فراس الوائلي
الحوار المتمدن-العدد: 8237 - 2025 / 1 / 29 - 09:58
المحور:
الادب والفن
في الليلة التي انبثقت فيها الظلال من رحم الغياب، قبل أن تلد النجوم أسماءها، حين كان الصمت جنينًا يتلوى في عتمة الفراغ، وقفت هناك امرأةٌ كأنها الفتنة الأولى، بداية السؤال ونهايته المراوغة. ليليث، الاسم الذي انسلت به الريح كتعويذةٍ مسروقة من فم الإلهة، الجسد الذي لم يُطوع في أفران الطاعة، بل انحنى الزمن عنده كعبدٍ خاشع. كانت من التراب، مثله، لكنها لم تُلقِ بثقل الجسد على الأرض، بل رفعت رأسها ليواجه الكون كعاصفةٍ تأبى الانكسار.
قالت لآدم بصوتٍ يشبه لهيبًا يلتهم الظل: “أنا لست ضلعًا مكسورًا، ولا انعكاسًا باهتًا لصورك. أنا التراب الذي يرقص حين تُثيره الرياح، والنور الذي يعبر العتمة دون أن يتلاشى. أنا الغواية التي تمنحك المعنى، والعتمة التي تفضح ضوءك الزائف.” لكنه أرادها أن تكون مرآةً مطفأةً، ظلًا يتبع خطواته. فهربت…
خرجت من الجنة كصرخةٍ تمزق الحجب، تركت خلفها أشجار الخلود متشابكةً كأصابع التردد، تتساءل: كيف للمرأة أن تكون ماءً ونارًا في آن؟ كيف للغضب أن يصبح لغةً تحفر على الأبدية؟
في براري الليل التي لا تعرف شمسًا، عانقت الريح كأختٍ وأعلنت الظلام أبًا، تعلمت من السكون كيف يزأر في قلب الهدوء، ومن البحر كيف تُخفي الأعماق أنيابها. هناك، حيث النجوم ترتجف من وطأة الظلال، نسجت ليليث لغةً بلا صوت، خيوطها من الغواية وأوتارها من التمرد. صنعت مملكةً من الحكايات الملعونة، مملكةً تسكنها الأرواح التي رفضت الانصياع، ورقصت هي كجرحٍ مفتوح على وجه العالم.
قالوا عنها: “ساحرةٌ، عاهرةٌ، أمّ الأرواح الملعونة.” لم يدركوا أن الغضب حين يثور ليس لعنة، بل أنشودة ولادة. لم يفهموا أن النار التي أحرقت خارطة الجنة لم تكن إلا بحثًا عن السماء الحقيقية.
وأنا أسمعها، صوتها يتسلل كهمسٍ مغرٍ في عروق الليل: “لا تخلطوا بين السلام والخضوع، ولا بين الكسر والانحناء. أنا الحكاية التي لا تُكتب، النشيد الذي لا يُغنى. أنا النار التي تعيد تشكيل الطين، والظل الذي يطارد الضوء ليكشف وجهه الآخر.”
ليليث، هي الأسطورة التي لا تموت، هي الجرح الذي علّم القمر أن يضيء وجهه المخفي، هي غواية الكون الذي ما زال يكتب أقداره على صدرها.
*ليليث: كيان أسطوري غامض يُجسّد التمرد والغواية والحرية المطلقة. في الميثولوجيا القديمة، تُروى قصصها كأول امرأة خُلقت من التراب مثل آدم، لكنها رفضت الخضوع، فهربت من الجنة وأصبحت رمزًا للرفض الوجودي والقوة الأنثوية المستقلة. في السرديات السحرية، تُصور كروحٍ تسكن العتمة، وكأسطورةٍ تتجدد في كل امرأةٍ ترفض أن تكون ظلًا.
ميشيغان
2025/1/29
#فراس_الوائلي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟