زكية خيرهم
الحوار المتمدن-العدد: 8138 - 2024 / 10 / 22 - 08:25
المحور:
الادب والفن
علي الإدريسي، في كتابه "عبد الكريم الخطابي والتاريخ الحي المعاصر"، يعيد إحياء سيرة بطل المقاومة الريفية بطريقة تربط بين نضاله المحلي وتأثيره العالمي. من خلال دراسته العميقة، يكشف الإدريسي عن بُعد جديد لعبد الكريم الخطابي كرمز عالمي للتحرر، مؤكداً أن ذاكرة هذا البطل لا تزال تلهم حركات التحرر عبر الأجيال، مما يجعله ليس فقط بطلًا مغربيًا، بل عالميًا وذاكرة خالدة لا تُنسى. الكتاب ليس مجرد دراسة تحليلية؛ إنه سرد إنساني مؤثر لشخصية ملهمة عاشت تجربة مليئة بالصراعات والتحديات. الإدريسي لا يكتفي بتقديم الخطابي كقائد عسكري فقط، بل يقدم صورة حية لبطل شعبي يعكس إصراراً على الحرية والكرامة. ينسج الإدريسي بين الأحداث التاريخية والتجارب الإنسانية الصعبة التي عاشها الخطابي، سواء في ساحات المعارك أو في منفى العزلة، ليظهر عمق تضحياته وإيمانه بالعدالة. هذا النهج يجعل الكتاب يربط ببراعة بين نضال الخطابي وظروفه التاريخية والاجتماعية، مؤكدًا تأثيره الدائم على الأجيال الحالية والمستقبلية.
علي الإدريسي، من مواليد الحسيمة عام 1945، له مسار أكاديمي طويل وغني، فقد شغل مناصب تعليمية في جامعات مرموقة مثل جامعة محمد الخامس في الرباط، وكان أستاذاً سابقاً في جامعة الجزائر. شغل أيضاً مناصب دبلوماسية كمستشار ثقافي في سفارات المغرب بكل من الجزائر وتونس، وشارك في العديد من الأنشطة الأكاديمية الدولية، خاصة في مجالات الفلسفة والتاريخ الإسلامي. أصدر العديد من الأعمال الأكاديمية، من بينها "الإمامة عند ابن تومرت" و"الاتجاهات الكلامية في الغرب الإسلامي"، وهو معروف بأبحاثه الدقيقة حول الفلسفة الإسلامية والتاريخ المغاربي. يسهم الإدريسي من خلال كتاباته في توضيح وفهم العوامل المؤثرة في الأحداث التاريخية والشخصيات القيادية التي ساهمت في تشكيل تاريخ المغرب الحديث.
الكتاب يقدم أكثر من مجرد سرد للأحداث التاريخية المتعلقة بحياة عبد الكريم الخطابي، فهو يغوص في أعماق شخصية استثنائية تمكنت من تشكيل تاريخ المنطقة بشكل عميق. من خلال صفحات الكتاب، يرسم الدكتور علي الإدريسي ملامح حياة قائد عاش في بيئة سياسية واجتماعية مضطربة، ولكنه لم يكن مجرد متفرج على الأحداث. بل كان شاباً في الريف المغربي، ينمو في قلب هذا التوتر، ويشعر بثقل الاحتلال الإسباني والفرنسي الذي كان يحاول السيطرة على الأرض والشعب. يقدم الكتاب صورة إنسانية غنية لعبد الكريم الخطابي وهو يتطور من شاب مغمور إلى قائد مقاومة فذ. في هذا السياق، لا يُنظر إلى معركة أنوال على أنها مجرد حدث عسكري؛ بل على أنها لحظة فارقة في حياة شعب بأكمله. معركة أنوال لم تكن فقط معركة بين جيشين، بل كانت اختبارًا للإرادة، والقدرة على التضحية، والشجاعة في مواجهة المستحيل. عبد الكريم الخطابي، بفضل ذكائه وحنكته العسكرية، قاد شعبه نحو هذا النصر الأسطوري الذي زلزل قوى الاستعمار. لكن الكتاب لا يتوقف عند لحظات المجد والانتصار فقط، بل يواصل تصوير حياة الخطابي في نفيه، تلك المرحلة التي على الرغم من قسوتها، لم تقتل روح النضال فيه. النفي لم يكن مجرد إبعاد جسدي، بل كان محاولة لطمس صوت مقاومته، لكنه ظل مشعلًا لنار التحرر في قلوب حركات التحرر ليس فقط في المغرب، بل في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي. الدكتور علي الإدريسي ينجح في تقديم حياة عبد الكريم الخطابي بشكل إنساني مؤثر، إذ يربط بين نضاله الشخصي وتلك النضالات الجماعية التي خاضها ضد الاستعمار. يبرز الكتاب كيف أن الخطابي كان رجلًا يعيش من أجل قضيته، وكيف أن حياته الشخصية والمهنية كانت تجسيدًا للتضحية من أجل الحرية والكرامة، ليس لشعبه فقط، بل لكل الشعوب المستعمَرة.
الكتاب لا يقدم فقط لمحة عن نشأة عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي، بل يغوص في قلب حياته وعلاقته العميقة بأسرته التي كانت البذرة الأولى لتشكيل وعيه السياسي والعسكري. الخطابي لم يكن مجرد قائد، بل ابن أرض تشبّع بتاريخها وموروثاتها، معزّزًا بشغف عائلته للاستقلال والكرامة. هذه البيئة السياسية والثقافية المحيطة به لم تكن مجرد خلفية لحياته، بل كانت المحرك الأساسي الذي قاده ليصبح رمزًا للنضال.
عندما يسرد الإدريسي تفاصيل معارك الخطابي، وخاصة معركة أنوال الشهيرة، لا يقتصر السرد على الأرقام والإستراتيجيات، بل يمتلئ الكتاب بالوصف الإنساني لعزيمة رجل استطاع توحيد القبائل الريفية المتفرقة وصنع من المقاومة حلمًا واقعيًا. كان الجيش الذي بناه الخطابي أكثر من مجرد قوات مسلحة، كان تجسيدًا للأمل والتحدي في وجه قوى استعمارية تفوقهم عددًا وعدة. والأكثر إثارة في الكتاب هو عندما يتناول الإدريسي جمهورية الريف التي أسسها الخطابي كأول تجربة لحكومة مستقلة في شمال إفريقيا. كان ذلك حلماً يراود الخطابي، حلمًا لم يكن مجرد رد فعل عسكري، بل مشروعًا سياسيًا متكاملًا يسعى لتحقيق الحرية والكرامة لشعبه. وعندما يروي الكتاب تفاصيل نفي الخطابي إلى جزيرة لارينيون، ثم انتقاله إلى مصر، يتحول الخطابي من قائد محلي إلى رمز عالمي للنضال. أصبح صوته مسموعًا في كل مكان في العالم العربي، وتحوّل إلى ملهم لحركات التحرر، لا سيما القادة الثوريين الذين ساروا على خطاه. وفي مواجهة محاولات الاستعمار طمس إرثه، يبرز الكتاب روح المقاومة التي رفضت الانكسار. الإدريسي يعكس مدى الإصرار الشعبي على الحفاظ على ذكرى الخطابي، وعلى أن تظل ذاكرته حية في قلب كل مغربي. هذا الكتاب هو دعوة مخلصة لاستعادة الذاكرة الجماعية والحفاظ على تاريخ النضال الوطني الذي يمثله عبد الكريم الخطابي، إنه شهادة حية على مسيرة رجل شكّل أحد أعظم فصول تاريخ المغرب. الكتاب يقدم للقارئ تجربة غنية وفرصة فريدة للغوص في أعماق فكر وحياة عبد الكريم الخطابي، القائد الذي لم يكن مجرد ثائر ضد الاستعمار، بل كان روحاً ملهمة تنبض بالشجاعة والإصرار. الإدريسي ينجح في أن يظهر كيف أن الخطابي لم يكن مجرد قائد عسكري فحسب، بل رجل يجمع بين الحكمة السياسية والبراعة العسكرية بطريقة فريدة. نضاله لم يكن فقط معركة على الأرض، بل كان معركة من أجل الكرامة والحرية، وهو ما جعل من تجربته مرجعاً لكل حركات التحرر في العالم. وفي ثنايا الكتاب، نكتشف الجوانب الإنسانية لهذا القائد. الإدريسي لا يتناول فقط معاركه وإنجازاته، بل يتعمق في لحظات الوحدة التي عاشها الخطابي في منفاه، وكيف كانت تلك المرحلة تحدياً نفسياً ومعنوياً كبيراً له. نرى رجلاً يحارب ليس فقط الاستعمار، ولكن أيضًا الألم الشخصي والمصاعب التي رافقت نفيه. هذه الجوانب تجعل من الكتاب شهادة حية على إنسانية عبد الكريم الخطابي، وتجعلنا ندرك كيف استطاع أن يصمد ويواصل نضاله. كتاب "عبد الكريم الخطابي والتاريخ الحي المعاصر" ليس مجرد استعراض للأحداث التاريخية، بل هو جسر يربط الماضي بالحاضر، ليذكّرنا بأهمية الحفاظ على ذاكرة هذا البطل في وجدان الشعب المغربي. الدكتور علي الإدريسي ينجح في أن يعيد الحياة إلى شخصية الخطابي من خلال سرد يثير العاطفة والوجدان، ليجعل من قصته نبراساً يهتدي به كل من يسعى نحو الحرية والاستقلال. الكتاب هو دعوة لكل قارئ لكي يتأمل في هذه الشخصية الاستثنائية، ويغوص في أعماق الأحداث التي ساهمت في تشكيل تاريخ المغرب الحديث. شخصية مثل عبد الكريم الخطابي ليست مجرد رمز تاريخي، بل هي نبض حيّ يلهم الأجيال المتعاقبة، ويحثهم على مواصلة السير في طريق الحرية والكرامة.
#زكية_خيرهم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟