أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - الشهبي أحمد - شوبنهاور والعيد: سعي بلا نهاية نحو السعادة الزائفة














المزيد.....

شوبنهاور والعيد: سعي بلا نهاية نحو السعادة الزائفة


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8298 - 2025 / 3 / 31 - 09:35
المحور: قضايا ثقافية
    


في المغرب، حيث يُنظر إلى المناسبات الدينية على أنها لحظات صفاء روحي، يجد الكثيرون أنفسهم عالقين في دوامة استهلاكية تُفرغ هذه المناسبات من معناها الحقيقي. عيد الفطر وعيد الأضحى، بدل أن يكونا فرصة للتأمل والتقرب من القيم الدينية، تحولا إلى سباق اجتماعي محموم تحكمه قوانين الاستعراض والتباهي. هل أصبح العيد في جوهره مجرد فرصة لالتقاط الصور ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي؟ وهل فقدت الأضحية معناها أمام ضغط المنافسة على حجمها وسعرها؟ في مشهد كهذا، تبدو رؤية شوبنهاور للحياة كحلبة عبثية من الرغبات والمعاناة أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.

فإلى أي مدى تحولت المناسبات الدينية في المجتمع المغربي من محطات للتأمل الروحي والتكافل الاجتماعي إلى طقوس استهلاكية تكرّس قيم المظهرية والإنفاق المفرط، وكيف يمكن لفلسفة شوبنهاور التشاؤمية أن تفسر هذا التحول باعتباره انعكاسًا لإرادة إنسانية عمياء تسعى وراء إشباع لا يُحقق السعادة الحقيقية؟ هذا ما سأحاول الاحابة عنه.

في زحمة الأيام التي تسبق الأعياد، حيث تتحول الشوارع إلى خلية نحل من المتسوقين المتعجلين، والأسواق إلى مسرح للتنافس الصامت على أحدث الموديلات وأفخم الهدايا، يطفو سؤالٌ مُقلقٌ على السطح: هل فقدت مناسباتنا الدينية روحها لتصبح مجرد طقوس مادية جوفاء؟ المشهد لا يختلف كثيرًا بين عيد الفطر وعيد الأضحى؛ ففي كليهما تتحول الفرحة المُفترض أن تكون بسيطة إلى عبءٍ ماليٍ ومعنويٍ، بينما تتراجع القيم الروحية خلف ستارٍ من الفواتير والديون. هنا، حيث تلتقي الثقافة الاستهلاكية بالفلسفة التشاؤمية، تُصبح رؤية الفيلسوف آرثر شوبنهاور مرآةً عاكسةً لتناقضاتنا الحديثة.

لا يبدو الهوس بشراء الملابس الجديدة قبل العيد مجرد عادة اجتماعية بريئة، بل هو تعبيرٌ عن إرادة عمياء، كما يصفها شوبنهاور، تسحق الفرد تحت عجلات رغبة لا تشبع. فما يبدأ كحاجة بسيطة – اقتناء ثوبٍ لائقٍ للاحتفال – يتحول إلى سباقٍ محمومٍ نحو إثبات الوجود عبر الملكية. الأسر التي تُرهق نفسها بالاقتراض لتلبية توقعات المجتمع لا تختلف عن ذلك المُسافر الذي يلهث خلف سرابٍ في صحراء، يظنُ أنه واحة، لكنه كلما اقترب منها تبخرت. الشكوى المتكررة من "تكاليف العيد" ليست إلا صدى لتنبؤات شوبنهاور بأن تحقيق الرغبات لا يُولد سوى فراغٍ مؤقت، يعقبه مللٌ أو رغبةٌ جديدة أكثر إلحاحًا.

اللافت أن هذه الدائرة المفرغة لا تقتصر على الملابس، بل تمتد إلى موائد الطعام الفاخرة التي تتحول إلى ساحةٍ أخرى للاستعراض. بعد شهرٍ من الصوم، حيث يُفترض أن يكون الجسد والنفس قد تخلصا من تبعات الإفراط، نُقدم على تعويض الحرمان بشراهةٍ تُذكّر بأسطورة سيزيف، الذي يُعاقب بدفع صخرةٍ إلى قمة الجبل لتهوي مرةً أخرى. التخمة التي تلي الولائم ليست مجرد إرهاقٍ جسدي، بل هي رمزٌ لفشلنا في كسر حلقة الرغبة والإشباع الزائف التي حذر منها شوبنهاور، حين رأى أن الحياة سلسلةٌ من المعاناة تُولدها رغباتنا التي لا تنتهي.

عندما تتحول الأضحية في عيد الأضحى – التي هي في جوهرها فعلُ تسليمٍ وتضحيةٍ – إلى وسيلةٍ للمفاخرة بحجم الذبيحة أو سعرها، نلمس تناقضًا صارخًا يجسد انزياح المقدس عن معناه. الضغط الاجتماعي لامتلاك "أفضل أضحية" حتى لو كان الثمن قرضًا ربويًا أو حرمانًا من ضروريات الحياة، ليس سوى دليلًا آخر على سطوة "الإرادة العمياء" التي تجرُّ الإنسان إلى مستنقع التنافس على أشياء لا علاقة لها بجوهر الفرح. هنا بالذات تتجلى عبقرية شوبنهاور في تشريحه لآلية الوهم الجماعي؛ فالمجتمع يخلق معايير وهمية، ثم يُجبر أفراده على التضحية بأمنهم المادي والنفسي في محرابها.

لكن اللعبة الاستهلاكية بلغت ذروتها مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، التي حوّلت المنافسة من مستوى الحي أو العائلة إلى فضاءٍ رقميٍ لا حدود له. الصور المثالية للمآدب والفاخرة – المُعدلة بإتقانٍ – لم تعد مجرد توثيقٍ للفرح، بل أصبحت أداةً لخلق واقعٍ موازٍ يُشعر الآخرين بالنقص. المقارنة التي تحدث عنها شوبنهاور كمصدرٍ للتعاسة تتحول هنا إلى سلاحٍ يوميٍ، حيث يُقاس قيمة الفرد بكمية ما يعرضه، لا بما يعيشه حقًا. الغريب أننا نعرف كل هذا، ندرك زيف الصور واختزال الحياة في "لايكات"، ومع ذلك نستمر في الدوران داخل نفس الحلقة، كالفأر في العجلة.

في قلب هذا الضجيج الاستهلاكي، يبدو الحل الذي يقترحه شوبنهاور – الزهد وتحرير النفس من ربقة الرغبات – صعبًا لكنه ضروري. ربما لا يعني الزهد هنا العيش في فقرٍ أو حرمان، بل إعادة تعريف العلاقة مع الأشياء، وفك الارتباط بين القيمة الذاتية والقدرة على الامتلاك. أن نتعلم الاحتفال بملابس العيد القديمة التي تحمل ذكرياتٍ جميلة، أو نجعل من الأضحية مناسبةً حقيقيةً للتضامن مع غير القادرين، أو نستبدل الولائم الفاخرة بجلساتٍ عائليةٍ بسيطة. هذه الخطوات ليست مثاليةً صعبة، بل هي عودةٌ إلى الجوهر الذي جعل من هذه المناسبات علاماتٍ مضيئة في رحلة الإنسان الروحية. فكما أن الصوم في رمضان تدريبٌ على كسر إدمان الجسد، فإن الأعياد يجب أن تكون تدريبًا على كسر إدمان الروح للاستهلاك. لأن السعادة، في النهاية، ليست سلعةً تُشترى من السوق، بل هدوءٌ داخليٌ نصنعه عندما نتوقف عن ملاحقة السراب.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التطرف السياسي والخيانة: عندما يصبح المبدأ عرضة للتغيير
- عندما تصبح الصحافة صراعاً شخصياً: هل نعيش عصر -الفرجة الإعلا ...
- صفعة تمارة: السلطة والمواطن بين القانون والثقة المفقودة
- الوعي المثقف: مرض ودواء في قبو دوستويفسكي
- -أصداف الدهور-: حين يصبح الزمن قفصًا، والماضي لؤلؤة مفقودة ف ...
- أصداف الدهور: حين يصبح الزمن قفصًا، والماضي لؤلؤة مفقودة في ...
- الليل لنا: تأملات في الغياب والحضور في رواية محمد مباركي
- السياسي والمؤرخ: صراع الزمن والقلم
- مزهوون بمتلاشيات الآخرين
- أنقاض الروح والكلمة: قراءة في مجموعة - تحت الركام- القصصية ل ...
- التعليم المغربي: حلم يتهاوى بين فوضى السياسة وصمت الجميع
- عبارات ملهمة: قراءة نقدية وتحليلية في أعماق الكلمة والوجود ل ...
- -ياسمين الخريف- لأحمد الشهبي: قراءة نقدية وتحليلية في المتاه ...
- -عبارات ملهمة-: سلطة الكلمة في مجموعة جواد العوالي القصصية
- عبارات ملهمة: تأثير الكلمة على أعماق الوجود الإنساني - قراءة ...
- كيكو: اغتصاب الطفولة في ظلّ ثقافة الإفلات من العقاب – مأساة ...
- تحديات الكتابة والنشر في عصر الرقمنة: أزمة قلة القراءة وصعوب ...
- غزة: الجريمةُ التي تُعيدُ تشكيلَ ضمير العالم
- الشرق الأوسط على شفا حرب إقليمية: تصعيد وتغيرات استراتيجية ت ...
- انحدار الذوق في البرامج التلفزية: بين الاستهلاك السطحي وإشكا ...


المزيد.....




- ماذا قال وزير خارجية أمريكا عن تخفيف العقوبات على سوريا؟
- خريجو المدارس الثانوية في سلوفينيا وصربيا يحولون الساحات إلى ...
- عقوبات أمريكية جديدة على السودان على خلفية اتهامات باستخدام ...
- صفقة تبادل للأسرى بين روسيا وأوكرانيا
- سفينة ضخمة -أبحرت- إلى فناء منزل خاص في النرويج
- روبيو: قرار تعليق العقوبات على سوريا كان الخطوة الأولى نحو ع ...
- أمراض تهدد حياتك عند ضعف حاستي السمع والشم.. ما هي؟!
- كندا.. علماء المتحجرات يعثرون على وحش بحري ثلاثي الأعين
- ردود فعل غاضبة بإسرائيل على تعيين نتنياهو زيني رئيسا للشاباك ...
- ترامب يسحب ترخيص هارفارد لاستقبال الطلاب الأجانب وسط نزاع قض ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - الشهبي أحمد - شوبنهاور والعيد: سعي بلا نهاية نحو السعادة الزائفة