زكية خيرهم
الحوار المتمدن-العدد: 8093 - 2024 / 9 / 7 - 20:08
المحور:
الادب والفن
بين ثنايا الحشود المتلاطمة، تولد الأفكار كما يولد النور من شقوق الليل، لا بفعل التأمل العميق أو الحكمة الساكنة، بل بدفعٍ عميق من العاطفة، من إيقاع لا يتوقف في صدور الجماهير. هناك، في تلك الساحات المزدحمة، تبرز الزعامات كما تبرز الشموس من وراء الغيوم، لا تهب نفسها من نور العقل وحده، بل من قدرة خارقة على لمس أوتار اللاوعي الجمعي، تلك الأوتار التي ترتعش بمجرد همسة أو نداء. القادة، هؤلاء الذين هم أشبه بالسحرة في حركاتهم، يمتلكون فنًّا نادرًا: فنّ التلاعب بالقلوب، حيث تكون الكلمات أجنحة تُحلق فوق الحشود، لتبذر فيهم بذور الأمل أو الخوف. تلك الكلمات لا تُسمع فحسب، بل تُحس، وتتحول مع التكرار إلى معتقدات راسخة، كأمواج البحر التي لا تتوقف حتى تنحت الصخور. وفي هذا المسرح الكبير، لا يطلب القائد من الجماهير أن يفكروا، بل يطلب منهم أن يؤمنوا، أن يشعروا. فتلك الجماهير، بسطائها ومتأملوها، يتحولون في لحظة واحدة إلى جسمٍ واحدٍ ينبض بقلوب متوحدة، تطير أحلامها إلى السماء على جناحي الحلم، أو تغوص إلى أعماق الأرض تحت وطأة الخوف. ما أشبه القادة بالشعراء في تلك اللحظات! ولكن شعرهم ليس بالكلمات، بل بالأفكار التي تُسافر عبر الأثير. يتحدثون بلسان النار، فيجذبون الانتباه، ويغذّون الرغبات الخام، تاركين للعقل هامشًا ضيقًا في هذه اللعبة الوجدانية. وهكذا، تصبح الجماهير تروسًا في آلة كبيرة، تتحرك بلا وعي، مدفوعة برغبة جماعية لا تعرف لها نهاية. وفي هذا التحول، حينما تذوب الفردية في بوتقة الجموع، يصبح القائد سيدًا للزمان والمكان، يصوغ الرؤى والمصائر كما يشاء. الجماهير تتحول إلى قصيدة عظيمة، ولكنه هو من يكتب البيت الأول والأخير، تاركًا ما بينهما حروفًا يتراقص فيها الحلم والشجن، والحقيقة والوهم.
#زكية_خيرهم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟