أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أمل فؤاد عبيد - آليات العولمة .. آثارها وتجلياتها















المزيد.....



آليات العولمة .. آثارها وتجلياتها


أمل فؤاد عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 1782 - 2007 / 1 / 1 - 08:26
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


من المعروف أن العولمة ما هي إلا نظام رأسمالي متطور .. وقد كانت الرأسمالية تعتمد في توجهاتها نحو هدفين لا ثالث لهما ظلا كثوابت استراتيجية .. بالرغم من التغيرات الداخلية خاصة ما يتصل بالآليات المستخدمة لتحقيق هذين الهدفين وهما أولا التركيز على التجديد والتطوير والإبداع في داخل النظام الرأسمالي ذاته بهدف تحقيق نمط نموذجي بالقوة العسكرية أو الاقتصادية والحضارية والسياسية1 .. والتي يتميز بها عن أي نظام آخر يمكن أن ينافسه .
أما الهدف الثاني فيتمثل في تأكيد الهيمنة الخارجية من أجل تحقيق الهدف الأول2 .. وما كان من مشروع الهيمنة ودعمها سوى تكريس التخلف وتراكمه في الدول الأخرى والتي احتلت موقع التابع للمركز القوي المتمثل في القوى العظمى وملحقاتها .
وكان لا بد لفرض الهيمنة وتسهيل شروطها لتشمل أكبر عدد ممكن من الدول إيجاد آليات سريعة وفعالة كالتطورات التقنية وتطور أدوات الاتصال والمعلوماتية الحديثة التي عملت على إمكانية الهيمنة لتتجلى على صعد مختلفة من اقتصادية وسياسية وثقافية .. إذ من خلال هذه التطورات أصبح من الممكن التعامل والإطلال على ثقافات قومية وأوضاع اجتماعية متميزة .. وكانت المهمة الأولى للعولمة هي تدويل الاقتصاد وتدويل رأس المال وقوة العمل والإنتاج وأيضا تدويل أنماط الاستهلاك وتدويل الثقافة كذلك .
وقد كان تدويل رأس المال الاقتصادي من خلال خلق سوق مشتركة أو موحدة أي توحيد أسواق الإنتاج والاستهلاك وتدعيم أواصر الصلة بين مصالح الفئات الأكثر اهتماما ونشاطا بل والأكثر قوة على إدارة العملية الاقتصادية وتداخلها .. والموجهة للأنشطة الإنتاجية في الدول المختلفة .. وهو ما لق نوعا من الحراك الاجتماعي أثر على البنى التقليدية في المجتمعات التابعة الأقل تطورا .. مما أدى في المرحلة الحالية إلى ظهور متزايد ومضطرد للبطالة واتساع الفجوة إن كان بين الدول ذاتها أو بين الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة على مستوى الدولة الواحدة .. فقد أدت حرية انتقال السلع ورؤوس الأموال عبر الحدود .. دون أي قيود .. إلى الإقلال بل الاستغناء عن اليد العاملة ومن ثم ظهور مشكلة العمالة التي أصبحت من أهم العوامل الأساسية لظهور البطالة وتفشيها بصورة واسعة على مستوى العالم كله .. مما نتج عنه فارقا طبقيا بينا نتيجة تفاوت توزيع الدخول .. وتفتيت البنية الاجتماعية . وانطلاقا من هذا يرى مؤلفا الكتاب ( فخ العولمة ) أن المنافسة المعولمة أصبحت تطحن الناس طحنا .. وتدمر التماسك الاجتماعي .. وتعمل على تعميق التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين الناس3 . فإذا كانت العولمة تعد رديفا لتنامي الرأسمالية عبر أربعة قرون الأخيرة .. فما الذي استدعى أو استجد راهنا ليستدعي حضورها الطاغي ؟


الآليات المباشرة

أولا / تحرير السوق والليبرالية والخصخصة

من الأسس الاستراتيجية الهامة في دعم النهج الاقتصادي الأمريكي أو الغربي عامة هو خلق مجال أو دائرة قابلة للتوسع بما يخدم الأهداف المستقبلية الغربية .. وقد كانت هذه الآلية والتي تعتمد على تحرير السوق والليبرالية الجديدة والخصخصة من أهم الآليات الاقتصادية التي تفعل فعلها في توكيد منهجية أو تأسيس هيكلة اقتصادية قادرة على الإيفاء بكل ما تحتاجه السوق الأوروبية – الأمريكية لدعم منتجاتها وضمان تسويقها على نطاق واسع مما يعمل على اشتغال رأس المال وزيادة مردوده المادي .. وهو ما أدى على زيادة الاهتمام والاعتماد على قانون العرض والطلب والذي كانت له تأثيراته البعيدة المدى في خفض الأيدي العاملة وخفض الأجور وغياب الرفاهية .. فرأس المال ( كتلة أنانية تتحرك في كل الجهات باحثة عن الربح والزيادة والتكديس ) .. وهو المادة الوحيدة أو هو الشيء الوحيد الهتم والذي لا بد من تنميته دون الاهتمام بالحدود أو البلدان أو الشعوب إلا بقدر ما تنفعها .
هذا إلى جانب الانفتاح الاقتصادي وإلغاء التعريفة الجمركية .. وتحرير التجارة وإقامة التكتلات الكبرى من الشركات العابرة للقوميات .. والبحث عن الأسواق في أي بقعة من العالم .. كل هذا يسرع في تنمية وإنضاج مسيرة العولمة .. وتندرج في هذا الإطار السوق الأوروبية المشتركة والوحدة النقدية الأوروبية اللاحقة .. وقد ردت الولايات الأمريكية وكندا والمكسيك بأن قامت بدورها بتأسيس منطقة التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية المسماة بالنافتا 4 .

ثانيا / إنشاء المؤسسات الليبرالية

( الشركات العابرة للقارات ( أو ( الشركات المتعدية الجنسية ) أو ( الشركات المتعددة الجنسية ) أو ( صندوق النقد الدولي ) أو ( البنك الدولي ) أو ( منظمة التجارة العالمية ) هي المؤسسات الرئيسية أو الهياكل الاقتصادية المركزية التي تجسد الليبرالية الجديدة في صورتها المتطرفة .. وهي تعني – ضمن ما تعني – موتا محققا للعالم الثالث5 ..
والتي تتحدد مصالحها من خلال ما تتخذه من استراتيجيات ( معولمة ) بكسر اللام .. لها نهجها الخاص لفرض قوانين مالية لها فاعليتها في مجال ( السوق , وتداول العملات , وتبادل المصالح , وترويج السلع ) خاصة وأنها تعتمد في تطورها على ( الاستفادة من فروق الأسعار أو نسبة الضرائب أو مستوى الأجور .. انتهاءً بتركيز الإنتاج في المكان الأرخص ونقله إلى الاستهلاك في المكان الأعلى على مستوى الكرة الأرضية .. ولم لا والعولمة هي صناعة الأسواق التي تضمن عالمية التصدير والاستيراد6 .
فمثلا الشركات المتعددة الجنسيات تتكون من عدة فروع تتوزع أنحاء العالم من خلال الإنتاج والتمويل والتصدير والتوزيع .. مما جعلها تتسم بعدم التمركز في مكان واحد وبالتالي تتخذ لها مواقع متفرقة وكثيرة .. فهي مثلا تقوم باستخراج المادة الخام من بلد معين وفي بلد آخر تقوم بتحويله على مادة وسيطة .. لتنتجه على شكل مادة نهائية في بلد ثالث .. وهكذا كما أن هذه الشركات تعتمد على رؤوس أموال كبيرة لإنجاز مشاريعها .. لذا تستطيع هذه الشركات تحريك أو تسيير أموالها بحرية بفضل قوانين حرية التجارة العالمية .. من أي مكان لأي مكان آخر .
أما ( صندوق النقد الدولي ) و( البنك الدولي ) و ( منظمة التجارة العالمية ) فقد أنشئت بهدف صك القوانين التي من خلالها يمكن تسيير العالم تبعاً لأهداف الرأسمالية العالمية .. أو تبعاً مع ما يتماشى وشروط الشركات المتعدية الجنسيات .. وهي بذلك تمثل مرحلة جديدة من مراحل تطور الرأسمالية عابرة القوميات تكرسها سياسياً واقتصادياً سياسات وقوانين هذه المنشآت العالمية .. وحيث وكما قلنا سابقا أن هذه المنظمات تمتلك فعالية كبيرة في رسم وتوجيه السياسات الداخلية في معظم بلدان العالم .. ولا شك أن لمثل هذه التوجهات آثار اجتماعية كبيرة على أوضاع المجتمع المدني .. حيث تؤدي برامج وشروط صندوق النقد الدولي فيما يسمى ببرامج التكيف الهيكلي في العديد من البلدان إلى انفجارات اجتماعية كبرى آخرها ما حدث في أندونيسيا واليمن 7.. ولكن لنا أن نسأل علام تقوم سياسات هذه المؤسسات والمنظمات ليصبح لها هذه القوة وهذه الإمكانات في التحكم المباشر في العالم كله عبر الحدود ..؟ أو ما هو مصدر نشأتها وتكوينها !؟ وهذه القوة كيف تأخذ لها هذا الموقع الاستراتيجي وما هي سبل الهيمنة وسلطتها ..؟ نستطيع أن نجيب على هذه الأسئلة من خلال الواقع الذي تعايشه هذه الدول .. حيث نجد أن هذه المؤسسات قد اصبح لها وجودها الفعلي في كافة أنحاء العالم ومن خلال إحكام قبضتها على أوجه النشاط الاجتماعي كافة استطاعت أن تقبض أيضا على سبل التنمية الاجتماعية فيها .. دون أن تبذل أدنى مجهود في ذلك .. مستغلة مفهوم التجارة كآلة من آلات المجتمع الضرورية والحيوية .وقد حددت هذه المؤسسات في برنامج عملها عدة توجهات ضرورية تعتبر ألوى مهامها الرئيسية : أولا / لقد اتجهت هذه الشركات – ورغبة في الربح الكثير والسريع – على إقامة مصانعها وخطوط إنتاجها في الدول النامية .. بالأخص الفقيرة وذلك لوجود سوق العمالة الرخيصة .. حيث أن البلدان المتقدمة والتي تأسست فيها هذه الشركات ليس لها من دور سوى الأرباح بتقليل التكلفة .
ثانيا / كما اتخذت لذلك السبب وسيلة ( تصدير فرص العمل إلى الدول الفقيرة أو دول الجنوب ) حيث التكاليف من استعمال العمال ورسوم الضرائب منخفضة كثيرا عن دول الشمال .. وبالتالي تحقيق ربحية أكبر .. إلى جانب تسخير هذه الدول لتصنيع المواد الأولية للصناعات الكبيرة في الدول الرأسمالية .
ثالثا / - وبناءً على إمكانية التقنيات الحديثة في مجال الاتصالات استطاعت هذه المؤسسات التحكم في توزيع الإنتاج على أماكن مختلفة من العالم .. ومن ثم التحكم في توزيع المنتجات والخدمات .. بحيث أصبحت الصناعات المحلية لا قيمة لها بالضرورة .. بالقياس إلى المنتجات العالمية .
رابعا / من خلال ما تنتهجه من سياسة توزيع الدخل والإنتاج .. تمكنت من توقيع الكثير من العقود بينها وبين تلك الدول .. أو بينها وبين تلك المناطق التي تسمى بأماكن ( الإنتاج المفردة ) وبهذا تستطيع أن تمارس معاملاتها المادية التجارية بأقل التكاليف .. من دفع للضرائب أو دفع رسوم المنشآت الأساسية التي تنشئها .. كما أنه في إمكانها فرض عقوبات كيفما ترى على الدول الوطنية التي ترفع أسعارها أو تحاول معاداتها لأي استثمار لهذه المؤسسات فيها .. كما أنه بإمكانها سحب استثماراتها من بلد لآخر حسب ما تفرضه مصلحتها مما يتسبب عنه فقدان الآلاف من العمال لوظائفهم ويكون ذلك سبباً مباشراً لتفشي البطالة والفقر .
خامسا / تعمل هذه المؤسسات والمنظمات على أن تفصل ما بين الدول التي تشكل مناطق للإنتاج وتلك المناطق التي تجعلها مجالاً لاستثماراتها المالية .. وتلك المناطق التي تقيم فيها بنشاطها الذاتي وهي الأمكنة الأكثر جمالا .. وذات الضريبة الأكثر رخصا8 ..

ثالثا/ الهيمنة الاقتصادية

المقصود بالهيمنة الاقتصادية هو السيطرة أيديولوجيا واحدة على كل مناحي الحياة في كل بلاد العالم .. ويأتي ذلك من خلال منهجية التغلغل الداخلي وذلك بصياغة نمط رأسمالي يراد أن يكون هو النمط الوحيد الذي يؤخذ به داخل بلدان العالم .. وبالأخص البلدان النامية أو العالم الثالث .. حيث أن هذه السيطرة ستفض ي على أن تكون منظومة الرأسمالية هي المنظومة التي ستحد من تطور تلك الدول ويؤدي بها إلى التبعية اللازمة والضرورية لتأكيد مفهوم الهيمنة وترسيخ فاعليتها وذلك من خلال إعاقة أي مظهر من مظاهر النمو الاقتصادي المحلي بأن تأخذ بسبل تطوير نمط الإنتاج القديم على نمط الإنتاج الرأسمالي – الصناعي .. كما حدث في المجتمعات الغربية .. وقد تمت هذه الإعاقة أولا عن طريق ( استنزاف فائض الإنتاج وتصديره على الخارج وعدم السماح بتراكمه داخلياً )9. ثانيا بأن اتجهت لتدمير الصناعات الوطنية التي يمكن أن تنافس المنتجات الصناعية للبلدان الاستعمارية في الأسواق المحلية والعالمية بأن أغرقت الأسواق المحلية بالسلع والمنتجات المستوردة .. هذه الهيمنة الاقتصادية تسهل عملية الاستلاب لأدوات هذه الدول والحد من إمكانات التطوير لكل ما يفيد العولمة وأهدافها الإمبريالية المباشرة .


الآليات غير المباشرة أو الداعمة


أولا / الهيمنة السياسية

من الواضح أنه – ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي – أمريكا تسعى لأن تنفرد بالشأن السياسي العالمي دون أن يكون هناك منافسا لها في إصدار القرارات .. أو قطباً يعيد للعالم التوازن المطلوب .. ومنذ تلك اللحظة وهي تسعى لأن تحافظ على مصالحها دون أن تقيم أي اعتبار لأي دولة غيرها .. لذا كان من ضرورات هذا المطلب أن تسعى إلى تغيير سياسات العالم كله .. وبأن تتبنى نموذجا يراعي مصالحها ويحرص عليها .. فما كان منها إلا أن صكت قوانين تجارية ترمي إلى استلاب الدول أو الحكومة بمعناها الواسع حقها المشروع في القيام بواجباتها ومسؤولياتها التقليدية أو المعروفة .. وما ذلك إلا لتسهيل ما تنويه أو ما تخطط له من فرض لسيطرتها وهيمنتها .
إذا فإن الغرض من هذه الهيمنة السياسية هو سحب الامتيازات الخاصة بـ ( الدولة ) أو ( الحكومة ) وذلك بأن ذلك يجعل منها سلطة غير قائمة بالفعل .. فهي استراتيجية ضرورية لنفوذ المشروع الليبرالي ( العولمي ) .. فعندما تضيع السلطة الوطنية والقومية إشرافها على شؤون الاقتصاد والتجارة والإعلام وتتركه .. ( مخيرة ) أو ( مجبرة ) لصالح الشركات العابرة للقارات ولفوضى السوق والتنافس الأعمى .. فإن هذا يقود إلى دمار الهياكل الاقتصادية .. وضعضعة الاستقرار .. وحلول مجتمع المخلب والناب .. لذا فإن استعادة الإرادة السياسية على الاقتصاد هي المهمة المستقبلية الأساسية 10.. فقد تم توظيف ( الانحسار التدريجي لسلطة الدولة مما أدى إلى فقدان الدولة حتى في البلدان الصناعية الكبرى لأدوارها الوظيفية الأساسية .. إلا أن ذلك أثر بشكل أخطر على الدول الأقل نمواً حيث فقدت الدولة مصداقيتها في النهوض بمواطنيها11 ) فمن الواضح أن جميع القادة السياسيين – رغما عنهم – لم يعودوا يمتلكون الكثير من المجالات السيادية الفعلية التي من أولوياتها اتخاذ القرار .. إلا أنهم يتصورون بأنهم قادرون على حل المسائل الرئيسية12 .. وما يدل على ذلك أن الأزمات الدائمة في المالية الحكومية ليست سوى مظهر واحد من بين المظاهر الكثيرة للانحطاط السياسي .. فإلى جانب افتقاد الدولة للسلطة .. حيث يندفع مرتكبو الجرائم المتعدية الجنسية 12 .. حيث يسهل انتشار كافة ألوان الانحرافات الأخلاقية والسلوكية وتفشي صور لا حد لها من الجريمة وذلك للانتفاع فيما يعمل على ترويج المخدرات وكل ما هو قادر على تراجع الشعوب وتخلفها وبقائها في صفوف التابع للمراكز الاقتصادية العالمية الغربية .
كما أن كثير من المفاهيم السياسية قد فرغت من مضمونها الحقيقي .. فمثلا نجد أن الديمقراطية قد تحولت ولصالح العولمة وأهدافها ( على مجموعة من القوانين والتدابير السياسية التي تعمل على تسهيل أداء اقتصاد السوق ليغطي كل مناحي الحياة .. إذ تقاس قيمة كل شيء بمردوديته المالية .. فلا قيمة إلا قيمة المال والسلعة .. وهذا ما يؤكده الخطاب الرسمي لمفكري العولمة الاقتصادية 13 .. كما يقول روجيه جارودي ..


ثانيا / تبديد الهوية ونفي الخصوصية

كانت أهم مساعي العولمة نحو تأكيد هويتها وترسيخ مفهومها .. والتي لا يتم لها ذلك إلا من خلال استراتيجية أساسية ومحورية قد تبناه الفكر العولمي ألا وهو محو الخصوصيات الثقافية والفكرية والأيديولوجيات لكل البلاد التي تقع على هامش العولمة أو تلك البلدان التي تسمى بدول العالم الثالث والتي هي في موقع التابع .. ولتكون لها التبعية الكاملة والشاملة .. كان لا بد من خلق نموذج عولمي والعمل على دفع الدول إلى الاحتذاء به .. وقد كانت السياسة الغربية تعمل على استبعاد العالم الثالث من خلال فعالياتها العسكرية في الماضي وفرض السلطة العسكرية ..لكن اليوم وقد تغير وجه الاستعمار الغربي لدول العالم الثالث وقد اتخذت لها صور أكثر تغلغلا في قلب هذا العالم منها السيطرة الفكرية والوجدانية والعمل على تفكيك البنية الفكرية والعقلية بكل انتماءاتها الدينية والأيديولوجية والفكرية .. وكل ما ينتج عنها من سلوكيات كانت هدفاً لترسيخ وتأكيد النموذج الغربي في فكره وسلوكه .. ذلك النموذج الذي يعبر عن نمط ( معين من الحياة شاع الاعتقاد بضرورة اتباعه بل وتبنيه كفلسفة ونظرة معينة إلى الحياة والكون14 .. ومن أهم ملامح هذه الفلسفة وأهم بنودها الرئيسية هو التخلي عن فكرة الخصوصية .. وقد كان لها ما تمنت من خلال إلغاء الحدود القومية للبلاد أولا .. ثم باكتساح هذا النمط لحياتنا 14 .. وهو لا يخفى علينا نوع من التنميط السلوكي الإنساني أو السلوك البشري ( في اتجاه ثقافة معممة أو ما يسمى بثقافة الأمركة خاصة في ظل تزايد سرعة النقل والمواصلات واتساع الأسواق وإزالة الحواجز أمام انتقال المعلومات والأفكار 14 .. وهو الوضع الذي ساعد على إفراز تيارات مناقضة للعولمة .. تحاول إحياء السلفية تحت تبرير الخصوصية الثقافية .. ولذلك يقرر البعض بأن الهجوم الكاسح للعولمة سوف يؤدي على النكوص نحو التثبت بالثقافة والهوية القومية 15 .. وذلك لعدم مواءمة ما يتم استيراده من النماذج الغربية لطبيعة احتياجات العالم الثالث .. وحيث أن الثقافة باتت مثلها وأي سلعة أخرى قابلة للتداول وعلى مستوى واسع النطاق إذ أنها تحررت من القيود الجمركية .. كما أنها دخلت مجال المنافسة غير المتكافئة .. فالدول التي تمتلك تقنية معرفية واتصالية ثقافية أكبر هي القادرة على التسويق في السوق العالمي .. ولأن عدم التكافؤ بين الدول مسألة واردة .. بل واقع لا مفر منه يصبح التثاقف ( المثاقفة ) أو التبادل الثقافي بين الشعوب ضربا من الخيال15 .. وهو ما ينتج عنه بالطبع انتشار ثقافة على حساب الثقافات الأخرى وقد تطغى بعض الثقافات على غيرها .. مما ينتج عنه ضياع الخصوصية الثقافية لتلك البلدان التي هي أقل تطورا واقل إمكانات ثقافية متطورة .
من هنا تطرح قضية العالمية ( عالمية الثقافة ) نفسها .. والسؤال الهام هو : هل تؤدي عولمة الاقتصاد والتقانة على أن تتواكب معها عولمة الثقافة ؟ ليس مؤكدا أنه بقدر ما نقترب من بعضنا البعض .. وبالتالي من ثقافات وتقاليد متنوعة ومختلفة في مصادرها قد يعود أكثرنا أو جزء منا إلى البحث عن الهوية والتأكيد عليها خوفا من الضياع من دون أن يعني التأكيد على التمايز الثقافي .. تأكيدا على الانقطاع الاقتصادي 16 .. فإن العالم اليوم يواجه فيضا من الأحداث والوقائع والأفكار والمفاهيم المتباينة والمتنوعة وغزواً متواصل من المعلومات والصور والقيم القادمة من الخارج .. وهذه كلها خارج شرطها التاريخي لم تشارك في إنتاجها .. لهذا كان الإحساس بالهوية يتراجع يوما بعد يوم مما آثار أزمة الهوية والتي أصبحت من أهم المسائل التي تواجه التفكير الإنساني اليوم على المستوى العام . من ناحية أخرى ونتيجة لهذه الأزمة بدت الأيديولوجيات التاريخية والتي تمثل مرجعيات ثابتة تمنح القوة والصلابة .. نجد أن انبعاثاً قوياً لأيديولوجيات قديمة .. انبعثت بصورة مجردة من أي نزعة إنسانية كانت قد منحتها لها ظروفها التاريخية التي نشأت فيها .. وهو ما أعطاها منحاً آخر بعيد كل البعد عن منحاها الأصلي .. متخذة نهجاً جديداً لها يؤكد العودة على العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية أو القومية الضيقة .. تلك ( التي تبرر التطهير العرقي أو تلك التي تلغي أي قيمة روحية – إنسانية وتفتح الطريق نحو سلوكيات بلطجية ونازية .. لا تضع حدوداً لسلوكها إلا قواها الذاتية .. على حساب السيطرة والنهب والاستغلال والتلاعب بعقول الناس وأرزاقهم )16 ..


ثالثا / توظيف العلم للاختراق الثقافي

لقد لمسنا من قبل محاولات عدة من جهة الغرب للاختراق الثقافي .. فالاختراق الثقافي ليس أسلوبا حديثا لم تخبره مجتمعات العالم الثالث من قبل17 .. إنما هو آلة من آليات الهيمنة والسيطرة منذ تاريخ الاستعمار الأول .. إلا أنه إلى جانب هذه الوسيلة الفعالة استجدت على الآلة الاستعمارية أساليب ووسائل متطورة جاءت متكيفة بما تناسب ويتلاءم والتطورات الفكرية والسلوكية لهذه المجتمعات .. ولتتم محاولات الاختراق الثقافي .. وتنجز مهمتها .. كان لا بد أن يكون ذلك مسبوقا بكثير من البحوث الأكاديمية والدراسات الاجتماعية والنفسية وتوظيفها لمعرفة الأبعاد الرئيسية لدول العالم الثالث الهدف منه وضع مخطط مدروس من قبل الجهات الغربية لضمان الفاعلية القصوى لكل ما تتوجه له هذه البلدان من سيطرة ثقافية أو محاولة السيطرة ثقافيا أو إعلاميا لتثمر جهودهم وتحقق المطالب والأهداف المستقبلية لهذه الاختراقات أو الهيمنة .. كما أن التكنولوجيا الحديثة في كثير منها قد وظف بما يساعد على الاختراق الثقافي والإعلامي بهدف تغيير البنى الثقافية التقليدية .. وتبديد أي تنمية مستقبلية لا تتفق وأهداف الاستراتيجية العولمية الغربية .. وتشتيت الفكر وتشرذم القوى السياسية والاقتصادية .. وانهيار البنى السياسية التقليدية وانحسار السلطة الوطنية .. كل ذلك بعد دراسة هذه البنى وهذه الهياكل وتحليل هذه القوى بكافة الوسائل العلمية وكافة الإمكانات التي أنتجتها العقلية الغربية ( الأورو – أمريكية ) . فإن الثورة العلمية المتمثلة في وفرة المعلومات وتراكمها وإتاحتها للاستعمال عبر أوعية المعلومات من أهمها الحاسب الآلي 18.. كانت من القنوات المباشرة لغزو العقول ومن ثم السيطرة عليها بعد التأثير فيها وتوجيهها الوجهة المطلوبة .. فمن المشهور أن المعرفة سلطة وأداة هيمنة .. وأن من يملك المعرفة وأدوات توزيعها والقدرة على توظيفها .. يملك سلطة التحكم في العقول التابعة 18 .. لذا كان الاهتمام في هذا المجال من أوجب مهمات العولمة وأهدافها الرئيسية .. من خلال توظيف تقنية الاتصالات وصناعة الثقافة .. أو ما يسمى بالبنية التحتية للإعلام الشامل 19..لتوظيفها في توسيع قنوات الاتصال بأي شعب وفي أي مكان .. خاصة وأن هذه التقنية التي تخترق جميع مجالات النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ثلاثة قطاعات رئيسية .. المواصلات ووسائل الإعلام والحاسبات الإلكترونية19 .. نقول أن ثورة المعلومات هذه كانت نتيجة حتمية للثورة الصناعية التي تمت قبلها .. فإن ظهور الإنترنت ساعد على انتشار العولمة وذلك بسبب سرعة الاتصالات وسهولتها أيضا .. وهو ما ساعد على توفير المعلومة وسرعة الحصول عليها أيضا في أي مكان في العالم .. من هنا أيضاً يمكننا القول أن العالم بالفعل أصبح قرية كونية صغيرة .


رابعا / تعميم الثقافة الاستهلاكية

إن من أهم الضرورات اللازمة لتحقيق عنصر الهيمنة كان لا بد من وجود عامل مساعد لهذا الهدف .. فقد كان من الضروري فتح قنوات جديدة لهذه الهيمنة من خلال إلغاء عادات وسلوكيات تتنافى وهذا الهدف من جهة .. والسعي على نشر ثقافة جديدة .. عادات وسلوكيات جديدة .. من جهة أخرى .. وخاصة وأن هذه ثقافة العولمة لا يحركها سوى الاقتصاد ولا يدفعها سوى التقدم التكنولوجي .. وبما أن هذه الثقافة الجديدة تنمو في ظل التدفق السريع والكبير للسلع والمنتجات كانت الثقافة الاستهلاكية الغربية الجديدة من رئيسيات التوجه الاقتصادي المعولم وذلك من خلال خلق نموذج مدروس يفي بحاجات السوق العالمية .. ولأن أمريكا تطرح نفسها كنموذج واحد لا منافس له .. كان النموذج الأمريكي هو النموذج الذي لا بد أن أنماطا جديدة تكون دائما في موازاة مع متطورات السوق الأمريكية العالمية ومنتجاتها باستمرار .. وهي التي عملت على ترسيخ نمط الاستهلاك لدى الجماعات المختلفة وخاصة إنسان دول العالم الثالث الذي أخذه التطلع على اقتناء السلع الاستهلاكية التي تتغير يوميا لا في سبيل التطوير فقط .. بل في سبيل زيادة حدة الاستهلاك على المستوى العالمي 20 .. وما الثقافة الاستهلاكية إلا لتحقق الهيمنة التي هي السبيل الوحيد للمحافظة على قدرة النظام العالمي الرأسمالي في تطوير ذاته .. وتوزيع منتجاته وتأمين استقرار أوضاعه . ووصوله إلى مراحل الرفاهية داخل نطاق حدوده 20 .. كما أن الثقافة الاستهلاكية كإحدى آليات العولمة الرأسمالية قد تم التخطيط لها و الإشراف عليها من قبل الشركات متعدية الجنسية .. وذلك لإنتاج ثقافة تتواءم وتتكامل والسلع المادية المنتجة لها .. بأن قامت وبمساعدة مؤسسات تستخدم العلوم الاجتماعية والسلوكية .. في توظيف الدراسات المجتمعية والسلوكية لمعرفة البنية الداخلية للمجتمعات بما تحويه من ثقافات مختلفة ومتنوعة وذلك لمعرفة نقاط ضعفها ومن ثم الاستغلال المدروس لنقاط الضعف وتوظيفها في خدمة أهداف هذا التوجه الثقافي المعولم . فكثيرا من القيم قد تبدل اليوم وحلت مكانها منظومة مغايرة تؤكد القيم المادية وتعززها .. فلا قيمة غلا قيمة المال والسلعة .. لقد اصبح زوال القيم المعنوية والأخلاقية لصالح القيم السلعية .. وهو ما تنبأ به ماركس في منتصف القرن التاسع عشر – أمرا واقعا في أيامنا هذه 21 .. وهو الأمر الذي جعل لهذه الثقافة الاستهلاكية كآلية فعالة دورا بالغ الأهمية في ترسيخ التطلعات الاستهلاكية حيث نجد التطلع الشديد للبحث عن الجديد في الأسواق بغض النظر عن حاجة المجتمع إلى هذا الجديد من السلع .. كما أن هذه الثقافة الاستهلاكية قد شملت كافة المستويات .. والفئات المجتمعية المختلفة لذا نرى أن الاستهلاك لم يعد مقصورا على الفئات العليا .. إنما أصبح الاستهلاك بشكله الجديد معمماً على الفئات العمرية والفئوية المختلفة22 ..


خامسا / وسائل الإعلام والتقنية الحديثة

تتخذ وسائل الإعلام لها ثلاثة توجهات رئيسية للقيام بمهمتها العولمية وهي تكنولوجيا الوسيلة ذاتها بحيث تؤدي عملها على أوسع نطاق .. ثم أن المادة التي تنشرها وتبثها هذه الوسائل وما يمكن أن نسميه بعولمة الإنتاج الفني وقد تجاوزت وسائل الإعلام الصحف والمجلات والأشرطة إلى القرص الفضائي وشبكة الإنترنت العالمية .. إلى جانب أن عولمة الإعلام ذاته والمتمثلة في الوكالات العالمية للأنباء إذ نجد مثلا أن أربع وكالات أنباء عالمية غربية تحتكر وحدها الخبر وتصوغه بكل حرية وهي – الوكالة المشتركة للصحافة أسوسايتدبرس الأمريكية وهي أعظم وكالة أنباء عالمية , والوكالة المتحدة للصحافة يونايتد برس الأمريكية , ورويتر الإنجليزية , وفرانس برس الفرنسية .. فإذا كان الإعلام في السابق مرتبطا بالأرض فإن إعلام العولمة هو إعلام بلا وطن .. فالفضاء اللامحدود مثلما هو الوطن الجديد للعولمة فهو أيضا وطن لإعلامها .. إنه الوطن الذي تبنيه شبكات الإتصال الإلكترونية وتنسجه الألياف البصرية وتنقله الموجات الكهرومغناطيسية 23 .. وقد ورد تعريف لإعلام العولمة على اعتبار أنه من آليات الهيمنة التي تتخذها العولمة كهدف أساسي لترويج مادتها وسلعها المتنوعة عبر محيط لا نهائي له .. يقول السيد أحمد عمر نقلا عن المستقبل العربي العدد 256 ص 76 : إن العولمة هي سلطة تكنولوجية ذات منظومات معقدة .. لا تلتزم بالحدود الوطنية للدول .. وإنما تطرح حدودا فضائية غير مرئية .. ترسمها شبكات اتصالية معلوماتية على أسس سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية .. لتقيم عالما من دون دولة ومن دون أمة ومن دون وطن .. هو عالم المؤسسات والشبكات التي تتمركز وتعمل تحت إمرة منظمات ذات طبيعة خاصة .. وشركات متعددة الجنسيات .. يتسم مضمونه بالعالمية والتوحد على رغم تنوع رسائله التي تبث عبر وسائل تتخطى حواجز الزمان والمكان واللغة .. لتخاطب مستهلكين متعددي المشارب والعقائد والرغبات والأهواء .
لا شك انه لا بد لتوسيع نطاق الثقافة الغربية بكل ما تحمله من مفاهيم خاصة بها بأن يتم استغلال الإعلام والتقدم التكنولوجي في مجال وسائله المتنوعة لما له من دور كبير في تحقيق أهداف الهيمنة الثقافية تحقيقها على مستوى العالم كله .. وذلك من خلال صناعة ثقافة تعمل على تعريب الثقافة الوطنية24 .. أو تشويه البنى التقليدية وتغريب الإنسان وعزله عن قضاياه وإدخال الضعف والتشكيك في جميع قناعاته الوطنية والقومية والأيديولوجية والدينية 24.. وهو ما يخلق لديه استسلام وإحباط يدفعه على الخضوع لكل ما يعرض عليه من ثقافات .. توجهها قوى ونخب تعمل لصالحها الخاص فقط . وهذا التوجه الإعلامي المفتوح لا هدف له سوى طمس هوية الشعوب24 .. فهذا الإعلام تتغلغل فيه قيم الرأسمالية التي تظهر وتؤكد تفوق الثقافة الغربية .. على ما عداها من ثقافات أخرى . ومن السمات الأساسية للإعلام تلخصها بناء على ما جاء في المستقبل العربي العدد 256 الصادر بتاريخ 6/ 200 للسيد أحمد عمر في مقالة له عن إعلام العولمة وتأثيره في المستهلك :
إعلام متقدم من الناحية التكنولوجية ومؤهل لتطورات مستقبلية جديدة ومستمرة تدفع به إلى المزيد من الانتشار المؤثر في المجتمعات المختلفة .
يشكل جزءً من البنية السياسية الدولية الجديدة التي تطرح مفاهيم جديدة لسيادة الدولة على أراضيها وشواطئها وفضائها الخارجي بما يعرف بالنظام السياسي العالمي الجديد .
يشكل جزءً من البنية الاقتصادية العالمية التي تفرض على الكل أن يعمل ضمن شروط السوق السائدة من صراعات ومنافسات وتكتلات وسعي متصل لتحقيق الربح للمؤسسات التي تحتكره بحكم انتمائها على أكثر من وطن وعملها في أكثر من مجال .. بما في ذلك صناعة وتجارة السلاح .
يشكل جزءً من البنية الثقافية للمجتمعات التي تنتجه وتوجه وتتوجه به .. ولهذا فإنه يسعى إلى نشر وشيوع ثقافة عالمية .. تعرف عند مصدرها بالانفتاح الثقافي .. وعند متلقيها بالغزو الثقافي .
يشكل جزءً من البنية الاتصالية الدولية التي مكنته من تحقيق عولمته وعولمة رسائله ووسائله .. فهو ينتمي إلى أحد حقلي التكنولوجيا الأكثر تطوراً في الوقت الراهن .. والمحتكر بشكل مباشر .. للشركات المعنية بتصنيع وسائله والتي تشكل نسبة 23 بالمئة من قائمة الشركات المائة الأكبر في العالم .
لا يستند إلى فراغ .. فثمة اتفاقيات دولية تدعمها منظمات وقرارات تحدد استخدام شبكاته وتوزيع طيفه وموجاته السمعية وأليافه البصرية وبثه المباشر وتعريفاته الجمركية للصحف والمجلات والكتب والأشرطة والإسطوانات المدبلجة .. وأخيراً وليس آخر وسائطه المتعددة .
لا يشكل نظاما دولياً متوازياً لأن كل مدخلاته ومراكز تشغيله وآليات التحكم فيه تأتي من شمال الكرة الأرضية .. وهذا ما أدى على هيمنة الدول المتقدمة عليه في مقابل تبعية الدول النامية له .
ولهذا الإعلام نفوذه الخاص الذي يشكل قوة دامغة لتشكيل وعي وفكر معولم يفيد التوجه العولمي العالمي .. فقد كان له مجالاته الخاصة به والتي تكشف عن هذا النفوذ بصورة واضحة ومرئية منها ما جاء في أيضا المستقبل العربي العدد 256 ص77 :
استطاع الإعلام في عصر العولمة يجبر الدول وحكوماتها على الاهتمام بقضايا ومشكلات ظلت إلى وقت قريب بعيدة عن دائرة اهتماماتها .. كقضايا حقوق الإنسان ومشاكل الأقليات والتمييز العنصري .
استطاع الإعلام في عصر العولمة بوسائله التي تتخطى كل الحدود أن يعمل على تحويل المجتمعات والبيئات الداخلية إلى مجتمعات وبيئات عالمية.. وهو أمر أثر في السياسات الداخلية وصانعيها في الدول المختلفة .. فلم تعد قراراتهم ومواقفهم وتصريحاتهم خافية على عيون الإعلام وحتى عندما تستحكم الأزمات والمشكلات الداخلية يتجه الناس إليه ليتعرفوا على ما يدور في بلادهم .
استطاع إعلام العولمة أن يكفل محيطاً ثقافياُ واسعاً ونظرة أشمل على العالم وعمقاً في الاتصال الإنساني .. فاستقطب بذلك الملايين عبر رسائله المبسطة في عالم مليء بالتعقيدات .. فكان الاندفاع نحو وسائله .. وبخاصة التلفيزيون .. أمراً شكل حافزاً للشعوب لكي تضغط من أجل التغيير .
استطاع إعلام العولمة بقدراته التكنولوجية الهائلة أن يضعف من نظم الإعلام الوطنية ويزيد من تبعيتها له .. لتنقل منه ما يجود به عليها من صور ومعلومات وإعلانات .
استطاع الإعلام في عصر العولمة أن يوفر لوكالات الإعلان الدولية المناخ الملائم لنشر قيم المجتمع الاستهلاكي التي تعرض لثقافة جديدة على شعوب تحاول أن تحتفظ بذاتيتها وخصوصيتها الثقافية .

وبالطبع لا يغفل ما لإعلام العولمة من أهداف ضمنية تسعى لتحقيق أهداف العولمة والهيمنة الاقتصادية العالمية .. وما لهذا الإعلام من تأثر مباشر وخطر في آن على العقل والفكر خاصة لدى دول العالم الثالث لما يعتريه من تفكك وانهيارات داخلية على كثير من الأصعدة بل وعلى كثير من المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية .. وغيرها من نظم المجتمع المختلفة .. والتي تتعرض لهجمات متتابعة من قبل الثقافة الغربية .. التي تكرس التبعية على كافة الأنظمة في المجتمع دون استثناء .


سادسا / دعم السياسات الاقتصادية الليبرالية

( البنك الدولي . صندوق النقد الدولي ) يأتي دعم هذه المؤسسات للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدول الأقل تطورا بما يتناسب ومصالح القوى الرأسمالية الجديدة .. فمثلا يعتبر :
نقل ( الصناعات التقليدية من المراكز في الدول المتلقية لهذه الصناعات أو لتفادي تلوث البيئة في المراكز ) عملية من عمليات تدويل الاقتصاد والثقافة تحت شعار ( تخليص المجتمعات التقليدية من دائرة التخلف ) برغم أن الواقع الفعلي يثبت عكس ذلك حيث تعمل الرأسمالية على استخلاص فائض إنتاج الدول المتخلفة ليضاف على حساب الفئات الرأسمالية العالمية ويحل أزمة الداخل في المراكز وليس في المحيطات25 .. حيث أصبح تعظيم الفائض الاقتصادي يتم على مستوى العالم ككل وليس على مستوى دولة بعينها , وهنا تغيرت موازين القوى على مستوى العالم بحيث أصبحت الشركات متعدية الجنسية هي القادرة على التحكم عن بعد في بناء القوى المحلية ووفقاً لمصالحها الخاصة .. من خلال أنشطتها المتنوعة وتغلغلها في أجزاء العالم ككل25 ..
إلى جانب تكوين صفوات " قوى " عولمية من رجال الأعمال لا تنتمي إلى بلد بعينه تستطيع وفقاً لمواقعها على خريطة العالم نقل نشاطها من مكان إلى آخر تبعاً لمقتضيات تعظيم الفائض الاقتصادي الرأسمالي على النطاق الدولي26 .. كما أن إعادة هيكلة الاقتصاد في دول العالم الثالث يخدم وبشكل مباشر المؤسسات الكبرى عابرة القوميات .


التجليات والتأثيرات

من الأمور المؤكدة أن العولمة بما تنطوي عليه من عمليات تحول اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية متداخلة تسعى بما لها من آليات متباينة لها فعلها الخاص في الهيمنة بصورة آلية – على نفي الحضارات الأخرى غير الغربية بالطبع .. على جانب تقويض مفهوم السيادة الوطنية في دول العالم الثالث الأقل تطورا وذلك لتسهيل عملية الهيمنة الرأسمالية المعولمة وإعادة صياغة جديدة لمفهوم الهوية والقومية في هذه الدول لإمكان فرض الطابع الأورو- أمريكي التوجه . لذا نرى أن العولمة كان لها آثارها وتجلياتها ( المعولمة ) على كافة المستويات .. منها الثقافي والسياسي والاقتصادي خاصة في البلدان العربية وهنا سنحاول رصد بعضاً من هذه الآثار والتجليات التي أثارت لدى الإنسان العربي هواجس لا حد لها .. فالإنسان العربي يمر في الوقت الراهن بظرف تاريخي متدهور .... يعاني آثاره السلبية التي تدفعه لان يفكر وبصورة ملحة لإيجاد أجوبة تسعف حالة الركود الاقتصادي والجمود الفكري التي يعيشها .

أولا / آثار العولمة ثقافيا

كانت أخطر تجليات العولمة تلك المتصلة بالجانب الثقافي على فرض أن مجال الثقافة هو من أهم المجالات وأكثرها حساسية لما تحويه من نظم فكرية وسلوكية ومرجعية تاريخية ودينية .. أو بلغة ماركسية : إنها البنية الفوقية المتغيرة تبعاً لتأثيرات البنى التحيتة ( اقتصادية ) . فالتغيرات الثقافية هي أحد مظاهر العولمة .. وأهم جوانبها وهي ما أطلق عليه البعض ( بنظام التحكم الاجتماعي في سوق المجتمعات .. كما تتفق كلمة عدد من الباحثين على أن الثقافة من أخطر الأوجه الحضارية المتأثرة بظاهرة العولمة27 .. يقول د / سيار الجميل : ولم ينحصر الأمر في واقتصادياتها المعولمة بل طالت وبسرعة شديدة ونسبية عالية هذه العولمة ثقافات الشعوب وقيمها وعاداتها وتقاليدها 27 .. حيث أن العولمة تحاول فرض أو نشر ثقافة معممة عالمية المنحى وغربية المنهج والفكر والمضمون .. مما يدفعنا على طرح أو معالجة كثير من الأسئلة التي تفرض نفسها علينا من مثل : ما هي هذه الثقافة العالمية التي تعمل العولمة على غزوها للفكر العالمي وفرضها على كافة الدول في العالم .. ؟ وهل بإمكان هذه الثقافة العالمية أو المعولمة .. هل لها من القدرة على ما تستطيع به أن تمحو الثقافات المحلية والقومية الأخرى بالفعل ؟ .. وإذا كان ذلك ممكناً هل معنى هذا أنه بإمكانها خلق نمط ثقافي واحد يكون موحد القيم والمعايير والمعتقدات على مستوى العالم ككل .. ؟ وإذا – بالرغم من محاولات المحو والإلغاء هذه – استطاعت الثقافات القومية البقاء أو التواجد جنباً إلى جنب مع الثقافة العولمية .. نقول هل لها من قدرة على على التأقلم معها والتفاعل البناء .. والفعال مع الثقافة العالمية .. ؟ تفاعلا يمكن في النهاية ومن خلالهما إنشاء ثقافة واحدة تستطيع ضبط سلوكيات الشعوب على اختلاف ثقافاتها وتنوعها ؟ بداية نرى ضرورة التفريق بين عالمية الثقافة وعولمة الثقافة .. حيث أن هناك فرقا شاسعاً بين مجرد الانفتاح الثقافي العالمي وبين فرض الهيمنة على العقلية الاجتماعية البشرية .. فعالية الثقافة تجسدها تكنولوجيا الاتصالات والحواسب والتشابك الاقتصادي .. بينما تشكل العولمة الثقافية فرض نهج بذاته ومصالح وقيم ثقافية بذاتها .. وكل ما تراه القوة ذات الهيمنة أمراً نافعاً وضرورياً لها وفادٍ لمصالحها 28 ..
بلغة أخرى نقول أن العولمة ما هي إلا محو الحدود الثقافية وكسر الخصوصيات المحلية .. وتفتيت القوميات .. وهي في ذلك تسعى لأن يكون هناك صيغة واحدة موحدة على مستوى العالم .. بينما العالمية هي الانفتاح على العالم .. والتعرف على الثقافات المتنوعة .. أي التعرف على الآخر دون محو خصوصيته أو إلغاء هويته أو الإجهاز على حدوده .. فالعولمة والعالمية موقفان متناقضان اتجاه العالم والآخر .. فإن وجدت العالمية تلغى العولمة .. وإن وجدت العولمة لا يكون هناك عالمية ولكن يوجد تخلف وتبعية وتقليد .. إن العولمة هي اكتساب صفة عامة واحدة تلغي معها كل نعاني الإنسانية والإبداع .. إنما العالمية هي تعميقاً للخصوصية وتأكيداً للهوية إلى جانب فرص لثراء الإبداع الحقيقي الذي لا يموت أبدا . ولأن الدعوة إلى العولمة قد ظهرت في الولايات المتحدة وفق التعريف السابق فقد افترض نظرياً أنها تعني الدعوة على تبني النموذج الأمريكي في الاقتصاد والسياسة وفي طريقة الحياة بشكل عام 29 .. وإذا كانت قناعاتنا بأن العولمة ما هي غلا عملية غربية مفروضة من قبل الغرب وبالتالي فهي ليست نتاج حقيقي لتفاعل الثقافات والحضارات على المستوى العالمي .. لذا لا بد وقبل كل شيء أن نعي هذه الحقيقة وهي أن العولمة ما هي إلا نمط رأسمالي ما بعد حداثي أو ليبرالية جديدة تهدف إلى تنميط العالم بشكل يخدم مصالح أتباعها من قوى رأسمالية عالمية مسيطرة اتخذت لها صورة شركات متعددة الجنسيات 30.. مما جعل كثيراً من المفكرين يحاولون تقديم تفسير للمرحلة التي تعيشها شعوب العالم في ظل هذا التوغل الثقافي .. يقول الدكتور فواز طرابلسي : إن المرحلة التي نعيشها حالياً رمادية من الناحية الفكرية في غياب التراث الأساسي الذي يشكل خلفية الإنتاج .. والذي كان هو تراث النهضة 31.. فعلى المستوى الثقافي نجد أن إنسان العالم الثالث واقعاً تحت تأثر أفكار تأتيه من الغرب لها شرطها التاريخي الذي أنتجها .. وهو في هذا الاستيراد العشوائي للأفكار نجه مكبلا بقيود شتى تجعله غير قادر على التفاعل الحي المثمر مع ما يتلقاه من خبرات ومفاهيم بعيدة في جانب كبير منها عن تقبله .. وذلك لما يحمله في ذاته من قيم مختلفة أو مفارقة لتلك القيم التي تأتيه جاهزة إليه من الغرب المتحرر من كافة الانتماءات .. هنا يصبح الإنسان العربي في حيرة من أمره أيقبل بكافة ما لديه من إمكانات على هذه الثقافة أم يقف مكتوف الأيدي أمام هذا الكم الهائل من المعلومات التي تتوافد عليه من كل مكان في الأرض .. وهو ما ساعد عليه التطورات التكنولوجية التي تشهدها الساحة العالمية .. هنا نجد أن العولمة استطاعت أن تدخل الإنسان العربي خاصة والإنسان عامة في ارتباطات ما كان من قبل من السهل توافرها أمامه .. وهنا يكمن السؤال الجوهري والذي يحاول المفكرون العرب على الأخص وكل مفكرين العالم ..هؤلاء الذي يجدون ليدهم الداعي الوطني أو الانتماء الأيديولوجي الدافع لأن يذهبوا بأسئلتهم لكل ما هو ضروري ومنهم كسؤال الهوية والمواطنة والانتماء وفكرة الكون أو الإنسان الكوني .. معتبرين أن الدخول في عالم لا تحده حدود أو تلزمه توجهات أيديولوجية أو أي انتماء وطني أو ديني .. وهو ما يعني التفرد والفردية والمصلحة الشخصية والتي تحددها أيضاً قوانين السوق العالمية والتي هي وجه من وجوه العولمة .. لتصبح الافكار والثقافة والأيديولوجيا بل والإنسان نفسه سلعة قابلة للتداول والصرف .. أو على حد تعبير أدبيات العولمة يتخذ الألم صورة الكوننة او الدولنة .. كوننة الإنسان أو دولنته .. على اعتبار أن الإنسان ما هو على سلعة كأي سلعة من السلع لها سعرها وقيمتها .. وهذا الإنسان قد أصبح في عرف العولمة خاضع لجميع القوانين التي تفرزها السوق العالمية مثله مثل السلع المادية الأخرى .. من هنا أصبح من الضروري معالجة كل ما تفرزه العولمة معالجة موضوعية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .. والتقليل من مخاطر العولمة على الإنسان وخصوصيته التي هي ضميره وذاتيته .. والتي لا يمكن أن يكون إنساناً إلا بها .. وهذا ما يدفعنا إلى القول أن الثقافات كلها تمر بحالة من عدم الثبات .. وانعدام الثقة .. وانهزامية المثقف أمام ثقافته .. بل وانهزام الفرد أمام ثوابته ومرجعياته من جراء الانفتاح غير المنهجي .. العشوائي وغير المدروس .. ليصبح عرضة لهزات تودي بكل ما هو ذو قيمة .. ويأتي ذلك من خلال محاولة عقد المقارنات على طول الخط بين ثقافته وما يفد إليه من أنحاء العالم المختلفة .. دون النظر أو الأخذ في الاعتبار الفروق أو الظروف التاريخية المختلفة أو الشروط الإبداعية المتباينة لكل ما يفد إليه وبين ما لديه من ثقافة لها شرطها التاريخي والذي هو الشرط الواجب دراسته ونقده لإبداع أو إيجاد شروط أكثر مواءمة تعينه على إبداع أكثر تحرراً وأعمق أثراً
وهو الشيء الذي يدفع بكثير من المفكرين والكتاب لأن يتعرضوا لقضية الهوية وبالأخص الهوية الثقافية على اعتبار أن الثقافة هي النتاج الحقيقي المعبر عن شخصية الشعوب بكل ما تملكه من مفاهيم وأفكار وسلوكيات وهو الواجهة التي نطل من خلالها على عوالم الآخرين .. لذا كان سؤال الهوية من الأسئلة التي فجرتها واثارتها ظاهرة العولمة التي غطت بظلالها كافة المعمورة دون استثناء .
فالعالم اليوم يمتثل إلى منظومة فكرية واحدة كانت قد أحكمت بناءها الداخلي أيديولوجيا واحدة كان أبرز منظريها هو فرنسيس فوكوياما فيما يسمى ( نهاية عصر الأيديولوجيات ) وهي أيديولوجيا توهم البشر بأن العالم أصبح كلاً واحداً .. ومن ثم له لون واحد ومنهج واحد ومنطق واحد .. لأنه ومن خلال آليات الاتصال الحديثة أصبح في إمكانه التوحد وتشابك عناصره وفئاته .. حتىأن مفهوم الأمة – الدولة – قد فرغ من مضمونهما مما عزز من ظهور جماعات إثنية ومذهبية متناحرة .. فالتوحد المزعوم لم يضف إلى العالم سوى تشرذماً أكثر وتشتتاً أكثر فالعولمة تعني بالنسبة إلى هذا التناقض عالماً موحداً شكلاً بالاتصالات والدوريات المالية .. في حين أنه منقسم اجتماعياً بطريقة أبشع من تلك التي وصفتها الماركسية في نهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر .. إنه عالم يسميه المفكر العربي السوري برهان غليون باسم الرأسمالية العالمية .. عالم يزداد الفقر والتهميش فيه لأكثرية سكان الأرض بقدر ما يزداد تمركز الثروة في يد قلة قليلة من الدول أولا .. وقلة قليلة من الأفراد في تلك الدول ثانية32 . من هنا بزغ السؤال الآتي : أين الهوية مما نشاهد ونتأثر به ونتفاعل به ونتعامل من خلاله .. ؟ لذا ذهب العلماء العرب والمفكرين يبحثون عن صيغة ملائمة لتفسير ظاهرة العولمة دون أن يجدوا القرار المكين لتلبية احتياجات أبحاثهم .. والكثير منهم لا يزال يتأرجح بين قبول العولمة أو رفضها دون دراسة واعية أو نقد موضوعي كاف لتقديم المبررات الوافية للرفض أو القبول .. ولذا فإننا نجد أن الكثير منهم يصدر عن أيديولوجيا خاصة ينتمي غليها دون أن يضع في الاعتبار ضرورة البحث المنهجي الموضوعي الضروري لأي بحث أو نقد يرجو منه التطور أو إيجاد حلول بناءة بعيدة عن الشعارات الزائفة التي لا تجدي نفعاً وسط هذه الحالة الكونية التي يعاني منها الجميع والمطلوب الآن هو إيجاد صيغة مقبولة للخروج من مأزق الهوية المستلبة أو الهوية المتشظية أو التي تتأرجح بين قطبين لا ثالث لهما وهو الأصولية بكل ما تحمله من صور الانغلاق والتبعية العمياء للماضي بكل ما فيه من سلبيات أو إيجابيات دون التحقق من هذا الماضي أو دراسته دراسة نقدية تشفع عند الآخذ به .. وهناك القطب الآخر المقابل بكل نزعاته التحررية والإقدام على ما يفرزه الغر بكل تجلياته وطموحاته المادية دون النظر إلى مواءمة ذلك مع ما يحمله العقل العربي من مرجعيات قد لا تتوافق مع ما يفد من الغرب .. إن المشكلة التي نحن بصددها ليست مشكلة ثقافة أصولية أو ثقافة غربية .. إننا أمام معضلة المفكر والمثقف العربي ذاته في كيفية تعامله مع مرجعياته .. أو ما يقبل عليه من ثقافات متنوعة قد تفصله عنها الكثير من الفوارق المعنوية والمادية أيضا .. إن المثقف العربي يعاني ازدواجية الفكر والتعامل مع الأفكار .. وهذه الازدواجية تجعله يقف عند مفترق الطرق .. دون الوصول إلى هدف محدد .. أو بمعنى آخر قد لا جد في ما يتعامل معه ما يسعفه على الإبداع أو التفاعل البناء مع أدواته الفكرية ومادته الإبداعية لذا لا بد من خلق منطقة وسطى لا تأخذ بكل ما يفد دون إمعان النظر واختيار ما هو مجدي لتطوير ثقافته الخاصة وتطوير أدواته الإبداعية وخلق إمكانات جديدة تعينه على الخلق والتجديد على مستوى الإبداع الفكري أم الأدبي أو الثقافي بعامة .. أما التحرر من الماضي والتنصل من كل ما يحمله التراث من قيم ومفاهيم هي في حقيقة الأمر التاريخ والهوية والذاتية العربية .. فهو أمر سلبي .. إذ أن التراث لا بد أن ينظر إليه على أنه مادة إبداعية لها شروطها التاريخية الخاصة بها .. كما وأننا نطالب التفاعل بيننا وبين الثقافة الغربية التي أيضا لها شروطها التاريخية .فأولى بنا أن نجد منطقة وسطى للتعامل مع ثقافتنا التاريخية وتراثنا الإنساني الخاص بنا بنفس درجة الاهتمام والتفاعل الواعي من دون أن تأسرنا مقولات الماضي أو تسجننا أفكاره .. نستطيع من خلال أدوات العولمة ذاتها إعادة صياغة أفكار الماضي وتراثنا المهمل من خلال قراءة عصرية أي محاولة عولمة التراث بما تناسب ومنهجيتنا الجديدة .. التي خلقتها الظروف المعاصرة دون أن نهمل الجانب الحضاري في واقعنا المعاصر .. أي بكلمة أخرى أن لا نقف عند حدود الجمل والعبارات .. والأفكار كما جاءت غلينا بل نحاول تأويلها بما يتناسب وإمكاناتنا الفردية والجماعية .. ولا ينطبق هذا على التراث بل أيضاً على ما يفد غلينا من الغرب على اعتبار أن الغرب عالم مفارق لعالمنا العربي .. وأن الظروف التاريخية التي مرت بها العولمة والتي عملت على إفرازها هي شروط أو ظروف مفارقة لظرفنا وشرطنا التاريخي .. من هنا ضرورة توافر عنصر الحيادية التامة عند التعامل مع التراث أو ما يفرزه الغرب من مواد ثقافية مختلفة ..كما أن الحاضر ما هو إلا حلقة من حلقات التطور وهو الحد الفاصل بين ماض كان في وقته حاضراً وبين مستقبل هو آت .. والحاضر ما هو إلا إفراز أو ابن غير شرعي لماضي .. لا يمكن اختصاره أو عزله أو تحييده عن الماضي أو حتى فصله عن ما كان سبباً في وجوده وهو الماضي أو بلغة أخرى التراث .. والمستقبل هو ما نسعى إلى صنعه وإيجاده أو تحديد معالمه من خلال ما نحياه اليوم ونصنعه أيضا ً.. إذن فمن تجليات العولمة الواضحة والشاهدة نتيجة كافة التطورات والتحديثات التقنية والإبداعية والإمكانات المتطورة في وسائل الاتصال والمعرفة وتوزيعها وانتشارها على كافة المناطق كان هو ظهور الكثير من التجليات التي لا يمكن تجاهلها على الإطلاق والتي تمثل عصب التغيرات الحادثة بفعل هذه التكنولوجيا المتطورة إن كان في المجال الاقتصادي أو المجال الثقافي .. فإننا نرى أن هذا قد أدى وبدور واضح لظهور النزعات الثقافية الإقليمية .. بل أيضا ً ترسيخ الثقافة الوطنية القومية أمام التحديات التي تواجهها الأوطان من عولمة الثقافة ( ثقافة عالمية ) وبالطبع على حساب الثقافات المحلية والإقليمية سواء في الدول المتقدمة مثل فرنسا وألمانيا أو الدول النامية مثل مصر وتركيا .. وهذا التحدي الذي تحاول مواجهته الثقافات المحلية أدى على وجود ثقافتين متناقضتين .. ثقافة الصفوة . ( الثقافة العالمية ) .. وثقافة الجماهير ( الثقافة المحلية ) .. بكل تياراتهما كرد فعل إزاء ما يتعرض له من هجمات مضادة من قبل الثقافات الأخرى المواجهة له والتي تحاول أن تسلبه ثقافته كمرجع قيمي متأصل في نسيج شخصيته ومكون من مكوناتها الأساسية .. بكل ما تحمله من خصوصية دينية أو عرقية أو تاريخية أو قبلية .. وهو ما يتضح لنا من خلال الحركات المتطرفة والتي هي نتيجة حتمية لكافة الظروف التي خلقتها العولمة من هيمنة رأسمالية ونفوذ رأسمالي تابع للدول العظمى التي تسعى لتحقيق أهداف الهيمنة لها ولقواها المركزية وتكريس مفهوم التبعية على كل المستويات لباقي بلدان العالم .. هذا بخلاف ما تتخذه العولمة من توجهات سياسية واقتصادية لتوسيع دائرة نفوذها وبالتالي اتساع نطاق هيمنتها .. ولتصبح لها اليد الطولى في تحديد مصائر البلدان الأخرى .. كل ذلك من خلال الاستحواذ على أدوات التغيير لترسيخ قيم عالمية .. من خلال خلق نخبة قادرة على التحكم والنفوذ والسيطرة .. النخبة التي تتكون من الصفوة الاقتصادية في العالم والقادرة على نسج شبكة اقتصادية – مالية – استثمارية – تجارية – واحدة ذات أهداف مشتركة تقوم على تبادل المصالح والخدمات33 .. وهذه النخبة خليط من كل الأجناس ولكن بنسب متفاوتة كثيراً تتجاوز في ثقافتها ومصالحها وتطلعاتها كل العقائد والدول والحواجز الاجتماعية وتحقق النجاح من خلال تعزيز مواقع الذات وزيادة الثروات من خلال الغير وعلى حسابهم 33 .. هذا على جانب بلورة نمط محدد من الوعي الثقافي وصياغة فلسفات غربية بما يتواءم وأهداف الفئات المسيطرة على العمليات الاقتصادية والسياسية والإعلامية .. وذلك من خلال إنتاج وتوزيع واستهلاك محدد مسبقاً من قبل القوى المهيمنة والتي لها دورها الفعال في ترسيخ هذه الثقافة بقيمها المتباينة .. لقد لعبت الشركات المتعدية الجنسية والمسيطرة على أدوات التقنية الحديثة دوراً بارزاً في تغيير اتجاهات الأفراد سواء داخل المجتمع الغربي ذاته .. أو خارج المجتمع .. وكان التأثر الأكبر على الفئات الشعبية في المجتمعات التقليدية التي تتغلغل فيها الثقافات الغربية الموجهة 33 .. وهذا ما أدى على تراجع العملية الثقافية – الاجتماعية في المجتمعات التقليدية والنامية نتيجة .. الاختراق الكاسح للعمليات الاقتصادية والإعلامية والثقافية .. لقد بات واضحاً أن الاختراق القافي – خاصة في ظل العولمة بآلياتها المعاصرة – يعمل على تهديد منظومة القيم الأصيلة ويشكل نوعاً من الازدواجية الثقافية التي تجتمع فيها تناقضات الأصالة والمعاصرة مما يؤدي على تهميش أو تغيير ملامح الثقافة الوطنية33 .. إلى أن هناك على جانب هذه النظرات المتباينة والمتشائمة نوعاً ما .. نجد أن هناك نظرة متفائلة .. فإن بعض المحللين يرون أن العولمة لا تزيل فقط الحواجز الثقافية بل تزيل العديد من الأبعاد السلبية الثقافية .. فهي خطوة حيوية نحو عالم أكثر استقراراً ونحو حياة أفضل للشعوب .. لأنها تنشأ عن احترام منهجي حثيث لعادات وتقاليد منتقاة كما يقول دافيد روتكويف .. وهذه النظرة المتفائلة للعولمة الثقافية ناشئة عن النظرة الحتمية إلى استسلام القوى العالمية لظاهرة العولمة وطغيانها على سائر الثقافات البشرية لذلك فإن دافيد روتكويف يرى أن اللغة والمعتقدات والأنظمة السياسية والقانوينة والأعراف الاجتماعية أرت المنتقدين وابناء السوق على الافكار عبر التاريخ الشعبي .. ويمكن النظر إليها بحق باعتبارها نتاجات حتمية34.

ثانياً / آثار العولمة اقتصاديا

من أظهر التجليات للعيان .. وأكثرها حضوراً هي تلك التجليات الخاصة بالجانب الاقتصادي .. حيث نجد زيادة في الاعتماد المتبادل بين الدول والاقتصادات القومية.. على جانب ظهور وحدة الأسواق المالية وزيادة المبادلات التجارية في إطار نزعت عنه وقاعد الحماية التجارية تطبيقاً لاتفاقيات التجارة الحرة35 .. وهو ما أثار الكثير من الأسئلة فيما يخص الاقتصاد العربي أو دول العالم الثالث بالأخص .. فبوجود السوق العالمي هذا أين سيكون موقع السوق المحلي بالنسبة له .؟ كما أن هذا السوق العالمي من القائم بأعماله أو إدارته ..؟ ومدى كفاءته في القيام بما يوكل إليه من مسؤوليات أو مهما ..؟ أو كيف سيلعب السوق العالمي دوره بما يتكافأ والأدوار التي كانت تقوم بها الأسواق المحلية مثلا خاصة في البلدان الأقل تطوراً ؟ .. خاصة وأن الأسواق المحلية كانت تمثل في الماضي وقبل ظهور هذه السوق العالمية قوة حمائية لشعوبها 35 ..إلى جانب أن الرموز الاقتصادية العالمية أو ما يسمى بالمؤسسات العالمية الاتجاه مثل البنك الدولي وغيره أصبح هو المركز والبنوك باتت تشكل جزء من هذا النظام الأكبر والأشمل تتأثر به صعودا وهبوطاً أكثر من تأثرها بالأوضاع المحلية 35 .. التي تحيط بها .. كما أن هناك سؤال في غاية الأهمية وهو هل لهذا الانتماء للسوق العالمية أو الانضواء تحت الشركات العابرة للقارات أن يعمل على تطوير المجتمعات العربية أو يساعد على التنمية الاجتماعية بكافة صورها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في ظل هيمنة تسعى لأن تلغي خصوصية لا تتفق وأهداف العولمة هذه ..
إن العولمة الاقتصادية تظهر في عمق الاعتماد المتبادل بين الدول والاقتصاديات القومية وفي وحدة الأسواق المالية وفي عمق المبادلات التجارية في إطار لا حماية فيه ولا رقابة .. وابرز شيء في ذلك إنشاء منظمة التجارة الدولية وهنا تثار مشكلة ( أزمة الدول النامية ) ودور الدولة في العولمة الاقتصادية36 ..
كما أننا نرى أن العالم قد اتجه نحو توحيد اقتصاداته وخلق سوق عالمية التوجه .. على فرض توحيد المصالح بغض النظر عن الأهداف الاستعمارية المتبناه ضمناً .. فقد أنتجت الرأسمالية من الإمكانات والخبرات المادية والثروات ما يؤمن السعادة للبشرية الآن .. ولكن هذا ممكن فقط عن طريق إعادة توزيع هذه الثروات .. في حين أن العولمة .. وهي المرحلة الجديدة .. من الرأسمالية تزيد من التفاوت الاجتماعي في العالم .. بمعنى آخر : أن الثورة الصناعية التي بني عليها النظام الرأسمالي قد سمحت لأول مرة في التاريخ للبشرية بأن تسد حاجاتها الأساسية .. في حين أنها بسبب علاقات الإنتاج وعلاقات توزيع الثروة تؤدي إلى العكس تماماً .. إنها تؤدي على زيادة الفقر وزيادة البطالة وإلى الحالة السائدة حالياً 37 ..
إلى جانب أن وجود السوق العالمية .. ووجود الشركات المتعددة الجنسية والشركات المتعدية الجنسية .. قد عملت على استلاب البلدان حدودها الجغرافية .. وتداخل الصيغ الاقتصادية ونمو النزعة المادية الصرفة دون النظر إلى المصالح العامة أو مصالح الشعب برمته .. وأصبحت المسؤولية الأولى هي مسؤولية راس المال دون نزاع .. مما أدى إلى ظهور الفوارق الطبقية بين الدول ذاتها .. كما أن العولمة عملت على ضياع الطبقة الوسطى وذلك من خلال خلق طبقة ثرية في يدها رؤوس الأموال وطبقة فقيرة لا تملك شيئاً .. وهكذا نجد أن من أصعب تجليات العولمة هو هذا الوضع الاقتصادي المتردي لكثير من الدول ومعاناة شعوبها الفقر الذي وصل على حد بعيد نتيجة تفشي البطالة .. بسبب احتكار المشاريع الاقتصادية المختلفة في أيدي قليلة واستخدام التطورات التكنولوجية التي عملت على تقليل الإقبال على الأيدي العاملة مما أدى وكما قلنا إلى تفشي البطالة نتيجة هذا الاستثمار غير المدروس .. إنما هو استثمار مشروط بأهداف قلة قليلة من المستثمرين الرأسماليين الجدد تسعى جاهدة لزيادة ثرواتها على حساب كثير من المصالح المشتركة الوطنية الأخرى للشعب .. وبلغة أخرى نقول أن التقنيات الحديثة والتكنولوجيا المتطورة شديدة التعقيد استطاعت أن تحتل موقعا محددا في حسم معركة التنافس بين الشركات متعدية الجنسية .. فهي تساعد في تخفيض كلفة الإنتاج بالتقنية .. وبتقليص العديد من العاملين .. لذلك تنفق هذه الشركات والنظم الاقتصادية الملحقة بها الكثير من الأموال على البحوث العلمية لا لخفض تكلفة المنتج فقط .. بل لاستنباط تكنولوجيا أكثر تقدما .. تخلق بدورها حاجات جديدة .. عن طريق إنتاج سلع جديدة .. ثم تعمل بعد ذلك على جعل استهلاك هذه السلع نمطاً يعم السوق ( المكوكبة – المعولمة ) .. في كل مكان .. تلمك في البشرية القدرة على الشراء .. ويتساوى في ذلك كل ما هو ضروري .. وكل ما هو كمالي في حياة الناس .. من مأكل وملبس وموسيقى وغناء وغيرها38 .. لذا نرى أن العولمة الكوكبية تستهدف الشرائح القادرة على الاستهلاك في كل مكان .. فلا مكان للفراء في حساب الشركات المتعدية الجنسية وهي تنظر إلى كوكب الأرض وقد جعلته سوقاً واحدة مفتوحة أمام بضائعها 38 .. من هنا نجد أن دور المبدع والمصمم قد اختفى ليحل مكانه مروج السلعة وبائعها .. تلك السلع التي تنتجها الشركات متعددة القوميات وفق نظام الإنتاج عن بعد .. والتي تلعب فيها وسائل الإعلام الدور المحوري في تشكيل طموحات المستهلكين للثقافة المعولمة 38 .. وهو ما أدى إلى نشر حضارة السوق المعولمة وهي بذلك تعبر عن سيادة نمط التشيؤ حيث العمل على تحويل كل شيء إلى سلعة متداولة في السوق لصالح قوى حرة جديدة عابرة للقوميات 38 .. وقد كان تدويل رأس المال الاقتصادي وذلك من خلال خلق سوق مشتركة أو موحدة أي توحيد أسواق الإنتاج والاستهلاك وتدعيم أواصر الصلة بين مصالح الفئات الأكثر اهتماماً ونشاطاً بل الأكثر قوة على إدارة العملية الاقتصادية وتداخلها .. والموجهة للأنشطة الإنتاجية في الدول المختلفة 38 .. وهو ما خلق نوعاً من الحراك الاجتماعي أثر على البنى التقليدية في المجتمعات التابعة الأقل تطوراً 38 .. وقد كان من أكثر التأثرات بروزاً وتجلياً في المرحلة الحالية للعولمة ظهور التزايد المضطرد للبطالة واتساع الفجوة بين الدول وبين الطبقات أو الشرائح الاجتماعية المختلفة .. فقد أدت حرية انتقال السلع ورؤوس الأموال عبر الحدود .. دون قيد إلى العصف بالعمالة والإطاحة بها بعيدا إلى الشوارع الخلفية للبطالة .. وانطلاقاً من هذا يرى مؤلفا كتاب ( فخ العولمة ) .. أن المنافسة المعولمة أصبحت تطحن الناس طحناً وتدمر التماسك الاجتماعي وتعمل على تعميق التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين الناس 38.. أي أن سياسات العولمة عملت على زيادة الاستقطاب الاجتماعي39 .
من هنا كان هذا السؤال الهام : كيف يمكن التعاطي مع مظاهر العولمة واتفاقيات الجات ومنظمة التجارة العالمية بأقل قدر من الخسائر مع الفوز بأكبر قدر من الفرص والمكاسب المحتملة 30 .. خاصة وأن هذه العولمة الكوكبية ما هي إلا نتاج لتغيرات متلاحقة كرست بانتهاء الحرب الباردة .. إنها مرحلة جديدة يسميها البعض مرحلة ما بعد الإمبريالية .. ويسميها البعض الآخر مرحلة ما بعد التنمية .. ويتفق الجميع تقريباً على كونها الوليد الشرعي للشركات متعدية الجنسيات .. تلك الشركات التي استطاعت السيطرة على معظم أجزاء الكوكب اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً دون أن تنتمي إلى وطن واحد أو محدد أو على دولة معينة 31 .. وهذه الشركات قد غابت عنها الصفة الوطنية مما جعلها ملك الأغنياء في دول الشمال تحديداً حيث تغزو بنشاطاتها المتنوعة عشرات البلدان وتنتج في عشرات البلدان الأخرى .. مصنعات وفق نظام الإنتاج عن بعد 31 .
يمكننا هنا أن نجمل أهم التجليات في المجال الاقتصادي في نقاط موجزة هي كالتالي :
لقد تحول الاقتصاد من الحالة التقليدية في تداول السلع من خلال ( البيع والشراء ) إلى الاقتصاد الرمزي والذي يعتمد اعتماداً كلياً على الرموز والنبضات الإلكترونية باستخدام الحواسب الإلكترونية والأجهزة الاتصالية الحديثة .. مما أدى على زيادة حجم هذه التجارة في قطاعات متنوعة مثل ( النقل , المال , الائتمان ) .
لم يعد المال أو رأس المال مخزن للقيمة بل أصبح له قوة شرائية كاي سلعة من السع تحت مسمى ( تجارة النقود ) لذا أصبح له قوة تمكنه في فرض شروطه على الأسواق والدول للحصول على أكبر قدر من الامتيازات له .. مما أدى على زيادة درجة الفوضى والاضطراب في الأسواق وزيادة التضخم نتيجة زيادة قيمة النقود .
انطلاقاً من النقطتين السابقتين وبالإضافة على إنشاء منظمة التجارة العالمية .. التي بدأت نشاطها في عام 1995 والنزعة إلى توحيد الأسواق المالية .. وإزالة كثير من العقبات والحواجز التي كانت تمثل عائقاً في الماضي تعمقت المبادلات التجارية بين الدول والاقتصاديات القومية وذلك لسهولة وسرعة تنقل وتحرك السلع ورؤوس الأموال والمعلومات عبر الحدود .. مما يعمق أيضاً المنافسة واتساع نطاقها .. حتى باتت هذه الحركية والسيولة تمثل خطورة قومية ووطنية .
إعادة الهيكلة الاقتصادية الموجهة ( بكسر الجيم ) لكثير من الدول .. وبالأخص دول العالم الثالث بما يتوافق ومتطلبات العولمة وشروطها .. تبعاً لإدارة وتوجيه المنظمات والأنشطة العالمية مثل ( صندوق النقد الدولي , والبنك الدولي , ومنظمة التجارة العالمية , ومنظمة الأمم المتحدة بكافة وكالاتها المتخصصة ) وذلك لتشكيل عدد كبير من التكتلات الاقتصادية والسياسية والثقافية في أقاليم متفرقة .
ظهور الشركات المتعددة الجنسية وسيطرتها على الإنتاج والتجارة والاقتصاديات الدولية والتي تسعى إلى زيادة أرباحها دون اعتبار للمصالح الوطنية أو القومية مما نتج عنه مشاكل المديونية العالمية وخاصة في دول العالم الثالث .. كما أنها استطاعت تقسيم دولي جديد للعمل .. فقد قامت الدول المتقدمة بالتخلي عن الصناعات المشروطة بتحويل المادة الخام إلى سلع متنوعة للدول النامية .. وخاصة تلك الصناعات عالية الاستخدام للطاقة وكثيفة العمل والتكلفة وملوثة للبيئة .. إلى جانب توافر العمالة الرخيصة .. هذا بخلاف الحصول على مزايا جديدة كفتح أسواق جديدة أو التوسع في الأسواق الحالية .


ثالثاً / تجليات العولمة سياسياً

أما الآثار السياسية فقد تجلت أكثر ما تجلت في سقوط الشمولية والسلطة والنزوع إلى الديمقراطية والتعددية السياسية32 .. مما أدى على ظهور مشكلة الديمقراطية أهي نظرية غربية خالصة أم لثقافات المجتمعات العالمية تأثير عليها .. ؟ وهل هناك إجماع على احترام مواثيق حقوق الإنسان .. 32؟
في البدء نقول أن فكرة العولمة اقترنت ببزوغ ظاهرة الدولية القومية .. حيث تطلب التقدم الثقافي التكنولوجي وزيادة الإنتاجية في ذلك الوقت توسيع نطاق السوق ليشمل الأمة بأسرها بعد أن كان محدوداً بحدود المقاطعة .. فحلت الدولة محل الإقطاعية .. والملك محل السيد الإقطاعي .. كما تطلب التقدم الثقافي وزيادة الإنتاجية غزو أسواق خارجية الأمر الذي تطلب أن يكون للدولة جيش قوي يمكنها من منافسة الدول الأخرى .. في الحصول على هذه الأسواق الخارجية الحديثة أي المستعمرات .. ولكن النمو في حجم السوق هو الذي حتم أخيراً بداية تضاؤل في قوة الدولة .. فقد أصبحت القوى الاقتصادية المركزية تفوق سلطاتها سلطات القوى المركزية للدول القومية وبالتالي حلت الشركة متعددة الجنسيات تدريجياً محل الدولة 32.. لذا كان من أهم العناصر التي اشتملت عليها ظاهرة العولمة سياسياً انهيار الحدود بين الدول وإلغاء الحواجز أمام الاقتصاد وتبادل السلع بحرية دون ضوابط تذكر .. على الأنشطة الاقتصادية .. إلى جانب أن تنوع السلع والخدمات أخذ منحاً لا حد له .. إلى جانب أن المعلومات والأفكار أصبح تداولها يخضع لمبدأ السوق وقوانيه التجارية مثلها مثل السلع الأخرى المادية .. كما أن المسؤول الأول والمباشر عن تبادل تلك السلع هي الشركات المتعددة الجنسية التي حلت محل السادة للدولة .. وهذه الأسباب مجتمعة أدت إلى فقدان الدولة للهوية التقليدية ومهمة القيام بواجباتها الإقليمية كما كانت من قبل .. مما يؤدي بنا القول إلى نهاية السياسة بمفهومها التقليدي .
إن الكلمة المرعبة التي لا بد منها في كل تصريح علني .. وهي العولمة لا تدل بالذات على نهاية السياسة .. وإنما تدل على خروج السياسة من الإطار النوعي للدولة الوطنية .. وحتى من الخطوط البيانية للأدوار .. التي تعتبر عملاً ( سياسياً ) وغير ( سياسي ) 33 .
إن ما يبرز لنا من خلال عولمة الاقتصاد والأسواق والإعلام وغيره هو النتائج السياسية بسلبياتها ذات حساسية بالغة الأثر .. لذا فإن العولمة تعتبر لذلك عامل تهديد بمعنى أن سياسة العولمة لا تستهدف إزالة القيود الاقتصادية فقط .. وإنما تستهدف أيضاً إزالة قيود الدولة الوطنية .. فهي تمارس تجريد سياسة الدولة الوطنية من قوتها 33 .. الدولة الوطنية دولة إقليمية بمعنى أن سلطتها تقوم على الارتباط بمكان معين .. في مراقبة العضويات وتحديد القوانين المعتبرة والدفاع عن الحدود33 .. وبنهج العولمة وآلية التبعية تصبح الدولة مجرد تابع ويجعلها نسبية لأن كثرة من الدوائر الاجتماعية لا ترتبط بالمكان .. وشبكات الاتصال وعلاقات السوق .. وأساليب الحياة .. تشبك الحدود الإقليمية لدولة الوطنية .. وهذا يبدو في جميع أعمدة سلطة الدولة الوطنية .. في الضرائب .. ومهمات شرطة السلطة الإقليمية .. والسياسة الخارجية والأمن العسكري34 .. وهذا يبرر مفهوم السياسة التحتية .. أي أنها ليست نظرية .. وإنما هي فرص عمل وقوة إضافية وراء النظام السياسي نشأت عن الشركات العاملة في الإطار الاجتماعي العالمي 34 ..
من هنا – وفي نطاق السياسة .. نجد أن هناك كثير من الأسئلة ذات أهمية خاصة لأنها تتعلق بدور الدولة ومدى ما تملكه من حرية بعد فرض نمط موحد من السياسات من الخارج .. وهو ما يهدد بالطبع بل ويفرض موضوع السياسة الوطنية .. كذلك هل للدولة وظائف أساسية .. ما زالت تملك حرية القيام بها بالرغم من نهج العولمة المفروض من الخارج والذي يعمل على تأكيد الخصوصية التاريخية والسياسية للشعوب .. تلك المفاهيم التي تعمل الدولة على إفراغها من معناها .. وذلك بإلغاء الحدود بين الدول تحت اسم ( قرية كونية ) وأي نظام سياسي قادر على سيادة العالم ككل وتسيير حركته الكلية .. وإذا كان هذا ممكناً فأي هوية وأي مصالح سوف يعبر عنها هذا النظام السياسي الشامل الكلي الجديد ؟
إن آثار العولمة وتجلياتها على صعيد السياسة يظهر الدولة وقد فقدت امتيازاتها .. وفقدت سلطتها التي كانت موكولة لها على اعتبار أنها المسؤول الأول عن الوضع الاقتصادي والمشرف الأول والأخير عن كافة الأمور السياسية والاقتصادية .. إذ أن العولمة اليوم تتجاوز الحدود .. ولا تقر بالوطن باعتباره الفسحة الوحيدة المتاحة التي يستطيع فيها الناس ممارسة حقوقهم السياسية كاملة35 .. كما أنه وبتحليل الخطاب السياسي في ظل العولمة نجده خالياً من كلمة استقلال أو كلمة وطني أو عبارة تقرير المصير .. وحلت محلها كلمات أخرى ومفردات مكرسة لوصف السوق المعلوم ولشرح قواعده .. ولمديح مزاياه .. وكيفية التعامل معه باعتباره القدر .. الذي يصنع مستقبل الناس والمصير35 .. ونجد أنه وبعد ظهور الشركات المتعدية الجنسية أخذ دور الدول في التقلص نتيجة أن هذه الشركات عملت على تخصيص أدوات الإنتاج خاصة وأن العولمة قد ارتبطت في وجهها الاقتصادي وبصورة تلقائية بعمل ونشاط الشركات متعدية الجنسية .. وارتبطت لاحقاً وبوقت طويل وفي شقها المنظم تحديداً بالمؤسسات العملاقة للتمويل الدولي .. وأبرزها الصندوق الدولي والبنك الدولي .. ولقد قامت هاتان المؤسستان بالاشتراك مع عدد من المؤسسات المتخصصة المتفرعة عنهما بالتصميم والإشراف والإدارة لعمليات مستمرة لاقتصاديات الدول المنفردة في دائرة الاقتصاد العالمي وذلك من خلال سلسلة طويلة ومتصلة من البرامج المصحوبة بالتسهيلات المتنوعة وعلى مختلف المستويات36 .. لذا نرى أن معظم المسؤولون في لقاءاتهم وأسفارهم قد تحولوا إلى رجال أعمال يعقدون الصفقات ويستجدون القروض ويحضون الأغنياء على الاستثمار وفق معايير هذه الأيام .. هنا وهناك .. في بلاد الفقراء الواسعة .. لقد تحولوا إلى باعة متجولين لصالح الشركات عابرة القوميات 37 .. وخصوصاً بعد أن أدركت أنه ليس من بديل أفضل أمامها .. حيث والبديل الوحيد المعاكس هو في أن تعثر على مقومات تنميتها وتطورها بصورة مستقلة .. خارج نطاق المنظومة الاقتصادية العالمية القائمة .. وهو أمر مستحيل على الأقل في ظل الظروف والأوضاع الراهنة 38 .. لذا كان على هذه الحكومات البحث عن مستويين .. فقد كان المستوى الأول هو : معرفة وتشخيص وحصر التحديات التي سيفرضها القبول بالالتزامات المترتبة على عضوية منظمة التجارة العالمية وتطبيق اتفاقيات الجات عموماً والانخراط في تيار الاندماج الاقتصادي العالمي 38 .. اما المستوى الثاني من البحث فقد تجلى في العمل على تنمية الإدراك الواعي والمعرفة وتهيئة الأوضاع المحلية وامتلاك القدرات الذاتية المختلفة والمهارات المطلوبة لتحقيق أقصى قدر ممكن من الاستفادة من الآثار الإيجابية للاتجاهات الاقتصادية الجديدة وفي سبيل الفوز بأكبر قدر من الفرص التي ستتيحها38 .. والدور الذي قامت به العملية الاقتصادية وتدويلها كان المحور الأساسي للتدويل .ز فإنها قامت بدور مؤثر في إزاحة العملية السياسية – خاصة في المجتمعات التقليدية – وذلك بناءً على قدرتها على توجيه مسارات الإنتاج والمال والتجارة والاستثمار .. ومن هنا استطاعت التأثير على عمل ومواقف العملية السياسية وغيرها من عمليات مجتمعية أخرى .
ولا جدال في أن ذلك من شأنه تحويل النمط التقليدي الذي يعتمد على العمليات السياسية في الحكم إلى نمط تتحكم في مسارات العملية الاقتصادية الموجهة ( بفتح الجيم ) من الخارج 39 .. ولا يخفى على أحد أن هذا النظام لا يتيح البقاء إلا للأقوى والأكفأ اقتصاديا .
إن العولمة عملت على ربط أجزاء العالم بالرغم من تباعدها جغرافياً وسياسياً وعرقياً بروابط عديدة جعلت من العالم قرية كونية صغيرة .. ونظراً لأن الدول الصغرى الأقل نمواً وتطوراً لا تشكل قوة إنتاجية حقيقية إلا بارتباطها المفروض بالمراكز الرأسمالية المسيطرة عليها فإنها سوف تظل بعيدة عن دائرة السياسة وتخضع لشروط القوى الرأسمالية التقليدية .. المراكز الرأسمالية والمستحدثة . المتعدية الجنسية39 .
إن هذه المرحلة الجديدة من مراحل تطور الرأسمالية العالمية .. عابرة القوميات والتي تعمل على تكريسها سياسياً واقتصادياً آليات العولمة كالعديد من المؤسسات والمنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجلس الأمن والدول الصناعية الكرى .. ذلك أن هذه المنظمات والمؤسسات تمتلك القدرة الكافية والفعاليات الموجهة في رسم وتوجيه سياسات معظم الدول في العالم .. وقد كان لهذا أثره بالتأكيد على هيكلة وبناء المجتمع وبتالي على كافة أوجه النشاط في المجتمع عامة .
فالدولة التقليدية بهذا الشكل قد فقدت مبرر وجودها واستمرارها وذلك بفقدها الكثير من وظائفها المعهودة والأساسية لقيام الدولة وذلك أيضاً أن العولمة قد سعت ومنذ البداية إلى تحويل السلطة من الدولة إلى الشركات والمؤسسات عابرة القارات وهو ما أسفر عنه اهتزاز في مصداقية ومشروعية الدولة لدى مواطنيها مما سبب في كثير من حالات عدم الاستقرار السياسي وتراجع ديمقراطي واضح في كثير من الدول وبالأخص في دول العالم الثالث .. حتى أن الدول أصبحت عاجزة عن التصدي للسوق المعولم والسياسات الموحدة المفروضة من الخارج ولا يمكن الاعتراف بالدولة إلا من خلال الاعتراف الدولي بها أولاً 40 . لكن من الممكن تلخيص أو التأكيد على عدة نتائج هامة لظاهرة العولمة وهي :
حيث أن الدولة تمثل الضلع الثالث مع العولمة والمجتمع المدني فلا بد وبسبب هذه العلاقة المركبة لا يمكن الحديث عن العولمة والمجتمع المدني دون إدخال الدولة كعنصر أساسي في علاقتها بالظاهرتين .
بالرغم من أن سياسات العولمة تتركز في المجال الاقتصادي .. وهي سياسات تتجلى في مجال الانفتاح والتحرير الاقتصادي .. نجد أن هذه السياسات أقل عنها في مجال الانفتاح السياسي .. حيث نجد أن هذا الانفتاح السياسي ما هو إلا تابعاً للانفتاح الاقتصادي .. فهو مطلوباً فقط بقدر ما يفيد في تسريع التحولات الاقتصادية وامتصاص آثارها .
نستنتج مما تقدم أن السياسة التي أتيحت لتطوير الليبرالية الاقتصادية كانت أكثر توسعاً ومساحة عنها في مجال سياسة توسيع الليبرالية السياسية .
إلا أنه وفي النهاية لم تؤد العولمة بالتالي إلى تعزيز المجتمع المدني واستقلاله عن الدولة .. على انسجام بين قوى هذا المجتمع وتكتلاته وفئاته .. فما حدث هو العكس فقد أدى ذلك على زيادة هيمنة الدولة وإلى تعزيز أكثر لسيطرتها على هذا المجتمع من خلال مجموعة من القوانين والإجراءات الإدارية .


رابعاً / تجليات العولمة اجتماعياً

لا شك أن لمثل تلك التوجهات والسياسات التي أنتجتها العولمة كثير من الآثار الاجتماعية الخطيرة على أوضاع المجتمع المدني .. حيث تؤدي برامج وشروط صندوق النقد الدولي فيما يسمى ببرامج التكيف الهيكلي في العديد من البلدان إلى انفجارات اجتماعية كبرى آخرها ما حدث في أندونيسيا واليمن41 .
إن المجتمع على اعتبار أنه الحصيلة الحاصلة من تداخل العناصر التاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية جميعها في بوتقة واحدة .. فإن المجتمع بالضرورة هو هذه الكتلة المتداخلة الأطراف والعناصر تداخلا من الصعب الفصل فيه .. فإن حصيلة تلك التغيرات مجتمعة .. تؤدي إلى تغيير صورة المجتمع بأكمله .. فإن تعديل البنية التحتية كما قال بها ماركس وكل من حذا حذوه فإن البنية الفوقية تتأثر بالضرورة .. وما المجتمع إلا هاتين البنيتين .. متراكبتين ومتوازيتين.. وما تغيير المجتمع غلا أحد أوجه التغيير على كافة الأصعدة فالعلاقات الاجتماعية بين الأفراد وبين الأفراد والسلطة أو مؤسسات المجتمع عامة أخذت لها دوراً جديداً ومفارقاً لما كانت عليه قبل هذه التطورات والتحديثات المتنوعة .. فقد اتخذت صورة مغتربة كثيراً عما كانت عليه .. وخاصة مفهوم الانتماء الجماعي أو الأسري .. فقد حدثت تطورات هامة أدت على حدوث نوع من الانفصام أو الشروح اللاإرادية في طبيعة هذه العلاقات وأشكالها .. فلم يعد مفهوم الأسرة . على سابق عهده .. ولم يعد مفهوم الدولة .. هو المفهوم السائد منذ القدم .. فقد تحولت طبيعة الحياة ذاتها مما أدى على انحراف في طبيعة العلاقات الفردية والجماعية والعولمة .. حيث أنها العامل الرئيسي في إحداث تلك التغيرات العميقة الأثر في البنية الاجتماعية نجد أنها بتقنياتها وتكنيك انتشارها وتفشيها كحالة تاريخية لا يمكن الهروب منها أو التنحي عن دائرتها كان لا بد من الخضوع بإرادة أو بدون إرادة لتلك التغيرات والتأثيرات دون أن يكون أمامنا من بديل سوى العمل على تقليل ما ينتج عن هذه التغيرات من خسائر أو سلبيات قد تؤثر تأثيراً مباشراً على طبيعة البنية الثقافية والفكرية أو هيكلة المجتمع بأكلمه .. والتي تتصدى لكثير من المستقبلات الحداثية الغربية المتنوعة والمتباينة تبايناً كلياً عن طبيعة المجتمع العربي بالأخص والمجتمع الإسلامي عامة .. فقد ظهرت ونتيجة لهذه الهجمات الثقافية والفكرية الغربية والأشكال السلبية من الاستهلاك المبتذل والمسرف .. أيديولوجيات وأفكار مضادة لهذه التيارات المنفتحة .. مما أدى إلى ظهور انقسام في وتشظي في طبيعة الفكر الاجتماعي .. وهي حالة طبيعية أو نتيجة طبيعية لما يواجهه المجتمع بكافة فئاته المختلفة من تنوع ثقافي ونهج حياتي مغترب كل الاغتراب عن طبيعة الحياة في المجتمعات العربية .. كما أن الإمكانات في هذه الدول كثيراً ما تكون خارج حدود هذه الثقافات المستوردة بكل ما فيها من نهج حياة وسلوك وافكار غير قابلة للتطبيق الفعلي في أوطان العالم الثالث .. لذا وكان نتيجة لذلك أن ظهرت فئات غير متساوية في البيئة الواحدة .. فئة قادرة على أن تنتهج النهج الغربي بكل ما فيه من تنوع وحداثة وفئة لا تستطيع أن تلبي أدنى احتياجاتها الأساسية وليس الكماليات .. فما بالك بما يحدث يومياً من موضات وصرعات وتحديثات مختلفة لا تستطيع الفئات المتدنية المستوى مواكبة هذه التطورات بل تزداد كل يوم فقرأً وحاجة .. من هنا ظهرت فلسفات متناقضة ومتباينة تصور هذا الكون وقد أصابه انشطار أو حالة من التشرذم اللإنساني التي ولا بد من إيجاد حلول لها للفكاك من هذا الأسر الفوضوي اللعين .. وهناك من رأى في هذه الحال تطوراً طبيعياً مقبولاً في ذات الوقت .. إذ أنها النهاية المتصورة والحتمية لما سبق من ظواهر تاريخية وتطورات طبيعية في العالم على مستوى الفكر والاقتصاد والثقافة والسياسة والطبيعة أيضاً فقد قال ( فرنسيس فوكوياما بنهاية التاريخ ) الذي يعني نهاية الأيديولوجيات .. والذي يعني – في مفهوم فوكوياما – انقسام العالم إلى سادة كونيين عبروا إلى نهاية التاريخ .. وعبيد سوف يظلون ضحايا مستنقع التاريخ .. وستكون موهبتهم الوحيدة الباقية – على حد قوله – هي الاحتفاظ بقدرتهم على المبادرة الإنسانية .. كونهم تحت مظلة الأيديولوجيا42 .. فإن فوكوياما في أطروحته كان يحمل مشروعاً لتبرير العسكرة وللتآزر مع خواص التمايز التي هي في حقيقتها تشريع للعنصري 43 .
في النهاية نستطيع أن نجمل بعضاً من أهم التجليات على المستوى الاجتماعي وهي كالآتي :
على المستوى المعنوي / نستطيع القول أن المجتمعات باتت تعاني خوف فقدان الهوية والخصوصية الفردية والجماعية .. وضياع المرجعيات الثقافية والدينية نتيجة لهذا التداخل والانفتاح غير المشروط .. حيث الحدود الوهمية بين العوالم المختلفة والمتباينة .
تعميق الثنائيات الاقتصادية والفكرية والثقافية والطبقية .. وهو الشيء الذي جعل الفوارق بين الأفراد والمجتمعات تصل إلى منتهاها .. حيث نجد على مستوى الفكر والثقافة والأيديولوجيا استقطاب بيًن .. فأمام العولمة ومستجداتها وما تحمله من ثقافات منفتحة ومتشرذمة . . ظهرت فئات تأخذ بكافة أسباب هذه العولمة متبنية نهجها وفكرها وثقافتها .. وهي التي تعرف بالفئة المتعولمة .. كما انشقت فئات أخرى عنها تبحث لها عن مكان ما في قلب تاريخها لتؤكد هويتها وشخصيتها وهي المسماة بالفئة الأصولية .. مما خلق نوعاً من اللا توافق الفكري بين الفئتين .
أما على مستوى الواقع المادي والاقتصادي .. نجد أن هناك فئات تتوافر لها سبل الحياة بكل تطوراتها وتقنياتها الحديثة .. وفئة لا تستطيع توفير أدنى شروط العيش الكريم .. وما هذه الفروق الطبقية غلا نتيجة الانفتاح الاقتصادي وشروط السوق العالمية التي لا تسعى إلى تنمية اجتماعية شاملة بل إلى تنمية مواردها فقط .. على حساب كثير من الفئات والدول والأقاليم .. فقد أخذت الفوارق شكلاً مادياً وتكنولوجياً وذلك بسبب استحواذ الطبقات أو الفئات مرتفعة الدخول على الإنجازات التكنولوجية القيمة التي يصعب على الفئات القليلة الدخول الحصول عليها .. مما يؤدي ذلك على ترسيخ التخلف عند تلك الطبقات الفقيرة الذي يتهدد الاستقرار والتوازن الاجتماعي .
هذه الطبقية عملت على تأكيد زيادة معدلات البطالة .. لتركز رؤوس الأموال في أيدي قليلة .. والتي تسعى إلى استخدام أقل عدد ممكن من الأيدي العالمة لاعتمادها على التكنولوجيا المتطورة في التصنيع لزيادة مستوى الإنتاج والجودة .. مما كان له أثره المباشر في ترسيخ الفوارق الطبقية وزيادة معدلات الفقر والتخلف .
بناءً على ما تقدم ونتيجة له تأخذ التنمية شكلاً وطبيعة جديدة .. إذ لم تعد تعتمد على التعبئة العامة لجميع القوى وتفعيل الإرادات على كافة المستويات .. إنما تحولت إلى تنمية استثمارية خارجية للشركات المتعددة الجنسية .. أي تركيز التنمية على الجانب الاقتصادي فقط والتي تصر على فتح أبواب ونشر أساليب جديدة في الاستهلاك الترفيهي بواسطة جهاز الإعلان المتطور .. واعتماد نظام السوق ليكون أساس التنمية وطريقها الوحيد .. وظهور مجموعة جديدة من السلع المادية التي تحتاج إلى مهارات عالية .. تستقطب قلة قليلة من أفراد أو فئات المجتمع على حساب الفئات الأخرى .. مما عمل على اختلال توزيع الدخل القومي توزيعاً غير عادل سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الدول ذاتها .. هو الذي أدى بدوره إلى إهمال الجانب الثقافي والاجتماعي .



المصادر

1/ الثقافة العربية أحمد حجازي ص 29
2/ المصدر السابق ص 25 , 26
3/ المصدر السابق ص 26
4/ المستقبل العربي العدد 261 / 2000 / ص 203
5/ على حد قول المفكر وعالم الاجتماع السويسري جون زيغلر / المصدر السابق ص 90
6/ المستقبل العربي العدد 256 / 2000/ ص 74
7/ جسور العدد 1 فبراير 99 ص 17
8/ ما هي العولمة ص 16 , 17
9/ الثقافة العربية ص 87
10/ المستقبل العربي العدد 261 / 11 / 200- ص 203 , 204
11/ الثقافة العربية / أحمد حجازي ص 39
12/ المستقبل العربي العدد 261 / 11/ 2000 ص 204
13/ روجيه جارودي / كيف نصنع المستقبل ص 8
14 / الثقافة العربية ص 40
15/ الثقافة العربية ص 41
16 / المستقبل العربي العدد 256 ص
17/ الثقافة العربية ص 38
18/ البعد الثقافي لمفهوم العولمة ص 13
19 / المستقبل العربي العدد 256 ص 65 .. نقلا عن غليون برهان / عن الوطن العربي أمام تحديات القرن الواحد والعشرين ص 12
20/ الثقافة العربية / أحمد حجازي ص 30
21 / روجيه جارودي ص 8/ كيف نصنع المستقبل .
22/ الثقافة العربية ص 32
23 / المستقبل العربي العدد 256 ص 76
24/ الثقافة العربية ص 30 , 32 , 33
25/ الثقافة العربية ص 33 , 34 , 39
26/ الثقافة العربية ص 41
27/ البعد الثقافي لمفهوم العولمة ص 9
28 / البعد الثقافي ص 13
29 / السياسة الدولية / العدد 134 اكتوبر 98 العولمة .. دور جديد للدولة / د. هالة مصطفى ص43
30/ الثقافة العربية ص 37
31/المستقبل العربي العدد 256 ص 62
32/ المستقبل العربي العدد 256 ص 64
33/ الثقافة العربية / أحمد حجازي / ص 29
34/ البعد الثقافي لمفهوم العولمة ص 12 , 13
35 / البعد الثقافي ص 35 , 36
36/ البعد الثقافي لمفهوم العولمة ص 8
37 / المستقبل العربي العدد 256 ص 64
38 / الثقافة العربية / ص 22 , 23 , 24 , 25 , 26
39 / جسور / العدد 1 / ص 24
30 / العولمة والجات د. عبد الواحد العفوري ص 10
31 / الثقافة العربية ص 22
32 / البعد الثقافي لمفهوم العوملة ص 8
33/ ماهي العولمة ( اولريش بك ) ص 13, 15
34 / ماهي العولمة ص 17
35 / الثقافة العربية د. احمد حجازي / ص 21 , 22
36/ العولمة والجات د. عبد الواحد العفوري ص 9
37 / الثقافة العربية
38/ العولمة والجات ص 10
39 / الثقافة العربية ص 26 , 27
40 / الثقافة العربية ص 36
41 / جسور العدد 1/ ص 17
42 /
43 -



#أمل_فؤاد_عبيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العناصر الكامنة والفاعلة ضمن نسق العولمة
- واقع الثقافة العربية والإسلامية في ظل العولمة
- مخطوط ..
- ارتحالات اللؤلؤ وتجديد الشكل عند نعمات البحيري
- الثقافة العربية في زمن العولمة / قراءة في كتاب أحمد حجازي
- ماجد السامرائي .. وسؤال الحرية
- ممر خلفي .. قصة قصيرة
- عناق .. وردة سماوية .. قصة قصيرة
- تيار الوعي .. دراسة نقدية تحليلية لرواية الخباء للكاتبة ميرا ...
- قراءة في قصائد متناثرة للشاعر الفلسطيني موسى أبو كرش
- قراءة نقدية .. تهويمات على صدى الحقيقة .. لديوان - أف - للشا ...
- ظهور الحركة الصهيونية وتحولاتها التاريخية
- جيل دولوز بين الطبيعية والتجريبية وفقا لهيوم
- جيل دولوز والسؤال الفلسفي
- تهويمات على صدى الحقيقة .. لديوان - أف - للشاعر الفلسطيني مو ...
- قراءة على هامش الأدب والنقد
- الفقد .. شرخ في ذاكرة فلسطينية
- -إدارة الأفكار وإرادة المعرفة - الرهان المعرفي عند الكاتب عل ...
- مكونات اليهودية من وجهة نظر غربية
- - إدارة الأفكار وإرادة المعرفة - الرهان المعرفي عند علي حرب


المزيد.....




- اخترقت غازاته طبقة الغلاف الجوي.. علماء يراقبون مدى تأثير بر ...
- البنتاغون.. بناء رصيف مؤقت سينفذ قريبا جدا في غزة
- نائب وزير الخارجية الروسي يبحث مع وفد سوري التسوية في البلاد ...
- تونس وليبيا والجزائر في قمة ثلاثية.. لماذا غاب كل من المغرب ...
- بالفيديو.. حصانان طليقان في وسط لندن
- الجيش الإسرائيلي يعلن استعداد لواءي احتياط جديدين للعمل في غ ...
- الخارجية الإيرانية تعلق على أحداث جامعة كولومبيا الأمريكية
- روسيا تخطط لبناء منشآت لإطلاق صواريخ -كورونا- في مطار -فوستو ...
- ما علاقة ضعف البصر بالميول الانتحارية؟
- -صاروخ سري روسي- يدمّر برج التلفزيون في خاركوف الأوكرانية (ف ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أمل فؤاد عبيد - آليات العولمة .. آثارها وتجلياتها