|
هواجس اجتماعية فكرية أدبية 325
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 8138 - 2024 / 10 / 22 - 12:14
المحور:
قضايا ثقافية
سونا والنهر
لقد أتفقنا أنا وسونا أن نقوم برحلة في ظلال نهر الخابور، لهذا استيقظنا باكرًا، شربنا قهوتنا الصباحية على عجل ونزلنا إلى الشارع، ركبنا سيارتنا وأخذنا طريق مدينة رأس العين. كنت قلقًا بشأن شراء قارب عادي هو خليط بين الزورق والقارب مناسب لنا أو نستأجره، تساورني الشكوك حول جودته، نوعية الخشب، المجاديف، المقاعد، مقدمة القارب، انسيابه الطبيعي في الماء، قدرته على تحمل حركة الماء، طوله وعرضه وسعته. إن يكون له سقف للوقاية من الشمس نهاراً أو أثناء النوم ليليًا، أن يكون له زعنفة مرنه وقوية توجهه بطرق سليمة، له دفة يمكن توجيه القارب من خلاله، بحيث يستجيب لسرعة نهر الخابور. لاحظت سونا قلقي، انشغال بالي، قالت: ـ لماذا تسبق الأحداث دائمًا يا غافل، لا ضرورة لوضع التصورات الغامضة عن شيء لم نراه، نحن في الطريق، عندما نصل إلى المدينة سنختار القارب الذي يناسبنا! ـ ليس لدينا خبرة أو تجربة سابقة حول هذا المضمار، ولم نقرأ عن هكذا رحلة أو مغامرة، سميها ما شئت، المجهول مخيف يا سونا. الهواجس تنتاب المرء عندما لا يكون متمكنًا من أدوات عمله. وعلينا استأجر شقة سكنية في الطابق الأرضي، أنت تدرين ولعي في الزراعة، زراعة أنواع كثيرة من الورد والرياحين، أحب الجلوس في صحبة الجمال والرقة والهدوء، أشرب القهوة أو المتة صباحًا، أسمع الأغاني، ويفضل أن نستأجر بيتًا عربيًا فيه حوش، فيه أرض لزراعة الجنينة، لأننا سنقضي هذا الصيف في المدينة، نتبضع الينابيع والغابة والطبيعة البكر. كما تعلمين، الحوش هو مساحة للحرية، ينفصل فيه المرء من متاعب العمل ويجلس مع نفسه وبيته وحديقته، وعلينا أن نخطط كل شيء بمجرد أن نحصل على البيت أو قبل البدء بالسيران في قلب النهر. ـ لم أر أغرب منك، تتعامل مع الأنهار خاصة الخابور كأنه طفلك، تدلله، تعشقه. الا ترى معي أن هذا العشق جلد للذات، شيء خارج عن المألوف. أغلب الناس يحبون الحيوانات الأليفة، قطة أو كلب أو سنجاب، شيء تستطيع أن تمسكه بين يديك، تمسده، تمرر يدك على رأسهأ وبشرته، تلعب معه، أما أنت فحالة شاذة غريبة عن طبائع البشر. النهر أجمل هدية قدمتها الطبيعة للحياة والبشر، يكفي أن تقفي على الضفة وتتأملي سحره، غموضه، جريانه حتى يصيبك الذهول والدهشة. ـ غافل، لديك هوس يا صديقي بهذا العشق. أغلب الناس يحبون السيران على ضفاف الأنهار، أو الجلوس على ضفافه أو جزره، يصيدون السمك، يسبحون، أما أنت فحالة مخيفة، من أين جاءك هذا الاهتمام الغير طبيعي؟ ـ النهر كائن حي، يرزق، له أرض وأشجار وضفاف وقاع شكله عبر مئات الآلاف من السنين، وجدت نفسي مولودًا على ضفافه، كانت أمي تعشق الأنهار، وأحبت أن ترى مولودها أن يرى النور على ضفة نهر، لم يكن يهمها نهر محدد، أنما أن يكون نهرًا، قالت لي: ـ عندما كنت حامل بك يا غافل، كنت أحلم أن أخذك إلى ضفاف المسيسبي لتولد هناك أو على ضفاف الأمازون أو نهر الكونغو أو السنغال أو النيل أو الفرات أو دجلة أو الغانج أو النهر الأصفر، الأنهار بركة، هدية من الوجود، وعدت نفسي أن أحملك كل شهر وأضعك بالقرب من هؤلاء الأنهار، أن تربط جمال الحياة بنفسك، بهذه الأنهار. ـ يبدو أن هذا الحب وراثي، جيني، شيء مستقل عنك؟ ـ هذا صحيح يا سونا، إذا شققت صدري سترين النهر واقفًا أمامك يغني ويرقص ويتكلم ويعزف. ـ شيء مذهل، شيء فوق القدرة على التصور. وماذا أيضًا حول حديث والدتك، كأنه ذهاني. ـ ليس ذهانيًا يا سونا، هذا لا يقال عن والدتي، عليك أن لا تطلقي الأحكام عليها قبل أن تسمعي ما قالته حول شغفها وحبها للطبيعة وأنهارها. والدتي تحبك وتحترمك، وأنت تعرفين مقدار ثقافتها ومتابعتها لكل ما يتعلق بقضايا الأنهار، وخوفها عليهم. أنها امرأة واقعية جدًا، بل متقدمة في هذا المجال لأنها باحثة، لديها دكتورة في علم الأنهار، عقدت الكثير من المؤتمرات والندوات العالمية لتنبيه الناس علن مخاطر جفاف الأنهار على الحياة والطبيعة والكائنات الحية. سافرت والدتي كثيرًا إلى مختلف قارات العالم، زارت الأنهار الكبيرة والصغيرة، فحصت التربة وقاست منسوب المياه لكل نهر، درجة نقصان كل نهر، غزارته. ـ هذا صحيح، الواقع يشهد على ذلك من خلال سلوكها وتصوراتها، أنا أسف جدًا يا غافل، بل اعتذر منك ومنها. نظر إليها غافل مبتسمًا، قال لها: ـ هل تذكرين؟ ـ وكيف لا أتذكر؟ ـ تذكرين الرحلة؟ ـ وكأنني لم أكن حاضرًا بينكم؟ ـ أنا من اقترح القيام بالرحلة واستأجر الباص، وخطط لتحضير كل شيء وبلغ الأصدقاء ليأتوا معنا؟ ـ صحيح تمامًا، كان لدي اسئلة كثيرة، ومحتاجة أن أصل إلى الإجابة؟ ـ ماذا دهاك يا سونا، إلى أين تريدين أن تصلي؟ ـ لي غاية من فتح هذا الموضوع يا غافل، كنّا، أنا وأنت وسلوى وأميرة وسحر وأحلام وصفاء وسناء معًا، هل تذكر، كان الوقت بعد الظهر في شهر تموز؟ ـ بالطبع أذكر. ـ في تلك اللحظة اتجهنا إلى النهر، وبدأنا نسبح ونغني ونرقص ونلعب في الماء، لم تكن الدنيا تتسعنا في تلك الرحلة، فجأة ودون إنذار مسبق لأحظت أن عينك التقت في عينا صفاء، اقتربت منك ووشوشتك في أذنك، لم تتكلم بشكل صريح، تكلمت بشكل مراوغ، راقبت حركة الأصدقاء، وعندما تأكدت أن الجموع غافلين عنكما سرتما معًا إلى وسط النهر، أنا كنت أراقبكما عندما غبتما معًا في تلك اللحظة. في الحقيقة كدت أتمزق، تسلقتما الصخور وولجتما في الغابة مدة طويلة. وقفت وحدقت في وجه غافل، قالت له: ـ ماذا فعلتما معًا في ذلك الغياب الطويل، هل عريتها، قبلتها، هل كنتما حبيبين؟ ـ لماذا تلتفتين إلى الماضي يا سونا؟ وأضاف: كنا نقلم حدود الغربة يا سونا، نكسر الحجارة والأصنام المتحركة. ماذا يفعل شاب وصبية معًا عندما يغوصا في حدود الزمن الممغلق وإطلاله على الزمن الحر، عندما ينفردان في ذلك الطيران. تلك اللحظة انفصلنا عن الأصدقاء، هذا صحيح، غبنا عنكما، عن بعضنا أنا وصفاء دون أن نعي أننا كنّا في الغياب، في اللاوعي. لم نخطط لهذه اللحظة، اللحظة جاءت لوحدها كعربون صدقة، منحة من القدر أو الصمت. عشنا في الخلود مثل طفلين بريئين، أما التفاصيل التي ذكرتيها فلا أعرفها أو لا أتذكرها. نظرت سونا في وجه غافل بانكسار، ثم مالت برأسها نحو الغابة: ـ أنتم الرجال لا تعرفون الله عندما تلتقون بالمرأة. ـ تعالي نتفق، ماذا تقصدين بالرجال؟ ـ ألست رجلًا؟ ـ لا. ـ ماذا أنت؟ ـ أنا طفل بريء ـ ماذا.. ماذا تقول يا غافل، أليس هذا الهروب من الجواب لا منطقي؟ ـ في حضور المرأة يتحول الرجل إلى طفل صغير، رقيق، يرقص قلبه ويغني وينط في حضورها، يتسلق السماء ويسبح في عينيها، في زرقتها. ينسى أنه رجل، يتحول إلى كائن مملوء بالحنان. والمرأة تدرك ذلك الشغف، تشفق عليه، صحيح أنها لا تساوم على الخيانة، بيد أنها تعرف أنه كائن بدائي لا يعرف معنى الاسترخاء أو الاستقرار. ـ أين كنت أنا عندما كنت تقبلها، عندما كنت تطير معها كالفراشات اللواتي ولدن للتو؟ ـ يبدو أنك نسيت يا سونا، كانت علاقتنا برعمًا لم يتفتح، كنت عنمًا لم يعقد. كنت آنسًا، بدأنا نسكن إلى بعضنا، بداية الألفة والاطمئنان. لم يكن قد استقر الحب بيننا، كلانا كان حرًا. نظرت إليه حائرة لا تعرف ماذا تقول، صمتت قليلًا تركت ذهنها يرسل الكلمات دون أن تتدخل فيه: ـ يا لك من مراوغ. جميع الرجال يلجأون إلى المكر والخديعة، يستعملون طرقًا ملتوية ليصلوا إلى غايتهم. ـ المراوغ ليس برجل، أنه جنس ثالث. من يحاول أن يستخدم الدهاء للوصول إلى المرأة ليس برجل كما قلت لك للتو، هذا إنسان كذاب، تافه. الحياة خلقت الرجل بريئًا، ومن يحاول أن يصل إلى جسدها من خلال المراوغة والخداع اعتبره كائن مفكك، لا هو برجل ولا كائن طبيعي، اعتبره آلة متحركة، يضع الهدف أمامه ليسرقها. شاهدا أحد الرعاة مع قطيعه وحماره، كان الراعي يعزف على مزماره ويمشي، اقتربا منه، ألقوا التحية عليه، نزل الراعي من على حماره ورد التحية بأخرى، وقفا إلى جانبه، بينما غافل بالقرب من الراعي، مشت سونا لوحدها، تسلقت الصخور على الجبل، مضت تفكر بعلاقتها بغافل ونديم: بكت سونا،بل أجهشت بالبكاء قالت لنفسها: ـ ليس لي حظ من الرجال، يتعاملون معي كمحطة، من هذا يا ربي، أكاد أتمزق؟ لدي مشاعر مختلطة اتجاه غافل، في الحقيقة لم تستقر، وما زال حبيبي السابق نديم في ذاكرتي يقظًا، والنفس الإنسانية انتقائية، تحدد ماذا تريد. ونديم لم يعد موجودًا، لقد رحل عني، نفسه جفت عني، يبدو أن غافل حب إسعافي، انتقيته برغبة مني، أريد أن أهرب بذاكرتي القديمة إليه لامحيها، أن أغيرها أو أبدلها، أن أجملها. اعتقد أن هذا مجرد فخ أريد أن أصعد عليه لأنسى نديم، لأنسى ذاكرتي القديمة. نديم ما زال مقيمًا في بيتي الداخلي، يتسلل بنعومة، وأنا فاتحة بابي له، انتظره بشوق وفرح، ياه، كم هي النفس الإنسانية معقدة، ومركبة. وأضافت تلوم نفسها على سلوكها، قالت: اعاتبه، بينما الخلل يسكن نفسي، من العار أن أحول هذا البريء غافل إلى مجرد ألعوبة، مطية للخروج من أزمتي، ماذا أنا فاعل يارب؟ ثم جاءها صوت أخر من بعيد يقول لها، الصداقة بيننك وبين غافل سيتحول إلى حب، نديم رحل ولن يعود، لديه حبيبة أخرى. لست خائنة لنفسي، بيني وبينه غافل الكثير من الخطوط المشتركة، ثم لدي ميل طبيعي نحوه، والحب يولد حرًا، لا يقف عند مركب مكسور أو قديم، يتسلل الماء منه، لأعط لنفسي فرصة حب جديد، ثم جاءها صوت أخر، كان عليك أن تنتهي من نديم بالكامل ثم تفتحين ممرات جديدة باتجاه غافل، لكن غافل الشاب الوسيم جاء على حين غرة، صدفة ربانية، أيقظ قلبي مرة أخرى، أليس هذا حبًا. يا إلهي ماذا أنا فاعلة؟ ثم قالت وكأنها تهيج المشاعر، أو تبرر لنفسها ما تفعله، استرسلت في المونولوج الداخلي، الحب مطلق في تكوينه، مستقر في ذاته، يمتح من ذاته أو يستقي منه العطاء تلو العطاء دون منّة أو إحسان من أحد، بيد أن ولاء الحب يتغير، بتغير العلاقة بين الثابت والمتحول،إن الثابت هي الحياة النابضة في الحياة، لا يبقى في الأماكن المهجورة، ونديم رحل، أصبح بيتًا مهجورًا، أما الحب فهو دفق حي، متجدد، يكمن في الاستمرار، إنه كالماء المتجددة في السواقي أو الجداول النقية، يتدفق كالشلال مرة، ومرات يمشي الهوينا، ينتقل من النهر إلى البحر، وإذا توقف مات، والحب لا يموت، أنه خالد بخلود الحياة وبقاءها. لدي قناعة كاملة، ليس للحياة مقصد موضوعي أو ذاتي، إنها خبط عشواء، ولدت دون ذاكرة وتذهب إلى لا ذاكرة، ومهما حاولنا أن نمنحها غايات لن يغير في الأمر شيئًا. الحياة لا غايات لها، يومنا ليس كأمسنا، وظلنا القديم سيبقى سابحًا في ظلنا، منفصلًا عنا ومرتبطًا بنا كخيط دخان، ونحن نسير أو نمشي كالغبار أو التوز الذي يخرج من الأرض والأتربة ليلتف علينا، ثم يهدأ ويذوب إلى أن يتلاشى بنا أو دوننا كما بدأ. والجمال في الحقائق هارب منا إلى حيث الجمال الهارب، وليس في متناول يدنا المفتاح، المفتوح على الريح والضباب، وأنا كما هو أنا، وليس أنا، ذاهب إلى حيث لا مستقر، ذاهب كما تذهب الخيول الأصيلة إلى حيث موطنها الأصيل، إلى البراري العذبة دون رسن أو مقود يقيد القدمين إلى النهايات البعيدة التي لا ذاكرة لها. ـ غافل، أنت المغامرة الجميلة، جئت في الوقت الصح.، قالت هذا الكلام بصوت عالي، دون أن تدري أن غافل خلفها على مسافة متر واحد: ـ ماذا بك يا سونا، اتتكلمين لوحدك؟ ـ علينا العودة إلى السيارة! كانت سونا في حالة خدر، تنظر إلى غافل بذهول، فاتحة فمها على وسع، مستغربة من وجود حبيبها إلى جانبها يتحدث إليها عن مدن ودول وحضارات لم تراها في حياتها ولم تسمع عن بعضها. مسكت حجرة صغيرة، التفتت إلى صوب نهر المجرجع ورمتها، قالت: ـ بلادنا فقيرة بالماء يا غافل، أنت تتحدث عن بحار في رداء أو ثوب نهر، تتكلم عن غزارة نهر يتجاوز أنهارنا بآلاف المرات في حجمه ومساحته وطوله وعرضه، دول كثيرة لديهم فائض مائي غريب. ـ عندما كنت إلى جوار براهمابوترا، كنت أخاف، بل كنت مرعوبًا من منظر النهر، من صوت هديره، أبكي، وأطلب من أمي أن نترك المكان ونهرب، مسكت ثيابها وتعلقت بها رغبة في أن نغادر، هذه الأنهار بحجم دول، لا يمكن أن نقارن أنهارنا الصغيرة بتلك الأنهار العظيمة، كما تفضلت. الطقس باردًا جدًا في تلك البلاد، بمجرد أن تعريت شعرت أن فمي وأسناني وجلدي ليسوا لي، أقدامي وأصابع يدي أصبحا منفصلان عني، بمجرد أن وضعوني في الماء شعرت بالدفء، كنت أنا وأختي هند نبكي من الخوف.
عندما كنت صغيرًا، كنت أرى وأسمع مرات كثيرة كيف كان والدي يمجد الإنسان وارتقاءه، وكمان الإنسانية، وكبرت هذه الكذبة في عقلي وسرت وراء هذا الوهم القاتل والمدمر للتفكير. الإنسان هو الكائن الوحيد، الذي ليس واحدًا، أنه الممزق من الداخل إلى قطع عديدة، ليس لديه مرتكز واحد يقف عليه، ليقول أن هذا المكان يمكنني البقاء فيه والاسترخاء، ولا ثوابت لديه، ولا قناعات ثابتة، ولا زمن ثابت ولا حياة ثابتة ولا حب ثابت، ولا باص ثابت. الزمن مثل المنخل أو الغربال، يصفي كل شيء، يهز نفسه، ويهز كل من يقف معه أو ضده أو عليه. نيال المؤمن بالله، أنه منفصل عن عالمنا، عن الواقع وحركة الواقع، ويعيش فوق الواقع والأحلام، وربما أنه يقنع نفسه أنه في المكان الصح. بالرغم من أنه لا يوجد مفهوم الصح أو الغلط في عالمنا الفوضوي المملوء بالاحتمالات، والأكاذيب. هذه الحياة مجرد مغطس أوحال في أوحال.
كلهم يريدون أن يكونوا كومبارس، ويدركون أن دور البطولة لا تعطى لهم، لا في هذا الزمان ولا بعد مائة عام. روحوا ظبوا بعضكم، وفكروا كيف تتخلصون من العقل الديني المغلق، العشائري، الطائفي، القبلي والمذهبي. وبعدين أرفعوا رؤوسكم. كلكم تريدون دخول حلبة الصراع، بيد أنكم لا تعرفون قدرة خصمكم، ولا إمكاناته، والسلاح وحده ليس حلًا. وليس لديكم الجلد لتتدربوا على النزال في أي موقع.
للجسد ظل نائم في ظل أخر، العلاقة بينهما كعلاقة الفراشة بالضوء، أو اللمع بالبرق، وعندما يخبو أحدهما يصعد الثاني ثم يفترقان في لحظة الالتحام. إنه استدعاء، أحدهما للآخر، في داخلهما سر عميق، جاذبية من نوع مختلف، أحدهما يبحث عن الآخر في الضوء أو الظلمة. كائنين غير مكتملين، بينهما ظمأ، يلتقيان ويبتعدان، كل واحد منهما أخر، النصف يبحث عن النصف الآخر، بينهما وسيط، بين هذا الشيء وذاك، مهمته الوصل والجمع. هو محاولة الربط بين المحسوس والمجرد. إنه خليط أو صلة الوصل بين الريح والأجنحة.
جوردانو برونو، هل يستحق هذا العالم العدمي أن تحرق نفسك من أجله؟؟ أغلب البشر طرش يا صديقي، قطيع، يستحمون بالمياعة والجهل والخراب النفسي والسلوكي والفوضى. أنهم مزاجيون، تدفعهم الغرائز المتوحشة للبقاء. من الذي وقف إلى جانبك عندما أعلنوا عن حرقك، من قال أنك على حق، كلهم تنكروا لك، بالرغم من أنهم استفادوا من فكرك، بل استمتعوا بما قدمته، ولم يذكرك الا من أحبك وأمن بفكرك وعقلك، ولا يزالون هم هم كما تركتهم، مجرد خواء يجترون أنفسهم يوميًا وبمنتهى التكرار، لهذا يجب هدم مفهوم الإنسان العاقل؟
في المساء جاءت طيور الليل إلى جوار السرير، ثم جلست على الفراش. سألته: ماذا سنفعل، الصغار جائعون؟ لا يوجد في البيت كسرة خبز، لقد ناموا دون طعام. رأيت ذلك الانكسار النفسي في عينه، اللفافة في فمه تحترق ودخانها يتمازج مع الهواء: ـ لا شيء. غدًا يوم يوم آخر. وفي الصباح سنرى شمس جديدة. ووراء الحرمان واليائس زمن آخر وولادة آخرى. قالت له: ـ هل ستربي أولادك بهذه الطريقة؟ بهذه الفوضى؟ بهذا العقل المعتمد على الغيب؟ ـ الغيب أمل ـ الغيب ليس أملًا. أنا لا أفكر مثلك، لن أترك أولادي للأقدار. أما حياة لائقة أو لا أولاد. ـ هل تريدين مني أن أسرق؟ ـ التخطيط يحتاج إلى عقل. والمدينة عقل. والعقل مدينة، لهذا من لا يملك خبزًا يطعم أولاده لا يستحق أن يكون أبًا. والدولة التي لا تستطيع أن تطعم أبناءها ليست دولة وأنما لمة كلاب مجتمعة على عظمة.
كيف استطاعت المسيحية أن تخلخل النفس الإنسانية للمؤمن بهذا الدين، أن تتغلغل فيه، في مشاعره وعواطفه، مستغلة جهله وفقره المعرفي طوال قرون طويلة. أنها تجعله يشعر بالذنب قبل أن يولد، ثم السيطرة عليه سيطرة محكمة. إن الشعور بالذنب أقسى أنواع المشاعر الذي يمر بها الإنسان عندما يحس أنه مذنب دون أي ذنب اقترفه. في الشعور بالذنب، يستيقظ الضمير، البناء الداخلي المريض، يبدأ بجلد نفسه بمناسبة وغير مناسبة، يقبض على ذاته الملتبسة بالخطيئة الأصلية. ويبدأ الوسواس القهري يشتغل ذاتيًا، بين الأنا المذنبة والحاجة إلى الغفران. إن جلد الذات دون التحرر من هذا الشعور الذي يواكبه يوميًا متعب للغاية، شعور مرضي يسيطر عليه كل ثانية ودقيقة، وكأنه سيزيف ذاته، في حالة صراع لا نهاية له، يقول لنفسه: ـ أنا مخطئ، علي الاعتراف أمام الكاهن، اقترفت الذنب، الفعل السيء هنا وهناك. يبدأ في خلق الأخطاء والعيوب لنفسه دون أن يكون هناك خطأ. ويخلق الأعذار، ليؤكد لنفسه وربه أنه مخطئ، ويطلب أن يسامحه، أن يشفق عليه. يتحول هذا الإنسان إلى كائن عاجز، متعب، ضعيف، مريض نفسيًا وعقليًا لا قدرة له على التحرر من تأنيب الضمير، يبحث عن خلاصه مهما كان صغيرًا. يحق لنا، قتل، أو إعدام هذا الدين الذي دخل في مفاصل الإنسان، وبدأ الحفر فيه إلى أن وصل إلى تشويهه وتدميره ذاتيًا.
في العام 1981 زرت قرية مسمية الواقعة في محافظة درعا. في ذلك الوقت كنت في الجيش، خدمة إلزامية، ذهبت إلى مسمية في زيارة برفقة الصديق نبيل البالوع. أغلب بيوت الضيعة مبنة من الحجر البازلتي الأسود الصلب جدًا. بعد أن شربنا الشاي وارتحنا من عناء السفر، مسك نبيل بارودة الصيد، الخردق، قال لي: ـ لنذهب للصيد، تعال معي. خرجنا معًا، طبعًا مسمية مثل أغلب مدن سوريا وقراها لم يعد فيها طيور، ولا حيوانات برية. لم نر طير واحد أو عصفور. أصبحت سوريا خالية من الحياة، كأن هناك عداء بين الإنسان في بلادنا، وبين بقية الكائنات الحية. ما أثار السؤال في عقلي، وجود أبار محفورة في الصخر، يعود تاريخها إلى العصر الروماني، اعتقد أن قطر البئر الواحد مترين او أقل قليلًا، على عمق أربع أمتار أو أكثر، وعندما تصل إلى قاع البئر، سترى شبكة من الأبار مربوطة مع بعضها بأقنية تحت الأرض لمرور الماء، كشبكة ري رائعة جدًا. وبين البئر والأخر حوالي مئتي متر أو أكثر. عندما ترى أقنية الري المتطورة جدًا في العالم القديم، ستنبهر بهذه الدولة ومجتمعها، بخبراتها، وخبرائها ومعارفها وثقافتها وعلمها بالزراعة وفن العمارة والمسرح والنحت والرسم. كيف استطاعوا بناء تلك الأقنية والآبار تحت الأرض، ما هي الأدوات والتقنيات التي استعملوها في الحفر، وما هي أدوات قياس المناسيب التي استعملوها، وأي عقل صبور استطاع أن يفكك ألغاز الأرض ومجرى المياه بالانسياب الطبيعي، لاستخدامه في الزراعة لمسافات طويلة؟ الحياة والإنسان لغز عجيب.
قبل يومين تم طعن نائب في البرلمان البريطاني ب 17 طعنة، إلى أن فارق الحياة، من قبل واحد صومالي. أهل القتيل يطلبون التسامح ونبذ الكراهية. طبعًا لم نسمع من أية جهة إعلامية إسلامية أو عربية عن الحادث، أو ركزت على هذا الخبر. يبدو جرى طمس هذه القضية مثل الكثير من القضايا في هذا الجانب سواء في السويد أو المانيا أو غيرهما. هل هذا التصرف سببه التسامح والأخلاق الحميدة من الغرب؟ بالتأكيد لا. في السياسية لا يوجد شيء اسمه، تسامح. هناك قرارات ومواقف وعقوبات، كما فعلوا مع بوتين عندما شكوا بانه سمم أحد المعارضين هذه جريمة إرهابية بامتياز، لكن من أجل مصالح الغرب مع الإسلام السياسي جري طمس هذه القضية ووضعت في الأدراج. الإسلام السياسي منذ تأسيسه في العام 1928 على يد المخابرات البريطانية وهو معزز مكرم في هذا الغرب البراغماتي.
ساقط ساقط ساقط، نذل وحقير كل من يؤذي امرأة، سواء بكلمة أو بزجر أو تلميح أو ضرب. المرأة، هي الرحم الذي خرجت الحياة منه. وهي الرحمة. ودونها الحياة عرجاء جافة ميتة
يبدو أن القوات الأذربيجانية والمرتزقة وقيادة العمليات العسكرية التركية في اذربيجان لم يفلحوا في تغيير موازين القوى على الأرض. اليوم نائب أردوغان يصرح أن تركيا ستدخل ناكورني كارباخ عسكريًا وأنهم ينتظرون موافقة علليف الصغير. قلنا سابقًا أن الطفل الأذربيجاني أصبح ألعوبة صغيرة بيد أردوغان، وسيوافق على هذا الطلب، لأنه مفروض عليه فرضًا من قبل تركيا. والحقيقة أن الطلب طلب تركي، سجل أنه بحاجة لموافقة القيادة الأذرية. والبرلمان التركي سيوافق بالتأكيد لأنه أصبح شاهد زور لا حول له ولا قوة. ولأن الدولة التركية كلها أصبحت على مقاس رجل واحد هو أردوغان، وحوله مجموعة من المستزلمين التافهين، ذو النفوس الرخيصة، مخصيين، منفذين للأوامر الصادرة من أردوغان، المضطرب نفسيًا وعقليًا. هل يعلم هذا المجنون ماذا يعني دخول كاراباخ عسكريًا؟ إيران ستدخل أيضًا، وستحتل أذربيجان، وستدخل روسيا على الخط، وستدخل المنطقة في الحرب العالمية الأولى في القرن الواحد والعشرين. هذه الحرب ستأكل جزء كبير من آسيا وتحول المنطقة إلى خراب. الدول الثلاث المذكورة، تركيا وإيران وروسيا، دول استبدادية مهترئة من الداخل، مأزومة، وسيحاولون الهرب من أزمات بلدانهم الداخلية ويرمونها في حروب عبثية. وسيدفعون بلادهم إلى الدمار، بدلًا من الإعمار الداخلي. أننا في زمن المجانين، وهل ترامب أعقل من بوتين أو أردوغان أو الخامئني؟
ابق حيث الغناء ـ 17 ـ ربما كان رأي البعض أو الكثير من الكتاب الاردنيين أن يد النظام السوري تطال حياة الكثير من المعارضين السوريين ولديه الكثير من المخبرين الذين يراقبون كل شاردة وواردة. وكان الأردني ينظر إلى سوريا كبلد عملاق وكبير بقدراته وطاقاته وامكانته المادية والبشرية، وأعجابهم بالإنسان السوري، بيد أن الكثير منهم كان يستهزئ من تسيب الدولة وسماحها لموظفيها بالرشوة في كل كل مجالات الحياة ابتداءًا من الشرطة إلى أصغر موظف. ثم كان هناك الكثير من المستفيدين من النظام السوري على الصعيد المادي، وهناك حزب البعث الأردني المرتبط بنهج النظام السوري، والعلاقات بينهما كانت قوية ووشيجة. ويستطيع المستفيد من النظام المرتبط به أن يرسل أبنه إلى دمشق ليدرس في الجامعات السورية على حساب الدولة، وأن يأخذ منحة لبعض أقاربه، وأن يساعدوه ماديًا. أثناء وجودي في المكتبة وكنت برفقة نجيب، سأل نجيب البائع أثناء إحدى زياراتنا إلى هذا المكان لشراء بعض الكتب والدردشة معه: ـ هل تحتاج إلى عامل في مكتبك، الأخ سوري ويريد أن يسافر، صديقي يريد الحصول على عمل مؤقت، أنه سجين سياسي سابق، ومحتاج جدًا للعمل، هل لديك القدرة على تأمين عمل له؟ قال لنا، لحظة صغيرة، سأسال العين. وكان في المكتبة رجل طويل القامة عليه هيئة الوجاهة والنعمة، مرتديًا طقمًا جميلًا كاريه، وعلى عنقه ربطة عنق منتقاة بدقة، والوسامة مرسومة بدقة على ملامحه، وكبير في السن ربما تجاوز السبعين في العمر في ذلك الوقت: ـ سيدي العين، وهذا الأسم ينسب إلى الأعيان الأردنيين القريبين من الملك، يشكلهم على مقاسه في المملكة كرديف للبرلمان، وهذا النوع من البشر لديهم مكانتهم وأموالهم وعلاقاتهم، وهم وجاهة، هذا الشاب من سوريا، لجأ إلى الأدرن وسيسافر إلى خارج وطننا ويحتاج إلى العمل، وسجين سياسي سابق. نظر الرجل في شكلي، درس ملامحي بدقة من أخمص القدمين إلى الرأس والشعر والعينين والأذنين. قال: ـ هل تعرف أحد ما من سوريا في الأردن؟ ـ لا.. لا أعرف إلا صديقي نجيب، هذا هو. قال نجيب: لقد لجأ إلي، وهو صديقي وطيب القلب والمعشر، وصلته معي وحدي. قال العين: ـ يوجد الكثير من الأردنيين المحسوبين على النظام السوري ولديهم مصالح وتداخل معه، ويعملون لتنفيذ مصالحه، ويوجد منهم الكثير من الفاسدين والمخبرين، ألم تسمع بهم. ـ لا.. ليس لدي أي احتكاك مع السوريين، ولم أقل لأي إنسان سوري بوجودي هنا. لا أمارس أي نشاط سياسي هنا، لعلمي السابق أن علاقات الدول العربية متداخلة. السياسة في الدول العربية فخ عميق إذا دخله المرء لن يخرج منه سالمًا وأمامك عينة فريدة من نوعها، مشرد دون ودون بيت أو مال، هو أنا. ـ جميل جدًا. لماذا سجنت، وإلى حزب كنت منتميًا؟ ـ الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي. سجنت لأني منتميًا إلى هذا الحزب، هذا هو جرمي ـ رياض الترك؟ ـ نعم. أخرج كرت صغير من جيبه وأعطاها لي، قال: ـ في الكرت الذي في يدك رقم تلفوني وعنوان مكتبي يمكنك الاتصال بي ونتقابل في الوقت الذي نحدده معًا. تعال ولا تتأخر. طبعًا كلام هذا العين لم يكن يخلوا من الفوقية والإحساس بالمكانة والقوة والرفعة. هذه الدونيات القذرة هي من السيئات التي ابتلت بها بلادنا المريضة المجنونة، أحدنا بمجرد أن يصبح له مكانة ما يتحول إلى زبالة فوق ما هو زبالة. لم يسأل عني أسمي، مملوء ثقة بالنفس الفارغة، كأنه كان يعتبر نفسه خارج السياق الزمني للبشر أو خارج السياق المكاني، وكأنه عين أو نائب في دولة عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية. عندما خرجنا من المكتبة وودعنا الرجلين، طار نجيب من الفرح، وبارك لي حصولي على لقاء ربما يتوج بالحصول على العمل وأعود لأعيش في واقع مقبول من حيث المعيشة. قلت للأخ والصديق الجميل نجيب: ـ هذا اللقاء بيني وبين هذا العين سياسي يا نجيب، سيشغلني كمخبر وربما يؤمن لي إقامة ويلمعني لأكون بوقًا للنظام الأردني، وهذا لن أقبل به. سأبقى فقيرًا محتاجًا معدمًا، هذا قدر سوريا التي تبحث عن مكانها في هذا العالم السياسي. لن أذهب إليه ولن أتوج نفسي بنفسي كإنسان نذل ومبتذل، لم اسجن في سوريا لأصبح تابعًا ذليلًا للغير، للأنظمة العربية العفنة. سأكمل حياتي بهذا الوضع العاجز والفقير، الذي أنا فيه، سأعيش بمئة دولار في الشهر ستين دولارًا منه أجار البيت وأعيش بأربعين. الحياة موقف ولم أتعود أن أكسر رأسي أو أوطي قامتي لأحد. سأبقى مرفوع الرأس أمام رأسي ونفسي ولن اتخاذل وأهزم أمام نفسي. الحياة كلها لعبة مؤقتة أما أن تهزم أو تكمل. لا حيادية في المواقف. نجيب لم يكن سياسيًا ولم يعمل في السياسة، أنه فنان ولم يخلط بين الفن والسياسة، وبدأ يدخل المجال الثقافي بثقة كبيرة وشغف للمعرفة، يستعير الكتب من مكتبة شومان كما كنت استعير، ونمشي معًا من بيته بالقرب من حدائق الملك عبد الله باتجاه جبل عمان، ونعود معًا، واحيانًا يأخذني إلى المطعم نتغذى، لم يكن يدخل إلا المطاعم الفاخرة. فهو شاب لديه عمل ويعمل في مطعم فخم ومشهور اسمه الفردوس لصاحبه اللبناني، ودخله مقبول جدًا قياسًا لدخل المواطنين الأردنيين. واحيانا كنّا نذهب إلى أشهر المطعم في عمان، في السوق، نأكل الفول أو الحمص، ثم نتجول في السوق والمحلات أو نشتري السمك أو نأكل في مطعم السمك البحري، هذا السمك يجلبوه من مدينة العقبة الذي يطل على البحر الأحمر أو يستورد. في الأردن كل شيء متوفر، والنظام فيه مستقر إلى حد كبير نتيجة علاقاته المتوازنة مع الدول الفاعلة في العالم، بعيد عن الجعجعة والثورية الفارغة، وليس لديه مشاكل مع الجوار ولا العالم الغربي. لقد صاغ الملك حسين علاقات دولية قيمة جنب الأردن هزات وطنية قاسية. الثوريون أو الانقلابيون الذين وصلوا إلى السلطة في البلدان العربية، دخلوا في أزمة ذاتية مع أوطانهم، أزمة خانقة وفي أزمة مع جوارهم. هذه الأنظمة ولدت مأزومة لديها خوف شديد على وجودها لأنها استولت على الحكم بطريقة المافيا في هجومها على بنك ما، لهذا تخاف على قلقها الذاتي والوجودي، أنها أنظمة قلقة خائفة جبانة تعلم أن لا جذور لها في الدولة والمجتمع، تخاف من صوت الفرد، من كلامه البسيط، ولهذا تسجن مواطنها على الشك مثلما فعلت الفاشية والنازية، كل الناس أعداء بالنسبة لها إلى أن يثبت العكس. ثبت بالدليل القاطع ان الأنظمة الملكية أنها أقل سوءًا من هؤلاء الذين لم يرو المدينة في حياتهم إلا عندما دخلوا الجيش وأصبحوا ضباطًا. وبين ليلة وضحاها استولوا على السلطة، وأصبحت البلاد كلها في أيديهم، بما فيها السجون والمعتقلات والدساتير والمكانة، وبدأوا نهب الدولة والمجتمع تحت حجج محاربة اسرائيل وإعادة الأراضي المحتلة في فلسطين والجولان والقدس وغيرها. الكوارث حلت بالمنطقة بعد وصول العسكر إلى السلطة، ومنها سوريا، بوجود نظام منفصل عن نفسه وبلده، بل حول سوريا إلى رافعة لتنفيذ مآربه الشخصية.
لاستمرار مفهوم محاربة الإرهاب، استراتيجيًا، يفترض وجود المحور الشيعي السني. وبالتالي فإن وجود الهلال الشيعي ضرورة من هذه الضرورات الاستراتيجية. وعلى ذلك يمكننا تقييم الصراع القادم. إن اعتبار الحضارة الغربية تتعرض لمخاطر تهدد ثقافتها وقيمها من قبل الحضارة الإسلامية وجب وضع استراتيجية سياسية استباقية للحفاظ على هذه الثقافة والقيم. عمليًا، حسب وجهة نظري، لم يعد هناك ثقافة وقيم خاصة. هناك ثقافة وقيم رأسمالية تسود العالم كله، مع بعض الاختلافات حسب القدرة الاقتصادية والسياسية لكل دولة، بيد أن المضمون واحد. الرأسمالية بنية متكاملة، ليس بمقدور أية ثقافة/ حضارة/ الخروج منها، مهما كانت قوتها. الرأسمالية نمط إنتاج أصيل يهصر جميع الثقافات/ الحضارات/ ويمزقها ويطحنها ويفكك جزئياتها وكمالياتها، ويحول الجميع إلى أشكال متقاربة كالدمى الصناعية. الرأسمالية لا تكسر من داخلها أو خارجها، لا بالحرب ولا بالسلام، تنتقل مراكزها من مكان إلى آخر، وتُفعل فعل قوانين الرأسمالية في أية ثقافة/ حضارة/ تصبح مركز. الرأسمالية تتحول تحولات نوعية إلى أنماط آخرى، ولا تتراجع إلى الوراء على الاطلاق.
سيدفع الاتحاد الديمقراطي الكردي ضريبة علاقته مع النظام السوري الثمن غاليًا في قادم الأيام, عبر تعويمه, ووضعه في مقدمة الصراع العسكري, ليتحول إلى مجرد كرة, بأرجل القوى الدولية الفاعلة في الصراع في سورية, يتقادفه هذا الطرف أو ذاك حسب حاجة ومصلحة كل جهة أو طرف. اللعبة مع الكبار ثمنه غالي, خاصة إذا كنت ضعيفًا, مهزوزًا, سندك يأتي من دعم الأخرين, الذين يستخدموك عند الحاجة ثم يرموك إذا انتفت الحاجة. الموضوع صعب للغاية, جميع اللاعبين الداخلين في الصراع مأزومين, والدخول معهم في ظل تطورات الأوضاع الحالية لا يحتمل المغامرة. أرى أن الأخوة الأكراد سيخرجون من المولد بلا حمص, وسيكونون أكبر الخاسرين.
الأغلبية المتفائلة من زيارة الاسد لموسكو, واتصالات بوتين مع الدول الفاعلة في الملف السوري, لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال: ـ كلهم يجتمعون, يناقشون, يحللون, يحرمون ويربطون كل شيء بأسم الشعب السوري, في الوقت الذي لم يذكروا أي حزب سياسي أو قوى معارضة أو وضعوا أي فئة على أجندة حسابات الدول الفاعلة في الصراع؟ إن يدل هذا على شيء, فإنه يدل على أن النظام باق, وسينفذ أجندة الجميع إلا مصالح سورية وشعب سورية.
إن بنية الطائفة, العشيرة, الملة, المذهب, يحمل كل واحد من هذه المفاهيم هزيمته في بنيانه, في داخله, لإنه لا يعبر عن مشروع مستقبلي ولا يخرج, من القوقعة. إنه نزوع نحو الحطام والدمار, نحو ماض هلامي غير محدد المعالم. إنه بنيان مريض, رافض لمفهوم الدولة, الاندماج في المجتمع الكبير. إنه تقليص المجتمع على مقاس نخبة منفصلة عن الواقع, تأكيد لحضور عاجز, لفئات أو شريحة, لا تستطيع أن تكون جزءًا من مفهوم واسع, دولة للجميع, دون حمولات قذرة. وما نعرفه أن الطوائف لا يكسبون المعارك, بله أنهم يكرسون الانفصال عن الواقع, ويفتتون المجتمع إلى أجزاء, ويدفعونه نحو الهزيمة في أبشع أشكاله. وفي ظل ضعف الدولة الاستبدادية, لا تتمزق هذه الكيانات الماضوية فحسب, أنما تترسخ في ظل جذور الأزمات الوجودية. والمشكلة الأهم فيهم, عقدة الاضطهاد التي يعانون منه عبر قرون, ولا يمكنهم أن يتخلصوا منه. إنهم في حالة بحث عبثي دائم عن هوية. ويحتاجون الى اعتراف الأخرين بهم. إنهم جزء من عقلية الغزاة, يؤكدون حضورهم بالعنف أو الخضوع التام.
الضمان الاجتماعي في البلدان الغربية اعطى هذه المجتمعات توازنًا, استقرارا سياسيا واجتماعيا إلى حد بعيد. وأبعد هذه البلدان عن الخضات الاجتماعية أو الثورات السياسية على السلط السياسية, وعمق الانقسام الاجتماعي على الصعيد العالمي. بمعنى ان مصالح هذه المجتمعات موضوعيا, ليست مع مصالح الشعوب المسحوقة في البلدان الصغيرة والضعيفة كبلداننا. إن هروب الناس, من أمثالنا إلى البلدان الغربية, بشكل فردي, لا يحل المشكلة, إنما يزيد الفجوة اتساعاً.
الرأسمالية نظام متكامل له مؤسساته على المستوى العالمي يشرف على الدول ويتدخل في شؤونهم الداخلية والخارجية ويسير سيساتهم السياسية والاقتصادية ويوجههم في الاتجاه الذي يرغب ويريد. إنه شبه دولة فوق الدول. يخلق الحروب, يؤمن السلاح للمحاربين, والغذاء واللجوء والماوئ للفارين من جحيمه, والجوائز لمن يكتب عنه. ومكاتب للموظفين لمراقبة تطوراته, ومنابر للتحدث عنه بما في ذلك الفنادق والمطاعم والاستراحات للإشراف على كل شيء. حتى في دفاعكم عن دينكم, قوميتكم, طائفتكم, تضعون لبنة في مدماك هذا البناء الرأسمالي الشديد القوة والتماسك. نقول عنه نظام لا إنساني, بيد أنكم لا تصدقون.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس فنية وسياسية واجتماعية ــ 324 ــ
-
هواجس وأشياء من الذاكرة 323
-
هواجس ثقافية ــ 322 ــ
-
هواجس ثقافية وفكرية ــ 321 ــ
-
هواجس عامة ــ 320 ــ
-
هواجس أدبية ــ 319 ــ
-
هواجس أدبية وفكرية وسياسية ــ 318 ــ
-
هواجس أدبية 317
-
هواجس ثقافية ــ 316 ــ
-
هواجس ثقافية 315
-
هواجس عامة وخاصة 314
-
هواجس سياسية 314
-
هواجس عامة 313
-
هواجس فكرية وسياسية وأدبية ــ 312 ــ
-
هواجس متعددة ــ 311 ــ
-
هواجس فكرية وسياسية ــ 310 ــ
-
هواجس متفرقة ــ 309 ــ
-
هواجس فكرية 308
-
هواجس عامة ــ 307 ــ
-
هواجس سياسية وفكرية وأدبية 306
المزيد.....
-
بالصور.. الحكومة السورية المؤقتة تسلّم أمريكيا كان مسجونا بأ
...
-
-الحمار رحل-.. صور خالدة لسوريين بالشوارع احتفالا بسقوط بشار
...
-
فنزويلا.. مصرع 8 أشخاص بينهم 7 أطفال بانفجار أسطوانة غاز في
...
-
تايلاند.. مقتل 4 أشخاص بتفجير في حفل خيري
-
نقل نانسي بيلوسي إلى المستشفى بعد تعرضها للإصابة
-
-أكسيوس-: مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط زار السعودية واجتمع
...
-
قوات العمليات العسكرية تدخل سد تشرين ودعوات لحمايته
-
فيدان: أقنعنا روسيا وإيران بعدم مساعدة الأسد قبل سقوطه
-
قرب حمص بسوريا.. فيديو حللته CNN يكشف تحركات جنود ومعدات روس
...
-
اختلاف رواية سقوط بشار الأسد بين بايدن ونتنياهو.. محلل يوضح
...
المزيد.....
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|