|
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مُقَارَبَات الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8275 - 2025 / 3 / 8 - 18:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا هِيَ دِرَاسَة نَقْدَية لِلْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَتَهْدِفُ إِلَى تَحْدِيد وَبَيَان أُسُسِ الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة وَطُرُق إدْرَاك الْوَاقِع بَعِيدًا عَنْ التَّحَيُّزِات الشَّخْصِيَّةُ أَوْ الثَّقَافِيَّة. وَهِيَ بِذَلِكَ تَرْتَبِطُ بِشَكْلٍ وَثِيق بِالْعِلْم وَالْأَخْلَاق. مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ، فَإِنْ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا تَعْنَى بِتَحْلِيل الِإفْتِرَاضَات وَالْمِنْهَجِيَّات وَ النَّتَائِج الْعِلْمِيَّة، وَتَبْحَث فِي طَبِيعَةِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَكَيْفِيَّة إنْتَاجِهَا وَتَطَوُّرِهَا. فَهِي تَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِ الْمَوْضُوعِيَّة فِي الْعِلْمِ مِنْ خِلَالِ دِرَاسَةِ طُرُق إدْرَاك وَتَفْسِير الْوَاقِع بَعِيدًا عَنْ التَّحَيُّزِات الشَّخْصِيَّةُ أَوْ الثَّقَافِيَّة. وَلِهَذَا فَإِنَّ النَّظَرِيَّات الإِبِسْتِمُولُوجيَّة تُؤَثِّرُ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ عَلَى الْمَنَاهِجِ وَالْمَقَارَبَات الْعِلْمِيَّةِ الْمُخْتَلِفَة. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْأَخْلَاقِ فَإِنْ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا تَتَعَلَّقُ بِالتَّأْثِير الَّذِي تُمَارِسُهُ الْقَيِّمُ وَالْمَبَادِئ الْأَخْلَاقِيَّة عَلَى الْعَمَلِيَّة الْبَحْثَيْة وَعَلَى الْقَرَارَات الَّتِي يَتَّخِذُهَا الْبَاحِثُون. فَالتَّقَدُّم الْعِلْمِيِّ وَالتِّقْنِيِّ قَدْ يَطْرَح تَحَدِّيَات وَقَضَايَا أَخْلَاقِيَّة حَوْل الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَحُقُوقُ الْإِنْسَانِ، مِمَّا إسْتَدْعَى ظُهُور تُخَصِّص جَدِيدٍ هُوَ " الْأَخْلَاقُ الطِّبِّيَّة أوَ الْبُيُوإثيقا " لِمُعَالَجَةِ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ. وَعَلَيْهِ، فَإِنْ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا تَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِ الْمَوْضُوعِيَّة فِي الْعِلْمِ مِنْ خِلَالِ دِرَاسَةِ طُرُق إدْرَاك وَتَفْسِير الْوَاقِعِ، كَمَا أَنَّهَا تَحِيكُ حِوَارًا جَدَلِيًّا حَوْل مُعَانَاة الْإِنْسَان جَرَّاء التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ وَالتِّقْنِيّ وَ الْقَضَايَا الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَطْرَحُهَا الْمُمَارَسَات الْعِلْمِيَّة. فِي الْوَاقِعِ، هُنَاكَ عَلَاقَة جَدَلِيَّةٍ بَيْنَ وَالْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق، فَالإِبِسْتِمُولُوجْيَّا تُؤَثِّرُ عَلَى الْمَنَاهِجِ الْعِلْمِيَّة وَتُمَارِس نَقْدًا عَلَى الْمُمَارَسَات الْعِلْمِيَّةِ مِنَ مَنْظُور أَخْلَاقِيّ، بَيْنَمَا يُؤَثِّر التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ وَالتِّقْنِيّ عَلَى الْقَضَايَا الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَهْتَمّ بِهَا الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا وَمَنْ هُنَا كَانَ لَا بُدَّ لِشَطْط التَّقَدُّمُ الْعِلْمِيِّ وَ التِّقْنِيِّ اللَّامتنَاهِي أنْ تُحَكِّمُه قُيُود أَخْلَاقِيَّة وَفلَسَفِية وَدِينِيَّةٌ وَإجْتِمَاعِيَّة لِحِمَايَة الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. إذَنْ، الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، فَهِي تُعْنَى بِتَحْلِيل أُسُسِ الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة وَطُرُق إدْرَاكِهَا، كَمَا أَنَّهَا تَضَعُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ فِي إِطَارِ أَخْلَاقِيّ لِمُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ الَّتِي يَطْرَحُهَا التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ وَالتِّقْنِيّ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْمُجْتَمَعِ.
_ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : مُنْطَلَقَات المَذَاهِب الإِبِسْتِمُولُوجْيَّة : "إخْتِلَافُ السِّيَاق الْمَفاهِيمي دَاخِلٌ الْإِطَارُ الْمَذْهَبِيّ الْعَامِّ"
إنْ مَوْضُوعٌ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا (فَلْسَفَةُ الْمَعْرِفَةِ) وَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاقِ هُوَ مِنْ المَوَاضِيع الْهَامَة وَ الْمُثِيرَة لِلْجَدَل فِي الْفَلْسَفَةِ الْمُعَاصِرَة. وَتَخْتَلِف الْمَدَارِس الإِبِسْتِمُولُوجْيَّة فِي نَظَرَتُهَا لِهَذِهِ الْعَلَاقَةِ وَفَقَأ لَمُنْطَلِقٌاتِهَا الْفَلْسَفِيَّة وَالْمَعْرُفِيَّة. تَنْظُرَ الْمَدْرَسَةِ التَّجْرِيبِيَّة (الْوَضْعِيَّة الْمَنْطِقِيَّة) logical positivism إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ الْمَصْدَر الْوَحِيد لِلْمَعْرِفَة الْحَقِيقِيَّة، وَتَرْبِط بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق مِنْ خِلَالِ مَبْدَأ النَّفْعِ وَ الضَّرَرِ. فَالْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة هِيَ وَحْدَهَا الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُحَدَّدَ مَا هُوَ صَحِيحٌ أَوْ خَاطِئ أَخْلَاقِيًّا، وَمَا هُوَ مُفِيدٌ أَوْ مُؤْذ لِلْإِنْسَان. وَلِذَا، فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ يَجِبُ أَنْ تَسْتَنِدَ عَلَى الْحَقَائِقِ وَالْمَعْطُيَات الْعِلْمِيَّةِ، وَلَيْسَ عَلَى الْأَفْكَار الْمَيتَافِيزِيقِيَّة أَوْ الدِّينِيَّة. وَبِالتَّالِي يَرَى مُمَثِّلُو هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ أَنْ الْعِلْمِ هُوَ المَرْجِعِيَّةُ الْأَسَاسِيَّة لِلْأَحْكَام الْأَخْلَاقِيَّة. فِي حِينِ تَرَى الْمَدْرَسَة العَقْلَانِيَّة أَنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْمَصْدَرُ الأَسَاسِيّ لِلْمَعْرِفَة، وَإِنَّ الْعِلْمَ يَجِبُ أَنْ يَخْضَعَ لِمَعَايِير عَقْلِيَّةٍ وَأَخْلَاقِيَّةٍ مَسْبُقة. فَالْأَخْلَاق لَيْسَتْ مُجَرَّدَ نَتَائِج عِلْمِيَّة، بَلْ هِيَ مَبَادِئُ عَقْلِيَّة كُلِّيَّة وَ عَالَمِيَّة يَجِبُ أَنْ تَحْكُمَ مُمَارَسَة الْعِلْم وَتَوْجِيهُه. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْأَخْلَاق يَجِبُ أَنْ يَتَكَامَلا فِي إِطَارِ النَّظْرَة العَقْلَانِيَّة لِلْمَعْرِفَة. أَمَّا المَدْرَسَةُ الْبَرَاغِماتية فَهِيَ تَنْظُر إلَى الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق مِنْ مَنْظُورٍ وَظِيفِيّ وَ تَطْبِيقِيّ. فَالْمَعْرِفَةُ الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ غَايَةً فِي حَدِّ ذَاتِهَا، بَلْ وَسِيلَةٌ لِتَحْقِيقِ أَهْدَاف عَمَلِيَّة وَحُلُول لِلْمُشْكِلَات الْإِنْسَانِيَّة. وَ بِالتَّالِي، فَإِنَّ العَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق تَتَحَدَّدُ فِي ضَوْءِ مَدَى نَفْعٌ وَفَائِدَةٌ النَّتَائِج الْعِلْمِيَّة لِلْمُجْتَمَع. وَالأَخْلَاقُ هِيَ الَّتِي تُحَدِّدُ أَهْدَاف الْعِلْم وَتَوَجُّهُه نَحْوِ مَا هُوَ مُفِيدٌ لِلْإِنْسَانِيَّة. فِي نَفْسِ الْوَقْتِ تَرَى الْمَدْرَسَة النِّسْبِيَّة أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْعِلْمِيَّة وَ الْأَحْكَام الْأَخْلَاقِيَّة هُمَا نِتَاجُ سِيَاقَات ثَقَافِيَّة وَإجْتِمَاعِيَّة مُتَغَيِّرَة. فَلَيْسَ هُنَاكَ حَقَائِقَ مُطْلَقَةً أَوْ أَخْلَاق عَالَمِيَّة، بَلْ كُلُّ مَعْرِفَة وَأَخْلَاق هِي نِسْبِيَّة بِحَسَبِ السِّيَاقِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ العَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق تَتَحَدَّدُ فِي ضَوْءِ السِّيَاقَات الْمُتَغَيِّرَة لِلْمُجْتَمَعَات وَالثَّقَافَات. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْمَدَارِس الإِبِسْتِمُولُوجْيَّة الْمُخْتَلِفَةِ قَدْ أَنْتَجَتْ نَظَرَات مُتَبَايِنَة لِعَلَاقَة الْعِلْم بِالْأَخْلَاق، بَيْنَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ المَرْجِعِيَّةُ الْأَسَاسِيَّة لِلْأَخْلَاق، أَوْ إنْ الْأَخْلَاق هِيَ الَّتِي تَحْكُمُ وَ تَوَجَّه الْعِلْمِ، أَوْ إنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَهُمَا نِسْبِيَّة وَسَيَاقِيَة. وَيَبْقَى هَذَا الْجَدَلَ مَفْتُوحًا وَمُثِيرًا لِلنَّقاش فِي الْفَلْسَفَةِ الْمُعَاصِرَة.
_ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : التَّطَوُّر التَّارِيخِيّ و جَدَل الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا
فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، كَانَ هُنَاكَ إرْتِبَاطٌ وَثِيقٌ بَيْن الْأَخْلَاق وَ الْفَلْسَفَة، حَيْثُ اُعْتُبِرَ الْفَلَاسِفَة التَّقْلِيدْيُون الْأَخْلَاقِ ضَمِن الْعُلُوم الْمِعْيَارِيَّة. فَقَدْ وَضَعَ سُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ الْأَخْلَاقِ فِي مَرْكَزِ إهْتِمَامِهِمْ الْفَلْسَفِيّ، وَ جَعَلُوهَا مَوْضُوعُ الْبَحْثِ الْفَلْسَفِيّ الرَّئِيسِيّ. وَمَعَ تَطَوُّرِ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ، بَدَأَتْ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا (نَظَرِيَّةٌ الْمَعْرِفَةِ) Epistemology فِي الِإنْفِصَالِ عَنْ الْأَخْلَاقِ. فَقَدْ سَعَى الْعُلَمَاءِ إلَى تَحْقِيقِ الْمَوْضُوعِيَّة التَّامَّةِ فِي بُحُوثِهِمْ، وَبِالتَّالِي رَفَضُوا إدْخَال الْإِبْعَاد الْأَخْلَاقِيَّة فِي الْعِلْمِ. فَفِي نَظَرِ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ إسْتِحْضَار الْأَخْلَاقِ فِي مَجَالِ الْعِلْمِ يَعْنِي الْحَيْلُولَة دُونَ تَحْقِيقِ الْمَوْضُوعِيَّة التَّامَّة. فَقَدْ كَانَ هُنَاكَ خَوْفٍ مِنْ أَنَّ تُؤَثِّرَ الِإعْتِبَارَات الْأَخْلَاقِيَّة عَلَى نَتَائِجَ البُحُوثِ العِلْمِيَّةِ وَ مَوْضُوعُيَتِهَا. وَمَعَ ذَلِكَ، بَدَأَتْ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا فِي الْعَوْدَةِ مَرَّةً أُخْرَى إلَى الْأَخْلَاقِ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ. فَقَدْ أَدْرَكَ الْعُلَمَاءَ وَالْفَلَاسِفَةِ إنَّ الْعِلْمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ الْقَيِّمِ وَ الْإِبْعَاد الْأَخْلَاقِيَّة. فَالتَّطَوُّرَات الْعِلْمِيَّةِ وَالتِّكْنُولُوجِيَّة الْهَائِلَة فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ أَدَّتْ إلَى ظُهُورِ الْكَثِيرِ مِنْ الْمُعْضِلَاتِ الْأَخْلَاقِيَّة. وَأَصْبَحَ مِنْ الضَّرُورِيِّ إعَادَةِ النَّظَرِ فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، وَإِيجَاد آلِيَات لِضَبْط الْمُمَارَسَات الْعِلْمِيَّة بِمَا يَتَوَافَقُ مَعَ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. وَقَدْ بَرَزَ هَذَا التَّوَجُّهِ بِشَكْل وَاضِحٌ فِي مَجَالِ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا الْحَدِيثَةِ، حَيْثُ أَصْبَحَتْ تَوَلَّي إهْتِمَامًا كَبِيرًا بِالْبُعْد الْأَخْلَاقِيّ لِلْعِلْم. فَالْإبستمولُوجْيَا بَاتَتْ تَنْظُرَ إلَى الْعِلْمِ لَيْسَ فَقَطْ مِنْ زَاوِيَةٍ الْمَنْهَجِية وَالْمَعْرِفَةِ، بَلْ أَيْضًا مِنْ زَاوِيَةٍ الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ. وَيَرْجِعُ هَذَا التَّحَوُّلِ إلَى إدْرَاكِ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّين أنْ الْعِلْمِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ السِّيَاقِ الِإجْتِمَاعِيّ وَالثَّقَافِيّ الَّذِي يَنْشَأُ فِيهِ، وَإِنْ الْقَيِّم وَالِإعْتِبَارَات الْأَخْلَاقِيَّة تَلْعَبُ دَوْرًا مُحَوَّريا فِي تَوْجِيهِ الْمُمَارَسَات الْعلمِيَّةِ وَ فِي هَذَا الصَّدَدِ، ظَهَرَتْ إتِّجَاهَات إبِسْتِمُولُوجْيَّة جَدِيدَةٍ تَسْعَى إِلَى دَمْج الْأَخْلَاقِ فِي مَنْظُومَةِ الْعِلْمِ، مِثْلُ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا الْفِيمَنِيَّة (feminist epistemology) وَ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا البِيئِيَّة.(Ecological epistemology) فَهَذِه الِإتِّجَاهَات تُؤَكِّدُ عَلَى ضَرُورَةِ مُرَاعَاة الِإعْتِبَارَات الْأَخْلَاقِيَّة فِي الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، بِمَا فِي ذَلِكَ قَضَايَا الْمُسَاوَاة وَ الْعَدَالَة وَالِإسْتِدَامَة البِيئِيَّة. وَبِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا وَالْأَخْلَاقِ قَدْ شَهِدْت تَطَوُّرًا مَلْحُوظًا عَبْرَ التَّارِيخِ. فَبَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْأَخْلَاقُ جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْفَلْسَفَةِ وَ الْعُلُومِ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، تَمّ فَصْلِهَا عَنْ الْعِلْمِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ. وَلَكِنْ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ، أَصْبَحْت الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا تُعِيدُ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْعَلَاقَةِ، وَتُؤَكِّد عَلَى ضَرُورَةِ إدْمَاج الْأَخْلَاقِ فِي مَنْظُومَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ.
_ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : الْعَلَاقَةُ البِنْيَوِيَّة دَاخِل النَّسَق الإِبِسْتِمُولُوجِيَّ :
إنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاقُ هِيَ مَوْضُوعُ مِحْوَرَي فِي الْفَلْسَفَةِ الإِبِسْتِمُولُوجِيَّة. مِنْ جِهَةِ يُنْظَرُ إلَى الْأَخْلَاقِ بِإعْتِبَارِهَا نَظَرِيَّة عَنْ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي يُفْتَرَضُ أَنْ تَوَجَّهَ وَ تَضْبَط مُمَارَسَة الْعِلْم وَتَطْبِيقِاته. وَ مَنْ جِهَةِ أُخْرَى، تُعْتَبَرُ الْأَخْلَاق جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْبِنَاءِ الإِبِسْتِمُولُوجِي لِلْعِلْمِ نَفْسِهِ، بِحَيْثُ تُشْكِل الِإفْتِرَاضَات الْأَخْلَاقِيَّة أَحَد الْمُرْتَكِزات الْأَسَاسِيَّةِ لِبِنَاء الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَتَقَييمها. عَلَى هَذَا الْمُسْتَوَى، تَطْرَح الْفَلْسَفَة الإِبِسْتِمُولُوجِيَّة مَجْمُوعَةً مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْأَسَاسِيَّة حَوْل عَلَاقَة الْعِلْم بِالْأَخْلَاق، مِثْلَ: مَا هِيَ الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَحْكُمَ مُمَارَسَة الْعِلْم وَ تَطْبِيقِاته؟ هَلْ لِلْعِلْم مَسْؤُولِيَّات أَخْلَاقِيَّة تُجَاه الْمُجْتَمَع وَ الْبِيئَة ؟ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَدَخَّل الْأَخْلَاق لِتَحَد مِنْ الْأثَارِ السَّلْبِيَّة لِلتَّطْبِيقَات الْعِلْمِيَّةِ ؟ ينْطَلِقُ هَذا الطَّرْحُ مِنْ إعْتِبَارِ أَنَّ الْعِلْمَ بِذَاتِهِ لَيْسَ قِيمِيًّا أَوْ أَخْلَاقِيًّا، فَهُوَ يَسْعَى إلَى الْكَشْفِ عَنْ الْحَقَائِقِ وَالْقَوَانِين الطَّبِيعِيَّة بِطَرِيقِة مَوْضُوعِيَّة. لَكِنْ تَطْبِيقَات الْعِلْم وَتَوْظِيفِاته يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ آثَار إيجَابِيَّةٌ أَوْ سَلْبِيَّةٌ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَ الْبِيئَة، وَهُنَا تَبْرُزُ الْحَاجَةِ إلَى وَضْعِ ضَوَابِط وَأَطْر أَخْلَاقِيَّة تَحَكُّم هَذِه التَّطْبِيقَات. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، تُطْرَح قَضَايَا أَخْلَاقِيَّة مُلِحَّة فِي مَجَالِ عُلُومِ الحَيَاةِ وَالطِّبّ، مِثْل التَّجَارِبُ عَلَى الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ، وَ تَقَنِّيَّات الْهَنْدَسَةُ الْوِرَاثِيَّة، وَإِجْرَاء عَمَلِيَّات الْإِنْعَاش وَ التَّدَخُّل فِي الْعَمَلِيَّاتِ الْحَيَاتِيَّة. فِي هَذِهِ الْمَجَالَاتِ، يَتَعَيَّن وَضَع مَعَايِير أَخْلَاقِيَّة تَحَكُّم هَذِه الْمُمَارَسَات الْعِلْمِيَّة وَتَضْمَن إحْتِرَام الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَحِمَايَة الْبِيئَة. وَ عَلَى نِطَاق أَوْسَع، يُنَاقَش الْفَلَاسِفَة الإِبِسْتِمُولُوجِيَّون مَسْؤُولِيَّةَ الْعُلَمَاء وَ المُؤَسَّسَات الْعِلْمِيَّة تُجَاه الْمُجْتَمَع، خَاصَّةً فِي ظِلِّ التَّطَوُّر الْهَائِل لِلْعُلُوم وَالتِّقْنِيَّات وَالْآثَار الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا. فَالْأَخْلَاق هُنَا تَلْعَبُ دَوْرًا فِي تَوْجِيهِ الْعِلْمِ نَحْوُ خِدْمَة الْإِنْسَانِيَّة وَالصَّالِح الْعَامِّ، وَفِي الْكَشْفِ عَنْ الْأثَارِ السَّلْبِيَّة الْمُحْتَمَلَة لِلتَّطْبِيقَات الْعِلْمِيَّةِ وَتَقْدِيم الْحُلُول لِمُعَالَجَتِهَا. إلَى جَانِبِ نَظَرَة الْعِلْم كَنَشْاط تَطْبِيقِيّ خَاضِع لِضَوْابط أَخْلَاقِيَّة، تَذْهَب الْفَلْسَفَة الإِبِسْتِمُولُوجِيَّة إلَى أَنْ الْأَخْلَاق تُشْكِل أَحَد مُرْتَكِزًات بِنَاءً الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة ذَاتِهَا. فَالْإفْتِرَاضِات وَ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي يَتَبَنَّاهَا الْعُلَمَاءُ فِي مُمَارَسَاتهم الْبَحْثَيْة لَهَا تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ عَلَى طُرُقٍ إكْتِسَاب الْمَعْرِفَة وَأَسَالِيب تَقِيُّيمُهَا وَ تَفْسِيرُهَا. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يَرَى الْفَيْلَسُوف الْفَرِيد نُورَث وَايْتهيد Alfred North Whitehead إنْ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ لَا يَنْطَلِقُ مِنْ فَرَاغِ، بَلْ مِنْ خَلْفِيَّة ثَقَافِيَّة وَإجْتِمَاعِيَّة وَ أَخْلَاقِيَّة مُعَيَّنَة تُشْكِل مَسْبُقات الْمَعْرِفَةُ الْعِلْمِيَّة وَتَوَجَّه طُرُق بِنَائِهَا. فَالْقَيِّم الْمُتَبَنَّاه مِنْ قِبَلِ الْبَاحِثِين، سَوَاءٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَفَاهِيم الْحَقِيقَة وَ الْمَوْضُوعِيَّة وَالتَّأَكُّد مِنْ الْأَدِلَّةِ، أَوْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْؤُولِيَّاتٍهِمْ الْأَخْلَاقِيَّة، تُؤَثِّرُ عَلَى مُمَارَسَاتهم الْبَحْثَيْة وَتَوَجَّهَ مَسَارَات تَطْوِير الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة. وَ فِي سِيَاقِ مُمَاثِل، يَرَى بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ الإِبِسْتِمُولُوجِيَّين أنْ الْمُشْكِلَات الْأَخْلَاقِيَّة لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَطْبِيقَات خَارِجِيَّة لِلْعِلْمِ، وَ إِنَّمَا هِيَ جُزْءُ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْبِنَاءِ المَعْرِفِيّ لِلْعِلْم ذَاتِه. فَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة وَ الِإفْتِرَاضِات الْمُسَبَّقَة حَوْل الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَ الْعَدَالَة وَ غَيْرِهَا تُشْكِل جُزْءًا مِنْ الْإِطَارِ الْمَفَاهِيمي وَالنَّظَرِيُّ الَّذِي يَنْطَلِقُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ أَهْدَافِهِم الْبَحْثَيْة وَتَصْمِيم تَجَارِبِهِمْ وَ تَفْسِيرُ نَتَائِجِهَا. إذَنْ، تُؤَكِّد الْفَلْسَفَة الإِبِسْتِمُولُوجِيَّة عَلَى أَنَّ الْقَيِّمَ الْأَخْلَاقِيَّة لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قُيُود خَارِجِيَّة عَلَى مُمَارَسَةِ الْعِلْمِ، بَلْ هِيَ جُزْءُ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْبِنَاءِ المَعْرِفِيّ لِلْعِلْم نَفْسِه. وَ بِالتَّالِي، فَإِنَّ دِرَاسَة وَ تَحْلِيل هَذِهِ القِيَمَ الْأَخْلَاقِيَّة الْمُضَمَّنَةِ فِي الْعِلْمِ يُعَدّ مَدْخَلًا إبْسَتمولُوجْيَا أَسَاسِيًّا لِفَهْم طَبِيعَة الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَآلِيَات تَطَوُّرها.
_ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق: رُؤْيَة تَحْلِيلِيَّة أبْسَتمولُوجِيَّة
الْعِلْمُ وَالأَخْلَاقُ هُمَا مَجَالَان مُتَرَابِطَان بِشَكْل وَثِيق، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ المُعْتَقَدَاتِ الشَّائِعَة بِأَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَامَل فَقَطْ مَعَ الْحَقَائِق الْمَوْضُوعِيَّة بَيْنَمَا الْأَخْلَاق تَتَعَامَلُ مَعَ القِيَمِ وَالْمَعَايِير الذَّاتِيَّةُ. فِي الْوَاقِعِ، هُنَاكَ تَأْثِيرٌ مُتَبَادَل بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، حَيْثُ يُؤَثِّرُ كُلُّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ. الْعِلْمِ لَهُ تَأْثِيرٌ عَلَى الْأَخْلَاقِ مِنْ خِلَالِ الِإكْتِشَافَات وَالتِّقْنِيَّاتُ الْجَدِيدَة الَّتِي يُنْتِجْهَا. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، التَّطَوُّرَات فِي مَجَالِ الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ وَ عِلم الْإِحْيَاءِ قَدْ أَثَارَتْ مَخَاوِف أَخْلَاقِيَّة حَوْل الْخُصُوصِيَّة وَالْهُوِيَّة وَالمُسَاءَلَة. كَمَا أَنَّ التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ فِي مَجَالِ الطِّبِّ وَالْإِحْيَاء قَدْ طَرَحَ أَسْئِلَة أَخْلَاقِيَّة حَوْل حُدُود التَّدَخُّل الْبَشَرِيّ فِي الْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ. بِالْمُقَابِل، الْأَخْلَاق لَهَا تَأْثِيرٌ عَلَى الْعِلْمِ مِنْ خِلَالِ الْقَيِّم وَالْمَعَايِير الَّتِي تَوَجِه الْمُمَارَسَات الْعِلْمِيَّة. فَالْبَاحِثُون مُلْزَمُونَ بِالِإلْتِزَام بِمَبَادِئ أَخْلَاقِيَّة مِثْل الْمَوْضُوعِيَّة وَالنَّزَاهَة وَالْمَسْؤُولِيَّةِ فِي إجْرَاءِ الْبُحُوث وَتَفْسِير النَّتَائِج. كَمَا أَنَّ التَّمْوِيل وَالتَّنْظِيم لِلْإِنَشِّطَة الْعِلْمِيَّةِ يَخْضَع لِإعْتِبَارَات أَخْلَاقِيَّة حَوْل تَوْزِيع الْمَوَارِد وَ أَوْلَوِيَّات الْبَحْثُ. وَمِنْ مَنْظُور أَبْسَتمولُوجِيّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاقُ هِيَ عَلَاقَةٌ جَدَلِيَّة وَتَكَامَلَية. فَالقِيَمُ الْأَخْلَاقِيَّة تُؤَثِّرُ عَلَى عَمَلِيَّةِ إكْتِسَاب الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَ تَوْجِيهُهَا، بَيْنَمَا تُسَاعِد الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة عَلَى تَطْوِير وَتَعْمِيق الْفَهْم الْأَخْلَاقِيّ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْأَخْلَاقِ، بَلْ هُمَا وَجْهَانِ لِعَمَلة وَاحِدَةٍ فِي سَعْيِ الْإِنْسَانِ نَحْوَ فَهُمْ الْوَاقِع وَالتَّعَامُلِ مَعَهُ بِشَكْل أَفْضَل. لِذَلِكَ، مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ يُنْظرَ إلَى الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق كَمَجْالَيْن مُتَكَامِلَين وَ مَتَفَاعِلِين، حَيْثُ يُسَاهِم كُلٍّ مِنْهُمَا فِي إِثْرَاءِ الْآخَر وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى تَطْوِير الْمَعْرِفَة الْإِنْسَانِيَّة بِشَكْلٍ شَامِلٍ وَمَتَوَازُن. وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى مُخْتَلِفِ الْمَجَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ، مِنَ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ إلَى الْعُلُومِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّة. أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاقُ هِيَ عَلَاقَةٌ دَيْنٌامِيّكِيَّة وَحَيَوِيَّة، تَتَطَلَّب التَّفْكِير النَّاقِد والْحِوَار الْمُسْتَمِرّ بَيْنَ مُخْتَلِفِ التَّخَصُّصَات وَالرُّؤى. فَالتَّوَازِن وَالتَّكَامُلُ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة وَالِإلْتِزَام الْأَخْلَاقِيّ هُوَ السَّبِيلُ الْأَمْثَل لِتَحْقِيق تَقَدَّم إِنْسَانِيّ حَقِيقِيّ وَمُسْتَدَام.
_ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق نَقْد أبِسْتِمُولُوجْيَّ :
إبِسْتِمُولُوجْيَّا هِيَ الدِّرَاسَة النَّقْدِيَّة وَالتَّحْلِيلِيَّة لِلْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَهِيَ تَلْعَبُ دَوْرًا بَارِزًا فِي نَقْدٍ كُلٍّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. مِنْ مَنْظُورٍ الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا، الْعِلْمُ لَيْسَ مُجَرَّدَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالنَّظَرِيَّات الْمُسْتَقِرَّة، بَلْ هُوَ نَشَاطٍ إِنْسَانِيٍّ تَارِيخِيّ مُتَطَوِّر يَخْضَع لِلنَّقْد وَالتَّحْلِيل. فَالإِبِسْتِمُولُوجْيَّا تَسْعَى إِلَى فَحَص الِإفْتِرَاضَات وَالْمُنَاهِج وَالأُسُسُ الْمَنْطِقِيَّة وَالتَّجْرِيبِيَّة الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا الْعِلْمَ، بِهَدَف الْكَشْفِ عَنْ قُيُودٍ الْعِلْم وَحُدُود مَعْرِفَتِه. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، أَكَّدَتْ الآبِسْتِمُولُوجْيَّا الْفَرَنْسِيَّة عَلَى قَطِيعَةِ الْعِلْمِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ السَّابِقَةِ، وَإِنْ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ لَا يَتَطَوَّرُ بِشَكْل تَرَاكُمِيّ خَطِي، بَلْ يَحْدُثُ مِنْ خِلَالِ "ثَوْرَات عِلْمِيَّة" تَقُومُ عَلَى إعَادَةِ بِنَاء الْمَفَاهِيم وَالِإفْتِرَاضِات الْأَسَاسِيَّةِ. كَمَا نَقَدْت الآبِسْتِمُولُوجْيَّا الْمَوْضُوعِيَّة الْمَزْعُومة لِلْعِلْمِ، وَأَكَّدَتْ عَلَى دُورِ الْعَوَامِل الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ فِي تَشْكِيلِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة. وَتُشِيرُ الآبِسْتِمُولُوجْيَّا أَيْضًا إلَى أَنْ الْمُمَارَسَة الْعَلَمِيَّةِ لَا تَخْلُو مِنْ التَّحَيُّزِ وَالْقَيِّم، فَالْعُلَمَاء لَيْسُوا مُجَرَّد الَآت مُحَايدة، بَلْ يَتَأَثَّرُون بِخِلَفياتهم الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ الثَّقَافِيَّةِ وَالْإِيدَيُولُوجِيَّة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الآبِسْتِمُولُوجْيَّا تُؤَكِّدُ عَلَى ضَرُورَةِ تَفْكِيك الْأَبْنِيَة الْقِيَمِيَّة وَالْإِيدَيُولُوجِيَّة الَّتِي تَحْكُمُ الْمُمَارَسَة الْعِلْمِيَّة. لَا تَقْتَصِرُ نَقْدَية الآبِسْتِمُولُوجْيَّا عَلَى الْعِلْمِ فَحَسْبُ، بَلْ تَمْتَدّ أَيْضًا إلَى الْأَخْلَاقِ. فَالآبِسْتِمُولُوجْيَّا تَنْظُرُ إلَى الْأَخْلَاقِ بِإعْتِبَارِهَا نِتَاجًا تَارِيخِيًّا وَثَقَافِيًّا، لَا يَمْتَلِكُ أُسُسًا ثَابِتَةً أَوْ مَوْضُوعِيَّة. وَ تُشِير الآبِسْتِمُولُوجْيَّا إلَى أَنْ الْأَخْلَاق الْمَوْضُوعِيَّة الَّتِي تَزْعُمُ التَّحَرُّرِ مِنْ السِّيَاقَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ هِيَ فِي الْوَاقِعِ مُجَرَّد تَمْثِيلَات لِقيْم وَ أَيْديولوجيات مُحَدَّدَة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الآبِسْتِمُولُوجْيَّا تَدْعُو إلَى إِخْضَاع الْأَخْلَاق لِلنَّقْد وَالتَّحْلِيل النَّقْدِيّ، بِهَدَف كَشْف الْأَبْنِيَة الْقِيَمِيَّة وَالْإِيدَيُولُوجِيَّة الَّتِي تَتَحَكَّم فِيهَا. كَمَا تُؤَكِّدُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الِإعْتِرَاف بِتَعَدَدِيَّة الْأَنْسَاق الْأَخْلَاقِيَّة وَالْقِيمَيَّة، وَ ضَرُورَةِ التَّخَلِّي عَنْ إدَّعَاءَات الشُّمُولِيَّة وَالْعَالَمِيَّة فِي الْأَخْلَاقِ. وَبَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، تَدْعُو الآبِسْتِمُولُوجْيَّا إلَى تبْني مُقَارَبَات أَخْلَاقِيَّة تَتَّسِم بِالنَّسَبِيَّة وَالتَّارِيخِيَّة وَالسِّيَاقية. يَتَّضِحُ أَنَّ الآبِسْتِمُولُوجْيَّا لَعِبَتْ دُورًا مُحَوَّريا فِي نَقْدٍ كُلٍّ مِنْ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق، مِنْ خِلَالِ إِخْضَاع مُمَارَسَاتِهِمَا لِلتَّحْلِيلِ النَّقْدِيّ وَ الْكَشْفِ عَنْ الْأَبْنِيَةِ الْقِيَمِيَّة وَالْإِيدَيُولُوجِيَّة الَّتِي تَحْكُمُهَا. وَهَذَا النَّقْد الآبِسْتِمُولُوجْيَّ أَسْهَمَ فِي تَطْوِيرِ فَهمْ أَعْمَق لِلطَّبِيعَة التَّارِيخِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّة لِلْعِلْم وَالْأَخْلَاق.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق سَطْوَة الْمَيِّتُافِيزِيقِيَا
-
نَقْد فَلْسَفِيّ لِلْخِطَاب الْعِلْمِيّ و الْأَخْلَاقِيّ
-
الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِي
...
-
أَخْلَاقِيَّات الْعِلْمُ وَ عِلْمِيَّة الْأَخْلَاق
-
حِوَارٌ مَعَ صَدِيقِي الشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ
-
جَدَلِيَّة الِإنْتِمَاء و الِإنْتِسَاب
-
جَدَلِيَّة التَّنْمِيط وَ التَّسْطِيح
-
السُّؤَالُ عَنْ السُّؤَال
-
إيلَون مَاسِك عَبْقَرِيّ أَمْ شَيْطَانِي
-
سُّلْطَة المُثَقَّف أَمْ مُثَقَّف السُّلْطَة
-
مَقَال فِي الأَسْئِلَةُ الْوُجُودِيَّة الْكُبْرَى
-
ثَمَنِ قَوْلِ الْحَقِيقَةِ فِي مُجْتَمَعَاتٍ النِّفَاق وَالت
...
-
جَدَلِيَّة الْفَلْسَفَة و التَّفَلُّسِف
المزيد.....
-
في عيد الأب.. نستعرض ما قاله آل باتشينو عن تأثير أطفاله بتطو
...
-
-هروب جنود إسرائيليين- من قواعد عسكرية تزامنًا مع ضربات إيرا
...
-
إيران تهدد بإغلاق مضيق هرمز: هل يصبح نفط العالم وحرية الملاح
...
-
ليلة ليست كسابقاتها.. هجمات نوعية تشعل اليوم الثالث من الموا
...
-
من غزة إلى اليمن وقبلهما إيران.. هل يحتمل الجيش الإسرائيلي ا
...
-
+++ غارات إسرائيلية حديدة على طهران +++
-
تل أبيب.. ارتفاع عدد القتلى جراء سقوط صواريخ إيرانية
-
تل أبيب.. آثار القصف الإيراني على بات يام
-
-القبة الحديدية- تصد صواريخ إيرانية فجر اليوم
-
رئيس قبرص: إيران طلبت منا نقل -بعض الرسائل- إلى إسرائيل
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|