نايري عبدالله الشياعي
الحوار المتمدن-العدد: 8331 - 2025 / 5 / 3 - 22:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أنّ إعادة تشكيل الهوية العراقية موضوع معقد ومتشابك وغاية من الأهمية؛ لكونه يمس ويؤثر على تماسك المجتمع العراقي ككل، إذ يجمع ما بين السياسة والفلسفة والتاريخ والانتماء العرقي والديني والثقافي والقومي والطائفي. فضلاً عن ذلك, أن الهوية العراقية ليست موضوع ثابت وإنما موضوع متغير يتغير باستمرار ويتأثر بالظروف التي يمر بها البلد, اي بمعنى المتغيرات التي تحدث في البلد ومنها: الاحتلال, تغير النظام السياسي، الحروب، العولمة، الثورات والانتفاضات الشعبية. فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عام 1921 إلى حد الآن مرت الهوية العراقية بتحولات جذرية أنعكست سلبياً عليها, وأدت إلى تعثر الهوية الوطنية. ومن أبرز تلك الأسباب:
1_ التعدد العرقي والطائفي والديني: العراق بلد متعدد الأديان والقوميات والطوائف, إذ يسكن العراق مواطنين ذات هويات متعددة ومنها العرب المسلمون، المسيح، الاكراد, والتركمان, اليزيديون, الصابئة المندائيين, الآشوريين. فقد اصبح تعدد الهويات مصدر ثراء ثقافي في العراق غير أنّه في الوقت انعكس ذلك التعدد الاجتماعي سلبياً على الهوية الوطنية ووحدة التماسك الاجتماعي والتنمية المستدامة في العراق، فقد استغلت الجهات الدولية والإقليمية والمحلية التنوع الاجتماعي العراقي لغرض تحقيق مصالحها, وكل ذلك ادى إلى عدم تحقيق الاستقرار والعدالة وكثرة الفساد الإداري؛ بسبب تغلب الانتماءات الفرعية على الانتماء للوطن واعتماد مبدأ المحاصصة الطائفية. وعلاوة على ذلك, أصبح التنوع الاجتماعي عقبة أمام تشكيل الهوية الوطنية العراقية بالوقت الذي كان من الممكن أستغلال ذلك التنوع الاجتماعي لتحقيق مبدأ المواطنة العراقية, وأنّ يصبح مثالاً ومرجعية تحتذى به دول أخرى مماثلة للعراق او مجاورة له .
2- عدم الاستقرار السياسي وتغير الأنظمة السياسية: منذ انشاء الدولة العراقية الحديثة وتأسيس ملكية عراقية في 1921 كان العراق يتميز بالاستقرار السياسي نوعاً ما؛ بسبب بساطة الحياة الاجتماعية آنذاك. غير أنّه بعد أنقلاب 14 تموز 1958 لم يستقر الوضع السياسي في العراق إلى حد الان؛ بسبب كثرة الانقلابات العسكرية وسيطرة الأفكار الثورية والقومية والطائفية والإثنية وتأثير الاحتلال الأميركي. وفقاً لما سبق, هنالك سؤال يطرح نفسه ويفرضها بقوة في هذا المقال وهو كالاتي:
هل يمكن تحقيق المواطنة وإعادة بناء هوية وطنية عراقية تتجاوز الهويات الفرعية الأخرى؟
يمكننا أنّ نجيب على هذا السؤال من خلال دراسة نشرها الدكتور علي رسول الربيعي في مركز مؤمنون بلا حدود في عام 2016, والموسوعة بـــ " وحدة المواطنة وتعدديّة الجماعات: أشكالية الوحدة المعقَّدة في الفلسفة السياسية المعاصرة ". إذ تناول الدكتور الربيعي في دراستهُ هذه مسألة العلاقة بين المواطنة كهوية موحدة وتعددية الهوية الجماعاتية. ويطرح الربيعي عدة اسئلة مهمة ويجيب عنها، إذ يتسأل الربيعي قائلاً: إذا كان استقلال كل جماعة بنفسها عن الجماعات الأخرى ليس بالآمر المتوفرة شروطه والممكن حصوله دائماً وفي كل حين فكيف يمكن إذن أن يعيشوا معاً وان يشتركوا في هوية واحدة كمواطنين؟ ويشتركون في وضع قانوني مشترك ومدونة محددة رسمياً من الحقوق والواجبات, ولكن كيف يمكنهم أن يتفقوا حول ما يعنيه أن يكون المرء مواطناً؟ ماهي الحقوق والالتزامات التي يتعين إدراجها في الوضع القانوني هذا؟ وكيف يجب أن يكون السلوك عندما يشغل الفرد دور المواطن؟. ثم يطرح الدكتور الربيعي افتراض هو: أن الدولة الحديثة تضم في داخلها انقسامات اجتماعية _ ثقافية، وأن أفراد هذه الدولة يتبنون مجموعة متباينة من الهويات الجماعاتية_ الثقافية، ويتضح من انتماءاتهم العرقية والدينية ووجهات نظرهم الأخلاقية وأفكارهم حول ما هم ذو قيمة في الحياة, لكنه في الوقت نفسه بحاجة إلى العيش معاً سياسياً, وهذا ما يتطلب وضع أسس مشتركة أو نقاط مرجعية محكومة بإطار دولة. ويقول الدكتور الربيعي بأنّه من المفروض ان توفر المواطنة هذه الأسس. وقد تختلف الحياة الشخصية والالتزامات بين الأشخاص لكنهم جميعاً ومن حيث المبدأ في هذا السياق هم مواطنون ويقفون على قدم المساواة ولهم حق تقديم مطالبهم في المجال العام وأن يقيَّموا المطالب المقدمة من قبل الآخرين. وبمعنى آخر أرى بأن الدكتور الربيعي يقصد ان مسألة العلاقة بين المواطنة كهوية موحدة وتعددية الهويات الجماعاتية تبدو سهلة في بداية الأمر، غير أنّه تكمن صعوبتها في التطبيق. ويفترض الدكتور الربيعي ان الدولة الحديثة تضم مواطنين ذات هويات متنوعة دينية او قومية او عرقية, وعلى الرغم من اختلاف الحياة الشخصية غير أنهم بحاجة إلى كيان سياسي يضمن المساواة لهم جميعاً وهذا يتحقق عبر بناء دولة المواطنة وبناء هوية وطنية موحدة تتجاوز الهويات الأخرى. وعلاوة على ذلك, يجيب الدكتور الربيعي على تلك الاسئلة، إذ يقول بأن تناول مسألة المواطنة كهوية محددة وتعدد الهويات الجماعاتية تبدو سهلة الطرح للوهلة الأولى، غير انه نجد الصعوبة عند محاولة ايجاد حل لها. ويرى الدكتور الربيعي أنّه من غير الممكن تشكيل برنامج سياسي بمجرد اللجوء إلى المصالح الخاصة لكل جماعة, فلا بّد ان تكون هنالك مجموعة من المبادئ التي تتصف بالعمومية لكنها يمكنها تحقيق الاندماج والانسجام بين متطلبات جمهور الناخبين، ومن المؤمل ان توفر فكرة المواطنة مثل هذه المجموعة من المبادىء. وأستناداً إلى فكرة الدكتور الربيعي أرى أنّه من الممكن بناء حكومة عراقية وطنية تقوم على المصلحة العامة وهذا يتحقق عبر تجسيد المواطنة وبناء هوية وطنية موحدة. وأرى بأن العراق دولة حديثة ذات تنوع اجتماعي طائفي _عرقي _ديني، وأنّه من الممكن بناء هوية عراقية موحدة عبر تجسيد فكرة المواطنة. كما يرى الدكتور الربيعي بأنّه بالرغم من أن مفهوم معنى المواطنة من قبل اغلب المجتمعات والأفراد قد تشكل عن طريق التقاليد والأعراف والوضع القانوني السائد او المتداول، إلا أنهم لم يفكروا بالمواطنة كما هي محددة في حقوقهم والتزاماتهم القانونية، وغالباً ما اكتفوا بأضفاء بطانة وجدانية واخلاقية عليها. كذلك لم يتأملوا كثيراً فيما تعنيه بأوضاع الممارسة السياسية والاجتماعية لها، ثانياً هنالك خلاف كبير حول فهم معنى المواطنة بين التصور الليبرالي للمواطنة والتصور النيوليبرالي للمواطنة والتصور الجمهوري للمواطنة. فيرى التصور الليبرالي المواطنة حسب تعريف توماس مارشال: بانها مجموعة من الحقوق التي يتمتع بها كل فرد على قدم المساواة مع الآخرين. وتصنف الحقوق في تحليل مارشال على: أنها حقوق مدنية وسياسية واجتماعية، وعندما توضع معاً ستجسّد فكرة العدالة الاجتماعية، ولكن عالرغم من قوله إنّ المواطنين يتمتعون بالحقوق السياسية على قدم المساواة إلا أنّه لم يوضح شيئاً عن الكيفية التي من المفترض أن تمارس بها هذه الحقوق. كما يفترض مارشال أنّ حزمة الحقوق التي تشكُل المواطنة أصبحت عالاقل مسألة اتفاق مشترك. فأنشغل بين المواطنة والطبقة وعدم المساواة، إذ يؤكّد أنّ المواطنة تتطلب رابطاً وشعوراً مباشراً لعضوية مجتمع مبني على أساس الولاء لحضارة تُعدّ ملكاً مشتركاً. هذه الحضارة المشتركة من شأنها وضع معايير خاصة للحقوق الاجتماعية للمواطنة كجزء من تقاليدهم المشتركة. ويرى الدكتور الربيعي أنّ رأي مارشال يواجه بعض الصعوبات التي تتعلق بفكرة الحضارة المشتركة ومسألة التعددية الثقافية الراديكالية. إذ لم يعد هنالك تقليد مشترك يمكن أنّ يعرف حقوق المواطنين، فكيف إذن يمكن الوصول إلى مفهوم العدالة الاجتماعية الذي يحدد المواطنة؟. وعليه يعرض الدكتور الربيعي رأي آخر للفيلسوف جون راولز، إذ يحاول راولز في كتاباته الأخيرة تطوير مفهوم للمواطنة يستجيب لما أطلق عليه واقع التعددية، فتنوع المذاهب الدينية والفلسفية والأخلاقية الشاملة في المجتمعات الديمقراطية الحديثة ليس مجرد وضع تاريخي ينتهي بسرعة بل هو سمة عامة من سمات الثقافة العامة للديمقراطية. وعلى هذا الأساس يرى الدكتور الربيعي أن راولز يسعى إلى رسم خطوط مفهوم سياسي للعدالة يمكن اختباره ومناقشته من قبل المواطنين كافة مهما كانت مواقعهم الاجتماعية او اهدافهم ومصالحهم الأكثر خصوصية او آرائهم الدينية والفلسفية او الأخلاقية. قد لا يمكن واضحاً أي معنى للمواطنة تقدم نظرية العدالة كما نظر لها راولز. فقد تم تعريف العدالة في كتاباته الأولى لها ولاسيما في كتابه نظرية العدالة: بانّها مجموعة من المبادئ التي لا يمكن للأفراد العقلانيين إلا أن يؤيدوها لتثبيت شروط التعاون الاجتماعي، رغم أن هذه المبادئ تشمل حقوق المواطنة، لكنها لا تشير إلى مفهوم المواطنة مباشرة بل تشير إلى أطراف هذا العقد الافتراضي الذي يأتي ذكرهم بوصفهم مجرد وكلاء من البشر يقدمون مفاهيمهم الفردية للحياة الخيرة. امّا بالنسبة للتصور النيوليبرالي للمواطنة فقد عبر عن هذا التصور روبرت نوزيك في كتابة " الفوضى والدولة واليوتوبيا "، حيث ينظر إلى الدولة على أنها ناشئة عن المنافسة بين مؤسسات تزود عملائها بخدمات وحقوق. وعموماً على الدولة احتقار إنقاذ وحماية الحقوق الأساسية والملكية الشخصية، وتنظر إلى المواطنين كإطراف في عقد شامل وعام، وهذا هو ما يعطيها سلطتها. وعلى أساس ذلك يرى الدكتور الربيعي أن الصورة هنا تبدو مختلفة تماماً عن جميع المصالح والخدمات التي توفرها الدولة، فهنا يمكن ان يزود المستهلك من خلال وسيلتين وهي: العقد حيث يحق للمواطن الذي لم يحصل على خدمة كافية أن يتخذ إجراءات قانونية لاجبار المؤسسة المعنية على توفيرها. ثانياً الاختيار إذ يمكن للمواطن الذي لا ترضيه الخدمة التحول إلى مزود بديل، ممّا يخلق حالة شبه سوقية للخدمة الفعلية. وهذه هي طريقة إستجابة النيوليبرالي للتعددية، فرغم اختلاف تصورات المواطنين للقيم، يمكن من خلال العقد والاختيار أن يصل كلّ واحد إلى حزمة المصالح العامة المفضلة لديه، وعندما تستجيب الدولة بكفاءة لمطالب عملائها لا يكون للمواطنين عندها بحاجة للتواصل إلى اتفاق من حيث المبدأ حول ماهيّة حقوق المواطنة، أي بعد ما تعيين ما تكون عليه دولة الحد الادنى. امّا بالنسبة للتصور الجمهوري فيعرف المواطنة: مجموعة من الحقوق، وأن المواطن هو الشخص الذي يفكر ويتصرف طبقاً لطريقة معينة. ويعرف المواطن بالمجتمع السياسي الذي ينتمي اليه والتزامه بتعزير مصالحة المشتركة من خلال المشاركة الفعّالة في الحياة السياسية. حيث يلعب المواطن دوراً فاعلاً ومؤثراً في بناء مستقبل مجتمعه من خلال النقاش السياسي وصناعة القرار. كما أن منظرو التصور الجمهوري يصّرون على وحدة المجتمع المدني، ويعني ذلك بأنّ المواطن عليّه ان يتبنى وجهات نظر عامة مماثلة لجميع المواطنين. ويدعي الجمهوريون بأنّ المواطنين يمكنهم التواصل إلى اتفاق عام حول القضايا ذات الاهتمام المشترك من خلال النقاش المفتوح. وعلاوة على ذلك يرى الدكتور الربيعي ان المفهوم الجمهوري للمواطنة يصور المواطنة صورة المجتمع المتجانس الصغير الذي له تقاليد مشتركة ودين مشترك مثل العقد الاجتماعي لجان جاك روسو. وأن مفهوم الإرادة العامة، يعني أن المواطنين يمكنهم التواصل إلى اتفاق سياسي من خلال النقاش العلني المفتوح.
وفقاً لما سبق ارى أنّه بناء هوية عراقية موحدة عن طريق تحقيق مبدأ المواطنة والتأكيد على تماسك وحدة المجتمع العراقي، وتبني الحكومات وجهات نظر مماثلة لجميع المواطنين. وأن المواطنين العراقيين يمكنهم الوصول إلى اتفاق سياسي عن طريق النقاشات المفتوحة والمعلنة لغرض حل قضاياهم ذات الاهتمام المشترك وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية دون التخلي عن هوياتهم الفرعية الأخرى. وبالرغم من أنّ المجتمع العراقي متنوع ويضم مختلف الديانات والقوميات والطوائف ويتبنون وجهات نظر مختلفة، غير أنهم لديهم مصالح مشتركة ولاسيما تحقيق العدالة والمساواة والأمن والتنمية، وهذا لن يتحقق إلا عن طريق تحقيق مبدأ المواطنة.
المصادر والمراجع
1_ علي رسول حسن الربيعي, وحدة المواطنة وتعددية الجماعات: إشكالية الوحدة المعقدة في الفلسفة السياسية المعاصرة, مركز مؤمنون بلا حدود, المملكة المغربية, 15 / 7 / 2016 .
#نايري_عبدالله_الشياعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟