أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فراس عوض - بين قهوتين... ومصير: مقهى البازلاء رواية من نار الحبر ونور السقوط














المزيد.....

بين قهوتين... ومصير: مقهى البازلاء رواية من نار الحبر ونور السقوط


فراس عوض
كاتب وباحث سياسي واجتماعي، ماجستير في دراسات الجندر، نقابي وناشط حقوقي

(Feras Awd)


الحوار المتمدن-العدد: 8334 - 2025 / 5 / 6 - 21:38
المحور: الادب والفن
    


انتهيت من قراءة مقهى البازلاء، ولم أنتهِ منها. رواية لا توضع على الرف بعد ختامها، بل تستقر في أحد أدراج القلب، حيث تحفظ الأشياء التي تُقلق وتُبهر وتُربك وتُضيء في آنٍ معًا.

الكاتب الأردني عثمان مشاوره لا يقدّم لنا مجرّد حكاية. بل يفتح لنا بابًا خشبيًّا لمقهى غريب الطراز، تفوح منه روائح الوطن والحلم والخذلان، ويجلس على عتبة بابه العقيد نايف الصالح، لا كبطل، بل ككائن مهزوم، متعب، يحمل على منكبيه تاريخًا ثقيلًا ومصيرًا مُراوغًا.

منذ الصفحات الأولى، يدفعنا مشاوره إلى قلب المشهد: مشهد النهاية. نبدأ من حيث كان يجب أن يُختم كل شيء، ثم نعود إلى الوراء، لا لنفهم، بل لنتوه ونُسأل، وتلك لعبة السرد الحديثة، التي برع الكاتب في تطويعها. بنى حبكته على النموذج الكلاسيكي لمسار البطل، لكنه كسره مرارًا، عبث به، جعله يترنّح بين الممكن والمستحيل، بين المجد والمهانة، بين كتيبة عسكرية ومقهى هادئ لا يحدث فيه شيء... سوى كل شيء.

"وجدت كتاب الاستقالة على مكتبي، موقّعًا باسمي، لا أعرف من أين جاء، ولا من وقّعه، لكن الجميع سلّم به كأمر واقع" — جملة تساوي رواية كاملة. إنها لحظة المفصل، الحافة، السقوط بلا مظلة. العقيد، رجل الدولة، يقف أمام دولته خالي الوفاض. خُلع لا من وظيفته فقط، بل من رمزيته، من موقعه الاجتماعي، من وهمه الذاتي. أراد أن يكتب، أن يدخل التاريخ من باب الكلمات، لكن حتى الحروف خانته، ووصمه الديوان بـ"السرقة". مفارقة بليغة: رجلٌ عاش عمره حارسًا للحدود، يُطرد من أسوار الكتابة كمبتدئ غير مرغوب فيه.

يرسم مشاوره شخصياته بريشة الروائي العارف بخفايا النفس الإنسانية. أشخاصه ليسوا كائنات ثنائية — خيرًا أو شرًّا — بل فسيفساء من النوايا والآلام والانكسارات. صديق يخونه، حلم يخذله، دولة تنكره، وماضٍ لا ينقضي. كل شخصية ثانوية في الرواية تبدو وكأنها تسير في خطٍ مستقل، لكنها تعود دائمًا لتصطدم بالعقيد، لتعيد تعريفه لا كـ"بطل"، بل كإنسان يُعاند المصير ويُعاند نفسه.

"لم أكن أريد أن أكون وزيرًا أو سفيرًا... كنت فقط أريد أن يعترف أحدهم بأنني لم أخن" — في هذه العبارة تتكثف غاية الرواية: تطهير داخلي من وصمة الغدر والخيانة، لا الطموح المجتمعي. العقيد لا يسعى للسلطة قدر سعيه للاعتراف، للانتماء، للمعنى.

ما يجعل هذه الرواية لافتة، ليس فقط موضوعها السياسي الاجتماعي، بل طريقتها في حكاية الحكاية. فمشاوره يُطوّع أدوات الرواية الحديثة ببراعة تُذكّر بماركيز في التلاعب بالزمن، وبهِمنغواي في الاقتصاد اللغوي، وبزوسكيند في الغوص في أعماق النفس، وكونديرا في نقد السلطة والهوية والذاكرة. لكنه رغم ذلك، يبقى عثمان مشاوره، لا يقلد، بل يُحاور هؤلاء الكبار، ويتجاوزهم أحيانًا في بلاغة الوجع المحلي، الذي يتخطى الحدود ليصير وجعًا إنسانيًّا.

"الناس في المقهى يشربون القهوة، وأنا أشرب ذاكرتي... كل رشفة، طعنة" — استعارة موجعة تُلخّص علاقة البطل مع الزمن، مع الماضي، مع نفسه.

اللغة؟ مذهلة. ليست متكلّفة ولا عادية. بل مشغولة على مهل، كأنها خُيطت بإبرة شاعر يُجيد نظم الجملة في مكانها دون أن تُفسد الاقتصاد التعبيري. لا حشو، لا مجاملة، بل كل كلمة حيث يجب أن تكون.

المكان في الرواية ليس ديكورًا، بل كائن حي. مقهى البازلاء نفسه يضيق ويتسع بحسب نبض العقيد، والزمان يتشظى، يعود، يتقدم، يلتف، كما لو أن الذاكرة نفسها تروي الحكاية.

وفي النهاية — أو البداية — تبقى مقهى البازلاء رواية لا تنتمي إلى التصنيفات السهلة. هي رواية عن رجل... عن وطن... عن سقوط الحلم العربي في فنجان قهوة بارد، وعن محاولاتنا الدائمة لتلمّس المعنى من ركام الأسئلة.

إنها ليست فقط "رواية عظيمة"، بل هي رواية ضرورية. لأنها تعرّي حقيقة مؤلمة بلغة فاتنة، وتُمهّد لنا الطريق لنسأل، ربما: ما الذي تبقّى فينا من نايف الصالح؟ ومن الوطن؟ ومن الحلم؟



#فراس_عوض (هاشتاغ)       Feras_Awd#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نساء غزة والأردن: النسوية المقاومة وتحطيم الهبمنات امام النس ...
- الإعلان الدستوري السوري، مدني ام ديني ام علماني!!
- مع المقاومة ولا لوقف اطلاق النار
- جميعها أسباب لنهاية الحرب خلال فبراير
- مهزلة الاحتلال في مائة يوم
- الذكاء النسوي..
- يسقط المجتمع الأبوي والأمومي أيضا
- لذة الحب...
- الذكاء النّسوي..
- فراس عوض : جارة العميد
- ذكاء نسوي
- دك معاقل العلم أمام فهلوة الاعلام والساسة الكورونية
- الكورونا السياسية والتهويل الاعلامي الطبقي
- يوم المراة العالمي.. نشوء النسوية الأردنية وملاحظات
- سن اليأس أم الثقافة اليأسة!
- الأردن.. محاكمة برلمانية لجسد المرأة
- فراس عوض يكتب:أن تكن أجمل
- تلازم مناهضة العولمة والاصلاح السياسي
- رمزية احتجات لبنان الناعمة
- الاعلام وجرائم قتل النساء في المجتمع المحافظ


المزيد.....




- مثقفون مغاربة يطلقون صرخة تضامن ضد تجويع غزة وتهجير أهاليها ...
- مركز جينوفيت يحتفل بتخريج دورة اللغة العبرية – المصطلحات الط ...
- -وقائع سنوات الجمر- الذي وثّق كفاح الجزائريين من أجل الحرية ...
- مصر.. وفاة الأديب صنع الله إبراهيم عن عمر يناهز 88 عاما
- -وداعًا مؤرخ اللحظة الإنسانية-.. وفاة الأديب المصري صنع الله ...
- الحنين والهوية.. لماذا يعود الفيلم السعودي إلى الماضي؟
- -المتمرد- يطوي آخر صفحاته.. رحيل الكاتب صنع الله إبراهيم
- وفاة الكاتب المصري صنع الله إبراهيم عن 88 عاما
- وفاة الكاتب المصري صنع الله إبراهيم عن عمر 88 عاما
- وزارة الثقافة المصرية تعلن وفاة -أحد أعمدة السرد العربي المع ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فراس عوض - بين قهوتين... ومصير: مقهى البازلاء رواية من نار الحبر ونور السقوط