أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمين أحمد ثابت - رواية ( هروب . . بين المضيقين ) / الحلقــــــة ( 6 )















المزيد.....



رواية ( هروب . . بين المضيقين ) / الحلقــــــة ( 6 )


أمين أحمد ثابت

الحوار المتمدن-العدد: 8267 - 2025 / 2 / 28 - 14:04
المحور: الادب والفن
    


الحزن يغرق المرء حين يستولي عليه ، يفقده البقاء ، حتى ممن
جنبك قارعة الطريق – غادر بخفض سقف احلامك
وعش وقتك بسيطا . . حتى تنجلي معالم الطريق .






الضرورة تطبع نفسها كحاكم مطلق للسلوك والفعل للأحياء والاشياء ، كحافظة للبقاء في نظامية اتزانيه لمتحرك التغير كقانونية تحكم كل شيء وامر وحال ، فعند كل تغير جزئي تفتح الضرورة مسارات تبدو في قياساتنا كاحتمالات ، يجد كل موجود ذاته متحركا في المسار الخاص به ليحقق الاستمرار لذاته او نوعه ، ومن يخطئ الولوج في المسار الصحيح يكتب له الفناء سريعا أو متأخرا ببطء ، فبالنسبة للإنسان دون غيره من الكائنات في قدرته على التفكير المجرد بصور من الافتراضات المبنية على التحليل لإدراك حقائق الأمور من المتطلبات التي يحتاج توفيرها او العمل عليها بما يتناسب وذلك التغير القادم المتوقع بما يضمن استمرار الحياة وبكفاءة اعلى مما كان عليها قبلا ، وعادة الضرورة غير مدركة ملموسا عند الانسان ، بل يتحسسها العلماء والمفكرين النادرين بعدد أصابع اليد . . بصورة مجردة ذهنيا . من خلال مشاهدات متغيرة غير ملحوظة الاهتمام عند عموم البشر ، يجمعها في بحث تساؤلي لما وراء كل واحدة ومتربطها مع بعضها باحثا ما سيأتي – استباقا – بتصورات نظرية تأويلية توقعيه . . منها ما تحمل ادراك الحقيقة لما سيأتي لاحقا ، وغالبا ما تعبر الضرورات دون أن يلحظها أو يلتقطها احد ، ونادرا ما تكشف الضرورة عن نفسها ليلاحظها المرء ليعمل وفقا لها ، خاصة حين يكون خطأ الفعل او السلوك يقود الى الفناء – هذا ما ورد الى ذهني مع استعادتي لحالة توازني ، وجدت أن الضرورة تشكل حالتي ومساراتي دون تفكير . . حسب الظرف الذي اتواجد فيه – فلم تعد تحضرك احاسيس الغربة وشعور الضياع . . إلا نادرا وتعبر ، إلا حين تصدف ما يجرحك ، ينزعك عن لين تكيفك ويعيد زرعك نبتة برية ، وحيدة في ارض غريبة قاحلة ، يكون مخزون وجودها اختلال مربك من اللوعة والحسرة المتألمة . . كيف لها أن تخرج عن عذاباتها المهددة حياتها ، لتحفظ لنفسها البقاء – كان اعتيادك قضاء يومك بعيدا عن مستضيفيك ، أعاد لهم حياتهم الطبيعية ، لا كربة تحيط بهم لمراعاة حالتك ، ولا وجود لك يلخبط نظام حياتهم ، أو انزعاج لتحمل انفاق مضاف لإطعامك – عبر الوقت دون أن يلحظه احد ، حتى انت . . تحررت من عالم الكبت الذي جثم عليك في موطنك ، لا تحقيقات او مطاردات و قتل احلامك ، لا قبائل وإرهاب ديني يلاحقك – قل ما تريد ، اذهب ف . . العالم المحيط بك مفتوح ، كل انسان مشغول في حاله ولا يعير انتباها لغيره – امسى حين تعود . . تجد من تصادفه يسألك كيف حالك ، كيف قضيت يومك واين ذهبت ، واحيانا . . إذا ما كنت تحتاج فلوس . . لا تستحي فنحن اخوه و . . والواحد لا يستغني عن الاخر – كانت الثلاثة أيام من الانكسار النفسي بعد لقاء خالي السفير و . . وانغلاقي على ذاتي كمريض ينحو الى فقدان عقله ، ومن بعدها الأيام التالية الى الأسبوع الثاني الكئيب ، كنت اسمع غير قليل من المحادثات التلفونية الجارية خلال وجودي – يظهر انها كانت غالبا مع من كانوا معنا خلال فترتنا الجامعية ، حتى من لم يكن يعرفني عن قرب ، يعرف اسمي أو يتذكر حضوري الملحوظ آنذاك من ضمن عدد محدود من طلبة الجامعة ، يرد فيها ذكري . . والتعاون معا لكي لا اضيق ، فمن يجد لديه وقتا يعوض انشغال سهيل وعلي في دراستهم ، حتى أن مكالمات تأتي للتحادث معهم و . . دعوات لزيارتهم والشوق للجلوس معي – لم أكن أتذكر أي واحد منهم ، لكن هذا الاهتمام والحفاوة – وحاجتي أن لا أكون وحيدا – كنت افتح لكل متصل منهم ذكريات أيامنا . . فيسترسل اين كان منها . . بما يقرب لي ادعاء تذكره – اخمن بأن ذلك كان تخطيطا ذكيا من سهيل تحت إلحاح عامر بأن يجد تصريفا لبقاء اقامتي غير المحدودة - الى متى ؟ ؟ ! ! . . . .

كان ذهابي – خلال أيام من الأسابيع الثلاثة الأولى . . بعد يومين من نكبة لقائي بخالي – مرافقة مع سهيل لأكثر من مرة الى جامعة القاهرة ، والتمشي عند وقت فراغه والاجازات ، خاصة في المساء الى التحرير بالشوارع المحيطة بها . . ومقهى ريش وغيرها ، ومرات عند التسكع على كورنيش الجسور العابرة اعلى النيل ، وكثيرا الى الدقي وشارع الرابطة اللذان يعدان المكانين لأن تلتقي باليمنيين أو من تبحث عنه من الطلبة او السياح او من جاء للعلاج - كانت مسارات تطوفيه وتسوقيه بصورة جماعات يتبادلون الحديث حتى وقت متأخر من الليل ، إلا من كانوا منهم يتحضرون لدخول السينما او مسرحا ما – وهو ما وسع معرفة الكثير بي ، والالتقاء ممن كنت اعرفهم عن قرب . . ولم اكن اعرف عن وجودهم في القاهرة ، واخرين عبر الحديث يتوزعون في الإسكندرية واسيوط والزقازيق – صدفة قابلنا احمد فكري وكارم احمد ، اللذين كنت اعرف ابتعاثهما للدراسة العليا من المعهد الوطني للعلوم الإدارية ، وكانا من البارزين خلال فترتنا الجامعية في كلية التجارة والاقتصاد ، وقد فوجئت بوجود اشخاص أتذكر ملامحهم . . دون أن تكون هناك علاقة تربط بيننا – فتحت هذه الأيام دعوات عزومه لي وسهيل ، وبدأت تصل مكالمات خاصة بي – لأول مرة – من أناس يعرفون بأنفسهم لا اعرفهم ولكنهم يعرفوني – الغريب أن اجد ممن التقيهم صدفة أو يتصل طالبا أنهم فوجئوا بوجودي و . . يذكروني بمعرفتنا الوطيدة من قبل . . من المراحل الدراسية لما قبل الجامعة ، او كانت تجمعنا العابا او هوايات خلال فترتي الطفولة او المراهقة – لم انسى السؤال عن مشفى القوات المسلحة في المعادي و . . حديقة الحيوان في الجيزة ، لمسألة ترد في ذاكرتي من الطفولة مع والدي ، حين جاء بي في رحلة علاجية . . حين كنت مصابا بالشلل الكلي - بعد طبع خارطة الشوارع ومتصلاتها مع بعضها و . . ما يتفرع عنها بنوع من التخمين ، المرتبط بفترة وجودي بأيام قليلة تحكم أن تكون معرفتي ضئيلة بها - جمعت المعالم والاشارات للتنقل وحدي ، لرفع ثقل تحركي ووجودي على سهيل ، وأماكن قضاء وقتي خلال اليوم ، من المقاهي لتجمعات المثقفين والأخرى التي يتواجد فيها اليمنيين والمسارح ومطعم الوجبات اليمنية – لم يقصر سهيل من اعطائي من ان لآخر مصروف جيب ، خاصة عندما وجد في بضعة أيام قليلة بتحرر حياته الشخصية من الانشغال بي ، ولم يعد يجد شعور ضغط الاحراج الكبير المتكرر من عامر – وجدتني دون وعي مني خارجا عن خرم الابرة التي انغلت على عالمي ، كل يوم مفتوحا ما دمت فارغا كليا – كنت اتعرف على طلاب يمنيين في كافتيريا الجامعة لكلية الآداب ، وحين الى محاضرته اتزور في رواق الجامعة بين الكليات المختلفة مع من يتبقى ولديه فسحة وقت من الفراغ – تعرفت على إجراءات الدخول ، فتارة تكون بوابات الجامعة مفتوحة وأخرى يقف امامها ضابط امن يطلب عرض البطاقة الطلابية أو تبرير الدخول – كنت اعرض جوازي ووثيقة من التي الاوراق التي حملتها معي اثناء مغادرتي من اليمن ، والتي تضم اسمي بين اخرين كمرشح مبتعث للدراسة العلياء في مصر – وهي واحدة من عشرة ترشيحات من جهات رسمية متعددة في اليمن لابتعاثي الى بلدان مختلفة من العالم ، منها بريطانيا ، أمريكا ، تشيكوسلوفاكيا ، المجر وسوريا – متذعرا بكوني جديد ولم تكتمل إجراءات استلامي البطاقة من إدارة الجامعة ، وهو امر مألوف . . أن تجد عند المستجدين واحيانا من قضوا عاما كاملا ولم يستلموا بطاقتهم الطلابية (الكارنيه ) .

زيارتي بين حين لآخر الى جامعة القاهرة ، كانت تتوقف على برنامجي النهاري لليوم الواحد - إذا ما كان يبتدئ بالذهاب الى الجامعة أم يخلو من هذه الزيارة - الذي اعده بعد مغادرتي الصباحية . . قبل صحيان المتواجدين في الشقة من الليلة الماضية – عند جلوسي على احد المقاعد المتوزعة على جوار ثلاث طاولات خشبية قديمة على وضعت خارج المقهى الشعبي على الرصيف . . جوار العمارة ، ارتشف كأس البن الثقيل بتأني ثم يليه كاس شاي مخمر - ما لحظته . . أن الجدول الدراسي لسهيل وعلي يكون غالبا بعد الواحدة ظهرا ، ولذا تجد صحوهم عند الحادية عشرة عادة . . ونادرا في وقت ابكر من الصباح . . إذا ما كان لدى احدهما موعدا او التزاما عليه أن يفي به – كان ذهابي المتكثف في البدء الى جامعة القاهرة قد خلع عني جزءا كبيرا من شعور الضياع والغربة – كنت اجد نفسي كما كنت خلال دراستي الجامعية او السنوات اللاحقة بعدها ، التي لم تقو كل الظروف والعوامل على قطع ارتباطي بالجامعة ، بعد منع تعييني فيها . . وتعييني في وزارة التربية كمدرس ممنوع من التدريس ، او عند دراستي في المعهد البريطاني كمتفرغ مرشح على منحة لأكثر من عامين ، ما أن نغادر المعهد الثانية عشرة ظهر ، تقودني قدماي الى الجامعة - اتنقل بين اقسام كلية العلوم و . . خاصة قسم البيولوجي ، في حضور بعض المحاضرات المقامة في المدرجات ، حتى لا يتنبه احد لوجودي ، وتارة في التعرف على الأساتذة والتحادث معهم في مفاهيم او إشكاليات علمية ادعي انها تأخذ جل اهتمامي كمواضيع لدرجتي الماجستير والدكتوراه ، مع الإشارة بتحديد دراستي من التعليم العالي في القسم لديهم من بدية العام القادم ، واني الان أهيئ نفسي للتكيف مع الجامعة واجوائها ، وفي أوقات أخرى اتخذ ذات المسلك في الآداب ، في دراسة الفلسفة ، الاجتماع ، الادب الحديث ، او كلية التجارة في محاضرات الاقتصاد السياسي ، واستغل محادثات نقاشية مع المحاضرين بعد الدرس اذا ما كانت هناك أمور مشوقة تحضرني من قراءاتي السابقة – وبذات التذرع بتعريف نفسي طالب دراسات عليا في المجال – كانت كثير من مناقشاتي تجذب الأساتذة فيتواصل تفاعله على حساب فترة راحته من دخول المحاضرة الثانية – كلما كان شغفي يأسرني ، اجد نفسي اطوف في المعارض لكلية الفنون للرسم التشكيلي ولمختلف اقسام كلية العلوم الطبيعية ، ولا اخرج إلا بعد منتصف النهار – وفي الأيام التي لا تسحبني الجامعة اليها ، كعادتي أحمل حقيبتي بالوثائق التي احتاجها خلال برنامجي اليومي ، تكون الحقيبة اكثر حملها من الأوراق الفارغة التي استهلكها في الكتابة . . في الأماكن التي اجلس فيها لساعات النهار حتى الخامسة عصرا ، اظل اكتب لساعات طويلة واتأمل فيها ، في موضع يسمح لي الانفراد مع نفسي ، ومراقبة العالم حولي المتحرك امامي بصورة شبه صامتة لا تخلخل من خلوتي – كنت دائما انتقي المكان الذي اقيس تأثير سحره علي ، من الأشجار الوارفة والامتداد العشبي الأخضر واصوات الطيور الحرة في تنقلاتها ، وغالبا أن يكون في امتداد بصري مجرى ماء او بحيرة . . او اسكن في وسط او حد منها ، وليلا حيث اضاءات المصابيح تنير مكاني بشكل شاحب و . . وما تصل الي من الانوار المتوهجة في عالم القاهرة ليلا ، خاصة في المواضع التي احل فيها بإطلالة على النيل وانعكاس الانوار على صفحته في حال مناقض لتكاسل هبوب نسماته الباردة وحالة الحركة الشبحية للقوارب الشراعية . . عند لحظات تعب العبارات وكل المصادر التي تنوح منها صراخ الأغاني المتداخلة بشكل فوضوي – إنه ذات عالمي الاسر لي في حياتي الماضية في بلدي ، الذي اعتدت التواجد فيه و . . اخلقه بنفسي في بعض الأحيان ، بما فيها اللمبة الخافتة وشرائط الأضواء الملونة الضعيفة . . حيث اغرق في وسطها ، ويكون مكتبي الذي اجلس عليه مواجها للعالم الخارجي ، اتقطع في النظر اليه من وراء زجاج نافذتي مع كل توقف لحظي من التأليف ، اراقب كل شيء ولا يراني احد ، وكل ما يصل منعكسا لدماغي صور حسية لعالم صامت . . يضج بالزعيق و . . لا يصل إلي .

قاومت تمزق نفسي بحدة . . على والدتي – كانت صورتها لا تفارقني لحظة وهي تجهش بالبكاء ليل نهار ، في كل مكان توجد فيه ، عند احاديثها مع الاخرين او في العصرية حين تقعد في زاويتها تسبح وتدعو لي واخوتي ، عند صلاة الفجر . . اراها امامي تبكي بقهر وتكثر الدعاء لله أن يحميني ويوقف لي أولاد الحلال للأخذ بيدي ، و . . أن يوفقني ويحقق لي املي في مواصلة دراستي لأرجع دكتورا عالما كبيرا – لا يفارقني وجهها الشركسي الأبيض المحمر المضيء وعينيها مغزلية الشكل بزجاجتيها الواسعتين بحلقة حدقية رمادية متشربة اللون السماوي الشاحب . . والدمع لا ينقطع عن حفر مجراهما على وجنتيها ، وهي تحاول مئات المرات على كتم واخفاء شهقات بكائها عن أولادها وهي واقفة في المطبخ تعد الاكل لإخوتي – من سيرعاهم ويحميهم في غيابك ، تعرف كل المؤامرات والاحابيل التي كانت ترسم لجر أي منهم للانحراف قصدا – كنت تقطع عنهم كل المسالك ، كنت شديد البأس معهم . . بما يظهرك دكتاتوريا قاسي القلب في التعامل معهم . . منذ عرفت نفسك في السادسة عشرة من عمرك . . بلا وجود حامي لكم ، ذقت المآسي ولم تجد احد جنبك يسندك ، خلقت انسانا انفعاليا متوحشا فيك للدفاع عن ضعفكم – كنت تحاكي ضربات القتال لبروس لي وفان دام – تستعيد لذة البطولات التي كانت تحكى لك عند طفولتك الأولى من ابيك او امك . . قبل المنام – ظلت تأسرك الشجاعة والاقدام لإنسان من اسرة فقيرة مستضعفة يواجه ظالم او متعجرف متسلط يهابه الجميع و . . ينتصر عليه امام انظار الاخرين – التحقت بأنواع مختلفة من الرياضة القتالية – كنت تمارسها بجنون قتالي في صالة التدريب ، وتعيد تطبيقها في حوش المنزل بعد ان يكون الجميع قد غفى في نوم ثقيل ، والعالم الخارجي المحيط غارقا في ظلمة صامتة – كان عليك أن تدفن شعور الخوف الذي ينتابك عند أي ظرف من النزاع – تخرج كل يوم مع تخفف حرارة الشمس بعد إتمام واجباتك المدرسية لتلتقي بالأصدقاء على احد المقاهي المشرعة على شارع 26سبتمبر او نهاية شارع جمال في تعز ، واحيانا على حافة تبه فندق الاخوة – كان شيئا يحفر فيك دون وعي ، يجعلك متنبها ممشطا لكل تفصيلية عابرة من سلوك الاستقواء يجري في المقهى او امتداد الشارع او التقاطعات خلال التمشي اليومي – لم تكن هناك غير الشوارع مكانا للتنزه – تجد نفسك مبادرا للضرب في عراك دفاعي عن ضعيف او فتاة تتعرض للتحرش بوقاحة – كانت روح التضحية تدفعك لاختبار نفسك للاشتباك مع شخص قوي البنية او ذا جثة كبيرة ، ويشد جذبك للمواجهة حين يكون المستقوي يحمل مسدسا أو جنبية او لوجود اخرين يقفون معه – عكست ما اسقطه على نفسك من تدريب جسدي اشبه بالتعذيب . . ليطال اخوتك الصغار ، الذين كان اكبرهم لم يتجاوز العاشرة واصغرهم الخامسة من العمر – كنت تشرف على أدائهم التدريبات ومشاق القهر الجسدي لساعات – كانت من الشدة أنها لم تمارس بحدها هذا في الوحدات القتالية الخاصة – على كل واحد من الاخوة أن يكون قادرا على مواجهة أي كان ، مهما كانت قوته او حجمه او . . كم كان عددهم – قاومت وجعي وحزني على والدتي . . من الاتصال بها خلال الأسبوع الأول من وصولي القاهرة ، رغم وعدي لها اني سأتصل ساعة وصولي – ادرك لو اني لم افعل ذلك ل . . كانت تموت مباشرة من القهر والحسرة . . أو تنشل في احسن الأحوال – وصلني صوتها المجهش بالبكاء من الفرحة لسماعها صوتي في يوم من الأسبوع الثاني – كيف انت حبيبي ، تأكل تمام ، مرتاح ، الله يوفقك ويكون معك وكيل ، لقيت خالك و . . خالتك – الله يفتح عليهم – ارتحت . . انك في الأمان و . . انك لن تضيع – ها . . خبرني ، اشتي اشبع من صوتك – لم يكن امامي إلا طمأنتها ، وأن خالي سيتدبر تسفيري على منحتي الى بريطانيا . . لكن المسألة تحتاج لوقت ، اكيد السنة القادمة ، وخالتي ما قصرت معي – انهم اصروا علي أن أقيم معهم ، وأن لا اخجل ولن يتركوني احتاج شيء – لكني يا أمي . . استحيت ، معهم بنات وانا فارغ ما يجعلني اتواجد في المنزل وخالي في العمل طوال النهار ، وتكون خالتي مقيدة من الخروج وتركي في البيت مع البنات . . وحدنا – اعتذرت لهما امي . . بأني أقيم مع صديق لي وانا مرتاح . . فلا يقلقوا علي ، ووعدتهم أن ازورهم من يوم لآخر – تصدقي يا أمي . . كم لقيت من الأصدقاء . كثير . . كثير ، و . , كلهم يتلقفوني من واحد للثاني أن أعيش معه – لا تقلقي ولا تبكي ف . . انا بخير وسعيد و. . كل شيء تمام – المهم انت اطمئني وارتاحي و . . ولا تبكي – افرحي . . وادع لي كثير ، فخروجي كان السبيل الوحيد لبناء مستقبلي ، وابعد عنك واخواني حالة الخوف . . الذي كنتم تعانون منه كل يوم – احبك امي – لا تقلقي اذا لا اتصل إلا بين فترات متباعدة ، وذلك لأنها مكلفة جدا – سلمي على اخوتي ونبهيهم على الاهتمام بدراستهم والابتعاد عن أصدقاء السوء و . . يحافظوا على انفسهم ويكونوا رجال . . كما عرفتهم – سلم على خالك وخالتك و . . قلهم امي تدعو لكم كل وقت – الله يحفظهم ويعطيهم الخير الكثير – انتبه لنفسك ، الله يحميك – الو . . الو – كان خط الاتصال قد انقطع ، فمدته الزمنية محدودة بالمبلغ المدفوع مسبقا . . . .


* * *
في جلستك تحت شجرة وارفة ، وضعت تحتك صحيفة الاهرام على الحشائش المبللة بندى ماء الصباح – كنت خلال تجولك في مسارات حديقة الجيزة ، كعادتك حين يرد زيارتها في برنامجك لذلك اليوم ، تكون ضمن اول جماعة تدخل مع موعد فتحها الصباحي للجمهور ، تاركا لحالتك الشعورية أن تتماهى مع المساحات المخضرة . . المنتشة بفصل الربيع ، باحثا عن موضع زاوية تطل على مشاهد متنوعة تبصرها من تفاعل حي من التنوع البشري ، العائلات في افرادها بأعمارهم المختلفة ، لهو الأطفال في عالم يخصهم لا علاقة للكبار به ، العشاق في جلساتهم التركنية المنكشفة عفويا في طبيعة الجلسة المتقابلة . . القريبة لالتصاق الوجهين أو المتجاورة بالتحام الاكتاف . . المنزلقة بين حين لأخر لاحتضان صدر احد الحبيبين للآخر ، ولا يخلو تلك الاريحية من المداعبة البريئة ، التي تظهر حالة الاهتمام والهيام و . . وتارة كنوع من المشاكسة المصحوبة بالضحك . . الدافع الى التلامس والابتعاد اللا شعوري ، وينعكس في دماغك ما لم يهتم به غيرك . . ذلك التفاعل السحري بين مختلف الزائرين بمصممات البيئة الخضراء وأنواع الحيوانات المختلفة ، ويزيدك تشبعا أصوات الطيور المتنوعة المستوطنة ربيع الحديقة – خارج العرض الرسمي - بين أعالي الأشجار واغصانها أو على الحشائش المضمخة برائحة الطين المعتق و . . جوار الشجيرات الصغيرة ، ولا يفوتك من حين لآخر رؤية العصافير الصفراء الترابية صغيرة الحجم وهي في مطاردة سباقيه التحدي مع فراشات هنا او هناك – تنتقي زاويتك المفتقرة وجود مقاعد للجلوس أو أماكن خدمات للزائرين ، بعيدة عن التجمعات وعن اقفاص الحيوانات – تكون خلال تجولك الباحث قد مررت على تفاصيل صفحات الجريدة ولم يستوقفك غير موضوعين على الأكثر ، نزعت الصفحتين المحتوية عليهما وعطفتهما بجانب صحيفة الأهالي الذي صدر عددها باكرا – غير عادتها في التأخر . . بسبب الرقابة ، التي غالبا ما ترجع العدد من المطبعة ، لإلغاء موضوعا واستبداله باخر لا اعتراض عليه لإجازة طباعة العدد رسميا ، واحيانا لا يخرج عدد الجريدة . . حتى بعد عدة أيام من موعد نزو لها المعتاد ، وهو امر قد عرفناه في اليمن من سنوات ماضية ، لكونها صحيفة لها قراء كثيرون من اليسار اليمني - تبدا التصفح السريع خلال ارتشافك الشاي المصبوب من البراد الصغير ، بعد تعديل جلستك بإسناد ظهرك على جذع الشجرة ، ووضعت قلميك ورزمة الارواق المثقلة بحجرة فوقها . . تجنبا لتطايرها مع هبة الرياح - هي فكرة نفذتها من اليوم الثالث من بدء عملك على برنامجك النهاري في شراء براد الشاي ، تحمله متى لا تكون هناك زيارة الجامعة او تلبية دعوات عزومه أو أماكن لقضاء أغراض . – تملأه بشاي اللبتون الحار المركز قبل مغادرتك المقهى جوار عمارتك السكنية واحكمت غلق فتحة رأسه بالغطاء ، وقد ابتعت كأسا زجاجيا صغيرا . . تضعهما في حقيبة يدك ، في خانة مفصولة بحاجز جلدي عن ملف الوثائق واوراق الكتابة .

مسحت كل ما يقع على بصرك من المعالم المحيطة بك . . لبرهة من انتهائك من قراءة الجرائد ، لا تحضرك هواجس او إلهام او . . حتى أفكار تحرك قلمك – رغم ضجيج ازدحام دماغك بالكثير من المواضيع والأمور التي يجب عليها الخروج على الورق – كعادتك الدائمة – وإلا تظل نفسك قلقة يعصف بها الضيق وانعدام التوازن . . يستبد عليك الحزن مجددا ، يستثير شدة تحسسك وانفعالاتك وحنق من الاخرين . . لأتفه قول او سلوك . . يكون غالبا غير مقصود . . حتى تسيطر عليك سوداوية العالم . . لتسقط في دوامة فجيعة تساؤلك لماذا انت دون الاخرين . . يطالك الأذى من كل جانب ، ولم تأتي امرا قبيحا . . حتى تحصد المآسي طول عمرك – لعنة الله عليها حياة ، لعنة الله عليه زمن ، لعنة الله عليك وطن – تريد له الخير و . . يريد لك الموت أو المهانة . . .

تركت مجلسي واشيائي متروكة فيه ، بما فيها البالطو الصوف الأسود الذي ارتديه لتقلبات الجو نحو تزايد البرودة ، سرت على الممرات ذات المشاهدات المختلفة . . ملامسا لها بتمعن وذهني شارد في نفس الوقت – كنت ألاحق أمورا في ذهني . . غير واضحة المعالم ، لكن لا يستوقفني شيء – اطلت التجول لما يقارب الساعة في محاولة لاستدعاء . . حتى شبه ملامح شبحية لفكرة . . اسقط اول كلمات عنها في الورقة البيضاء – إني اعرف طبيعة دماغي – ينساب القلم دون توقف . . بهندسة معمارية شديدة التعقيد في تصميم بناء تلك الفكرة التي لم تكن واضحة . . بسلاسة تامة – لا شيء البتة ، وجدتني اوضع ظهري مجددا بإسناد ظهري على جذع الشجرة خلال جلستي ، صببت كأس شاي ، حملقت في السماء . . والاحق اهتزازات الاغصان العليا للأشجار عند هبوب تيارات هوائية تراقصها ، وأخرى زقزقة عصافير تتصارع فيما بينها ، فيستقر بصري على صحيفة الأهالي – لا اعرف لماذا . . فقد انهيت تصفحها من قبل ولا يوجد ما يستدعي قراءته – طرأ تذكر سابق ، لحديث تم التفكير به في جلسة خاصة كانت بيني ورفيقاي علي الذبحاني والشميري . . بعد اختمار ضرورة فكرة الهروب الى مصر أو سوريا عبر مصر – التي لم تكن لها رحلات مباشرة من اليمن الشمالي بفعل المقاطعة بين البلدين ، وبالمثل من الجانب الاخر لا وجود لرحلات طيران مباشر بين اليمن الجنوبي ومصر . . بسبب المقاطعة ، فمواطنين من جنوب اليمن يطلعون الى الشمال للسفر الى القاهرة ، والعكس لم يذهب الى سوريا عبر مطار عدن كرحلة مباشرة . . وهذا للمواطنين الاعتياديين ممن ليس لهم أية شبهة امنية من الطرفين – ما دمت في كل الأحوال ستذهب الى القاهرة – إذا لم تجد فائدة من خالك لتدبير منحة لك . . وهو امر متوقع . . طالما يعمل مع النظام الحاكم في الشمال وسيكون مضغوط تحت أوامره – هو ما أشار اليه الذبحاني – تردد على مقهى ريش . . فهو مكان التقاء لكثير من المثقفين المصريين ، واذهب الى التجمع الوحدوي - اطرح وضعك ، ستجد هناك من كبار الرموز الوطنية – الذين نعرفهم اسما بمؤلفاتهم او كتاباتهم في الأهالي او المجلات العربية التي كنا نواظب على متابعتها – سيجدون لك مخرجا ل . . لاستكمال دراستك العليا في مصر او غيرها – واذا لم يحدث ذلك ، لا تطيل وجودك في مصر ، استغل تذكرة العودة من مصر الى اليمن . . بتحويل خطها الى دمشق . . استكمالا للفسحة في اجازتك ، وستحجز الى اليمن من دمشق – عند وصولك دمشق . . مباشرة تصل الى سفارة الجنوب وسلم وضعك لهم لإرسالك الى عدن ، وتحرك الى اتحاد الطلاب العرب والعالمي ، اطلب مقابلة البكيلي ، ممثل اشيد هو السكرتير فيهما . . واطرح قصتك والوثائق التي معك ورغبتك بتسفيرك الى عدن . . عبر سفارة الجنوب في دمشق – دونت على الصفحة الأخيرة من دفتر الملاحظات زيارة ( حزب التجمع ، مقهى ريش وسط البلد ، السفر الى دمشق . . كمحطة أخيرة ) – وضعت ملاحظة هامة بعد ثلاثة نجوم وتحت اللفظ خطين داكنين ، وكتبت . . تدرج الاولى والثانية بشكل متكرر ضمن مخطط البرنامج النهاري بزمن مسبق – تنفست الصعداء ، وبدأ يسري في عروقي رغبة جامحة للحياة و . . شعور لذيذ من الغبطة والسرور – إذا بقلمي لا شعوريا يرقص كتابة بتسارع غريب على الأوراق البيضاء غير المخططة التي خصصتها للتأليف – صفحات تلو صفحات دون توقف – كانت بين قصائد لنثر شعري وأخرى لسرد قصصي . . يستكمل حالة الانسياب اللاشعوري في الكتابة – امتع اللذات التي اشغف بها ، الى جانب لذات الحسية – الروحية أخرى تتنافس معها بتداخل وتقاطع بسقوفها العالية شديدة الحدة ، تشكل ثالوث هرمي التكوين ، يخلق من داخلي حالة مثالية من السعادة ، الرضى وتحرر الذات في العيش والتمسك بالحياة . . حتى في محيط مظلم ينازع بقاءك ، ويسد عليك المنافذ من كل صوب .



#أمين_أحمد_ثابت (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية ( هروب . . بين المضيقين ) / الحلقة ( 5 )
- من قصيدة ( للشحاري . . يوسف عن أبي )
- رواية ( هروب . . بين المضيقين ) / الحلقة ( 3 & 4 )
- رواية ( هروب . . بين المضيقين ) / الحلقة ( 2 )
- كشف مترائيات العلمية والنقد العلمي (2- ج)
- رواية ( هروب . . بين المضيقين ) / الحلقـــــــة ( 1 )
- كشف مترائيات العلمية والنقد العلمي (2- ب)
- حنين . . في زمن مبكر / أغسطس 1984م.
- كشف مترائيات العلمية والنقد العلمي (2-أ)
- مترائيات العلمية والنقد العلمي - الانتهازيات وقيم السوق
- النخب العربية واوهام تحرير العقل ( 3 )
- النخب العربية وأوهام تحرير العقل ( 2 )
- وطن متلون بالجنون
- متوازنة قوانين الوجود والحياة بين مفهومي العبثية والضرورة ( ...
- رؤية شخصية حول عبثية الوجود والحياة ( 2 )
- الوجود . . إشكالية لم تحل بعد
- النخب العربية وأوهام تحرير العقل ( 1 )
- حب وخوف . . عليك
- للمدينة - مثلي - سؤال
- لك وطن . . اخترعتهفيك


المزيد.....




- نواف سلام بمعرض بيروت الدولي للكتاب: مستقبل الأوطان يُبنى با ...
- -باريس السوداء-.. عندما كانت مدينة الأنوار منارة للفنانين وا ...
- رحيل الفنان أديب قدورة.. رائد الأداء الهادئ وصوت الدراما الس ...
- معرض الدوحة الدولي للكتاب يناقش إشكاليات كتابة التاريخ الفلس ...
- الروائي الفيتنامي الأميركي فييت ثانه نغوين: هذه تكاليف الجهر ...
- وفاة الشاعر العراقي موفق محمد
- دور النشر القطرية.. منصات ثقافية تضيء أروقة معرض الدوحة الدو ...
- على -أرجوحة بالي-.. تواجه الممثلة تاراجي بيندا هينسون أكبر م ...
- قريبا.. صدور -تاريخ الدولة الروسية في قصائد- للشاعر الروسي إ ...
- فنانون يجسدون شعار -من النقش إلى الكتابة- في معرض الدوحة الد ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمين أحمد ثابت - رواية ( هروب . . بين المضيقين ) / الحلقــــــة ( 6 )