أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أحمد جرادات - أحزاب وانتخاب: تَلِيباثي مع صديقي الدكتور هشام غصيب















المزيد.....



أحزاب وانتخاب: تَلِيباثي مع صديقي الدكتور هشام غصيب


أحمد جرادات

الحوار المتمدن-العدد: 8335 - 2025 / 5 / 7 - 08:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


"لقد كان بعضكم يناضل من أجل قضايا كبرى. كان نضالهم بالفعل ذا معنى. فلا تمسخوه الآن ولا تقزِّموه بحشر نضالكم وأنفسكم في دائرة فسفوسة لقضايا فسفوسة تافهة.
"الملعب الفسفوس المتاح لكم بالضرورة يقزمكم إلى بعوض. فلا تتهافتوا عليه وتفضحوا ضآلتكم. لقد خنقتْنا تفاهتكم وضآلتكم وتضليلكم التي تحاول أن تخفي الوضع الكارثي عبثا.
"نحن مستعمَرون وفاقدو السيادة تماما. وكل ممارسة لا تأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار ولا تسعى إلى خلخلتها هي ممارسة مضللة عديمة المعنى. علينا ألا نغفل هذه الحقيقة ولو للحظة واحدة، وعلينا أن نذكِّر بعضنا بعضا بها باستمرار، وأن نبحث في سبل تجاوز هذه الحالة المريعة. أيُّ ممارسة سياسية لا تصب في هذا المصب هي نكتة سمجة. وما أكثر النكات السمجة في بيئتنا الفاسدة المفسدة."
هذا ما كتبه المفكر الماركسي الكبير الأستاذ الدكتور هشام غصيب على صفحته على فيس بوك بشأن مشاركة اليسار في الانتخابات النيابية المقبلة. وهو مُحقٌّ في وجهة نظره هذه، فالملعب الذي رسَمَتْه السلطات كي تلعب فيه الأحزاب "فسفوس" والألعاب التي تمارسها على أرضه وتحت سمائه "فسفوسة" فعلاً. بالمقابل، يذهب اليساريون المشاركون فيها والجهات التي تريد منهم أن يشاركوا فيها إلى تبرير وتسويغ/تسويق مشاركتهم بالقول إن مقاطعة الانتخابات ليست سوى صيحة في البراري، أو "فَسوة نِسر" في الأعالي- عدم المؤاخذة.
وعلَّقتْ صديقة ناشطة على منشور الدكتور هشام بأن خصَّت الحزب الشيوعي بهذا الوصف:
"نعم الانتخابات في الأردن هي نكته سمجة وأستغرب من الحزب الشيوعي الذي يرفض سماع كلامك هذا. يبدو لي أني سأسمع كلامك ولن أنتخب أحد فأنت الماركسي اللينيني العربي الوحيد والبوصله الحقيقيه لأي ماركسي لينيني."وأنا لا أنكر حقها في رأيها.
فردَّ عليها الدكتور هشام ردًا نابعًا من شمائله الأخلاقية والأدبية والعلمية الرفيعة بأنه لا يقصد حزبًا بعينه أو شخصًا بذاته.
وكنت قُبيل ذلك قد نشرتُ على صفحتي على فيس بوك إعلانًا تضمَّن دعمي وتأييدي لمرشح الحزب الشيوعي الأردني للانتخابات النيابية 2024 الدكتور حيدر منصور الزبن لشخصه وسجِّله في التصدي للفساد، مع أنني كنت منذ اليوم الأول من معارضي القانونيْن الصِنويْن ، قانون الأحزاب السياسية وقانون الانتخابات النيابية، وبالتالي معارضًا للمشاركة في الانتخابات النيابية، التي أعتقد- وهنا تكمن المفارقة- أنها كثيرًا ما تكون ضرْبًا من الهندسة الانتخابية المتولِّدة عن عملية هندسة اجتماعية استغرقت زُهاء قرن من الزمان. وكنتُ قد ترشَّحتُ في السابق عن الحزب الشيوعي الأردني في دورتين انتخابيتين، الأولى في عام 1989، إثر خروجنا من سجن سواقة على خلفية "هبَّة نيسان" مسلَّحا بنوستالجيا "من السجن إلى البرلمان" الرومانسية الثورية. في تلك االدورة الانتخابية، وفي أحد المهرجانات الدعائية التي أقمناها في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في مدينة إربد، هتَفتْ سيدة فلسطينية بسيطة من المخيم، لم يكن لها أية صلة بالرفاق في المخيم ممَّن عَملوا مُخلصين في حملتي الانتخابية:
"يا مخيم خُذْ وهات، وانتخبْ أحمد جرادات". وقد كان للبيئة التي أُقيمت فيها تلك الفعالية وارتفع ذلك الهتاف معنى كبير فيما يخصُّ التلاحم الكفاحي بين الشعبين الشقيقين الأردني والفلسطيني في تلك الفترة.
أما في الدورة الثانية في عام 1993، فقد ارتكب الحزب خطأً فادحًا، لا أتنصَّل من قسطي من المسؤولية عنه، لأننا شاركنا فيها مع أنها أُجريت بموجب ما عُرف باسم قانون الصوت الواحد سيء الصيت "وَن مان وَن فوت" one man, one vote، وأذكر أن صديقي الفنان التشكيلي والروائي محمود عيسى تفضَّل بإهدائي لوحة شِعاري الانتخابي (اللوغو)، زهرة عباد الشمس/دوار الشمس، رمزًا للنور والحقيقة، التي لا أزال استخدمها على صفحتي على "فيس بوك". وبعد إعلان النتائج واسَاني الفنان الجميل ببكائية هزلية مطلعها:
"وَن مان وَن فوتْ
ها قد حَجَبوا عنك الصوتْ
يا احمد يا صديقي." (على وزن يا اسمر يا حبيبي)..
لكن شتَّان بين الحدَثيْن! أليس كذلك؟
وبما أنني لا أقبل على نفسي التظاهر بأنه لا علاقة لي بمنشور الدكتور هشام، كي لا أبدو مُريبًا كادَ يقول خُذوني، بل إنسان عاقل ومسؤول عن أقواله وأفعاله، بما فيها أخطاؤه وأوهامه، فإنني أعتبر الحزب الشيوعي الأردني أحد الأحزاب المقصودة بمنشور الدكتور هشام لأنه يشارك في هذه الدورة الانتخابية بموجب قانون الانتخابات الحالي "المُهندَس"، ولأنه لهَثَ وراء الترخيص بموجب شروط قانون أحزاب "مُهندَس" كذلك باعتقادي. كما أنني أعتبر نفسي مقصودًا به بحكم كوني عضوًا فيه، وإنْ كنتُ أرى أنه في حالته الراهنة لا يُشبه الحزب الذي أعطيتُه جُلَّ عمري، ولا أُشبهه بأية صورة، وليس له من اسمه أدنى نصيب. وعلى أيِّ حال، أنا أقبَل النقد الوارد في منشور الدكتور هشام برحابة صدر ورجاحة عقل وكأنه موجَّه لي شخصيًا. فنحن، الدكتور هشام وأنا، صديقان شخصيًا ومتناغمان فكريًا ومتقاربان إلى حد بعيد في التحليلات والمواقف حيال القضايا السياسية والثقافية والنظرية التي ما فتئْنا نتداولها مع أصدقاء آخرين منذ فترة طويلة.
ومِن أهمِّ القضايا التي كُنا نتناولها بالبحث وأشدِّها إلحاحًا تلك الأحداث الجسام التي اجتاحت العديد من البلدان العربية تحت اسم "الربيع العربي"، وخاصةً تلك التي اندلعت في سوريا في آذار/مارس 2011 تحت اسم "الثورة السورية" التي أرادها عرَّابُها ومُطلِقها وقائدها الفيلسوف الصهيوني الفرنسي برنار هنري ليفي، المعروف في الأوساط الغربية باسم BHL، أن تكون "النموذج الليبي في سوريا".
إبَّان العشرية الحالكة الأولى التي لا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم، كُنَّا ثُلَّة من الأصدقاء القريبين نعقد جلسات ثقافية نظرية وسياسية شبه منتظمة في منزل الدكتور هشام غصيب العامر دائمًا بالثقافة الماركسية والتقدمية عمومًا. في تلك الجلسات خُضنا مناقشات واسعة واتَّفقنا على إطلاق مشروع ثقافي عنوانه: "مُقترح حول إقامة ملتقى دوري للمفكرين التقدميين في الوطن العربي للتداول في المأزق الثقافي والوجودي الذي نعيشه اليوم". وقد بادرَ الدكتور هشام بصياغة مسوَّدة نص المشروع، التي تضمَّنت العناوين الآتية: أزمة الثقافة العربية المعاصرة، هدف الملتقى، مَحاور الملتقى، وآليات عمل الملتقى.
كما اتَّفقنا على توجيه نداء إلى المفكرين والعلماء والمؤرخين والأُدباء والفنانين "الذين يؤرِّقُهم الواقع البائس والمستقبل الغامض لشعوبنا"، دَعوْنا فيه إلى ضرورة تنظيم الملتقى لبحث الأزمة الوجودية العميقة التي تعاني منها الشعوب العربية والإسلامية ومن أجل إنشاء أوسع جبهة ثقافية تقدمية لمجابهة الفكر الظلامي التكفيري، ونشرناه في موقع "الحوار المتمدن" لجمع التوقيعات عليه، غير أنه لم يَلْقَ استجابة مُشجعة في أوساط الفئات المستهدفة، لأن العديد من المثقفين العرب كانوا منخرطين في تأييد "الربيع العربي"، أو مرعوبين من رُعاة "الثورة" وجيوشها الداعشية والوهابية، أو أمسكوا عن الكلام غير المباح.
في كانون الأول 2019، وبمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس اتحاد الكتاب العرب في سورية، دُعيتُ للمشاركة في احتفالية كبرى شارك فيها عدد كبير من المثقفين والكتاب العرب والسوريين. وأُتيحت لي فرصة المشاركة في لقاء مع الرئيس بشار الأسد للمرة الثانية إبان الحرب وتحت الحصار والعقوبات. وفي اللقائيْن لا أُخفي أن الرئيس الأسد، وليعذرْني على ذلك، أدهَشَني في كلمته أمام جَمْع الكتاب والمثقفين بالقول إنه لم يأتِ كي يسمع كلامًا في السياسة، فقد سمعَ منه الكثير، بل أراد الاستماع إلى تحليلات ومقاربات معمَّقة بشأن دور المثقفين الوطنيين والتقدميين في مواجهة الحرب الثقافية التي تتعرض لها سوريا وكيفية التصدي للفكر الظلامي التكفيري الذي يقف خلف تفشِّي العمليات الإرهابية الهادفة إلى تدمير الدولة والمجتمع والثقافة والتراث. أدْهَشني لأنني، بحدود ذاكرتي الضعيفة، سمعتُ لأول مرة رئيس دولة عربية يقول إنه لا يريد كلامًا في السياسة. كانت أسئلته الرئيسية التي طرحها على اللقاء مباشِرة: أين المثقفون؟ ماهو دورهم في المعركة الوطنية؟ ما هي أسباب هذا الانحطاط الثقافي؟ ما هو دور الثقافة الوطنية في الدفاع عن الأوطان في وجه الهجمة الامبريالية-الصهيونية-الإرهابية؟ لقد شجَّعني هذا الموقف الصادر عن قمة هرم السلطة في سوريا على طرح مشروعنا أمامه. وقد استجاب الرئيس للمقترح على الفور أمام الحضور، وقال: "اتَّفقوا مع الاتحاد على ما تريدون وأنا جاهز"، وأكَّد لي ذلك عند وداعه لنا خارج القاعة.
عُدْتُ إلى عمان، حيث عقدْنا لقاءً في بيت الدكتور هشام كالمعتاد لبحث تفاصيل المشروع وعرْضه على الأوساط الثقافية العربية ووضع الخطوات المقترحة لتنفيذه. وفي مطلع عام 2020 حلَّت علينا وعلى العالم "لعنة" جائحة كوفيد 19، التي قَطعتْ التواصل الطبيعي بين البشر كما تعلمون، وتوقَّفتْ الاتصالات بيننا وبين الزملاء السوريين في اتحاد الكتاب العرب، وتوقفت معها لقاءاتنا المباشرة في بيت الدكتور هشام. وأثناء العشرية الدموية وسنوات الجائحة وتداعياتها والاعتكاف القسري الطويل جرَتْ مياه كثيرة وغزيرة في النهر كما يُقال، وفي النهاية توقَّف سعيُنا إلى متابعة المشروع. ويمكن القول بأسى إنَّ مشروعنا فشلَ لأسباب عدة، ربما لأننا اكتشفنا أنه أكبر من طموحنا وأكثر تعقيدًا، أو لأنَّ عوامل نجاحه لم تنضج بعد، أو أنَّه كان يحمل بذور فشله في داخله. وفي ظنِّي أنَّ جذور أسباب الفشل لا تزال تضرب عميقًا في تُربتنا. ولا يزال طيف واسع من المثقفين العرب يؤدُّون دور الزمَّارين الذين يعزفون الألحان التي يطلبها الدافعون. إلاَّ أنَّ كل ذلك لا يعني أن الفشل عاقبةُ كل مشروع مشابه له في المقاصد، فربما ينهض به رُوَّاد آخرون في مكان آخر وزمان آخر وظروف أخرى. أمَّا التناغم الفكري والشخصي بيني وبين الدكتور هشام فقد ظلَّ قائمًا ومستمرًا، وسيظل.
*****
رسالة جوابية إلى الأستاذ الدكتور هشام غصيب حول تعليقاته الخاصة بمشاركة اليسار في الانتخابات النيابية لدورة عام 2024
الصديق والرفيق الغالي،
لقد أحسستُ تجاهك بأنَّه يتعيَّن عليَّ شخصيًا أن أُزيل، أو أُوضِّح كل لَبس أثارتْه تعليقاتك الثلاثة التي نشرْتَها على صفحتك والتي أشرتُ إليها في مُستهل هذا المقال بشأن موقفي من المشاركة في الانتخابات النيابية الجارية، ما يقتضي أن أحكي لك الحكاية التي آمل أن يتحمَّلها صبرك ويتَّسع لها وقتك وألا تُرهِق عينيك، وأنا أعلم أنك تعاني من مشكلة مزمنة فيهما، وأدعو لك بالشفاء العاجل والتام.
تعْلمُ صديقي أن التليباثي بيننا بشأن المواقف والأفكار المتعلقة بالقضايا الرئيسية الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية لم تتوقف بتوقف الجلسات المباشرة التي نتطلع جميعًا إلى عودتها. إذ أنَّ موقفي من المشاركة في هذه الانتخابات بموجب القانون الحالي يتطابق مع موقفك، أي يعارض المشاركة فيها بسبب المثالب الجوهرية التي تعتور القانون والإجراءات والممارسات الخاصة بالانتخابات، والتي تشكل نوعًا من "الهندسة الاجتماعية"، كما أسلفتُ، فضلاً عن الأخبار والوقائع والأمثلة الملموسة المتداوَلة على مستوى المجتمع الأردني بأسره بشأن استخدام المال الفاسد، أو ما عُرف باسم المال السياسي الأسود، وزواج السِفاح بين السياسة والبزنس. وإذا ثبتَ ذلك في الواقع، فإنه يجوز الاستنتاج المنطقي أنَّ جبل الانتخابات قد لا يتمخَّضَ عن مولود تام الخِلقة، قادرٍ على الاضطلاع بدوره كمجلس للتشريع والمراقبة والمحاسبة واتخاذ القرارات المصيرية في الدولة.
وإذا أضفنا إلى قانون الانتخاب شقيقَه التوأم قانون الأحزاب السياسية، في ظل التعديلات الدستورية الجوهرية التي أُدخلت على دستور عام 1952 وكرَّست الأوتوقراطية، ورسمتْ حدود الملعب الذي يُسمح للأحزاب المُراد ترخيصها باللعب فيه، مساحةً وسقفًا، وتحديد قواعد اللعبة بحذافيرها تحت طائلة العقوبات ضد المخالفين، فإن ذلك من شأنه أن يهدد بتحويل الأحزاب، بجميع توجهاتها وولاءاتها وحتى أيديولجياتها، إلى هياكل سياسية خاوية "تحت بُنديرة" السلطة التنفيذية.
لقد كنتُ منذ اليوم الأول وطوال الوقت، أقفُ علنًا ضد المشاركة في هذه الانتخابات على أساس هذا القانون، غير أن معظم أعضاء الكُتل والمحاور والتحالفات "التكتيكية" التي يتألف منها الحزب المرخَّص كانوا مؤيدين ومتحمسين للمشاركة، كلٌّ بحسب مصلحته وأهوائه وغاياته وولاءاته، والقليل منهم لاعتقادهم بأنها لمصلحة الجماهير التي يمثِّلها. وهكذا مضى الحزب في سبيل المشاركة المطلوبة منه.
*****
بعد اختيار الحزب اسم الرفيق حيدر منصور الزبن مرشَّحه لرئاسة قائمة ائتلاف الأحزاب الأربعة (حشد والبعث وحصاد والشيوعي)، وهو برأيي رجل مناسب ويستحق ذلك، زارَ المرشح الزبن مكتب الحزب في إربد، وتفضَّل بقبول دعوتي برفقة عدد من الرفاق، على فنجان قهوة في منزلي في مسقط رأسي قرية بشرى، هنَّأتُه فيها برئاسة قائمة الائتلاف، وأعلنتُ عن الزيارة الكريمة في منشور على صفحتي، قصدتُ منه أن يكون بمثابة إعلان تأييدي ودعمي للدكتور حيدر الزبن على الملأ بكامل اختياري.
غير أن الأحزاب الثلاثة الأخرى سحبتْ موافقتها عليه في اليوم التالي لحسابات أخرى حُسبت وضغوط خارجية مُورست، مما اضطر الحزب إلى النزول في قائمة حزبية منفردة. عندئذ عادت لتطفو على السطح صراعات الكتل والمحاور والمصالح على أسماء أعضاء القائمة، وخاصة على ترتيب الأسماء فيها، بقطع النظر عن مواصفات المرشحين وأهليَّتهم، واستمرت حتى الدقائق الأخيرة- حرفيًا- قبل انتهاء المُهلة القانونية لتقديمها إلى الهيئة المستقلة للانتخابات، ما أدَّى إلى فرض قائمة، بين أعضائها مَن هو غير مؤهل أو غير معروف أو لا يتمتع بقاعدة اجتماعية، ومنهم مَن عُرف في الوسط الحزبي بسوء سلوكه. ومن بَدهيات الانتخابات- أية انتخابات- أنَّ أخطاءً عدة يمكن أن تقع بدون أن تؤدي بالضرورة إلى خسارتها، بيْد أن ثمة خطأً واحدًا قاتلاً، مِن شأنه أن يسبب الخسارة، وهو في حالتنا العيانية تركيبة القائمة. مِن هنا يمكنني القول إن رئيس القائمة الدكتور حيدر الزبن هو الذي سيحمل القائمة على كاهله وليس العكس. أكتبُ هذا قبل موعد الاقتراع لأنَّ الكلام بعده لن يكون كما كان قبله، ومن جانبي لا أعتزم الانخراط في مناقشات التقييم أو المراجعة- هذا إذا تمَّت- بعد صدور النتائج وتفعيل المقولة الشائعة في هذا الصدد: "للنصر ألف أب والهزيمة يتيمة". أما بالنسبة لحل المعضلة الضميرية التي يخلقها لي قانون الانتخابات وإجراءاته بوجوب التصويت للقائمة الحزبية، وليس لأعضاء منفردين يختارهم الناخب، فلا يكون إلا بعدم الذهاب إلى صندوق الاقتراع، ومعناه في حالتي هذه التنصُّل من الوفاء بالوعد ونكث العهد الذي قطعتُه للمرشح حيدر الزبن في بيتي وأمام شهود وعلى مَلأ الفضاء الإلكتروني، وهو لَعمْري حل أعقَد من المشكلة.
في آب/أغسطس 2024 نظَّمتْ لجنة منطقة إربد الحزبية لقاءً انتخابيًا مع رئيس القائمة الحزبية الدكتور حيدر الزبن في بلدة خرجا بلواء بني كنانة، وتلقيتُ من قائد المنطقة الرفيق عبدالكريم قنو ومدير مكتب الحزب الرفيق علي الزعبي، الصديقيْن الصدوقيْن النقيَّيْن، دعوة حارَّة وحميمة لا يمكنني ردُّها مهما كانت الأسباب والظروف؟ لماذا؟ لأنها...
لأنها من لجنة منطقة إربد الواسعة، نصف سهول حوران، وإهراءات روما وزيتونها، من المخيبة على نهر اليرموك إلى سيل الزرقاء، ومن الرمثا إلى الغور. إنها منطقتي "الجيو-حزبية"، كما أُسمِّيها، وما أدراك ما هية؟ إنها مهبط رأسي ومَدرج طفولتي ونشأتي وكل حياتي النضالية، أي جُلُّ حياتي العُمْرية. وهي التي تحتضن في ثراها وعلى ثراها رفاقًا أماجد من الجنود المجهولين، وهم عندي معروفون عِزَّ المعرفة. وهي التي كلَّفني الحزب العتيق العتيد بقيادتها في اليوم التالي من إطلاق سراحي من زنازن "فندق أبو رسول" (الاسم الشعبي لدائرة المخابرات العامة، على اسم مديرها الشهير الأسبق محمد رسول الكيلاني) بعد قضاء سبعة عشر شهرًا من الاعتقال بسبب محاولتي، مع رفاق وزملاء آخرين، إنشاء نقابة للمعلمين في مطلع عام 1975، وهو "باكورة" اعتقالاتي الستة المتتابعة في الفترة من عام 1975 حتى انتفاضة الجنوب الثانية عام 1996.
نعم، منطقتي الجيو-حزبية هذه هي التي وجَّهت لي الدعوة، فوجدْتُني-بلغة المثقفين- أُلبِّيها. وكيف لي ألاَّ أُلبي دعوة الرفاق العتاق - كالأحجار الثمينة- الراحلون منهم والباقون على قيد الحياة؟ كيف لي أن أتنكَّر لصديقي ورفيق عمري المثقف العضوي الماركسي والمناضل الشيوعي البارز عصام التل الذي أسَّسنا معًا، ومع رفاق آخرين في عام 1973، تنظيمًا سريًا بدأ في إربد باسم "الحركة الوطنية الديمقراطية الأردنية"- اسم كبير على بدايته بلا شك- ما لبث أن تطوَّر واتَّسع ليكوِّن "اتحاد الشباب الديمقراطي الأردني"، الذي انتشر أعضاؤه بالعشرات من مختلف قرى منطقة إربد، وليصبح رافدًا متدفقًا للحزب الشيوعي الأردني فيما بعد، في وقت كانت الحركة الوطنية الأردنية- الفلسطينية "المستقلة" مُنْحسرة في أعقاب أحداث أيلول/سبتمبر 1970 الأليمة، وحديدةُ الأحكام العُرفية حامية.. عصام التل الذي اعتُقل وفُصل من عمله في التلفزيون الأردني في السبعينيات من القرن المنصرم، واعتُقل وفُصل ومُنع من العمل في العديد من المؤسسات بسبب مواقفه الوطنية التي لم يُساوم عليها، هو الذي رحل بعد معاناة قاسية من إصابة رئتيه إصابة مميتة لأنه لم يتمكن من الحصول على حقه الطبيعي في توفير العناية الطبية الكافية، ولم يكن بمقدوره شراء جهاز أكسجين متنقل، فاضطر إلى لزوم بيته حتى فاضت روحه.
كيف لي أن أنسى الشهيد زياد طناش، ابن قرية حوارة التي لا يفصلها عن دار عائلتي القديمة في بشرى سوى خطوات على تُربة حمراء خصبة بين وادي الرويسة وكَرْم أحمد الداهود الشطناوي الذي كنا "نسطو" على تيناته اللذيذة على الندى التي توفر علينا وجبة الإفطار ونحن ندرس في السهول الممتدة على المدى.. زياد الذي قدَّم روحَه ودمه وهو يقاتل مع قوات الأنصار ضد المعتدين الصهاينة أثناء اجتياح بيروت، والذي احتفى به الشاعر عز الدين المناصرة وكتب له قصيدته الجميلة بجَمال الشهيد ولحَّنها وغنَّاها الفنان مارسيل خليفة:
"بالأخضر كفَّناه
بالأحمر كفَّناه
بالأبيض كفَّناه
بالأسود كفَّناه
بالمُثلثِ والمستطيلْ
بِأَسانا الطويلْ..
لا الريحُ تُحاسِبُنا إنْ أخطأنا، لا الرملُ الأصفرْ
لا الموجُ ينادينا
إنْ خَفَقَ النومُ بأعيننا
والوردُ احمرّ
يا دَمَهُ النازفُ لا تصفَرّ
يا دَمَهُ...
يا دَمَهُ…"
كيف لي أن أردَّ دعوة قرية خرجا العزيزة على ذكرياتي، موْطن الرفاق الراحلين فندي ونايف ومفضي الزعبي، خرجا التي أمضيتُ فيها أوقاتًا في دار أبو فندي تحت "دلف" سقفها المتهالك بين الطناجر والتنك التي تفتح أذرعها لالتقاط حبات الماء البُنيَّة كي يتمكن الصغار من السير بينها. كيف لي ألاَّ أزور فندي الذي قضى عشر سنوات عجاف في السجون قبل أن ينهش جسده السرطان؟ كيف لي ألاَّ أمرَّ على بيت المقاتل الباسل في قوات الأنصار في مواجهة العدو الصهيوني على الأرض اللبنانية نايف الزعبي، الذي فتك به المرض نفسه؟
لا يمكنني مغادرة "خرجا" قبل أن أُعرِّج على الصديق والرفيق والإنسان الوفي الدكتور محمد خالد الزعبي، طبيب العائلة "المجاني"، الذي اعتُقلنا معًا من عيادته، وهي عبارة عن غرفة في بيته السكني. ذهبت إلى منزله استعدادًا للنزول إلى شارع السينما وسط البلد تضامنًا مع "هبَّة نيسان" 1989 في جنوب البلاد. وقد اصطحبتُ زوجتي وابنتي الصغرى يمامة كي تبدو الزيارة طبية-عائلية عندما اكتشفتُ أن المكان مطوَّق، فتظاهرْنا أمام عناصر المخابرات بأننا في زيارة للطبيب لمعالجة طفلتنا المريضة، وطلبَ الدكتور محمد منهم الخروج من غرفة العيادة والانتظار إلى حين فحص الطفلة. بعد ذلك قبضوا علينا واقتادونا إلى سجن سواقة الصحراوي.. هذا هو الصديق الطبيب المخلص الذي لم يتوانَ عن المُتابعة الحثيثة على مدار اليوم لحالتي الصحية التي تدهورت إلى حدٍّ حَرِج نتيجةً لإصابتي بفيروس كورونا، الذي نجوْتُ منه، كيف لي ألاَّ أردَّ له الجميل؟
وغير بعيد عن خرجا في سحم الكفارات، كان لي رفاق مميَّزون: المناضلان العزيزان أحمد الرضوان وعلي الطوالبة اللذان رحلا بدون ضجيج، والدكتور محمد سعيد الطوالبة، أستاذ الاقتصاد السياسي الذي لم يجد له كُرسيًا في جامعات بلده حتى قضى نحبه بينما كنا في سجن سواقة، حيث أقمنا له بيت عزاء في قاووش السياسيين؟
وبلا ضجيج كذلك، لكن بألم شديد، غادَرنا قبل الأوان متأثرًأ بمرضه الرفيق عبدالله بداح، ولم أتمكن من وداعه. وبِصمتٍ عاش ومات رجل المهمات الصعبة، المتواضع، المتفاني، قليل الكلام كثير العمل، طيب القلب والنفْس خالد التل، أحد المنخرطين الأوائل في صفوف اتحاد الشباب الديمقراطي في منطقة إربد، ثم في الحزب، الذي رحل صابرًا متألمًا بعد أن اضطر الأطباء إلى بتر ساقه. كيف لي أن أنساهما؟
كيف لي أن أتغاضى عن الشخصية الصافية محمود فواز الطوالبة أبو مَسار الذي حضرَ ابنُ أخيه لقاء الدعاية الانتخابي في نادي خرجا كي يذكِّرنا بعمِّه، مهندس الاتصالات الذي فُصل من عمله ومُنع من العمل، والذي شُجَّ رأسه بالهروات الغليظة في مظاهرة السفارة الأميركية بجبل عمان احتجاجًا على العدوان الأميركي على ليبيا في عام 1986، وهو يهتف مع الرفاق: "اسمع يا ريغان اسمع، الشعب الليبي ما بركع"، قبل أن ينقلونا إلى سجن المحطة المركزي. ولم تتم معالجة جرحه الذي ظل ينزف داخل السجن... أبو مسار هذا قضى نحبه بصمت وبدون أن يذكره أحد أو يؤبِّنه أحد، لا عند وفاته ولا بعدها...
كيف لي ألاَّ أذْكر رفيق عمره تيسير الطوالبة أبو صخر صاحب الإرادة الصخر والقلب الرقيق، الذي يحمل شهادة الماجستير في العلاقات الدولية أملاً في أن يعمل سفيرًا لبلده الحر المستقل، لكن بلده حرَمه من أي عمل طوال حياته. هل يمكنني أن أنسى كيف كان أبو صخر مع رفيقه أبي مسار ينتظران حلول الربيع في كل عام، ولسان حالهما يردد ساخرٍا بيت الشاعر البُحتري:
"أتاكَ الربيع الطلق يختال ضاحكًا مِن الحُسن حتى كاد أن يتكلَّما"..
لا للتغني بحُسن الربيع وجماله ولا للاستمتاع بمشاهدة خُيلائه، بل لجمع الأعشاب الصالحة للأكل: الخبيزة والعكوب والزعتر والحُميض والمرار والعلت والشومر والفرفحينا، التي تجود بها طبيعة بلدهما وليس للدولة الريعية فضل عليهما في ذلك. لا عجب! أليس هذا ما حدث للكاتب والفيلسوف الكبير أبو حيان التوحيدي، الذي اتُّهم بالكفر والزندقة وعانى الحرمان والقمع والفقر المدقع على أيدي الصاحب بن عباد وابن العميد، مما اضطرَّه لرعي الأعشاب في البريَّة كي يسدَّ رمَقه، فما كان منه إلا أن احتجَّ على أوضاعه المُزرية بطريقة غريبة، أُسميِّها "الانتحار الثقافي"، حيث أضرم النار في جميع كتبه ومؤلفاته، ولم يَنْجُ منها سوى كتابه اليتيم المتوفر حتى اليوم "الإمتاع والمؤانسة" لأن الكتاب كان في تلك اللحظة الجنونية لدى أحد الورَّاقين.
كيف لي أن أنسى رفيقهما المرحوم أحمد مصطفى أبو سلام، معلم الرياضيات المتميز في مدرسة مخيم اللاجئين في إربد التابعة لوكالة الغوث "أونروا"، الذي كان "يضيِّفنا" في الاجتماع السري الذي يُعقد في بيته أقراص فيتامين سي فوَّار كي يقينا من الرشح والانفلونزا؟ وكيف لي ألآَّ أتحسَّر على غياب الرفيق العتيق في قيادة منطقة إربد، الرجل الطيب والخلوق، صديق العائلة ذيب عويس أبو بيدر، الذي غادرَنا فجأة في لحظة افتئاتِ سائق على القدَر. أبو بيدر، المهندس الذي مُنع من العمل في أوائل السبعينيات، فعمل معلمًا مؤقتًا في مدرسة خاصة بإربد براتب 19 دينارًا، والذي شهدت غرفة الضيوف في بيته ذات مرة بعد انتهاء اجتماع للجنة المنطقة منظرًا غريبًا خلف الزجاج المغبَّش لخيالات رجال يقومون بخلع وارتداء ملابسهم، ليتبيَّن أنهم كانوا يقيسون ملابس مستعملة فاخرة من ماركات "ييف سان لوران وكالفن كلين وبيير كاردان"، مُرسَلة في حقيبة ضخمة من عضو مجلس وطني فلسطيني ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس "تبرُّعًا سخيًّا" منه إلى فقراء الثورة الفلسطينية في الأردن، ووصلت إلينا عن طريق أصدقاء، لا بأس، فالفقر لا يعترف بالتمييز وإنْ كان يعرفه حقَّ المعرفة. وقد اخترتُ "جاكيت" سبور جميل لفَتَني أنه يحمل قطعتي جلد طبيعي على الكوعيْن. ذلك الجاكيت الذي أعجبني شهِدَ بعد فترة قصة أكثر أهمية من قصة الحقيبة الباريسية.. كنتُ عائدًا من إربد إلى بيتي في بشرى ومعي زوجتي خزامى الرشيد وابنتي الرضيع زينة في الكرسي الخلفي للسيارة، عندما أوقفتني دورية مؤلفة من بضعة رجال مدنيين (مخابرات) وطلبوا تفتيش السيارة، ثم طلبوا تفتيشي جسديًا، فرفضتُ إلا بعد إبراز مذكرة تفتيش. أنزلوني من السيارة وانقضُّوا عليَّ لكمًا وركلاً وألقوني أرضًا، قاومتُ، فجرُّوني على الإسفلت المغشوش بالحصى (عملية سحل) وبدأتْ جروحي تنزف وتسرَّب الدم إلى ملابسي . كان جيب الجاكيت محشوًّا بمطويَّات جريدة الحزب، وهي الوثيقة ضالَّتهم التي يبحثون عنها لأنها تحمل لي حُكمًا بالسجن يصل إلى عشر سنوات. كانت زوجتي تَعلَم بوجود القنابل الورقية في جيبي، فبدأتْ بمقاومتهم وبشدِّ الجاكيت بكلتا يديها إلى أن استطاعت نزْعَه عن جسمي. عندئذ تنفَّسنا الصعداء، واستسلمتُ لهم.
كيف أجرؤ على التغاضي عن الرفاق "قرامي" الرمثا المؤسسين الأوائل وأيقونات الرماثنة الراحلين، أبو قاسم الزعبي وأبو ناصوح الخزاعلة، وماجد الزعبي ورئيس "جمهورية الرمثا المستقلة" الشهير يوسف الهربيد الذي قاد الاحتجاجات الرمثاوية ضد حلف بغداد في أواخر عام 1955 ومطلع عام 1956؟ اليوم لم يَمضِ وقت طويل على رحيل المناضل الشيوعي هاجم كهرب في ذروة الحاجة إليه، مقاوِمًا للمرض، مُعانِدًا للموت، كاشفًا للزيف ومنحازًا للحقيقة.. الرجل الشهم أبو خالد، الذي يميِّز بين غُثاء الانتهازية وصَفاء المبدأية، والذي انبرى للدفاع عني في وجه "الفُتوَّات" الحزبية، تاركًا في عُنقي ديْنًا كبيرًا له، لم يُمهلني القدَر لِسَداده.
كيف لي أن أمرَّ على ذكر الرمثا من دون ذكر القادة الطلابيين الرماثنة رمزي الخب وأحمد أبو خليل وعبدالكريم غنو، الذين قادوا احتجاجات طلبة جامعة اليرموك المطلبية ببسالة وجرأة وحكمة في عام 1986، إلا أنَّ سلطات الأمن ردَّت على الاعتصام السلمي بعنف أودى بحياة ثلاثة من طلاب الجامعة وأسفر عن جَرح العشرات، الأمر الذي حدا بالحزب إلى اتخاذ قرار "باختفاء" الرفاق المطلوبين و"تهريب" رمزي خارج البلاد خوفًا على حياته. وقد عبَر رمزي الحدود إلى سوريا، حيث اعتُقل لمدة شهرين تعرَّض خلالها للتعذيب، قبل أن يتم إطلاق سراحه عقب إجراء اتصالات بين قيادة الحزب في دمشق والسلطات السورية.
هل تغفر لي عائلة الرفيق عبد الإله أبو خليل شقيق أحمد أبو خليل، بل هل يغفر لي ضميري ألا أُسجل نموذج التضحية والإيثار العظيم الذي مثًّله الشقيقان أحمد وعبدالإله؟:
ففي أواخر عام 1988 دَهمَ أفراد الأمن منزل عائلة الشقيقين أبو خليل بهدف القبض على عبد الإله، وبعد أن قاموا بتفتيش المنزل عثَروا على أوراق ومنشورات حزبية بين مقتنيات أحمد نسَبوها إلى عبد الإله، الذي أنكر أية علاقة له بتلك الأوراق، كما أنكر أن تكون لأخيه أحمد. في زنازن الأمن بدأت محنة عبد الإله المروِّعة، حيث تعرَّض لأبشع صنوف التعذيب، كالضرب والشبح والتعليق وهو مُقيَّد بالأغلال والأصفاد، وإلقائه عاريًا على مصطبة الزنزانة في قرِّ الشتاء حتى يُغمى عليه، كي يعترف بأن المنشورات تخصُّه، إلا أنه ظلَّ مُصرَّا على إنكارها وعلى حماية شقيقه. بعد مرور شهرين على محنة عبدالإله، علِمَ أحمد بأوضاع الاعتقال الفظيعة التي يقاسيها شقيقه، فما كان منه إلا أن أوصل إلى سلطات الاعتقال أنَّ الأوراق تخصُّه هو ، وليس لشقيقه أية صلة بها، فاعتقلوه قبل أن يطلقوا سراحهما في وقت لاحق.
هؤلاء هم رفاقي في منطقة إربد الجيو-حزبية، الذين استقبلوا شاعر الجماهير الكبير في الخمسينيات من القرن الفائت أسد محمد قاسم، الذي كان يَهزُّ بقصائده وجدان المتظاهرين ضد حلف بغداد الاستعماري ومن أجل إجلاء القوات البريطانية عن البلاد، وإقامة نظام حكم وطني ديمقراطي ودفاعًا عن مصالح الجماهير الشعبية، وعن حق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه والعودة إلى دياره، عائدًا من بودابست بعد الانهيار الكوني الكبير إلى بيت أهله في مدينة إربد كي يموت على أقرب تُربة لتراب وطنه المغتصب فلسطين. وقد ظلَّ أسد محتفظًا بعنفوانه وعزة نفسه وسلاطة لسانه في الحوار، لا يجامل أحدًا في آرائه ومواقفه مهما كانت درجة صداقته معه أو شكل علاقته به، حتى أنني كنت أغتنم فرصة قدوم صديقنا المشترك الراحل الدكتور نبيه رشيدات، أحد المؤسسين الأوائل للحزب الشيوعي الأردني، من دمشق لمرافقته في زيارة أسد. ولم يتوانَ عن "التشقيع" لرئيس منظمة التحرير ياسر عرفات أمام محدِّثيه في كل مناسبة، وهو يعلم أنَّ الكلام يصل وأنَّ عقاب أبي عمار على طريقته يقع. وعندما فعَلها أسد ولفظَ زفراته الأخيرة وحيدًا فقيرًا في طابق التسوية ببيْت عائلته القديم، رفض إمام الجامع المجاور له الصلاة على جنازته، مما اضطرَّنا إلى نقله إلى مسجد الملعب البلدي.
هذا غيض من فيض. هؤلاء وغيرهم ممن "خذَلَتْهم" ذاكرتي التي شاختْ هم رفاقي في منطقة إربد الجيو-حزبية العتيقة، كنتُ قائدهم وكانوا قادتي. قائدًا بين متساوين كُنَّا، فكيف لي أن أتخلى عنهم أو أنساهم أو لا أحتفي بذكراهم، وهم الذين ناضلوا وقاسوا، عاشوا وماتوا أو شاخوا، من أجل استقلال بلدهم ورفاه شعبهم، بدون أن يشهدوا تحقُّق آمالهم التي عقَدوها على تلك النضالات المجيدة والتضحيات الجسيمة.
*****
الصديق الغالي الدكتور هشام،
هؤلاء هم رفاقي.. لم يكن بينهم مَن "كَفرَ" بالاشتراكية والماركسية بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي ومنظومة البلدان الاشتراكية، واعتنقَ دِين نهاية التاريخ وصِدام الحضارات، وتحوَّل إلى يسار ليبرالي.. لم يكن بينهم من نزع اسم الحزب عن قميصه ونبذَ الشيوعية باعتبارها من الماضي الذي تجاوزتْه الحياة.. لم يكن بينهم من احتفظ بالاسم و"لوغو" المنجل والشاكوش وألقى بالمضمون في أقرب حاوية، وادَّعى أنه يسير على خط الحزب- يسير على خط الحزب؟- هذا صحيح، لكن "بالمحَّاية" (على طريقة أنور السادات عندما ادَّعى أنه يسير على خط عبدالناصر، وأكمل الشعب المصري الجملة الساخرة بإضافة كلمة "بالأستيكة" باللهجة المصرية، أي بالمحَّاية.. لم يكن بينهم من استعاضَ عن الحزب الثوري بدكان سياسي.. لم يكن بينهم من انضمَّ إلى جيش "الأن جي أوز" وفتحَ بابه وذراعيه وجيوبه للتمويل الأجنبي.. لم يكن بينهم من أنشأ مليشيا "فُتوَّات" للاعتداء على الرفاق واستخدامهم لحسم الخلافات الفكرية والسياسية والتنظيمية لمصلحته الشخصية أو الوظيفية.. لم يكن بينهم من هو متعدد الولاءات والخدمات ولم تُلامس قدماه طريقًا إلى الحزب، ولم يتنفس هواءه، ولم يشرب من مائه قَط، فأُنزل بالبراشوت لغايات في نفوس اليعاقبة (جمع يعقوب).. لم يكن بينهم مَن أُدين وحُكم عليه بالسجن بجريمة اختلاس وصار فَقيهًا وخصْمَا وحَكَمًا.. لم يكن بينهم مَن هو مشتَبه بارتكاب تجاوزات مالية وإدارية.. لم يكن بينهم مَن ديْدنُه حِياكة المؤامرات الداخلية للإطاحة بالخصوم الحزبيين الذين يقفون في طريق الوصول إلى أغراضه الخاصة أو يخالفون سياسات السقوف الواطئة والخطوط الحمراء التي ينتهجها.
عزيزي الدكتور هشام،
هؤلاء وغيرهم ممن خانتْهم ذاكرتي هم رفاقي في منطقة إربد الجيو-حزبية، الراحلون منهم ومَن لا يزالون على قيد الحياة. لا يمكنني التخلي عنهم أو نسيانهم أو خذلانهم أو ردُّ دعوتهم الكريمة الصادقة، وهم الذين دعوني إلى حضور لقاء خرجا الانتخابي مع مرشحهم الدكتور حيدر الزبن، فلبيتُ الدعوة وأعلنتُ دعمي له ودعوتُ إلى مؤازرته والتصويت له. دعمتُه لشخصه كإنسان يتحلَّى بالجرأة والتواضع والإخلاص في عمله والوفاء لأصدقائه. ففي قضية اتَّسمت بالخطورة الشديدة، ظلَّ وفيًا لصديقه ناهض حتر أثناء اعتقاله وتعذيبه وبعد اغتياله بسبب "تشييره" كاريكاتور "رب الدواعش" المشؤوم، في الوقت الذي تكالبتْ على ناهض أطراف عديدة ومختلفة، خارجية وداخلية، يمينية ويسارية، ومنهم شيوعيون، بين مستنكر ومُشكِّك ومُتشفٍّ ومُحرِّض ومتواطئ. دعمْتُ المرشح حيدر الزبن لسجِّله المشهود له في عموم البلاد في التصدِّي للفساد، وخسِرَ منصبه الحكومي المهم للغاية بالنسبة للمواطن الأردني (مدير مؤسسة المواصفات والمقاييس). كما أنَّ تعرُّضَه لمحاولات محمومة لإقصائه عن رئاسة قائمة ائتلاف الأحزاب الأربعة وانضواءَه تحت لواء الحزب الشيوعي وترشَّحه رئيسًا لقائمته الانتخابية العامة، حاملاً برنامجه الانتخابي الشامل، يُعَدُّ بحد ذاته تحديًا كبيرًا يتطلب جرأةً في مواجهته ومغامرةً بفُرص الفوز بمقعد برلماني لو أراده بأي ثمن. لهذه الاعتبارات دعمْتُه على الرغم من أنني في واقع بلادنا الراهن، وفي ظل عمليات الهندسة الاجتماعية، والتعديلات الدستورية الأوتوقراطية الجوهرية، لستُ من السذاجة بقدْر يجعلني أعتقد أن يتمكن أي عضو في البرلمان بمفرده من إحداث تغيير حقيقي أو فرق ملحوظ. كما أنني لا أحفل بالمقارنة التي يعقدها بعض الشيوعيين بين مشاركة الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مجلس "الدوما" في روسيا القيصرية وبين مشاركة الشيوعيين الأردنيين في انتخابات مجلس النواب، وذلك بهدف تسويغ/تسويق موقفهم المؤيد لها. ففي الوقت الذي كان حزب الاشتراكيين الديمقراطيين يشارك في الدوما الروسي، كان فلاديمير إليتش لينين يُعدُّ العدَّة بكل عبقريته الملهِمة وعقله الديالكتيكي الوهَّاج لإطلاق أعظم ثورة في تاريخ البشرية، ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في عام 1917 في بلد واحد، وفي الحلقة الأضعف، خلافًا للرأي السائد في أوساط المفكرين الماركسيين، شتَّان! إنها حقًا لمقارنة ضِيزى.
عزيزي الدكتور هشام،
بالتليباثي الذي يربطنا يمكنني أن أَسمَعك تقول لي بصرامتك الفكرية المعهودة: أنت أيضًا تحاول تسويغ موقفك. وأقول لك: لا أُنكر ذلك، ولا أنفي أنني ربما قمتُ بفصل تعسفي بين موقفي من المشاركة في هذه الانتخابات وبين تعاطفي مع ودعمي لشخص المرشح حيدر منصور الزبن دون غيره، أملاً في المساعدة على إعطائه فرصة إطلاق صيحة في البريَّة لعلَّ أحدًا يسمعُها.

[ملحوظة قبْليَّة: أكتبُ لك هذه الرسالة قبل حلول موعد الانتخابات النيابية وأثناء فترة الحملات الدعائية، ولن أنشرها إلا بعد إعلان نتائجها النهائية حرصًا على تجنُّب اتهامي بإحداث أي تأثير سلبي على حملة الدكتور حيدر الزبن، المرشح الذي أدعمه.]
مع صادق الحب وفائق الاحترام.
أحمد جرادات
30 آب/أغسطس 2024
*****
:
[1] [ملحوظة بعْديَّة (بعد كتابة المقال، ولحظة الوقوف أمام صندوق الاقتراع): أعترفُ لصديقي الدكتور هشام بأنني في لحظة الاقتراع على طاولة الخلوة وعندما وصلتُ إلى خانة قائمة الحزب، تلعْثمتُ وتردَّدتُ طويلاً قبل أن أضع إشارة "تِك" أمامها، وأخذتُ أُقلِّب ورقة الاقتراع كي أمنح ضميري فُسحة أخيرة وأنا أتساءل كيف أُعطي صوت ضميري إلى القائمة ككل وبين أعضائها مَن أعرف حقًا أنه لا يستحقه، حتى أن أحد المشرفين في لجنة الصندوق سألني عمَّ إذا كنتُ بحاجة إلى مساعدة- ربما اعتقدَ أنني أميٌّ- فصحوتُ وحسمتُ صوتي خلافًا لصوت ضميري. ولهذا ارتعشتْ يدي كما لو كنت سأرتكب بها جريمة. سامحْني صديقي المحترم].



#أحمد_جرادات (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سَيِّدَ شُهداء الأنام: ليس تأبينًا، حاشَاك
- الثورات الرثة: جَوْلة السَّفاري المُفترِسة الثانية
- الملحمة الغَزيَّة: صراع سرْديَّات أم صراع بين الحقيقة والسرد ...
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة
- بتْلات شائكة: نصوص مسرحية وقصصية ومُمسرحة
- كتاب جداول ثقافية: فانتازيا الحقائق البديلة
- كتاب -الأوديسة السورية: أنثولوجيا الأدب السوري في بيت النار-
- حسن نصر الله وقضايا التحرر الوطني بقراءة ناهض حتَّر
- في ذكراها العاشرة ثورة 25 يناير: من رانديفو الشباب إلى كرنفا ...
- ورشة عمل كورونية: كوميديا من فصل واحد
- إجابات ملموسة عن أسئلة كبرى في الحقبة العرفية
- خمسون شمعة لكتاب سوريا
- بانوراما: في الثقافة والسياسة وشؤون أخرى[1]
- عناقيد الأدب : يوميات الحرب والمقاومة
- للتاريخ: مانيفستو استنكار وبراءة
- هوامش على متن -هبَّة نيسان-
- أبو علي مصطفى Versus أخو عليا وصفي: عنوان لنهاية وَطَنيْن
- -كولاج- المطربة والرقيب: مشاهد وروايات
- عناقيد الأدب: أنثولوجيا الحرب والمقاومة
- في الدولة -الزومبي-: المهمة المستحيلة


المزيد.....




- الإمارات ردا على قرار السودان بقطع العلاقات معها: -سلطة بورت ...
- هيئة البث الاسرائيلية: إصابة 3 جنود في معارك جنوب قطاع غزة ب ...
- محاولات يامال وتصديات سومر وهدف أتشيربي القاتل يلخصون ملحمة ...
- تنديد أممي وأوروبي بتوسيع الهجوم على غزة وحظر دخول المساعدات ...
- اليمن.. -أنصار الله- تعلن استهداف مطار رامون الإسرائيلي وحام ...
- نتنياهو في أول تصريح له بعد القرار الأمريكي بشأن الحوثيين: إ ...
- استقبال الرئيس الصيني شي جين بينغ في مطار موسكو
- اتفاق مصري يوناني بشأن فلسطين وإسرائيل
- 50 شركة ألمانية تحيي ذكرى جرائم النازية وتقر بمشاركتها في ال ...
- رهانات ماكرون باستقبال الشرع؟


المزيد.....

- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أحمد جرادات - أحزاب وانتخاب: تَلِيباثي مع صديقي الدكتور هشام غصيب