدد: 8330 - 2025 / 5 / 2 - 09:24
المحور: قضايا ثقافية
    

حكمة الطاوية: في رحاب فكر لاو تزو

في زمنٍ يطغى عليه الصراع والضجيج والبحث المحموم عن السيطرة، تبرز الطاوية كمرآة هادئة تعكس وجها آخر للوجود: وجه الانسجام، التوازن، والتسليم لحكمة أعمق من العقل. ويُعتبر لاو تزو (Laozi)، مؤسس هذه الفلسفة، من أعمق الحكماء الذين فهموا نَفَس الكون، وساروا مع تدفقه لا ضده.

في كتابه الخالد "الطاو تي تشينغ"، لا يُقدّم لاو تزو نظامًا دينيًا أو فلسفيًا جامدًا، بل يفتح لنا بابًا نحو تجربة داخلية مباشرة للوجود. وفيما يلي أبرز محاور هذه الحكمة العريقة:


---

1. الطاو: الطريق الذي لا يُسمّى

الطاو، في جوهره، هو المبدأ الكوني الأعلى، النبع الخفي الذي تتولد منه كل الأشياء وتعود إليه. إنه لا يُوصف ولا يُحدّ، لأنه أسبق من اللغة وأعمق من التصور.
قال لاو تزو: "الطريق الذي يُمكن سرده بالكلمات ليس هو الطريق الحقيقي."

إنها دعوة للتخلي عن التكلّف العقلي والانفتاح على وعي كليّ صامت، يشبه في بساطته صفاء المرآة.


---

2. اللانَفْعِيَّة (Wu Wei): الفعل بلا صراع

في قلب الطاوية نجد مفهوم "وو وي"، أي "اللاحركة القسرية" أو "الفعل التلقائي". وهي دعوة للتحرر من التوتر والسعي القهري، والاندماج بدلاً من ذلك في تيار الحياة بمرونة ويقظة.

تمامًا كجريان الماء الذي يشق طريقه دون عنف، يرى لاو تزو أن الحكمة لا تعني فرض الإرادة، بل التناغم مع الإيقاع الداخلي للعالم.


---

3. البساطة والتواضع: العودة إلى الصفاء

البساطة ليست نقصًا، بل امتلاء بالجوهر. لاو تزو يدعونا للعودة إلى الصفاء الأصلي، إلى أن نكون كما الأطفال: عفويين، متواضعين، خاليين من التكلّف والتعقيد.

فمن لا يسعى للسيطرة على العالم، ينسجم معه. ومن لا يدّعي المعرفة، ينفتح قلبه للحكمة.
"اعرف نفسك، تعرف كل شيء." هكذا يختصرها لاو تزو.


---

4. توازن الأضداد: حكمة الين واليانغ

في فلسفة الطاو، لا يوجد نفي أو صراع، بل تفاعل وتكامل بين الأضداد. الين (السكون، الظلام، الأنوثة) واليانغ (الحركة، النور، الذكورة) لا يتنافيان، بل يكمل أحدهما الآخر.

إنه وعي دائري للوجود، يرى في كل لحظة بذرة تحول، وفي كل ضعف قوة كامنة.
الطاو ليس خطًا مستقيمًا، بل دوّامة منسجمة تتسع لتشمل كل شيء.


---

رأي العلم الحديث وصلته بالصوفية

رغم أن الطاوية فلسفة قديمة، فإنها تجد أصداء متزايدة في العلم الحديث، لا سيما في ميادين الفيزياء الكمية، علم النفس، والأنظمة المعقدة.
فمفهوم "اللانَفْعِيَّة" يتناغم مع فكرة "التدفق" في علم النفس الإيجابي، حيث يصل الإنسان إلى حالة تركيز عميق بدون جهد واعٍ. أما الطاو ذاته، فيُقارن أحيانًا بالمجال الكمي غير المحدود، أو ما يسمّيه البعض الفراغ المملوء بكل الاحتمالات.

أما الصوفية الإسلامية، فنجد عند ابن عربي، والنفّري، والحلاج مفاهيم شبيهة إلى حدّ كبير. فـ"الطاو" يقابله عند ابن عربي الحق المطلق الذي لا يُدرك بالعقل بل بالذوق، و"وو وي" تشبه فكرة الفناء و"القبض والبسط" في حضرة الله.
قال ابن عربي: "كلّ ما خطر ببالك، فالله بخلاف ذلك."، كما قال لاو تزو: "كل وصف للطاو يُخرجه من حقيقته."
كلاهما ينفيان المطلق عن المفاهيم، ويحثّان على الذوبان في الوعي الكوني.


---

خاتمة: دع الطاو يقودك

الطاوية ليست طريق هروب من العالم، بل دعوة للعيش فيه بأعمق درجات الوعي. منهج لاو تزو لا يعلّمك كيف تنتصر، بل كيف تتوازن، لا كيف تسيطر، بل كيف تنسجم.
في عالم تتسارع فيه الضوضاء، ربما تكون العودة إلى الصمت الداخلي، هي أعظم خطوة نحو الحكمة.

دع الطاو يقودك إلى حيث اللااسم، اللاشكل، والحضور الصافي.
فمن لا يسعى، هو من يصل.

#منال_حاميش (هاشتاغ)       Manal_Hamesh#          

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات