أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عقيل الفتلاوي - الطبيعة أم التطبع: أيهما يغلب في الآخر؟














المزيد.....

الطبيعة أم التطبع: أيهما يغلب في الآخر؟


عقيل الفتلاوي
صحفي وباحث

(Aqeel Al Fatlawy)


الحوار المتمدن-العدد: 8299 - 2025 / 4 / 1 - 06:38
المحور: الادب والفن
    


في زمنٍ غابر، حيث تتدفّق الحكايات كالنهر الخالد، كان هناك ملكٌ حكيمٌ ووزيرٌ لا يقلّ عنه حنكةً. وفي أحد الأيام، احتدم بينهما نقاشٌ فلسفيٌّ عميق: أيهما أقوى، الفطرةُ التي وُلد عليها الكائن، أم الصفةُ المكتسبةُ التي يغرسها التّدريبُ والاعتياد؟ أصرَّ الملك على أن التطبُّعَ قادرٌ على تغيير جوهر المخلوق، بينما تمسّك الوزيرُ بأن الفطرةَ ستظلُّ دائمًا هي الحَكَمُ الأخير.
لم يكن النقاش مجرد كلمات تتبادَل في قاعة العرش، بل كان صراعًا بين رؤيتين للوجود. فالملك، الذي بنى مملكته على النظام والانضباط، رأى أن الإنسان وكل كائن حي قادرٌ على تجاوز غرائزه بالتعلم والتهذيب. أما الوزير، الذي قضى سنواته بين الكتب ومراقبة الطبيعة، فآمن بأن الجوهر الأصيل لا يُطمس، حتى لو اختفى تحت طبقاتٍ من التقاليد والتربية.
ولمّا اشتدَّ الجدال بينهما، طلب الوزيرُ مهلةً ليُثبِتَ صحةَ رأيه، فأذِنَ له الملكُ بذلك، وانتظر بفارغ الصبر. وفي اليوم التالي، بينما كان الملكُ يتناول عشاءه المعتاد في قاعة القصر الذهبية، بحضور وزيره الوفي، دخلت سنيورتان جميلتين ( قطة)، هديةٌ من ملكٍ صديق تحملان شمعدانين من الفضة، ينشران نورًا دافئًا على مائدة الطعام. كانت القطتان مثالًا للرقي؛ فقد دُربتا منذ نعومة أظافرهما على حمل الشموع والسير بهدوء، حتى صارا نموذجًا للانضباط.
لكن الوزيرَ، وهو يلعب ورقةً ماكرةً من جيبه، أخرج فأرًا صغيرًا وألقاه على الأرض بينهما. وفي لمح البصر، تحوّل المشهد الراقي إلى فوضى عارمة: أسقطت القطتان الشمعدانين، واندفعتا وراء الفأر في مطاردةٍ غريزيةٍ، ناسيتين كلَّ تدريبهما. ذُهل الحاضرون، بينما ارتسمت على وجه الملك ابتسامةُ العارفِ المُقتنع. في تلك اللحظة، أدرك أن الفطرةَ كالنهر الجاري، قد تُحاول أن تغيّر مجراه، لكنّه سيظلُّ في النهاية يعود إلى مساره الأصيل.
هذه القصة تطرح سؤالًا قديمًا متجددًا: هل يمكن للإنسان، أو أي كائن حي، أن يتجاوز طبيعته بالتربية والثقافة؟ العلم الحديث يحاول الإجابة، لكن الحقائق غالبًا ما تكون معقدة. فمن ناحية، نرى كيف أن التدريب والبيئة يُشكّلان سلوكياتنا، كاللغة التي نتعلمها أو العادات التي نكتسبها. لكن من ناحية أخرى، تظل الغرائز العميقة، كالخوف من الخطر أو حب البقاء، قوىً جبارةً تنبثق عند الحاجة، وكأنها تذكرنا بأننا، رغم كل تحضرنا، لسنا سوى جزء من هذه الطبيعة.
في حياتنا اليومية، نواجه هذا الصراع بأشكالٍ لا تحصى. الأب الذي يصرخ على ابنه بعد يومٍ طويل من الصبر، رغم إيمانه بأهمية الهدوء. الطالب الذي يذاكر لساعاتٍ ثم يجد نفسه مشتتًا برغبةٍ مفاجئةٍ في اللعب. بل وحتى المجتمعات التي تبنيت على قيمٍ معينة، ثم تتفجر فيها نزعاتٌ قديمةٌ كالطائفية أو العنف، وكأنما التطبع لم يكن سوى قشرة رقيقة فوق بركان الغريزة.
لكن هل هذا يعني أن التربية عديمة الجدوى؟ بالطبع لا. فلو كانت الفطرة وحدها هي الحاكمة، لما بنيت حضارات، ولما تعلّم البشر التعاون أو الإبداع أو التسامح. التحدي الحقيقي هو في تحقيق التوازن: أن نعترف بغرائزنا دون أن نكون عبيدًا لها، وأن نستخدم التطبع لتهذيبها، لا لقمعها. فكما أن النهر لا يُوقف جريانه، لكنك تستطيع أن توجّهه لريّ الزرع، لا لإغراق القرى.
في النهاية، ربما كان الوزير والملك على حقٍ معًا. فالحياة ليست معركةً بين الطبيعة والتطبع، بل هي رقصةٌ بينهما. والذين يفهمون خطوات هذه الرقصة، هم وحدهم من يستطيعون العيش بتناغمٍ مع أنفسهم، ومع العالم من حولهم.



#عقيل_الفتلاوي (هاشتاغ)       Aqeel_Al_Fatlawy#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفاشنيست الدينية: حين يتحول الخطاب المقدس إلى سلعة رقمية..
- الأفكار النمطية: قيود نصنعها بأيدينا
- التكتلات الإعلامية والتحكم في تدفق المعلومات
- من الملعب إلى البرلمان.. هتافات غير لائقة تعيد النفط إلى واج ...
- ثقافة الاستقالة معدومة في العراق: اتحاد اكرة القدم نموذجًا..
- من سيملأ الفراغ السياسي في العراق؟ السيد مقتدى الصدر ينسحب م ...
- بين الإنقاذ والتراجع
- الرقابة الأبوية على المراهقين بين حرية المقاهي وسلطة الأهل
- التحديات الأمنية والاقتصادية لتهريب النفط في الخليج العراق و ...
- كيف يتحكم الإعلام في عقولنا؟ صناعة الموافقة الخفية
- هل دخلت أميركا وكر الأفعى بضربها اليمن وصدامها مع أتباع الحو ...
- صناعة الأصنام والطواغيت: مجتمع بين عبادة الماضي واستغلال الح ...
- برمجة الأطفال والإعلان: كيف نصنع جيلًا واعيًا رقميًا؟
- العنف التلفزيوني: متعة بصرية أم خطر يهدد المجتمع؟
- النزاهة والشفافية: ركيزتان لإعادة بناء الثقة في الحكومة العر ...
- صناعة الوهم في عصر السوشيال ميديا
- فتوى الدفاع الكفائي.. هل كانت الحل الأمثل لدرء فتنة انهيار ا ...
- وداعًا يا أبا حمزة صوت العزة الذي لن يصمت
- هل العالم على أعتاب حرب عالمية ثالثة الشرق الأوسط ساحة الصرا ...
- هل تصبح إسرائيل جارة للعراق


المزيد.....




- تحية لروح الكاتب فؤاد حميرة.. إضاءات عبثية على مفردات الحياة ...
- الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد ...
- من قال إن الفكر لا يقتل؟ قصة عبد الرحمن الكواكبي صاحب -طبائع ...
- أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
- السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
- هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش ...
- التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود
- الفنان التونسي محمد علي بالحارث.. صوت درامي امتد نصف قرن
- تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير ...
- سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عقيل الفتلاوي - الطبيعة أم التطبع: أيهما يغلب في الآخر؟