أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أوزجان يشار - المدينة بين الاختناق والنجاة: حين يتحوّل الإسمنت إلى مرآة للإنسان















المزيد.....

المدينة بين الاختناق والنجاة: حين يتحوّل الإسمنت إلى مرآة للإنسان


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8334 - 2025 / 5 / 6 - 14:53
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


منذ أن تحرّر الإنسان من دورة الشمس والظل في القرية، وراح يبني المدن، بدأت الأرض تُعاد صياغتها لا كما أرادتها الطبيعة، بل كما شاءت عجلة التوسّع. المدينة، التي كانت في الأصل مأوى للحماية والتبادل والابتكار، تحوّلت تدريجيًا إلى كيان يُنافس الإنسان في ملامحه، يُراقبه ويُحاصره ويُعيد تشكيله. لم تعد المدن حواضر تتسع للروح، بل في كثير من الأحيان، غدت أشبه بقِلاع ضخمة ذات بوابات ضيقة للعدالة والمشاركة.
وهنا لا تكمن المعضلة في عدد سكانها، بل في نوعية الحياة داخلها، في توازنها البيئي، وفي قدرتها على حفظ الذاكرة، والكرامة، والتكافؤ، والأمل.

أولًا: المدن والبيئة… حين يُقصى النسيم وتُختنق الشجرة
ليس التلوث وحده هو الذي يُرهق المدن، بل فقدانها للتناغم مع العناصر. ففي سعيها لتكثيف البناء وتوسيع الطرق وتطويع الجبال، نزعت كثير من المدن المعاصرة جذورها من الطبيعة.
أشجار تُقتلع، ومساحات خضراء تُستبدل بمواقف للسيارات، وهواءٌ صار مليئًا بذرات لا يُراها المرء، لكنها تُنذر بانهيار الصدر والسماء معًا.
المدينة التي لا تُصالح الطبيعة، ستدفع ثمن هذه القطيعة في الحرائق، والجفاف، والفيضانات، والاختناقات المتتالية. لقد آن الأوان أن تُعاد هندسة المدن لا فقط بحسب خرائطها الجغرافية، بل وفق حاجات كوكب مريض.
وليس غريبًا أن بعض المدن الناجية، مثل كوبنهاغن، اختارت أن تنقل اللون الأخضر إلى السطوح والجدران، لتعيد للعين والطبيعة حقّها.

ثانيًا: الاجتماع البشري… عزلة في قلب الاكتظاظ
قد يخيّل للمرء، حين يسير في شارع يعجّ بالمارة، أن المدينة تُعزز الترابط الإنساني، غير أن الواقع غالبًا ما يُثبت العكس.
في المدن الكبرى، تنشأ حياةٌ عمودية تُقصي الحوار الأفقي.
نوافذ متقاربة لا تُفضي إلى تعارف، ومصاعد مشتركة تُخفي في صمتها ما كان يُقال في ساحة الحارة.
الجدران العالية تحمي الأفراد من الغرباء، لكنها تعزلهم عن جيرانهم.
تتجاور طبقات اجتماعية متناقضة دون أن تتقاطع إنسانيًا: فُقراء في أحياء تتآكل، وأغنياء في أبراج لا تشعر بشيء سوى الرفاهية المُحاطة بالحراسات.
كلما ازدادت المدينة فخامة، ازداد فيها الفقر خفاءً، كأن الفقر يُعاقب لأنه قبيح، لا لأنه ناتج عن فشل السياسات.
ومع العزلة، تنمو مشكلات نفسية واجتماعية كالقلق، والعنف الأسري، والانتحار، والاغتراب الذاتي.
لقد خلق التحضر غير المتوازن فجوةً بين “العيش في المدينة” و”الانتماء لها”.

ثالثًا: الاقتصاد الحضري… حين تتحوّل المدينة إلى مصنع للاستهلاك
المدينة التي لا تنتج الغذاء ولا تحفظ الماء، تصبح رهينة للسوق.
لقد تحوّلت كثير من المدن إلى مواقع لاستهلاك جماعي لا يتوقف، تصنع رغبات سكانها عبر الإعلانات، وتُقاس قيمتهم الشرائية أكثر من قدراتهم الإبداعية.
العمل اليومي صار أشبه برحلة مطاردة مستمرة للرواتب، من أجل سداد القروض، ودفع الإيجارات، وتأمين الأساسيات.
وحين يضعف دور الدولة في التنظيم، تصير المدن ساحة مفتوحة لمضاربات السوق العقاري، فترتفع الأسعار، وتُحاصر الأحياء الشعبية، وتُدفع العائلات البسيطة نحو الهامش.
لكن هناك استثناءات:
في مدينة “كوريتيبا” البرازيلية، تم تطوير شبكة نقل جماعية بأسعار رمزية، تُدار بميزانية شفافة، تجعل من التنقل حقًا وليس امتيازًا.
وفي برشلونة، أعيد توزيع الميزانيات البلدية حسب الحاجة لا حسب النفوذ، فاستعادت بعض الأحياء المهمشة كرامتها العمرانية.

رابعًا: الثقافة والهوية… حين تُنسى الذاكرة وتُباع الأصالة
أحد أخطر ما تُحدثه المدن المُعولمة هو تآكل الهوية.
تدخل مدينة فتظنها شقيقتها في قارة أخرى: نفس الماركات، نفس المطاعم، نفس الواجهات، وكأن العالم أفرغ كل مدنه في قالبٍ واحد.
لكن المدينة ليست حُجرات مُكيفة، بل هي حكاية ناسها، صوت بائعها المتجول، وشكل رصيفها، ورائحة خُبزها، وأسماء أزقتها، ومواسم أفراحها.
المدن التي حافظت على تراثها ليست تلك التي رممته للسياحة، بل تلك التي جعلت التراث حيًا في يوميات الناس.
في إسطنبول، ما زالت الأسواق القديمة تُنبض بالحياة.
وفي فاس، تُعدّ الأزقة مسرحًا للتاريخ لا مجرد مزار.
أما المدن التي باعت ذاكرتها لبرج زجاجي، فستفقد بوصلة الانتماء، ويصير سكانها مجرد عابرين مؤقتين.

خامسًا: مدن تُعيد اكتشاف الإنسان – تجارب ملهمة
ثمة بارقة أمل في بعض المدن التي قررت ألا تُعاد صياغتها فقط بالإسمنت، بل بالوعي.
في سنغافورة، أصبحت الحدائق جزءًا من تصميم المدارس والمستشفيات وحتى المكاتب.
وفي كوبنهاغن، اتُخذ قرار على مستوى المدينة بأن يُخفض استخدام السيارات لصالح الدراجات، لتستعيد الأرصفة بعض هدوئها.
مدينة مثل “فرايبورغ” الألمانية أقامت أحياءً تُدار بالطاقة الشمسية، تُبنى فيها المساكن من مواد صديقة للبيئة، ويُشجع فيها سكانها على المشي، لا على العُزلة.
النجاح هنا لم يكن نتيجة وفرة المال، بل وضوح الرؤية، والإيمان بأن المدينة ليست للأقوى، بل للأحق بالحياة.

سادسًا: المدن العربية بين الذاكرة والاختناق – طريق محتمل للنجاة
المدن العربية ليست استثناءً من هذا التحدي، لكنها تختلف عن سواها بخصوصيات لا يمكن تجاهلها:
مدن ترزح تحت الموروث التاريخي والمذهبي والسياسي، وتُصارع الحداثة بعقلٍ مأزوم.
أحياؤها القديمة تُهدم أحيانًا بحجة التطوير، بينما تنبت ناطحات لا تليق بروح المكان.
ولا تزال بعض المدن العربية تعاني من مركزية شديدة، حيث يتم تطوير وسط المدينة وترك الأطراف لتتآكل، فتتفاقم البطالة، وتضعف البنية التحتية، وتتكرّر أزمات السكن والماء والنقل.
لكن، هناك فرص حقيقية للنجاة إن تم التعلّم من الداخل لا فقط من التجارب الغربية:
• الاستثمار في النقل الجماعي الرخيص والنظيف، كمترو الرياض أو ترام الدار البيضاء.
• إشراك الناس في تخطيط مدنهم لا فرض الخرائط فوق رؤوسهم.
• إحياء الحرف اليدوية في قلب المدن، لا طردها إلى الهامش.
• دعم الزراعة الحضرية في أطراف المدن العربية كبديلٍ عن الاستيراد المكلف والمُرهق.
• إيقاف الزحف العقاري الجشع على حساب المساحات العامة، فالمتنزه والرصيف والنافورة ليست كماليات، بل حقوق إنسانية.

خاتمة: المدينة ليست لعنة… بل إمكان
ليست المدن هي المشكلة، بل طريقة إدارتها.
المدينة التي تُبنى على قيم الإنسان، تَمنحهُ المعنى قبل المسكن، والكرامة قبل الواجهة، والحرية قبل النظام.
وحين نُعيد اكتشاف المدينة ككائن حيّ، لا مجرد مشروع هندسي، حينها فقط يمكن أن نُنقذها من الاختناق، ونُنقذ أنفسنا معها.
المدينة في النهاية، هي مرآتنا: إن شئنا وجها عادلًا، نظيفًا، متنوعًا، حيًا… فلنُعد تشكيل انعكاسنا فيها.



المراجع والمصادر:

• UN Habitat – تقارير التنمية الحضرية المستدامة
• Plitt, Urban Sustainability and the Human Condition
• وثائق مشروع “Green Singapore” البيئي
• التجربة الحضرية لمدينة “كوريتيبا” البرازيلية
• مذكرات بلدية برشلونة حول إعادة توزيع الموارد
• مشاهدات ميدانية وتحليلات حضرية عربية بين 2019 و2025



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من يطفئ العالم… ويشعل أرباحه؟ الكارثة كأداة تحكم، والخداع كا ...
- السلوك جوهر الدين: قصة النفاق الديني عبر الثقافات
- أنا في المقصورة الأخيرة: بين حرية الأبناء وألم تراجع مكانة ا ...
- العقول التي تُحدث الفرق: في فلسفة التأثير وأوهام الاستغناء
- فن الإدارة الصعبة: حين يصبح الإبداع سيفًا، والكرامة المهنية ...
- التنين يمد جناحيه: حين تتجاوز الصين ميزان القوى
- ترامب والكوكلس كلان الجديد: بين فاشية القرن الحادي والعشرين ...
- من هو المسيح الدجال؟ تأملات في زمن الذكاء المصطنع والضمير ال ...
- البروباغاندا: تغييب الوعي وصناعة مجتمعات القطيع
- الصليب في البيت الأبيض: حين تتسلّل الأيديولوجيا الدينية إلى ...
- العقل قبل الجينات
- دونالد ترامب وظلّ القناع الأبيض: هل يقود أمريكا إلى لحظة غور ...
- احتلال فرنسا للجزائر: الأسباب، التوابع، والرفض المستمر للاعت ...
- مهرجان من أمنيات مؤجلة
- العائلات الثرية وفرضية “المليار الذهبي”: رؤية تحليلية شاملة
- تداعيات الرسوم الجمركية على الاقتصاد الأمريكي
- سلوك العمل الجماعي: بين الإبداع والاندفاع
- “برامج رامز: عبثية المحتوى وهدر المال.. متى ينتهي هذا الإسفا ...
- جماعة “الجمجمة والعظام” والرقم 322: سر النخبة الخفية
- رؤية السعودية الخضراء: خارطة طريق لتشجير المملكة ومستقبل بيئ ...


المزيد.....




- -بلادنا ليست للبيع-.. رد مباشر من رئيس وزراء كندا على طلب تر ...
- ترامب: الولايات المتحدة ستوقف غاراتها على الحوثيين في اليمن ...
- رئيس الحكومة اللبنانية: لبنان عاد إلى الحضن العربي
- هنغاريا تعارض خطة المفوضية الأوروبية بوقف إمدادات الغاز الرو ...
- اتهامات بوجود وقود -مغشوش- في مصر والحكومة تنفي، ما القصة؟
- فريدريش ميرتس يؤدي اليمين الدستورية كمستشار جديد لألمانيا
- -يديعوت أحرونوت-: مصر تلقت مقترحا أمريكيا لوقف إطلاق النار ف ...
- مراسل RT: مقتل 18 وإصابة العشرات بقصف إسرائيلي استهدف مدرسة ...
- سوريا.. إحباط محاولة تهريب أكثر من 800 ألف حبة مخدّرة في محا ...
- -وثق جريمته في فيديو-.. تلميذ يعترف بإضرام النار في معهده لع ...


المزيد.....

- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أوزجان يشار - المدينة بين الاختناق والنجاة: حين يتحوّل الإسمنت إلى مرآة للإنسان