أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - آرام كربيت - هواجس قديمة 327















المزيد.....

هواجس قديمة 327


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 8140 - 2024 / 10 / 24 - 15:02
المحور: قضايا ثقافية
    


في العام 1978 ذهبنا في رحلة عمل من الحسكة إلى حدود المالكية.
أنا وشاب كان يدرس هندسة مدنية في حلب، والمهندس عبد المسيح إيغو في سيارة للدولة.
كان المهندس عبد المسيح يعاني من كسر في قدمها اليسرى، ربما هذا كان ناتج عن مرض شلل الأطفال في فترة طفولته.
كان يعمل موظفًا في مؤسسة الإسكان، بيد أنه كان عصاميًا، صارمًا في عمله، ولطيفًا جدًا جدًا مع الناس.
لم اتخيل قوة روحه إلى هذه الدقيقة، صورته أمامي، كأنه ايقونة لها روح عظيمة، لا أستطيع نسيانه.
إنه أقرب إلى شخصية العجوز سنتياغو في رواية الشيخ والبحر لأرنست همنغواي، روحه وعزيمته هي التي كانت تقاتل وليس جسده الهرم.
كنا طلاب صغار في السن، في فترة التدريب على العمل قبل التخرج.
وصلنا إلى موقع العمل، بناء خزان ماء عالي، لكنه لم يكتمل، كان المطلوب من المهندس أن يستلم الخزان على العظم، قبل أن يصبو البيتون فوق الحديد.
المتعهد قال له:
ـ يا استاذ، كل شيء في العمل ممتاز، نفذنا المطلوب منّا حسب المواصفات الفنية الموجودة في دفتر الشروط الفنية.
لم يتكلم، وضع العصا الذي كان يتكأ عليا على جنب، وبدأ يزحف على بطنه ويتعرش على السلم الخشبي المعد على عجل.
كان يمتشق السلم بكل جسده ويسحبه سحب عبر يديه ليصعد مع لهاث وتنفس صعب جدًا.
كنت أنظر إليه وقلبي مركزا على قدميه، قدم مشلوله لا تتحرك والثانية يمرررها بصعوبة بالغة، الارتفاع كان عاليًا، روح عبد المسيح كان تطير بدلا من جسده، وكان يعتمد على يديه في الصعود.
وكنت أقول لنفسي، يا استاذي لماذا تفعل بنفسك هذا، هذا ارهاق وموت بطيء، استلم العمل، ووقع، وسينتهي كل شيء على خير، أنه مجرد خزان؟.
حقيقة، هذه الروح سيطرت علي، بعزيمته الجبارة، روح الأبطال العظماء في الاساطير العالمية.
وقفنا على سطح الخزان، بدأ يقرأ المخطط وما جاء على أرض الواقع ويقارن. والمتعهد يرقص أمامه كالكلب الذليل حتى يوقع على استلام العمل.
وبذات الصعوبة نزل، وبذات الاجهاء والروح الوثابة.
بعد أن انتهينا، تقدم المتعهد نحونا، قال لنا:
ـ استاذ، علينا أن نذهب إلى المطعم، نتغذى، جعنا، لم يتكلم، وافق بصمت. حجز المتعهد طاولة لأربع اشخاص، أنا والشاب، وللاستاذ إيغوا ولنفسه، قال:
اطلبوا ما تشاءون، كل ما تطلبوه يلبى.
تغذينا وشربنا وارتحنا، وعندما جاء الحساب انبرى المتعهد أن يدفع، مسك الاستاذ إيغو الفاتورة ودفع الحساب على الرغم عن الحاح المتعهد في الدفع، وسط ذهولنا، وكما هو معروف أن أغلبنا الأحيان عندما يكون بصخبة المتعهد هو الذي يدفع ليمرر الصفقة على حساب العمل.
لقد غادرتنا هذه الروح العظيمة في العام التالي، حزنت على رحيله، لكنه لا يزال ساكن في قلبي.

ما دامت الدول المركزية لديها القدرة على التكيف مع السوق العالمية وإدارتها، ستبقى العولمة مستمرة ومفتوحة الأبعاد، ولا تهدد بانهيار المنظومة الاقتصادية والسياسية العالمية.

الحرب اللامتماثلة: تصف حالتنا بشكل ممتاز
" عرف البروفيسور الأمريكي ماكس مايوراينج الحرب اللامتماثلة على الشكل التالي:
هي تلك الحرب التي تعتمد نقاطاً مختصرة وهي:
الحرب بالإكراه، إفشال الدولة، زعزعة استقرار الدولة ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح الأمريكية، ويتم زعزعة الاستقرار بصور متعددة غالباً ما تكون حميدة إلى حد ما، أي ينفذها مواطنون من الدولة العدو نفسها، وتلك الحرب لا تستهدف تحطيم مؤسسة عسكرية أو القضاء على مقدرات الدولة في مواجهة عسكرية، ولكنها تهدف إلى إنهاك إرادتها ببطء بعد نشر الفوضى في أرجائها. وفي تعريف أوضح، إنها تسخير إرادات الغير في تنفيذ مخططات العدو.
تقنيات الجيل الرابع من الحروب تستهدف النظام الذهني عن طريق خلق أنظمة ذهنية داخلية متناحرة علي جميع المستويات، تأخذ طابع حرب الجماعات الدينية أو حرب الجماعات المالية والاقتصادية، ومن الممكن أن تأخذ طابع حرب الجماعات العلمية المسوقة للتكنولوجيا، هذه الجماعات جميعها تخترق الفراغات الهائلة للتقنيات الحديثة وتحدث خسائر فادحة في الدول والمجتمعات "

الإعلام ليس حرًا كما يظن الكثير من الناس.
إنه سلطة رابعة.
وإنه يدور في فلك السياسات وتوجيهها بالاتجاه الذي يراد لها.
عندما يسلط الإعلام على ظاهرة سياسية ما أو نقطة محددة، فهذا توجيه مبرمج وهادف. بمعنى ليس بريئًا.
في السياسة لا يوجد شيء بريء أو متروك للصدفة.
الإعلام عمل خطير ومدمر، يوجه العقول ويصنع الرأي العام ويغير الأمزجة والأفكار والقناعات.
إنه عمل مركز ومدروس ولديه القدرة في السيطرة على الشعوب والمجتمعات البشرية وتغيير مسار تفكيرها ووضعه في المكان الذي يريده صانع السياسات.

اعتقد أن العرب لم يخرجوا من عقل وفكر وسلوك جمال عبد الناصر، والخطابات العنترية الفارغة.
لكننا استبدلنا الخطابات القومية الاستعراضية بخطابات دينية أكل عليها الزمن وبال وشرب.


الحرب بين إسرائيل وحماس، الحرب الوظيفية، فاتورتها الاقتصادية سيدفعه العالم كله.
سيتم نهب العالم عبر رفع الفائدة من قبل البنك المركزي الأمريكي كما فعلت في الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
وستأخذ هذه الولايات المتحدة ضريبة هذه الحرب، كالأسلحة الموظفة في الحرب، جميع آليات الحركة، من كل بيت في هذا العالم.
وسيتم تخفيض العملة الوطنية للدول الفقيرة، وستسرق الفوائض المالية على قلتها من الدول الناشئة كما يقولون، وسينتعش الاقتصاد الأمريكي وسيحط رحال المال في جيوب أصحاب البنوك وشركات السلاح، وتجار الموت والإعلام.
هذا البايدن العجوز، الخرفان أسهل إنسان للقيادة بواسطة اليهوديان، وزير الخارجية بلنكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان
وإذا ارتأت الولايات المتحدة أن دخول حزب الله في الحرب مفيد لها، لن تتوانى لحظة واحدة من دخوله، والعوائد ستكون أفضل لها ولإسرائيلها.
على العجوز المحطمة، أوروبا، أن تجهز نفسها لدفع تكاليف الحرب لإسرائيل ولسلاح إسرائيل وجيشها المناضل من أجل الحرية والديمقراطية، ديمقراطية رجال المال والأعمال والبنوك الأمريكية.
ويا مقاومين، يا بسطاء ومهابيل ومساكين، ماذا ستجنون من سلوككم البائس؟
قلنا سابقًا أن البطل المنتصر في الحروب المعاصرة بعد العام 2001 هو المال، والمال فقط.
زمن الانتصارات الوطنية انتهى مع نهاية الحرب الباردة والساخنة، نحن اليوم نعيش في زمن العري، ودر مؤخرتك لنرى دبرك بوضوح.

هذا العصر، عصر التخطيط والتنظيم، ومن لا يعرف هذا فهو يحكم على نفسه العيش خارج عالمنا.
أول أهداف التخطيط هو الحصول على عمل، بيت، تنظيم الأسرة، عدد محدود من الأطفال ، طفل واحد، بالكثير طفلين.
بناء الطفل نفسيا، تعليميا، هذا أول مهام الأسرة المعاصرة، أن لا يترك أي شيء للقدر.
زمان الأسرة العشوائي، عشرة أولاد في بيت متداعي، وكسرة خبز والأكل بصحن واحد انتهى.
هذه المجتمعات القدرية مصيرها إلى الزوال، وكل من يفكر برمي مصائبه على فلان وعلان مصيره الضياع.


إن مراوغة النص المراوغ، مراقصته، التلذذ به من خلال اللعب في جنباته ضرورة ورغبة ناقصة.
في ممارسته التورية والخفاء، والتعمية تكمن لذة مكثفة، لذة مكبوتة لا تستطيع الخروج إلى الضوء إلا من خلف الستائر المتخيلة.
أي أن بلوغ النشوة بالنص يتم بالتخيل، الذي هو نتاج العجز عن الوصول إلى الحقيقة.
إن النص المراوغ لا يستطيع أن يحرر الذات، بله يبقيها قلقة في حالة عطش دائم.

ما يثير الدهشة أن أغلب الأحزاب السياسية السورية فقدت بريقها ورونقها وتماسكها الداخلي والخارجي بعد وفاة حافظ الأسد.
نستطيع القول أن وجودها كله كان مرتبطًا بمرحلة سياسية واجتماعية قديمة، ووجود حافظ الاسد كرمز لمرحلة مهمة في تاريخ سوريا أعطاها حصانة التماسك والبقاء على قيد الحياة.
بموته خبأ نجمهم، بل أفل تمامًا،.
لم تستطيع هذه الأحزاب أن تواكب التحولات والتطورات العالمية، لهذا كانت تلعب في الوقت الضائع بعد العام 2000.
ولم تستطع أن تصيغ برامجًا سياسيًا أو ترتقي لتفهم ما يحدث من تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية في العالم لهذا كانت تختبأ وراء ظل حافظ الأسد ونظامه، وتجعجع في الطاحونة المشروخة ذاتها إلى أن جاءت أحداث آذار العام 2011 فكشف العري والكذب الذي كنّا فيه.
إن وضع الكثير من بيضهم في سلة الغرب أثناء وقبل وبعد إعلان دمشق كان ضروريًا، للخواء الذي كانوا فيه، فجاء الطلق خاويًا أو كاذبًا في نهاية العام 2011 أثناء المراهنة على حمل السلاح والتدخل الخارجي.

آرام كرابيت
قال: لقد حجزت لك جناحًا كاملًا في فندق امباسادور الراقي، الكائن في استانبول الجديدة. ثم أشار إلى الحوذي أن يأخذ الشارع الذي يؤدي إليه.
وساد صمت ثقيل بيننا حسبته دهرًا.
مررنا عبر شوارع استانبول الفاخرة، مدينة الأحلام والخيال، القداسة والزندقة، في امتزاج البحر بالسماء، والشرق في الغرب.
شيء ما لف روحي وأرخى بثقله فوق رأسي. أحسست بوجع الزمن والتاريخ، وعبير الناس العطرة، وروائحهم الكريهة يمرون فوق رأسي ويدخلون لبي. قلت:
ـ كرابيت. هذه ليست استانبول التي كونتها في ذاكرتي وعقلي.
ابتسم مضيفي بلطف وقال:
ـ وماذا كونت يا صديقي؟
ـ كنت اتوقع أن أرى الماضي: رائحة الاغريق، الرومان، محمد الفاتح، سليمان القانوني. فرسان وسيوف مصقولة، ومقاتلين على أهبة الاستعداد للدخول إلى ساحة المعركة. لم أر أي شيء من هذا القبيل. أحس نفسي أمشي في أحد شوارع برلين أو باريس أو لندن.
ضحك كرابيت وخرج عن انطوائه حتى كاد يغمى عليه. قال:
ـ دائمًا حساب القرايا لا ينطبق على حساب السرايا كما يقول المثل العربي. وأضاف:
استانبول في حلتها الجديدة يا مراد. أنظر، وأشار بيده اليمنى:
هذه أحياء شيشلي الذي يمتد على طول البوسفور حول ضاحية بيشيكتاش. ذلك القصر المتلألئ الذي تراه هو قصر دولمة بهجة، مقر السلطان. لقد تجاوزنا الأسوار البيزنطية. استانبول عالم قائم بذاته. ومهما حاولت الدخل في لبها أو معرفة جوهرها فستبقى عاجزًا عن الدخول إلى أعماقها. أنها امرأة جميلة في ذاكرة متموجة.
ثم ساد الصمت بيننا مرة ثانية.
عبر الساحل الطويل، الروابي التي تطل على البوسفور في اتجاه الشمال. عربات الترام المقطورة تمر، الجسر الذهبي الذي يربط المدينة القديمة بالحديثة، مشيدة بالسحر ويشد الأنظار. الخط السلكي للمترو الذي يقطع ويوصل أحياء جالاتا وبيرا ويرسم التباين بين الشمال والجنوب. الشوارع منارة بالغاز، وحدائق غناءة، وبنايات جديدة. وحي باي أوغلو الراقي، حي السفارات الذي فتح صدره لكل التيارات القادمة من الغرب: مسارح، بنوك، محلات تجارية. والطرف الآخر، المدينة العتيقة, الأقل دينامية.
بقيت عيناي مسمرتان على نافذة العربة، تأخذني إلى البعيد، أحلق في حاضرة السلطنة، الخارجة من حضن الزمن لتحط فيه. مدينة المضاربة، والانفتاح، وانقسام الذات على الذات. مدينة الكولونيال والكوزموبوليت بأيدي أبنائها، مزيج متجانس ومتباعد، متداخل ومتفارق: أرمن، يونانيين, يهود، أتراك وأجانب في تموضعها الطبيعي وثرائها التاريخي والإنساني. قلت في نفسي:
استانبول, عالم معلق في قرط، في ذاتها، في انزياحها عن نفسها وتداخلها في ذاتها. في ثرائها وزخمها وتموضعها الطبيعي وانفتاحها وانغلاقها.
جاء صوت كرابيت مشحونًا بالعاطفة فكسر رتابة الصمت الذي خيم علينا, قال:
سنسهر هذه الليلة هنا، في فندق امباسادور. نتعشى ونلتقي بكبار رجال المال والأعمال، أتراك وفرنسيين وأنكليز وألمان. يمكنك مد الجسور معهم وبناء علاقات عمل.
فجأة، بدأ وجهه يأخذ طابعًا جديًا، وأضاف:
ـ لدينا كل الإمكانات التي تجعلنا نتعاون، ونساهم في تسريع نهضة هذه البلاد وإخراجها من حالة السبات التي عاشتها. أنه وقت اليقظة والحلم. البلاد تتجه نحو تنظيم الإدارة وتسهيل قوانين الاستثمار والعوائد الضريبة واحتواء الولايات البعيدة، وضخ الحياة فيها، لتبقى داخل حدود السلطنة، وتحويل أغلب الناس في هذه البلاد من رعاية إلى مواطنين. ثم صمت قليلًا، وأضاف:
لدينا الكثير الكثير لنقوم به.
ـ من أين ستوفرون المال لتحقيق هذه الرغبة؟ سألته باستغراب!
ـ هنا مربط الفرس. سنحاول تأمينه من الضرائب والقروض. نستدين، نأخذ بعض المساعدات. بيد أن ما نخشاه أن تذهب الأموال التي يتم تحصيلها نحو الكماليات على حساب الحاجات الضرورية.
ـ هل هناك نية للتغيير في الأعلى.
ـ خفض صوتك. الأن، البلاد تتجه نحو العمران وبناء قواعد لها: مدارس، جسور.. باختصار سنبني بنية تحتية تمهد الطريق لبناء بلاد وفق أسس جديدة.
الحوذي يقود العربة في ظل الشوارع المنارة بالغاز إلى أن وقفت أمام بوابة فندق فخم وفق طراز الحديث.
تقدم حاجبان بلباس موحد وحملا حقيبتي. وأشار كرابيت للحوذي وأبنه أن يذهبا.
كان رذاذ المطر يتسلق سلالم السماء، برفق، فيضفي على الجو بهجة ويدخل الراحة على النفس.
دخلنا قاعة واسعة مضاءة بالشموع تزينها ثريات كبيرة، وشمعدانات مستوردة من فرنسا. وتحمل الكثير من القناديل، والأرض مفروشة بالسجاد الأحمر. ويحتل الممرات والغرف والصالات. وفي كل زاوية مرآة كبيرة من الفضة المصقولة جدًا.
سرنا إلى الصالة الكبيرة للمطعم. بهرني المشهد: لوحات فنية كبيرة معلقة على الجدران، تحت كل واحدة شمعدان ذهبي متعدد الرؤوس، وفوق كل مذنب شمعة كبيرة. كراسي وطاولات من الزان والسنديان. الفرش مستوردة. وبين الطاولة والأخرى أصيص ورد قطف للتو
وينبعث من المكان روائح عطور فرنسية، غالية الثمن. رجال ونساء يرتدون ثياب حديثة من أفخر الأنواع، حرير هندي ودمشقي، يجلسون تحت أضواء الشموع يتسامرون أو يستمعون إلى آلة البيانو والكمان، لعدة عازفين محترفين، يعزفون أنغام مآخوذة من النوتة: مقطوعات موسيقية شهيرة لشوبان، ليست بيتهوفن، وشوبرت. أنغام رومانسية وسينفونيات إبداعية تتناغم مع رقة الليل الاستنبولي وهدوئه.
اقترب النادل منا وأزاح الكراسي، وانحنى لنا لنجلس عليه، ثم وضع باقة ورد على الطاولة، وكأسين من بللور، وثلاث زجاجات: ويسكي وشامبانيا وكونياك.
رائحة العطور اختلطت مع رائحة الخمور، والنساء. الأضواء الخافتة أدخلت الهدوء إلى نفسي. النوافذ كبيرة تطل على حديقة غناءة. ومن بعيد طل علينا البوسفور معتمًا ومضاءًا يمد موجه بحياء وخجل، فيضطرب ويميل على خديه ووجهه، ويسترخي على جنباته وجزره وشواطئه الحزينة.
بعد أن جلسنا، ورأني كرابيت مبتهجًا سعيدًا، مسترخيًا، ناضحًا بالفرح والأمل، قال:
ـ هل أنت متعب من السفر؟
ـ لا، لا أبدًا. إنني سعيد. هواء هذه البلاد نقي جدًا وناضح بالطاقة. إنه يمد الإنسان بالقوة والسعادة والألفة. هواء أوروبا عجوز، متعب، مريض، دب فيه ثقل العمر. أما هنا، فالشباب يكمن في الهواء والشمس والطبيعة.
ضحك كرابيت بسعادة بالغة. وملأ الكأس بالويسكي والثلج وقدمه لي، وملأ لنفسه بمثله، وأضاف:
ـ بصحتك، وصحة مجيئك إلى بلادنا. سعدت بوجودك بيننا. سنعمل معًا من اليوم وصاعدًا.
فجأة تغير لون وجه مراد، قال:
لا أعرف يا عبد الله أي شيطان نط من حضني وجلس على طاولتنا. شعرت بثقل ذاكرة قاسية تغزو رأسي. من أول شفة جرعتها من كأسي بحضور كرابيت تصبب جسدي بالعرق. وانبعث من داخلي صوت دوي انفجار خرج من جسدي وصعد إلى رأسي. نهض من داخلي طفل من أيام الطفولة. استيقظ فجأة من نومه مبللًا. محاصرًا بالكثير من الأشباح الثقيلة. يمدون أيديهم وأعناقهم إلى عنقي وجسدي، يريدون التهامي. بدأت يداي ترتجفان، وفمي يملأه الجفاف.
استيقظت ذاكرة قديمة، عمرها من عمري، ولدت في الحال لتعذبني، وتدخل الكآبة إلى نفسي. وكأنها أبر مذببة تغرز دبيبها في جسدي. حاولت أن أخذ زمام المبادرة في محاولة السيطرة على نفسي، بيد أن هذا كان محال. حدقت عبر النوافذ التي تطل على خليج البوسفور، الهضاب المسترخية على أطرافه. حاولت أن اتشاغل بأي شيء حتى لا يرى كرابيت اضطرابي وتغير وضعي. ثم رفعت رأسي نحو السماء فرأيت النجوم قد جلست فوقنا تبتسم والليل مقمر، وأنا لست أنا.

لماذا جئت إلى هذا العالم يا ولدي؟ هل كنت مشتاقًا لتتشوف كل هذا الجنون, كل هذا الضياع والغربة؟ ماذا كنت تعتقد أنك سترى, وماذا كنت تنتظر أن ترى يا ترى؟
هل كنت تنتظر أن ترى كل هذه البلايا والخطايا, هذا البلاء والجفاف. أم كنت تنتظر أن ترى هذه الفظاعات إلى حد الذهول والاندهاش؟
لماذا جئت؟
ألم يكن الأجدى والأفضل والأجمل لو بقيت غيمة, ضبابًا, مطرًا, حجراً أو سراب؟

هل نستطيع أن نتخلى أو نتخلص من الرؤية المسبقة للأخر. بمعنى, هل نستطيع أن نتواضع في رؤيتنا لأنفسنا والأخر, ونقيمهما برؤية عقلية دون حمولات جانبية, تشتت تفكيرنا.
ربما, في خلاصنا من التقييم المسبق للأخر, هو المدخل للاعتراف به وبأنفسنا وبالمستقبل


العبد ليس ذاك الذي يباع أو يشترى. العبد هو ذاك الذليل الذي نشأ وترعرع في كنف مجتمع يقدس العبودية في الفكر والممارسة. العبودية هي في التكوين النفسي الأول الذي نما عليه المرء, معبأ بفكر يقدس الخضوع والاستزلام.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هواجس في الأدب ــ 326 ــ
- هواجس اجتماعية فكرية أدبية 325
- هواجس فنية وسياسية واجتماعية ــ 324 ــ
- هواجس وأشياء من الذاكرة 323
- هواجس ثقافية ــ 322 ــ
- هواجس ثقافية وفكرية ــ 321 ــ
- هواجس عامة ــ 320 ــ
- هواجس أدبية ــ 319 ــ
- هواجس أدبية وفكرية وسياسية ــ 318 ــ
- هواجس أدبية 317
- هواجس ثقافية ــ 316 ــ
- هواجس ثقافية 315
- هواجس عامة وخاصة 314
- هواجس سياسية 314
- هواجس عامة 313
- هواجس فكرية وسياسية وأدبية ــ 312 ــ
- هواجس متعددة ــ 311 ــ
- هواجس فكرية وسياسية ــ 310 ــ
- هواجس متفرقة ــ 309 ــ
- هواجس فكرية 308


المزيد.....




- فيديو لسيارة بداخلها عائلة تنقلب وتتدحرج على طريق سريع.. شاه ...
- لم يتّصل بالشرطة بل استوحى خط ملابس جديد من لقطات فيديو السر ...
- ما قد لا تعلمه عن استيلاء إسرائيل على أعلى قمة بسوريا بعد سا ...
- اللغز يكبر.. ضجة ومطالبات رسمية بتفسير طائرات -درون- غامضة ظ ...
- سياسي ألماني يريد منع أنصار الأسد من الدخول إلى أوروبا وآخر ...
- كيف تبدو مئة سعرة حرارية في طعامنا؟
- صدام حسين في ذكرى اعتقاله، صور مفبركة وجدل متجدد
- حيث تتوقف الإمدادات الروسية.. تبدأ رحلة تقاسم الرغيف بين أوك ...
- البنتاغون يبرم عقدا بقيمة 325 مليون دولار في مجال مكافحة تهد ...
- -الائتلاف الوطني السوري- يتواصل مع -حكومة الإنقاذ- عبر وسطاء ...


المزيد.....

- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف
- أنغام الربيع Spring Melodies / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - آرام كربيت - هواجس قديمة 327