الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8287 - 2025 / 3 / 20 - 04:55
المحور:
الادب والفن
في عالم الأدب، حيث تتشابك الكلمات لتصنع عوالم موازية تتجاوز حدود الواقع المادي، تأتي مجموعة "ياسمين الخريف" للكاتب أحمد الشهبي كشهادة جديدة على قدرة الأدب على اختراق أعمق طبقات النفس البشرية، تلك المناطق المعتمة التي تتوارى فيها الصراعات الداخلية والأحلام المجهضة والآمال المعلقة. هذه المجموعة القصصية، التي رأت النور إلكترونيًا عبر دار بسمة وورقيًا عبر دار عبودة للطباعة والنشر في أبريل 2024، ليست مجرد عمل أدبي يُضاف إلى رصيد الكاتب، بل هي تجربة وجودية مكثفة تتجاوز حدود السرد التقليدي لتقدم للقارئ رحلة غير مسبوقة عبر دهاليز العقل المضطرب والروح المتعطشة للمعنى. منذ اللحظة الأولى التي تفتح فيها صفحات هذا الكتاب، تجد نفسك مُقادًا إلى عوالم داخلية متشابكة، حيث تتداخل الأوهام مع الحقائق، وتتصارع المشاعر المتناقضة في محاولة لفهم طبيعة الوجود ذاته.
يبدو من الوهلة الأولى أن "ياسمين الخريف" تتمحور حول تجربة السكيزوفرينيا، ذلك الاضطراب النفسي المعقد الذي يشكل لغزًا للعلماء والمبدعين على حد سواء. لكن سرعان ما يكتشف القارئ أن هذه المجموعة تتجاوز هذا الإطار الضيق لتقدم تأملات أعمق حول الحياة، المعاناة، والأمل. إنها ليست مجرد قصص عن مرض، بل هي حكايات عن الإنسان في مواجهة ذاته، عن تلك اللحظات التي يجد فيها نفسه عاريًا أمام مخاوفه وهلوساته، ومع ذلك يظل يبحث عن شعاع نور يقوده إلى بر الأمان. هنا تكمن قوة العمل الأساسية، في قدرته على تحويل تجربة فردية خاصة – كالمعاناة من السكيزوفرينيا – إلى استعارة كونية تلامس الجميع، بغض النظر عن خلفياتهم أو تجاربهم الشخصية. فمن منا لم يواجه لحظات من الضياع الداخلي، أو لم يشعر بأن الأصوات التي تهمس في عقله تتصارع للسيطرة على إرادته؟
أسلوب أحمد الشهبي في هذه المجموعة يستحق وقفة تأمل طويلة، فهو يمتلك قدرة نادرة على الجمع بين السلاسة والعمق، بين الوضوح والغموض، مما يجعل النص يتدفق كجدول ماء رقراق في لحظة، ثم يتحول إلى دوامة عاصفة في لحظة أخرى. لغته فاتنة، تحمل في طياتها إيقاعًا شاعريًا يأسر القلب قبل العقل، لكنه لا يقع في فخ الزخرفة اللغوية المفرطة التي قد تُبعد القارئ عن جوهر الحكاية. هناك توازن دقيق في استخدامه للكلمات، حيث ينجح في رسم عوالم داخلية مضطربة بأقل قدر من التعقيدات اللغوية، مما يتيح للقارئ أن يغوص في التجربة دون أن يشعر بثقل الأسلوب. على سبيل المثال، عندما يصف معاناة شخصية تعيش بين واقعها وأوهامها، لا يلجأ إلى تعابير معقدة أو فلسفية مجردة، بل يستخدم صورًا بسيطة وملموسة تجعل القارئ يشعر بأن تلك التجربة تخصه هو شخصيًا. هذا النهج يعكس براعة الكاتب في جعل النص متاحًا للجميع، دون أن يفقد عمقه أو قوته التعبيرية.
الشخصيات في "ياسمين الخريف" هي النبض الحقيقي للمجموعة، فهي ليست مجرد أسماء أو أدوار تتحرك في إطار السرد، بل كائنات نابضة بالحياة، تحمل في داخلها تناقضات الإنسان وصراعاته. كل شخصية تبدو كأنها مرآة تعكس جانبًا من القارئ نفسه، سواء كان ذلك الجانب هو الخوف من المجهول، أو الرغبة في التمرد على الواقع، أو البحث الدائم عن معنى في خضم الفوضى. هذه الشخصيات، التي غالبًا ما تكون ممزقة بين عالمين – الواقع والهلوسة – تُجسد ببراعة المعاناة اليومية لمن يعيشون مع السكيزوفرينيا، لكنها في الوقت نفسه تتجاوز هذا السياق لتصبح رمزًا للإنسانية جمعاء. إن قدرتها على إثارة التعاطف ليست نابعة من ضعفها، بل من قوتها في مواجهة التحديات، تلك القوة التي تظهر في لحظات الانهيار والنهوض على حد سواء. لكن هنا قد يبرز أول عيوب المجموعة، إذ قد يشعر بعض القراء بأن تركيز الكاتب المكثف على هذه الشخصيات المضطربة نفسيًا يحد من تنوع التجارب الإنسانية التي يمكن أن يقدمها العمل، مما يجعل بعض القصص تبدو متشابهة في نبرتها ومضمونها.
ومع ذلك، فإن هذا التركيز نفسه هو ما يمنح "ياسمين الخريف" هويتها الفريدة. فالكاتب لا يكتفي بتقديم حكايات عن المرض، بل ينسج من خلالها دعوة للتأمل في فلسفة الحياة ذاتها. كل قصة في المجموعة تحمل في طياتها سؤالًا ضمنيًا عن معنى الوجود، عن السعادة، وعن القدرة على إيجاد الأمل في أحلك اللحظات. هذا البعد الفلسفي يضفي على العمل طابعًا استثنائيًا، حيث يتحول من مجرد سرد قصصي إلى تجربة فكرية تُجبر القارئ على مواجهة مشاعره وأفكاره. على سبيل المثال، عندما يتناول الشهبي قصة شخصية تبحث عن السعادة وسط هلوساتها، فإنه لا يقدم إجابة جاهزة، بل يترك المجال مفتوحًا للتأويل، مما يجعل القارئ شريكًا في صناعة المعنى. هذه القدرة على إشراك القارئ فكريًا وعاطفيًا هي إحدى أبرز إيجابيات المجموعة، إذ تجعلها أكثر من مجرد قراءة عابرة، بل تجربة تحولية تترك أثرًا عميقًا في النفس.
لكن هذا البعد الفلسفي قد يكون أيضًا نقطة ضعف محتملة. ففي بعض الأحيان، يبدو أن الشهبي يميل إلى الإفراط في التأمل على حساب ديناميكية السرد، مما قد يجعل بعض القصص تبدو بطيئة أو مكثفة بشكل زائد عن الحد. هناك لحظات يشعر فيها القارئ بأن الكاتب يحاول تحميل النص أكثر مما يحتمل، مما يؤدي إلى نوع من الثقل الفكري الذي قد لا يتناسب مع كل الأذواق. على سبيل المثال، في بعض القصص التي تركز على الصراع الداخلي للشخصيات، قد يشعر القارئ بأن التركيز المفرط على التفاصيل النفسية يعيق تقدم الحبكة، مما يجعل التجربة أقل سلاسة مما يمكن أن تكون عليه. هذا لا يعني أن العمل يفتقر إلى الحيوية، لكنه يتطلب من القارئ قدرًا من الصبر والانفتاح للتعامل مع هذا النوع من السرد العميق.
من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال التنوع الذي تحاول المجموعة تقديمه، رغم تركيزها الواضح على السكيزوفرينيا. فبينما تشكل هذه التجربة الخيط الرئيسي الذي يربط القصص، إلا أن هناك حكايات إنسانية أخرى تتسلل ببراعة إلى النص، تتناول موضوعات مثل الحب، الفقدان، والمقاومة. هذا التنوع يضفي على العمل طابعًا شاملاً، يجعله قادرًا على التواصل مع جمهور أوسع. لكن هنا أيضًا قد تظهر بعض الملاحظات النقدية، إذ يبدو أن هذه القصص الجانبية لم تُمنح الاهتمام الكافي لتتطور بشكل كامل، مما يجعلها تبدو كإضافات ثانوية بدلاً من أن تكون جزءًا متكاملاً من النسيج السردي. هذا الشعور بالتفاوت في العمق قد يترك القارئ متسائلاً عما كان يمكن أن يقدمه الكاتب لو أعطى هذه الحكايات مساحة أكبر للتألق.
في النهاية، تبقى "ياسمين الخريف" تجربة أدبية فريدة تستحق الاحتفاء، ليس فقط لما تقدمه من جماليات لغوية وسردية، بل لقدرتها على إعادة تعريف مفهوم السعادة والأمل من منظور جديد ومختلف. إنها دعوة للقارئ للغوص في أعماق نفسه، لمواجهة ظلامه الخاص، وللبحث عن نور قد يكون مخفيًا في أكثر الأماكن غموضًا. نقاط قوتها تكمن في أسلوبها السلس، شخصياتها النابضة بالحياة، وبعدها الفلسفي العميق، بينما تظهر نقاط ضعفها في بعض الثقل الفكري والتفاوت في تطوير القصص الجانبية. لكن هذه العيوب لا تقلل من قيمة العمل، بل تجعله أكثر إنسانية، كما لو كان مرآة تعكس كمال الإنسان وعيوبه في آن واحد. إنها مجموعة لا تُقرأ فحسب، بل تُعاش، وتترك في الروح عبيرًا يشبه ياسمين الخريف نفسه: رقيقًا، عميقًا، ودائمًا حاضرًا حتى في أقسى الفصول.
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟