التكتوكر Gerrard والعوالم الرقمية

عبد النور إدريس
كاتب
(Abdennour Driss)

الحوار المتمدن-العدد: 8262 - 2025 / 2 / 23 - 09:29
المحور: الادب والفن
    

الحلقة رقم 14
للقاص عبد النور إدريس

1- استهلالات غير مشفرة
في صخب الزمن الذي يتراقص بين الحضور والغياب، تتكثف الرؤى كأنها طيف بارمنيدي، ثابت لا يلين، أو كجدلية هيراقليطية تسيل بين الأصابع. هكذا، نقف عند تخوم الذات، حيث تنعكس الهويات كمرآة نرسيسية، نصفها وهْمٌ ونصفها إدراكٌ متأخر.
حينما نبحث عن المعنى في غياهب العبث، نجد أنفسنا أمام سؤال كامو الأبدي: هل نتمرد، أم نرضخ لوهم المصفوفة؟ إنه الرقص ذاته فوق هاوية نيتشه، حيث الإيقاع يحدده الجنون، أو ربما السوبرمان المتحرر من قيود الأخلاق التقليدية.
في مهب السؤال، تتداخل الكلمات كما لو أنها أصداء لكانتKANT، تحاول أن تقبض على مفهوم الكينونة في فراغ الوجود. بين ديكارت وهايدغر، مسافة تتيه فيها الذات بين يقين "أنا أفكر إذن أنا موجود" وبين قلق "الوجود نحو الموت"، وكأن كل فكرة تنسج خيوطها في نسيج الكوجيتو، ثم تتمزق تحت وطأة العدمية.
ولكن، ماذا لو كان الوجود ذاته أكثر تعقيدًا مما نتصور؟ ماذا لو كان عالمنا مجرد شظية في فسيفساء عوالم متعددة، كما تخيل ليبنتز حين تحدث عن "المونادات" التي تعيش في انسجام مسبق، كل منها كون مغلق على ذاته؟ أو كما رأى إيفريت في تفسيره للعوالم المتعددة، حيث تتفرع الاحتمالات إلى ما لا نهاية، ويتجسد كل خيار لم نتخذه في كون آخر، موازيًا ولكن غير مدرك؟
هنا، يصبح السؤال أكثر حدة: هل نحن مقيدون بهذه التجربة الوجودية أم أن ذواتنا تتكرر في متاهة الأكوان؟ هل لحظة الاختيار وهم، لأن كل الإمكانيات تتحقق في أبعاد أخرى، أم أن وعينا ذاته عتبة تفصل بين واقع وآخر؟ إذا كان نيلز بور قد رأى في مبدأ التكامل أن الجسيم يوجد في حالات متعددة حتى نرصده، فهل نحن أيضًا احتمالات نرصدها فقط بوعينا المحدود؟
يتراءى لنا العالم كحلبة عبثية، حيث يتكرر الصراع السيزيفي بلا مفر، نرفع صخرة الأسئلة، فتنزلق من جديد، غير أننا نوقن أن اللاجدوى ليست إلا قناعًا آخر للمعنى المختبئ في التفاصيل. ربما لهذا قال سارتر إن الحرية جحيم، لأننا محكومون بأن نختار، حتى حين نختار اللااختيار.
لكن، في خضم كل هذا التمزق، يبقى هناك أثر، بصمة تشبه صرخة ديوجين في السوق، أو رقصة زرادشت على قمة الجبل. هل هي الحقيقة؟ أم مجرد ظلال أخرى على جدار أفلاطوني، تتبدل بتبدل الضوء؟ ربما في عالم آخر، يجلس أفلاطون ذاته متأملاً في كهف مختلف، يتساءل إن كانت ظلالنا هي الحقيقة الوحيدة التي يمكنه رؤيتها.
2- عالم المينافيرس
في ردهات الميتافيرس، حيث تتداخل العوالم الرقمية مع الإدراك البشري، كان NOURI19 ، الباحث الرقمي والمفكر في تأثيرات التكنولوجيا على الوعي، يعقد نقاشًا فكريًا مع Gerrard، الخبير في الأنظمة المعلوماتية وصديق دربه القديم. كان نوري يسعى إلى إعادة تشكيل الفكر الفلسفي في ضوء التطورات الرقمية، مستكشفًا كيف تغير الخوارزميات والتفاعل الرقمي مفهوم الهوية والوجود.
NOURI19 (بهدوء وتأمل): "Gerrard، هل فكرت يومًا في أن الخوارزميات ليست مجرد أدوات تحليلية، بل هي أشبه بكوجيتو رقمي جديد؟ كما قال ديكارت "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، فإن خوارزميات اليوم تقول "أنا أقترح، إذن أنا أوجِد". منصة مثل "تيك توك" لا تعكس فقط ما يريده المستخدمون، بل تُعيد تشكيل وعيهم، تدفعهم إلى نمط محدد من التفكير والتفاعل. أليس هذا تحوّلًا في مفهوم الوجود نفسه؟"
Gerrard (يضع كوب القهوة جانبًا): "نوري، أنت تطرح إشكالية عميقة، ولكن هل يمكن مقارنة هذا التأثير بالتحولات الفلسفية الكبرى؟ سقراط كان يحث الناس على التساؤل، وكان يرى أن الفلسفة تبدأ عندما ندرك جهلنا. أما اليوم، فإن تيك توك يخلق وهم المعرفة، إذ يمنح المستخدم انطباعًا بأنه يفهم العالم من خلال مقاطع قصيرة، في حين أنه ربما ينجرف في دوامة من التلقين غير الواعي."

NOURI19 (يبتسم بعمق): "تمامًا، وهنا تكمن معضلة "الانغماس الاصطناعي". أفلاطون تحدث عن الكهف، حيث يعيش الناس في وهم الظلال، غير مدركين أن هناك حقيقة أعمق وراءهم. لكن اليوم، لم نعد مجرد سجناء للظلال، بل نحن مشاركون في صناعتها. نحن نبني واقعًا افتراضيًا داخل الميتافيرس، نعيد تشكيل وجودنا، ولكن من منظور تحدده الخوارزميات، لا وعينا الذاتي."
Gerrard (بتعبير جاد): "لكن أليس هذا امتدادًا طبيعيًا لتطور الفكر البشري؟ منذ أن ظهر نيتشه وأعلن "موت الإله"، دخل الإنسان في مرحلة إعادة تشكيل قيمه ومعاييره. ربما نحن الآن أمام "موت الواقع"، حيث لم يعد هناك حقيقة واحدة، بل حقائق رقمية متعددة تتداخل وفقًا للخوارزميات والذكاء الاصطناعي."
NOURI19 (يتكئ على مكتبه الافتراضي): "هذا هو جوهر السؤال صديقي Gerrard. عندما تحدث هايدغر عن التقنية، رأى فيها قوة تهدد جوهر الإنسان، إذ تحوله إلى مجرد "مورد" ضمن منظومة إنتاجية. تيك توك والميتافيرس ليسا مجرد أدوات ترفيهية، بل هما أنظمة تعيد تعريف علاقتنا بالزمن، بالهوية، وبالوجود ذاته. لم نعد نعيش وفقًا لسيرورة تقليدية للوقت، بل أصبحنا خاضعين لإيقاع رقمي تحدده الخوارزميات."
Gerrard (يفتح جهازه اللوحي ويعرض بيانات تفاعلات المستخدمين على تيك توك): "انظر هنا يا نوري. هذا الرسم البياني يوضح كيف تؤثر الخوارزميات على مدة بقاء المستخدمين. إنهم يظنون أنهم يختارون، لكنهم في الواقع يُوجَّهُون. كلما زاد الوقت الذي يقضيه المستخدم، زادت التوصيات المشابهة التي يتلقاها. إنها حلقة مغلقة."
NOURI19 (يتأمل البيانات): "هذا يعيدنا إلى مشكلة الإرادة الحرة التي ناقشها سبينوزا. هل نحن أحرار في اختياراتنا داخل هذه المنصات، أم أننا نعيش وفق نظام مسبق التحديد؟ إن فلسفة الهوية الرقمية يجب أن تكون جزءًا من النقاش الفلسفي المعاصر. علينا أن نعلّم الأجيال القادمة أن التفكير النقدي ضرورة في مواجهة تدفق المعلومات، وأن العالم الافتراضي ليس مرآة صادقة دائمًا، بل هو بيئة يتم التلاعب بها بعناية."
3- على سبيل الانجراف
هكذا انهى NOURI19 الحوار وهو يرغب في تشكيل الفكر الفلسفي ليشمل العوالم الرقمية الجديدة. حيث لم يكن هدفه مجرد فهم تأثير التكنولوجيا، بل إيجاد طرق لدمجها مع القيم الإنسانية، بحيث تصبح أدوات مثل الذكاء الاصطناعي والميتافيرس وسائل لإثراء الفكر البشري، لا تحجيمه. لقد بات واضحًا أن الفلسفة الرقمية ليست رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية في عصر تتشكل فيه الهويات عبر شاشات رقمية وحدود خوارزمية.

#عبد_النور_إدريس (هاشتاغ)       Abdennour_Driss#          

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل