محمد رضا عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8182 - 2024 / 12 / 5 - 07:45
المحور:
السياحة والرحلات
هناك إشارة للفوضى الخلاقة في كتاب " الأمير ", لنيقولا ميكافيلي " ان النظام ينشأ من الفوضى" . معظم العلوم ( الفيزياء , الرياضيات , إدارة الاعمال والاقتصاد ) استعملت هذا مصطلح ومنهم أصحاب نظرية المنافسة الاحتكارية (monopolistic competition ) , الاقتصادي الأمريكي (Edward Chamberlin) و الإنكليزية (Joan Robinson) . معنى المنافسة الاحتكارية هو وجود اعداد كبيرة من مصلحة معينة ( مطاعم ) وظيفتها واحدة (تقديم وجبات الطعام), ولكن بأشكال مختلفة , او وجود العديد من الشركات التي تقدم منتوج واحد (تختلف في الجودة والعلامة التجارية والأسلوب والسمعة) وتتنافس مع بعضها البعض . وبحسب النظرية انه لا يبقى من هذه الاعداد الغفيرة في السوق الا من يحترم ذوق وإرادة المشترين , أي ان السوق يقرر من يبقى من الاعمال فيه ومن يرحل عنه . وهذا بالضبط ما يوجد في بغداد الان , انها تعيش في فوضى التعافي الاقتصادي بكل دقائقه . دعني أوضح الفكرة , حسب نظرية (Chamberlin و Robinson) لو كان هناك 100 مطعم يتنافسون في مدينة معينة , فان هذا العدد سوف يتناقص بمرور الزمن ولا يبقى منها الا المطاعم التي تقدم ما يعشقه الزبون . على سبيل المثال , بان يكون المطعم يقدم وجبات طعام لا احد يستطع استنساخها, او ان للمطعم مأوى للسيارات ولا يحتاج الزبون البحث عن مأوى لسيارته قد تأخذ منه نصف ساعة , او ان المطعم يحمل اثر تاريخي , او ان المطعم مشهور بخدمته للزبائن ,او مشهور بنظافته , او مشهور بديكوراته , او بحدائقه . طبعا هذه الاشكال من المطاعم لها الحرية في تقرير أسعار وجباتهم نظرا للخدمة الفريدة التي يقدمونها . بمعنى اخر لا يوجد شيء بلاش , الخدمة الفريدة تعطي لصاحب المطعم الحرية الكاملة بتعيين أسعار مأكولاته , وهو عكس المنافسة المطلقة.
وهذا تماما ما سوف تلاحظه في بغداد , اعداد كبيرة من السيارات الخاصة والاجرة , اعداد كبيرة من الصيدليات , البعض منها لا يستطع ما لكها دفع ايجارها الشهري , اعداد كبيرة من المطاعم الى درجة اصبح في كل شارع مطعم السمك المسكوف ( اكلة سمك مشهورة في العراق) الذي كنا لا ناكله الا ليلا و فقط في شارع أبو نؤاس , , دكاكين بقالة وعطاريه , ومحلات بيع الملابس .
ليس جميع أصحاب هذه المهن يعيشون في بحبوحة اقتصادية وانما اغلبهم يناضلون من اجل الإيفاء بالتزاماتهم امام عوائلهم فقط . لقد لاحظت ان مبيعات بعض هذه الدكاكين لا تغطي حتى وجبة عشاء صاحبها , وعندما تساله لماذا مصرا على هذه الحالة , يأتيك الجواب منه " لقضاء الوقت بدلا من الجلوس في البيت" او لعدم توفر عمل اخر . على المخطط الاقتصادي العراقي ان يفكر بمصير هذه الطبقة الف مرة . الثورات تخرج من بيوتهم كما نعرفها .
هذه الظاهرة ليست غريبة عن تجارب الأمم . جميع الدول التي نحسدها اليوم على تقدمها الحضاري والاقتصادي مرت بنفس التجربة . رسومات فترة النهضة الاوربية تكشف عن بعض أحوال الناس الكارثية في ذلك الزمن . لا يجوز على العراقي ان يمر بها , وعلى الحكومة استخدام ادواتها في التخفيف عن معاناة هذه الطبقة .
العراق في طريقه نحو استنساخ النظام الرأسمالي , مع بعض التعديلات عليه , منها على سبيل المثال بقاء مصالح الخدمات العامة ملك الدولة ( ماء , كهرباء , القطاع النفطي) . المنافسة في السوق هي الملازمة للنظام الرأسمالي وهي التي تقرر البقاء او الفناء للأعمال . سيكون الفناء للضعيف الذي لا يستجيب لمتطلبات السوق , والبقاء للذي يحترم إرادة السوق , أي يحترم سيادة الزبون او المشتري. بكلام اخر صائغ الذهب يجب عليه ان يبحث عن اخر الموضات ولا يبقى على ما كانت تقبله والدته .
ماذا لو تخلف احد صاغة المدينة عن توفير الموضات للمشترين ؟ ينحدر اعداد المشترين منه الى درجة لا يستطع دفع ايجار دكانه وفي الأخير يضطر الخروج من سوق الذهب ليعطي المجال الى مجوهراتي اخر الذي يوفر ما يرغب له المشترين . المنافسة الاحتكارية توفر للمشتري الجودة والخدمات ما بعد الشراء , تحقق رغبة المشتري باقتناء اخر تقليعات المودة , وبالمقابل تضمن للبائع قرار سعر منتجاته غير مكترث برد فعل البائعين لنفس المنتوج.
طبعا هذا الحديث ينطبق على اغلب الاعمال في العراق الان . من اجل بقاء صاحب بيع المجوهرات في السوق عليه بتفكير على كيفية تمييز نفسه عن الباعة الاخرين , وكذلك محلات بيع الملابس والاحذية , الأثاث المنزلي , الحلاقين , بيع الحلويات , وعشرات الاعمال الأخرى.
لا توجد احصائيات تتحدث عن اعداد الاعمال التي تفشل وسبب فشلها في العراق , ولكن الفشل جائز في جميع اقتصاديات العالم ومنها الولايات المتحدة الامريكية . فبموجب تقرير مكتب إحصاء العمل الأمريكي لعام 2024, فان نسبة الاعمال التي تفشل في سنتها الاولى هي 24.4% , 49.4% في سنتها الخامسة , و65.3% تفشل عند وصولها عشرة سنوات . حصة المطاعم هي 20.1% في السنة الأولى , 48.6% بعد خمسة سنوات , 65.4% بعد عشرة سنوات من افتتاحها.
اما اسبب فشلها فهي كثيرة ومنها عدم حاجة المستهلك للمنتوج , ضعف الحالة المالية , نقص الخبرات , المنافسة الحادة , كلفة الإنتاج ورخص السعر, فوضى الإدارة , ضعف إدارة التسويق , وعدم استطاعة خدمة المشتري. بالملخص هو ان الفشل الاعمال يأتي من عدم قدرة صاحب العمل الاستجابة لما يريده المشتري .
هناك الكثير من الأدوات التي تساعد أصحاب الاعمال الفاشلة الخروج من مازقه لا تتوفر في العراق , وهنا يأتي الدور الحكومي . الدستور العراقي يلزم الحكومة بتوفير العمل المشرف للمواطن العراقي. فتح المجال للشباب الى الانضمام الى المعاهد المهنية ( نجار , حداد , كهرباء , الماء , تصليح سيارات , تصليح أجهزة كهربائية), استقبال الاستثمارات الخارجية ولا سيما في قطاع الصناعات النفطية , تنظيف دوائر الدولة من الموظفين الفاسدين الذين يتعبون أصحاب الأموال من استثمار أموالهم في العراق, تقديم قروض بدون فائدة لرجال الاعمال الحقيقيين على ان تسترجع من الأرباح , ومنح قروض الى شيوخ العشائر ورجال الدين والعسكريين المتقاعدين من الذين دعموا التغيير و دافعوا عن الوطن ضد تنظيم داعش .
#محمد_رضا_عباس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟