التراث رؤية سوسيولوجية

محمود محمد رياض عبدالعال

الحوار المتمدن-العدد: 8322 - 2025 / 4 / 24 - 00:36
المحور: قضايا ثقافية
    

الثراث: رؤية سوسيولوجية
يُعدُّ الثراث (أو التراث) من المفاهيم المركزية في علم الاجتماع، حيث يشمل كلَّ ما ينتقل من جيل إلى آخر من عادات، وتقاليد، معتقدات، قيم، فنون، لغات، وممارسات اجتماعية. وهو ليس مجرد إرث ماضي، بل هو عملية ديناميكية تُشكّل الهوية الجماعية وتتفاعل مع التغيرات الاجتماعية.
الثراث كبناء اجتماعي
من المنظور السوسيولوجي، لا يُنظر إلى الثراث كحقيقة ثابتة، بل كـبناء اجتماعي يتم إنتاجه وإعادة إنتاجه عبر الزمن. فالمجتمعات تختار بعض العناصر من ماضيها وتُضفي عليها قيمة رمزية، بينما تهمش أخرى وفقًا للسياقات السياسية والاقتصادية السائدة.
- مثال: الاحتفالات الوطنية تبرز أحداثًا تاريخية معينة لتوحيد الذاكرة الجماعية، بينما يتم نسيان أو طمس أحداث أخرى لا تتناسب مع الرواية الرسمية.
وظائف الثراث في المجتمع
- تعزيز الهوية الجماعية: يُسهم الثراث في خلق شعور بالانتماء، خاصة في ظل العولمة والتحولات الثقافية السريعة.
- التواصل بين الأجيال: يعمل كناقل للقيم والمعارف من الماضي إلى الحاضر.
- الصراع والسلطة: قد يصبح الثراث أداةً للهيمنة أو المقاومة، حيث تستخدمه النخب أو الجماعات المهمشة لتأكيد شرعيتها أو المطالبة بحقوقها.
تحديات العصر الحديث
- التسليع والاستهلاك: تحويل الثراث إلى سلعة سياحية أو فولكلور قد يفصله عن معناه الأصلي.
- الصراع بين الأصالة والتحديث: كيف تحافظ المجتمعات على تراثها دون الوقوع في الانغلاق أو الذوبان في الثقافات الأخرى؟
- التكنولوجيا والذاكرة الرقمية: أدوات مثل الإنترنت قد تحفظ التراث، لكنها أيضًا تُغيّر طرق توارثه.
دراسات سوسيولوجية عن الثراث
اهتم علماء الاجتماع مثل:
- بيير بورديو: بتحليل كيف يُستخدم التراث كـ "رأس مال ثقافي" لتعزيز المكانة الاجتماعية.
- إريك هوبسباوم: تحدث عن "اختراع التقاليد" وكيف تُصنع بعض الممارسات وتُقدّم على أنها قديمة لأهداف سياسية.
الثراث ليس مجرد بقايا ماضي، بل هو ساحة صراع وتفاوض دائمة بين الأفراد والمجتمعات حول معنى الهوية والتاريخ. الفهم السوسيولوجي يُظهر أن الحفاظ على التراث يتطلب وعيًا بنسبيته وديناميكيته، بعيدًا عن التقديس الجامد أو القطيعة الجذرية مع الماضي.
دمج التراث في المناهج التعليمية: رؤية سوسيولوجية تربوية
يُعدُّ دمج التراث في المناهج التعليمية إحدى الآليات الأساسية للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيز الانتماء المجتمعي، لكنه أيضًا عملية معقدة تتأثر بالسياقات السياسية والاجتماعية والتربوية. من المنظور السوسيولوجي، لا يقتصر الأمر على مجرد "إضافة" محتوى تراثي إلى المناهج، بل يتعلق بـكيفية بناء المعرفة التراثية، واختيار ما يُدرَّس وما يُستبعَد، وتأثير ذلك على تشكيل وعي الأجيال الجديدة.
لماذا دمج التراث في التعليم؟
أ. الوظائف الاجتماعية للتراث في المدرسة:
- تعزيز الهوية المشتركة: المدرسة مؤسسة تنشئية تُسهم في تشكيل الذاكرة الجمعية عبر التركيز على رموز تراثية محددة (تاريخ، أدب، فنون).
- التوازن بين الأصالة والمعاصرة: مساعدة الطلاب على فهم تراثهم دون انغلاق أو قطيعة مع العصر.
- مواجهة العولمة الثقافية: الحفاظ على التنوع الثقافي في مواجهة النماذج المهيمنة.
ب. الوظائف التربوية:
- تنمية التفكير النقدي عبر تحليل التراث (مثلاً: كيف نقرأ التاريخ بوعي؟).
- ربط التعليم بالواقع المحلي لزيادة الدافعية لدى الطلاب.
كيف يُدمج التراث في المناهج؟ نماذج وتحديات
أ. أشكال الدمج:
- المحتوى المباشر:
- تدريس التاريخ المحلي، الأدب الشعبي، الفنون التقليدية.
- إدراج حكايات وأمثال شعبية في مواد اللغة.
- الأنشطة اللاصفية:
- زيارات للمتاحف والمواقع الأثرية.
- ورش عمل عن الحرف اليدوية أو الموسيقى التراثية.
- المنهج الخفي:
- تعزيز قيم التراث عبر طرق التدريس (مثلاً: التعلم التعاوني الذي يعكس قيم التضامن المجتمعي).
ب. التحديات:
- الانتقائية والتحيز:
- من يختار ما يُدرَّس من التراث؟ هل يعكس رؤية النخبة أم جميع فئات المجتمع؟
- مثال: التركيز على تراث حضري وإهمال التراث الريفي أو البدوي.
- المبالغة في تقديس التراث:
- تقديمه كـ "مقدس" غير قابل للنقد، مما يعيق التفكير التحليلي.
- الصراع بين التوجهات:
- جدليات مثل: الديني vs. العلماني، المحلي vs. العالمي.
نماذج عالمية في دمج التراث
- اليابان: تدمج مفاهيم مثل "الوا" (الانسجام المجتمعي) في المناهج عبر قصص وأخلاقيات تراثية.
- المكسيك: تركيز على تراث الشعوب الأصلية (مثل الأزتك) لتعزيز التعددية الثقافية.
- بعض الدول العربية: محاولات لإدراج التراث الشفوي (مثل السير الشعبية) في كتب اللغة، لكن غالبًا بشكل هامشي.
توصيات لدمج فعّال
- التركيز على التراث غير المادي: (التقاليد الشفوية، الموسيقى، الممارسات الاجتماعية) وليس فقط الآثار المادية.
- ربط التراث بالتحديات المعاصرة:
- مثلاً: كيف يمكن الاستفادة من العمارة التقليدية في الاستدامة البيئية؟
- التدريب المعلمين: على منهجيات تعليم التراث بشكل تفاعلي (مشاريع، عروض حية).
- تجنب النزعة الفلكلورية: بمعنى عدم اختزال التراث في "أغانٍ وأزياء" دون فهم سياقه الاجتماعي.
التراث كمنهج حيوي، ليس مجرد مادة جامدة
دمج التراث في التعليم يحتاج إلى رؤية نقدية تتعامل معه كـعملية حيوية، لا كماضٍ مُجمد. يجب أن يساهم في بناء هوية منفتحة، قادرة على الحوار مع الآخر دون ذوبان أو انكفاء. السؤال الجوهري ليس فقط "ماذا نُدرِّس من التراث؟"، بل "كيف نُعلِّم الأجيال أن تفهمه، تنتقده، وتُعيد إنتاجه بوعي؟".

#محمود_محمد_رياض_عبدالعال (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل