أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أمل فؤاد عبيد - العناصر الكامنة والفاعلة ضمن نسق العولمة















المزيد.....



العناصر الكامنة والفاعلة ضمن نسق العولمة


أمل فؤاد عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 1780 - 2006 / 12 / 30 - 12:27
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


مقدمة
" إذا أردنا أن نتحدث عن لحظات ألا انتظام في التاريخ علينا أن نركز على فترات التمفصل التاريخي بين نظام ونظام .. أو من نمط لآخر ..
وهذه الفترات قد تأخذ أكثر من قرن واحد أو تأخذ عقدا من الزمان لأنها مشروطة بطبيعة التحول وباسترجاع التوازن إما في إطار – ضرورة تاريخية – جديدة أو في إطار نفس الضرورة " 1

التتابع التاريخي

إن علم التأريخ هو " العلم الذي يتعامل مع استرجاع الوقائع وبنائها في الذهن بناء تصوريا .. متسلسلا تسلسلا زمنيا .. وبهذا البناء يأخذ التاريخ صورته .. ولذا نعتقد أن أي مؤرخ ملوث – لحد كبير أو صغير – بالانتقائية من وقائع الزمن الغزيرة ما يوافق منهجيته .. أو ما يوافق إمكاناته في بحث أشكال التطور في جزئية مكانية أو زمانية قد تفرض عليه فرضا .. ليتمكن من إبراز بعض النتائج .. ما يسود عمل المؤرخ عموما هو الاستنباطية في ترتيب الوقائع ترتيبا سببيا في الذهن .. بحيث تنبني الحداثة التاريخية فوق أختها في خط أو حتى خطوط متصاعدة لتدعيم تصور مسبق أو رؤية سادت بحكم حجم بعض المعلومات التاريخية في اتجاه محدد وفرتها بعض الوثائق أو الآثار القديمة أو بعض العمل العلمي الحديث ز. أي اعتمادها على وفرة معلوماتية نستطيع بها تحديد اتجاهات الحراك التاريخي " 2وقد عرفت البشرية منذ ولادتها الحروب والصراعات بين الجماعات والشعوب ..ومع ذلك فإن القرن العشرين وحده عرف الحروب العالمية ثلاث حروب عالمية .. اثنتان تعتبران من الوجهة العملية حروب صدامية .. أما الحرب الثالثة فقد كانت حربا لم يستخدم فيها نمطية الحروب الأخرى .. ومنها اتخذت شكلا باردا .. وقد بدأ " القرن العشرين من حيث التطورات الكبرى ( 1914-1918 ) بالحرب بين انجلترا وحلفائها وألمانيا وأنصارها .. وانحصرت المعارك العسكرية في أوروبا .. ومع ذلك فقد أصر القرن العشرون ومؤرخوه على وصف هذه الحرب بأنها الحرب العالمية الأولى .. على الرغم أن معظم شعوب الأرض في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لم يكن لها فيها ناقة ولا جمل .. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى .. انتهى عصر السيطرة البريطانية .. وتراجعت فترة الإمبراطورية البريطانية .. ولم تلبث آثار الحرب العالمية الأولى وما فرضته من أعباء قاسية على ألمانيا المهزومة أن دفعت ألمانيا النازية للثار .. وقامت الحرب من جديد بين بريطانيا وحلفائها .. من ناحية وألمانيا وجول المحور من ناحية أخرى .. وهي المعروفة بالحرب العالمية الثانية .. وهنا أيضا أصر القرن ومؤرخوه على وصف هذا الصراع الجديد بالعالمية .. على الرغم من أنه تصفية حسابات أوروبية ناجمة عن الحرب السابقة ( 1914-1918 ) ومع نهاية الحرب العالمية الثانية قبر النظام الاستعماري وانتهت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية .. وتحررت معظم المستعمرات وظهر عصر السيطرة الأمريكية مع معارضة من الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الاشتراكية .. وتحول الصراع إلى مواجهة بين أمريكا وحلفائها في الغرب الأوروبي من ناحية .. وبين الاتحاد السوفييتي وأنصاره في الشرق من ناحية أخرى .. وبدلا من أن يحسم هذا الصراع الجديد في حرب ساخنة بالأسلحة أيضا .. في ميادين القتال .. فقد قامت بن الكتلتين الغربية والشرقية حرب باردة بين الرأسمالية والاشتراكية .. أسلحتها أدوات الحرب الاقتصادية والنفسية والعقائدية .. والحروب المحلية والثورات المضادة وسباق التسلح وغير ذلك من وسائل الصراع غير الصريحة وأحيانا غير الملموسة ..
وفي بداية التسعينيات .. وبلا مقدمات ظاهرة .. أعلن الاتحاد السوفييتي هزيمته .. وحل نفسه إلى عدد من الدويلات والجمهوريات المستقلة .. التي تسعى إلى الحصول على المعونات الاقتصادية من الغرب بعد الهرولة .. إلى النظام الرأسمالي .. وبانتهاء هذا الصراع وبإعلان الفوز الأمريكي بالنقاط وليس بالضربة القاضية لم يعد هناك محلا لحرب عالمية جديدة .. لغياب المنافس .. حتى إشعار آخر .ولم يعد أمامنا إلا العالمية نفسها .. فإذا بنا أمام هذه الضجة حول العولمة .. وإذا كان القرن العشرون قد اصطفى لنفسه إدعاء العالمية لكل حروبه ونزواته .. فإنه لم يخل من شمولية في تصنيفه للأمور .. فالحرب العالمية الأولى هي مواجهة بين الحرية والديمقراطية .. وبين الأتوقراطية والسيطرة .. والحرب العالمية الثانية .. هي أيضا حرب بين هذه الحرية والديمقراطية من ناحية .. وبين الفاشية والنازية .. أو بين احترام حقوق الإنسان والعنصرية .. والتمييز من ناحية أخرى . وجاءت الحرب العالمية الباردة حربا بين الرأسمالية والشيوعية وكل منهما يدعي أنه يمثل الحق والفضيلة .. والآخر يمثل الشيطان والرذيلة .. ويبدو أننا نسير على المنوال نفسه عند تناول الحديث عن هذه العولمة .. فهي تقدم كما لو كانت الخير والتقدم والرقي .. أو هي على العكس الشيطان وإقصاء الهوية والقضاء على الأصالة والضياع في عالم مجهول تحكمه أشباح من الشركات متعددة الجنسية ويبدو أن الحقيقة أكثر بساطة .. وأكثر تعقيدا في الوقت نفسه .. أكثر بساطة لأنه لا يوجد شيء جديد أو مفاجئ قد هب علينا .. أو على العالم .. وإنما هو تطور يبدأ بطيئا .. وأصبح سريعا في مجالات عدة .. في التكنولوجيا وخصوصا في المعلومات والاتصالات .. وفي الاقتصاد وخصوصا في أسواق المال .. وفي النظام المؤسسي لعلاقات الدول .. وفي الوعي العام .. فالأمر ليس بوافد جديد هب على العالم .. في الربع الأخير من القرن العشرين .. بل هو تطور مستمر منذ الثورة الصناعية .. بل وقبلها مع الرأسمالية التجارية .. وربما قبل ذلك أيضا .. والجديد هو في سرعة التطور ومداه .. ومن هنا لنا أن نفهم العولمة أكثر بساطة مما نتصور .. فإننا لم نستيقظ فجأة كأهل الكهف لنكتشف أمورا لم تكن تخطر لنا على بال ..
بل الحقيقة أن المقدمات قائمة وموجودة أمامنا منذ وقت ليس بالقريب .. ولكن هذه البساطة لا تعني التبسيط .. ولا تنفي بالتالي التعقيد .. والتركيب في الظاهرة ... فالعولمة ليست مجرد سيطرة الشركات .. متعدية الجنسية او متعددة الجنسية .. ولا هي أسواق المال أو حتى الرأسمالية .. فالعولمة ليست وافدا جديدا بقدر ما هي تفاعل عناصر قديمة لها جذورها الراسخة .. من ناحية .. وبين عناصر جديدة تبحث لها عن أرضية مناسبة من ناحية أخرى .. وهو تفاعل مستمر وذو أبعاد متعددة .. وهكذا فإن ما يطلق عليه اسم العولمة هو ظاهرة مركبة وملتبسة يختلط فيها الجديد بالقديم .. وتتفاعل هذه العناصر في تطور بطيء أو سريع وتتضمن عناصر متجانسة مثلما تحمل أيضا بين طياتها عناصر أخرى متناقضة . فالعولمة .. ليست نموذجا نظريا منطقيا .. من اختراع مفكر أو مؤلف .. بقدر ما هي وصف للحظة من لحظات التطور الاجتماعي والتاريخي .. 3
لكن هذا الاستنباط " يخلق هدفا لحركة التاريخ وإن كان متواضعا فإنه يرى هدفا لحركة التاريخ "4 مما يجعل هذه الاستنباطية لا تكشف حركة التاريخ في ذاتها ولا غزارة وقائعه .. " وإنما تلعب على مفاصل جاهزة سلفا .." 5 وذلك أن الخطية التي يسير عليها التاريخ أو الخطية التاريخية المعقلنة تتغاضى في حقيقة أمرها عن " حركة الوقائع الفعلية واتجاهاتها .. لأن الاستنباط لا يتبع خطوط الحركة الفعلية وإنما يقفز فوقها ليصل إلى غايته مباشرة " 6 .. ولكن لنا أن نطرح سؤال .. ما هي قيمة الخطية .. خاصة إذا نحن نبحث عن العشوائية في الوقائع .. سؤال يطرحه الدكتور عبد الهادي عبد الرحمن فيم هو يبحث العشوائية في الوقائع ويرى في واقع الأمر أن المؤرخون قد وقعوا في " الخطية السببية .. وفي الغائية .. وفي قانون الحركة الصاعدة دوما بشكل يشبه أو يقترب من الإرادة أو القسرية " 7 ..
ويقول إن الخطية أكدت اختيار الإنسان لمصيره فأقام برامجه وغاياته على تصوره للتاريخ البشري .. ثم عندما استطاع أن ينتظم في مجتمعات حضرية .. ابتدأ القصدية في تحريك التاريخ وفقا لأهدافه .. 8 كما أن التصور الخطي .. لا يرى الأبعاد الأخرى كما يقول .. ومن ثم فإن تاريخا يتناول القوى الكامنة تحت السطح هو وحده فقط التاريخ الحقيقي 9 .. وما أ، تظهر العناصر الكامنة وتبدأ في العمل العلني .. تحدث تأثيرا يشبه ما يسمى " بتأثير الفراشة .. أي يمكن فيه أن تؤدي حوادث صغيرة إلى تحولات خطيرة .. 10 .. لكن هناك تصور آخر للتاريخ نراه عند فوكو حيث أنه " يقف ضد أي نوع من أنواع التنظير الكلي .. وضد التحليل الي يتناول ظواهر كلية .. بطريقة تشكل نسقا نظريا .. وهو يستند في أعماله على رؤية للتاريخ .. استمدها من نيتشه .. تقوم على مفهوم الجينالوجيا الذي يعتمد بدوره على فكرة الاختلاف وليس التواصل التاريخي .. فالمؤرخ الجينالوجي يبدأ بالحاضر .. ممسكا خيطا ملموسا .. ويعود به إلى الوراء .. زمنيا حتى يصل إلى نقطة اختلاف .. وعند هذه النقطة يبدأ العودة مرة أخرى إلى الأمام مقتفيا أثر التحولات التي طرأت على موضوعه ومحافظا على الإنقطاعات محافظته على الروابط التاريخية .. والفكرة هنا هي أن الخطابات / الممارسات المغتربة .. يتم استكشافها بحيث تبرز جوانبها السلبية في علاقتها بالحاضر .. محدثة انفجارا في عقلانية الظاهرة التي كانت أمرا مسلما به من قبل .. والتحليل الجينالوجي هنا .. يختلف عن التحليل التقليدي في عدة نقاط . فبينما يميل التحليل التقليدي إلى وضع الأحداث داخل أنظمة تفسيرية كبرى .. وداخل عمليات خطية متصلة .. ويحتفي باللحظات الكبرى والأفراد العظماء .. ويسعى إلى إيجاد نقطة تكون بمثابة أصل .. يحاول التحليل الجينالوجي التركيز على فردية الأحداث .. ويبتعد عما هو مشهدي وفخم .. في اتجاه ما لا يحظى بالمصداقية ويعاني من التجاهل ويشكل طائفة كاملة من الظواهر التي سلبت تورايخها .. فالجينالوجي عند فوكو يركز على المعارف المحلية والمتقطعة .. والتي توصف بأنها دون المستوى وغير شرعية .. بهدف بعث الحياة في المعرفة التاريخية بنضالات تم استبعادها من التاريخ .. وفي مواجهة دعاوي الكيان النظري الموحد .. الذي يقوم بتصفية ذلك النوع من المعارف ويشكلها في تراتبية منظمة باسم معرفة حقيقية ما .. كذلك تكشف الجينالوجيا عن تعددية العوامل وراء أي حدث من الأحداث .. كما تكشف هشاشة التكوينات التاريخية .. 11 ..
من هنا نقول انه لا بد من دراسة العلاقات التحولية بين عناصر متعددة ز. سواء في تحكمها لعناصر مجموعة مستقبلة .. أو عن الصراع مع مجموعة مواجهة .. كما أن قياس العنصر الفعال .. هو ما يحكم العمليتين .. التحكم والمواجهة .. " وهذا العنصر الفعال ليس من الضروري أن يكون ظاهرا .. إنما قد يكون كامنا في البنية " 12

الحداثة وما بعد الحداثة .. ضرورة تاريخية/

أما فيما يخص الحداثة .. فإن التعريفات العديدة التي حاولت تقديم مفهوم واضح وصريح لمضمون الحداثة .. ومن ثم ما بعد الحداثة .. نجدها قد تناولت الوعي بإدراك أولي ونزوع ثاني .. إلا أننا نرى أن الحداثة هي بداية الوعي .. وعي الفرد بذاته وبالآخر والعالم والكون .. وعيه بإمكاناته وقدراته .. ومن ثم قدرته على صوغ حياته ومنهجه العام في الحياة .. والحداثة ليست وقت ماض أو حاضر .. إلا أنها الآنية في بعدها الأنطولوجي وبعدها الفلسفي العميق .. إن الحداثة هي آنية الوعي واستمراريته .. لذا .. فإن بداية الحداثة قد تمتد في عمق التاريخ الإنساني إلى حيث بداية ظهور الوعي الإنساني .. وهذا الوعي الذي بدا مع الحركة البروتستانتية أو لوثر بمعنى اصح .. ثم تلاها بعد ذلك النهضة والتنوير . عندها عاد الإنسان إلى قضاياه الكبرى يعيد قراءتها وتأملها .. من جديد .. إن الحداثة هي " معرفة الذات .. مقاومة المجهول وألا معنى في إدارة الحياة .. البحث عن وحدة عبر تشتت الوجود اليومي .. إذن كانت الحداثة شكلا من الوعي لعلاقة الإنسان بالعالم .. " 13 لكن الحداثة بمعناها الحديث .. فإنها تبدأ منذ عصر الصناعة إلى ما بعد ذلك ومازالت مستمرة وستبقى مادام الفرد / الإنسان يمارس وعيه بصورة متجددة وحيوية وآنية في ذات الوقت .. من ناحية أخرى نرى أن ما بعد الحداثة لها صيغة مغايرة أو هي الصورة التكميلية للحداثة .. ذلك أن الحداثة ما هي إلا الوعي بصورة شمولية وكلية .. وذلك عندما بدأ الإنسان بطرح أسئلته الكلية الكبرى .. عن الوجود والحياة والإله .. ومن ثم انتقل بعد ذلك بل .. كان ضروريا انتقاله هذا من الكلي والعام .. إلى الخاص والجزئي .. ما بعد الحداثة هو الوعي بصورته الجزئية .. والتخصصية لا الشمولية أو الكلية .. بعدما طرح الإنسان الأسئلة والقضايا الكبرى ليحللها وبدأ من جزئياتها .. ذلك بعد أن تأكد له بأنه قادر على السيطرة على العالم من حوله ورويدا رويدا أخذت الحداثة صورتها المابعد .. فإن المابعد هذه ليست تجاوزا للحداثة أو تطويرا لها .. إنما هي الصورة أو الوجه الآخر من الوعي الكلي الشمولي .. الإنسان في هذه المرحلة تشده القضايا الجزئية .. وبعد أن نسجت العلوم محيطاتها الخاصة بها .. وبعد أن تحلل العالم إلى جزئياته المترابطة المنفصلة في آن .. فما بعد الحداثة هي الوجه الآخر للحداثة وليست تجاوزا لها أو ما بعدها .. " فإذا اقترنت الحداثة بالقطع الحاسم مع الماضي .. لصنع قيم وجماليات وسلوكيات جديدة ..فهي تأخذ بقبول التجاوز لأنظمة مختلفة دون اعتبار للتناقضات التي قد تفصل بينها .. إن ما بعد الحداثة .. ورغم التعريفات المختلفة والمتناقضة أحيانا التي وجهت للتعريف بالكلمة .. هي في الغالب المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة .. كما يقول فريدريك جيمسون .. أو الشرط العام للمعرفة في عصر التكنولوجيا .. حسب لوتار .. " 14


الحداثة وفكرة التقدم /

يشير سيدمان إلى أن ثقافة ( التنوير ) هي مركز الحداثة الغربية .. والتنوير هو مرحلة في الفك الأوروبي تميزت بالتأكيد على الخبرة والعقل الإنساني .. وعلى عدم الثقة بالدين وبساطة التقاليد . كما تميزت بالنشأة التدريجية للمثل التي تبنتها المجتمعات الليبرالية والعلمانية والديمقراطية ز. ورغم اختلاف تعبيراتها الفكرية .. إلا أنه يمكن القول بأنها كانت مرتبطة – فكريا – إلى حد كبير بنظرة مادية للكائنات البشرية .. وبشعور متفائل بقدرة الإنسان على تحقيق التقدم من خلال التعليم والبحث العلمي للسيطرة على الطبيعة والمجتمع .. وبموقف يعلي من قيمة المنفعة في المجال الاجتماعي والأخلاقي .. 15 .. كما ارتبط مفهوم الزمن بالحداثة وذلك عند ظهور فكرة التقدم أو مفهوم التقدم .. وميزة الزمن في عصر الحداثة أنه خطي تقدمي تصاعدي وليس زمنا دائرا أو تكراريا .. إنه زمن يتصاعد ويتقدم من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل .. من هنا فإن الحداثة ذات منزع تاريخي .. 16 .. وربما الحداثة هي الوعي بالزمن حقيقة .. ذلك أن الإنسان القديم الأصولي البسيط لم يكن يهتم بالزمن إلا في صورته المبثوثة في الكتب الدينية .. والتي تؤكد على زمانين فقط هما الزمن الأرضي الحالي .. الذي يعيش فيه .. وهو الزمن الذي يؤهله للصعود إلى الزمن الأخروي ..النهائي . والذي هو الفردوس السماوي وألا نهائي .. وعندما بدأ وعي الإنسان في إدراك الآنية أو اللحظة المعاشة أدرك الما قبل والمابعد .. هنا أصبح الوعي بالزمان ضرورة حتمية يقاس عليها الحاضر والماضي والمستقبل .. في اللحظة التي وعي بها الإنسان أدرك زمانه ومن ثم مكانه .. فالزمان والمكان أصبح لهما معنى مغاير لما كانا عليه من قبل .. هذه الحداثة المباغتة والتي ارتبط من خلالها الإنسان بحاضره وأدرك من خلالها ماضيه وقدرته على استشراف المستقبل هي التي هيأت له القدرة على أن يميز المكان الآخر .. ثم بدأت الأسئلة الكبرى التي كانت لها من القداسة استدراك ما فاته من زمن ماضي يقرأه ويبحث فيه من إجابات قد تكون شافية له على أسئلته الكبرى والمصيرية في آن .. وقد تخطى الإنسان تلك المرحلة بأن أصبح له آلياته الفعالة وأدواته في التحليل والتركيب والدراسة والبحث .. إن الحداثة في نظر هابرماس .. " لا ترتبط بمرحلة تاريخية .. كمرحلة النهضة أو الأنوار أو المرحلة المعاصرة .. وإنما تحدث كلما تجددت العلاقة بالقديم وتم وعي بالمرحلة الجديدة 17 " ولكن إذا كانت الحداثة هي هذا الوعي بالماضي والحاضر في لحظة تاريخية متمايزة أو مختلفة .. فما الذي يسم ما بعد الحداثة إذا ً .. وما الهدف من وضع الما بعد قبل الحداثة .. إن هذا السؤال لا بد للإجابة عليه من البحث عن أهم الخاصيات الملازمة لفكر أو لظاهرة ما بعد الحداثة .. ربما تكون المابعد حداثة هي التجاوز الفعلي للتاريخ .. أو ربما هي التجاوز المكاني والزماني .. فقد ارتفع الإنسان بوعيه عن ضرورة الزمان والمكان ليحل مكانهما ضرورات جديدة .. ولكن ما هي هذه الضرورات الجديدة .. التي يرتهن إليها الإنسان المابعد حداثي .. والتي تمثل في وجودها وتحققها تمفصلات رئيسية في نسق التحولات التاريخية أو المشهد العام لهذا الوجود بصورة شمولية .. أو تلك التغييرات الحادة في مسار التفكير وأوجه التعبير والفعل الإنساني بشكل عام .. نقول أن تلك الضرورات الحتمية التي تخلقت من رحم تاريخ سابق لها .. تاريخ لا انقطاع فيه بشكل فعلي .. وإنما هو متواصل ومتصل في آن .. قد وجدت طريقها إلى الوجود من داخل تلك الضرورات السالفة .. فبعد أن تجرد الإنسان وتعالى بصورة تراجيدية على مفهومي الزمان والمكان .. بطريقة أفضت على إفراغ المفهومين من مضمونهما أو معناهما الحقيقيين .. قد خلق ضرورات جديدة .. زمان ومكان آخرين يرتهن إليهما في وجوده وفعله .. وهذا الخلق أو الابتكار الجديد كانت له ضروراته الملازمة له في ذات الوقت .. نقول أن الإنسان المابعد حداثي .. قد تنازل عن المكان والزمان مقابل مكان وزمان آخر .. يملك السيطرة الكاملة عليهما .. وبهذه الضرورات الما بعد حداثية .. كان له أن يؤسس لعالم جديد من ابتكاره مرهون بقدراته الذاتية / الفردية / الجماعية .. وله غاياته الخاص به والتي لا بد من الآن فصاعدا يعمل جاهدا لتحقيقها .. فهي الهدف الأسمى الآن .. من حياته وفعله الوجودي .
بحيث نجد ان عبارة الما بعد " ليست مجرد تخط لمفهوم الحداثة كمرحلة من مراحل تطور الفكر الغربي في سعيه .. منذ تحديده لمصادره اليونانية .. نحو كشف أشكال جديدة أكثر رقيا وتقدما .. وإنما إعادة طرح لقضية ( الأساس ) أو ( التأسيس ) ولقضية ( المصدر ) وما يرتبط به من تصورات ( غائية ) .. كما وضع أسسها ( هيجل ) وبلورها ( هوسرل ) من بعده .. 18 .. ويصبح من ثم مفهوم المابعد هنا ليس تطورا لمفهوم الحداثة .. إنما تمثل قطيعة .. " معها وخروجا علن خط الصيرورة التاريخية في صورة طرح جديد .. ويعتقد فاتيمو أنه يتم في شكل الحدوث .. ومن ثم يصبح ما بعد الحداثة حدثا جذريا لا يمكن فهمه – في نظره – إلا على ضوء ضربين من التاريخ .. تأريخ الحدث نفسه .. وتأريخ الذات التي تطرحه .. 19 .. وهذا يدفعنا إلى التحليل التالي وهو أنه كيف تكون الما بعد حداثة تواصل لا انقطاع فيها .. وتجاوز حقيقي للحداثة في آن واحد .. من هنا لا بد التمييز بين مستويين من الحداثة .. المستوى الأول هو المستوى الأبستمولوجي .. وهو المستوى المعرفي .. والذي يتواصل عبر سلسلة متصلة من التاريخ لا انقطاع فيه أبدا .. وإن ما بعد الحداثة هنا تصبح تاريخ تالي للحداثة .. ذاتها كضرورة أبستمولوجية صرفة .. أما المستوى الثانية فهو المستوى الأنطولوجي أو المستوى الوجودي .. كحركة وفعل وتطبيق .. حيث نجد أن الحداثة ترتهن كما أسلفنا من قبل أى زمان ومكان خاص بها .. أما ما بعد الحداثة فقد تجاوزت الزمان والمكان لترتهن لضرورة جديدة .. أي زمان ومكان آخرين .. متجاوزين للزمان والمكان الحقيقيين .. " فمنذ هيجل أصبح الوعي بالتاريخ يزداد حدة ويشكل لحظة مسيطرة في الحداثة .. وأصبحت الحداثة ذاتها تفكر .. على أنها معطى تاريخي وليس أسطوريا أو طوباويا .. وكنتيجة لارتباطها بالزمن والتاريخ تريد أن تكون دائما معاصرة وعالمية .. 20 هنا يحضرنا قول هابرماس " من أن الحداثة هي الوعي بالمرحلة التاريخية .. التي تقيم علاقة مع الماضي .. من اجل أن تفهم ذاتها .. باعتبارها نتيجة لنوع من العبور أو المرور من الماضي إلى الحاضر .. إن هذا التحديد الأولي للحداثة الذي قدمه هابرماس .. كان في سياق نقد واسع شامل لما يسمى بما بعد الحداثة .. 21 هناك نقطة هامة تخص الحداثة العربية .. ربما هو الوعي عند الإنسان ربما .. تكون بدياته عن طريق الاستعمار وربما قبل ذلك بقليل .
ذلك أن الحداثة نشأت في الغرب على أنقاض المجتمع الزراعي الإقطاعي أولا .. وثانيا على تخلخل المفاهيم الدينية والميتافيزيقية والمثالية التي شكلت العامل الأساسي لرؤية الوجود أو الأيديولوجيا التاريخية لهذا المجتمع .. بمعنى آخر إن الحداثة الغربية تشكل مجموعة من الظاهر المتكاملة عضويا والناتجة تارخية عن حركة التطور الجدلي للمجتمعات الأوروبية الوسيطة .. فالمجتمع الأوروبي الوسيط كان يقوم من حيث تركيبته السياسية والاجتماعية على تفتيت السلطة المركزية ز. وعلى سيادة الإقطاع على مصادر الثروة الأساسية وهي الأراضي الزراعية .. كما كان يقوم على مستوى الأيديولوجيا الدينية والفكرية على مبادئ ثبات القيم والتحديد المسبق عرفا وقانونا للهيراركية الثلاثية التي كانت تحكم النظام الاجتماعي وفقا لمبادئ العبادة ( وظيفة رجال الدين ) والقتال ( النبلاء ) والعمل ( الفئة الثالثة وتشمل البورجوازية ومختلف فئات الشعب الأخرى ) .. وأخيرا كانت الرؤية الميتافيزيقية للوجود .. التي بلورتها علوم اللاهوت والفلسفة المدرسية في جمعها بين الفلسفة والدين على طريق كبار فلاسفة المسلمين . شكل هذا الركيزة الأساسية لأنساق القيم والمعايير .. والمثل التي لا تنظم فحسب مجمل العلاقات الاجتماعية على هذه الأرض .. وإنما كذلك علاقة الأفراد بحياتهم الآخروية من حيث الرؤية الرأسية للعالم .. ومن حيث مفاهيم الخير والشر والطاعة والمعصية والثواب والعقاب .. ومن ثم لا جرم أن تأتي قيم الحداثة مواكبة لمعظم التغيرات التي سوف تصيب هيكل المجتمع الإقطاعي وتؤدي إلى خلخلته ثم في النهاية إلى انهياره .. وأول مظهر من مظاهر هذا التغيير سوف ينبثق من عملية التناقض نفسه الذي ينشأ من الصراع المتولد من جهة .. بين رجال الإقطاع والسلطة المركزية وبينهم وبين الطبقة البورجوازية الصاعدة من جهة أخرى .. خاصة مع بدايات ازدهار ظاهرة المدن وانتعاش التجارة خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر .. 22.
إن هذه العقلانية التي برزت عبر تأسيس الدولة الحديثة والتي فصلت – وإن كان على المستوى الفعلي أكثر منه على المستوى النظري والأيديولوجي – بين جهاز الدولة أو السلطة المدنية للملكية وبين هيمنة السلطة الكنسية .. تبزغ أيضا على مستوى الإبداع الثقافي والفني من خلال أدب الإنسانيات الذي لا يشمل فحسب بعث الآداب والفلسفات اليونانية القديمة .. وإنما كذلك استخدام المناهج العقلية والفيلولوجية في دراسة ونقد النصوص الدينية .. ونشر مباحث اللياقة والآداب العامة التي سوف تساهم في صنع الإنسان المتحضر الجديد .. 23.. إلا أن ظاهرة الحداثة من الممكن تصويرها عبر صورتين رئيسيتين : صورة العقلانية الإرادية المبددة لأوهام وخرافات العصور الوسطى .. وصورة الذاتية الأدبية .. وتتأكد العقلانية بدورها من خلال تيارين متضاربين : تيار الفلسفة المثالية التي تقطع صلتها كلية بالفكر الفلسفي القديم .. ولا حتى مع الدين .. ويمثله ديكارت ومالبرش وليبينتز .. والتيار الثاني هو التيار العملي الرافض لميراث الفلسفة القديمة .. ومن أتباعه أو رواده بيكون وجاليليو .. 24 .. أما بالنسبة للعولمة فهي التطبيق الفعلي لأفكار ما بعد الحداثة أو الإنجاز الفعلي لما حققته العولمة بالفعل .
كما أنه ليس هناك اتفاق حول طبيعة ومكونات الحداثة عند غالبية الدارسين لهذا المصطلح " فهناك من يرى أن الحداثة ليست مفهوما اجتماعيا أو تاريخيا أو سياسيا .. وإنما هي نمط حضاري يتميز بشمولية وتعارضه مع التقاليد .. وحضوره في جميع الأشياء والموضوعات من هنا نقول دولة حديثة وتقنية حديثة .. وفن حديث أو أدب حديث .. وهنالك من يرى أنه ليس للحداثة قوانين أو نظريات خاصة وإنما هنالك ملامح عامة وأيديولوجيات مختلفة تدعو في الغالب إلى التغيير والتجديد في مقابل التقليد والمحافظة .. ومن الناحية التاريخية فإن وصفة الحديث أقدم من الحداثة .. والتي تعني في اللغة أول الأمر وابتداؤه .. إذ ترجع كلمة حديث إلى القرن الخامس الميلادي حيث استعمل للدلالة على التمييز والفصل بين الماضي الروماني الوثني والحاضر الروماني المسيحي الذي حظي بالاعتراف والشرعية .. أما لفظة الحداثة فلم يأخذ معناها ودلالته إلا في القرن التاسع عشر .. حيث ارتبط بأعمال الشاعر الفرنسي شارل بودلير ( 1821-1867 ) بالرغم من أن للحداثة الأوروبية محطات تاريخية أساسية وفاصلة في تاريخ البشرية .. لا يمكن من دونها مناقشة الحداثة ولا ما بعد الحداثة .. ونعني بذلك مرحلة النهضة .. ومرحلة الأنوار .. 25.. فهي إذا حالة ثقافية حضارية ومجتمعية جاءت كتعبير عن حالة المجتمعات الصناعية الغربية التي تشكلت في القرنين التاسع عشر والعشرين .. وهي في نفس الوقت امتداد لجهود حثيثة بدأت منذ القرن السادس عشر في أوروبا 26.
أما عن مراحل تكونها فقد حصرها الأستاذ مجدي عبد الحافظ في " النهضة التي عادت بالغرب إلى تراثه الوثني القديم لأثينا وروما لتخطي قيم المسيحية .. والإصلاح الديني الذي تجسد في البروتستانتية التي تزعمها مارتن لوثر ليتم الفصل بين الفرد المؤمن والكنيسة .. مما مهد للديمقراطية .. والثورة العلمية والفلسفية والعلوم التجريبية .. والاكتشافات الكبرى التي أطاحت بالشرعية الدينية .. وفلسفة الأنوار التي تصدت لأسس المجتمع التقليدي الرئيسية المتمثلة في الحق الإلهي والكنيسة .. حيث قام الغرب لأول مرة ببناء نظرة عقلية للكون وللإنسان تقوم على العقلانية والوضعية والتفاؤلية والإيمان بالتقدم .. والثورة الفرنسية التي ثارت على كل قيم مؤسسات المجتمع القديم .. وأخيرا الثورة الصناعية التي أطاحت بطبقات المجتمع التقليدية البورجوازية والبروليتاريا .. حيث قام على كاهلهما معا التحديث السياسي والفكري .
إن أهم ما مميز عملية التحول تلك مبدأ العقلانية وميلاد الفرد باعتبارهما المنطلق الذي من خلاله استلهم الغرب كل عمليات تحديثه التي استندت في الواقع العملي على مبادئ الديمقراطية والعلمانية وحرية الفكر .27
يقول كانط " أن التنوير هو تحرر الإنسان من ألا رشد .. وألا رشد هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله من غير معونة من الآخرين .. كن جريئا في إعمال عقلك .. هذا هو شعار التنوير .. لأن التنوير ليس في حاجة إلا إلى الحرية .. إنها الحرية في الاستخدام العام للعقل .. في كل مسألة .. من هنا قد أصبحت الحداثة عند علماء الاجتماع كما يقول مجدي عبد الحافظ " عبارة عن نتيجة جهود دائمة ومستمرة للانسلاخ من التقاليد .. ومن البديهيات والمسلمات والتراتبيات التعسفية ومن الأحكام المسبقة والاعتقادات الظلامية في نفس الوقت الذي يتم فيه التشبث بمثال نموذجي لتقدم المعارف والتكنولوجيا .. تنعكس على الفعالية ونزعة المردودية والعلاقات الاجتماعية المختلفة التي تنشأ في ظل الحداثة .. إذا نستطيع القول في كلمة واحدة أن الحداثة هي انتصار العقل على النقل .. أي إعلاء من شأن العقل على حساب النصوص الموروثة .. والتقاليد العتيقة .. هي إطلاق الحرية بلا حدود للعقل الإنساني كي يؤصل هذا لتربع الإنسان كسيد أوحد على الطبيعة .. وكمصدر وحيد للمعرفة والقيم .. إنها كما يقول تورين .. انتصار للعقل وتحرر وثورة .. ويعرف التحديث على أنه الحداثة في حالة فعل وعلى أنه مسار مباطن لها تماما .. إن المفهوم التقليدي للحداثة هو إذن وقبل كل شئ بناء صورة عقلانية للعالم الذي يدمج الإنسان بالطبيعة .. الكون المتناهي في الصغر – الميكروكزم في الكون المتناهي في الكبر – الماكروكزم .. ويرفض كل أشكال الثنائية بين الجسد والنفس .. وبين عالم الإنسان والعالم المفارق28 ..

الاستخدام المفاهيمي للعولمة /


إن سمير أمين كان أول من أذاع مفهوم ( العولمة ) وتنبأ به وبمضامينه السياسية المستقبلية بداية من الثمانينيات .. ورغم ذلك فإن تداوله لدينا لم يبدأ إلا في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات .. وفي مناخ معرفي يبستم بخصائص ثلاث :

أولها : أن تعرفنا على هذا المفهوم ورد في إهاب تتابع الموجات المصطلحية والمفاهيمية الوافدة إلينا من الشاطئ الآخر .. ( إعادة الهيكلة – التعددية – القرية الكونية – ما بعد الحداثة – نهاية التاريخ – صدام الحضارات – المجتمع المدني – حقوق الإنسان – آلية السوق – الخصخصة – الشراكة المعلوماتية .. ) وهي موجات سعت أن تثير فينا إيمانا بشرعيتها .. وموافقة على ما تمثله .. مما أسفر عن نوع من الانفجار المصطلحي .
ثانيها : أن تجليات العولمة بدت أدعى إلى طغيان مفاهيم كانت حتى الأمس القريب من قبيل الأمور الثابتة أو المسلم بها .. مثل مفاهيم الأمة والدولة والسياسة والدين والثقافة والهوية .. لتضحى موضع تأمل وبحث .. كما برزت في الآن نفسه منظومة مفاهيمية جديدة .. خاصة فيما يتعلق بعالم الاتصال والمعلوماتية .
أما ثالثها : فتبدو في سيادة .. إن لم نقل استبداد ظاهرة التحول المفاهيمي ( الآخر بدل العدو – ثقافة السلام بدل ثقافة التحرر الوطني – الشرق أوسطية بدل القومية العربية – التطبيع بدل المقاومة – الشراكة بدل الاعتماد على الذات .. ) ومع ذلك فالعولمة أكثر دلالة من الكوكبة .. لأن حقيقة العولمة لا تقف عند حدود كوكب الكرة الأرضية ( جلوب ) .. مادامت السيطرة على الكواكب الأخرى أحد مطامحها 29..
لقد أثار مفهوم العولمة بين الواقع والأيديولوجيا مشكلة مفاهيمية .. حين يتم التفريق بين العولمة كواقع ( جلوبلايزيشن ) وكأيديولوجيا ( جلوبالايزم ) فيما تبدو الممايزة بين اللاحقتين ( يزم ) و( يزيشن ) تبدو أمرا شكليا .. وإن جاز اعتماد الأولى منهما على دينامية الثانية أو هذه الظاهرة العالمية .. فيما الثانية تكرس للتعبير عن الظاهرة اعتمادا على الدينامية الذاتية للجماعة 30.. على أن هذا التداخل المعجمي لم يقتصر فحسب على مفهوم العولمة .. بل امتد ليشمل المفاهيم الأخرى المتصلة به .. والتي يتم نقلها إلى العربية نقلا اعتباطيا .. قوامه الاجتهاد الفردي ز. من ذلك تعدد التسميات التي تطلق على الشركات المتعدية الجنسية .. 31 .. وهو ما يجيز القول أن نقل المفاهيم من المجال التداولي الذي تشكلت في صلبه إلى آخر يقتضي الوعي بأبعادها الاجتماعية ودلالاتها الفلسفية والمعرفية .. وحمولاتها الأيديولوجية .. بما يضمن لها الجلاء والحضور والقابلية والسيرورة .. قصد تفعيل قوتها التعميمية .. ومنحها صلاحيات تعبيرية أكثر دقة .. 32
والحق أن مقاربة العولمة وتأسيس النظر المتصل بمحتواها .. لا يكتمل من دون تحليل الصيرورة التاريخية التي تكمن وراءها .. وتبيان مختلف المتغيرات المساهمة في تعيينها .. ذلك أن المفهوم لا يمكنه أن يتطور كمعطى بدهي .. إذ هو بالضرورة معتمد على تنظير العمليات التاريخية الملتبسة له .. 33


العناصر الفعالة الظاهرة في نسق العولمة

يقول الكاتب عبد الهادي عبد الرحمن أنه " لو سمح لنا بتجاوز عنوان هذه الجزئية والعودة إلى الوراء قليلا بحثا عن العناصر / العنصر الكامن في إقامة الدولة العربية الإسلامية في بداياتها لاكتشفنا أننا نقوم بعملية استنباطية .. لأننا حددنا النتائج وعلينا أن نرصد طبيعة الوظيفة الاحتمالية في حالة الصراع في جزئية العنصر الكامن الفعال الذي تصورناه في أحد كتبنا – بالاندفاع التاريخي للقوة العسكرية الإسلامية – جذور القوة الإسلامية 1988 – تلك القوة التي تشكلت على أرض الصراع والمعارك اليومية بتكون جيش مهمته الحرب المتواصلة في عملية اندفاع سريع خارج الحدود قوض وحجم إمبراطوريات سابقة .. إذن يكون عنصر الفعالية عنصرا متحركا ضمن بنية متحولة 34.. ولفهم طبيعة العنصر الفعال أيضا يمكن أن نرصده فيما يمكن أن نسميه – مفاصل إعادة التوازن الدولي – وهي لحظات تاريخية لاختلال ملحوظ في توازنات دولية حاكمة .. تسمح ببروز عناصر بينية فالتة من أطر التحكم المركزي .. تعبيرا عن إحلال توازنات جديدة .. 35

أولا / الحرب العالمية الثانية

كانت الحرب العالمية الثانية فاصلا رئيسيا بين مرحلة زائلة وبداية مرحلة جديدة لم تلبث هي الأخرى أن تعرضت لتغيرات عميقة في إثر انتهاء الحرب الباردة .. فالفترة بين الحربين الأولى والثانية كانت فترة انتقالية مضطربة لم تسمح بإرساء نظام اقتصادي مستقر المعالم .. بل كانت فترة تخبط وعدم استقرار .. يمكن القول بنوع من التعميم وربما التبسيط .. إن العالم عرف درجة كبيرة من الاستقرار والوضوح في علاقاته الاقتصادية خلال القرن التاسع عشر .. منذ سقوط نابليون وإبرام معاهدة فيينا ( 1815) من ناحية .. وحتى قيام الحرب العالمية الأولى ( 1914 ) من ناحية أخرى .. ففي خلال هذا القرن سادت الرأسمالية الصناعية .. وسيطرت الإمبراطوريات الاستعمارية على معظم أرجاء المعمورة خارج أوروبا .. مع الاعتراف بالأخذ بنظام حرية التجارة على أواضع الاقتصاد العالمي .. وغلب مذهب حرية التجارة وحياد المالية العامة على الفكر الاقتصادي .. بحيث كان تدخل الدولة محدودا في المجالات الاقتصادية .. فالدولة بشكل عام دولة حارسة تؤمن الدفاع والأمن والعدالة .. ويتكفل السوق بالدور الاقتصادي الرئيسي .. وليس معنى ذلك أن الدولة تخلت تماما عن كل دور اقتصادي .. فالحقيقة أنها كانت وراء المصالح الاقتصادية الغالبة .. سواء بتوفير عناصر البنية الأساسية اللازمة .. أو بتحقيق الاستقرار القانوني والنقدي الضرورين لاستمرار المعاملات .. أو أخيرا بالتدخل المباشر وأحيانا بالقوة العسكرية لحماية المصالح الرأسمالية والصناعية خارج الحدود 36.. إلا أننا نجد أن النتائج المترتبة على الحرب العالمية الأولى في عام ( 1914 ) كانت تقويضا وهدما لهذه الأوضاع .. وكان أول ضحايا هذه الحرب هو نظام الذهب واستقرار أسعار الصرف .. فبمجرد قيام الحرب اضطرت الدول المحاربة إلى التخلي عن قاعدة الذهب مع الإسراف في إصدار النقود الورقية لمواجهة احتياجات الحرب .. وفرضت القيود على التجارة التي توقفت تماما فيما بين المتحاربين 37.
أما بعد الحرب أو عند انتهائها نجد أن الدول قد بدأت في الأخذ بسياسات الحماية الجمركية .. وحروب تخفيض العملات بقصد كسب الأسواق .. والالتجاء إلى اتفاقات المقاصة واتفاقات الدفع والتجارة الثنائية .. وفي الوقت نفسه الذي بدأت تتخبط فيه الاقتصادات الرأسمالية الغربية .. ظهر على الجانب الآخر الاتحاد السوفييتي في محاولة للأخذ بنظام اقتصادي مناقض .. وهوالنظام الشيوعي .. وبعد فترة من حروب التدخل الغربية في روسيا من ناحية .. ومحاولة النظام البلشفي إثارة الثورة الشيوعية العالمية من ناحية أخرى .. انكفأت روسيا على نفسها وأخذت بفكرة الاشتراكية في دولة واحدة على رغم الحصار الغربي عليها .. وجاءت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929 فساعدت جزئيا على تخفيف حدة الحصار الاقتصادي على روسيا .. حيث اضطرت العديد من الشركات الأمريكية في بحثها عن الأسواق إلى تقديم تسهيلات في الدفع لروسيا على رغم الاختلاف العقائدي بينهما .. مما ساعد على نجاح الخطة الخمسية الأولى لروسيا اعتبارا من عام 1929 وهي السنة التي عرف فيها الاتحاد السوفييت بداية الخطط الخمسية والتي تعاصرت مع بداية الأزمة الاقتصادية الكبرى في العالم الرأسمالي 38.
من ناحية أخرى نجد أن التناقضات الناجمة عن الحرب العالمية الأولى قد تكاتفت " سواء في انهيار نظام النقد القائم على قاعدة الذهب .. أو في ظهور الأزمة الاقتصادية العالمية وفشل الدول الغربية في السيطرة عليها .. أو في قيام نظام اقتصادي معارض في روسيا .. أو أخيرا في ظهور نظام نازي معاد ومجروح في كرامته وبالتالي راغب في الثأر .. وفي الوقت نفسه غلبت الحمائية على سلوك الدول .. وتعددت اتفاقات الدفع وتراجعت حرية التجارة .. وغلبت الرقابة والقيود على انتقالات السلع والأموال .. وعلى المستوى السياسي انحصرت الديموقراطيات وغلب المد الفاشي والدكتاتوري .. وفشلت عصبة الأمم .. وكان لا بد من وقوع الأزمة .. فكان أن قامت الحرب العالمية الثانية كنتيجة منطقية لفترة من القلق والاضطراب عمت بعد سقوط النظام العالمي السائد قبل الحرب العالمية الأولى وبدأ العالم يتطلع إلى نظام جديد . وقد وضعت نواة النظام الاقتصادي الدولي الجديد قبل نهاية الحرب .. ولكن ما إن بدأت فترة ما بعد الحرب حتى خيم على العالم شكل جديد من الحرب الباردة بين حلفاء الأمس تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية .. والشرق تحت قيادة الاتحاد السوفييتي .. وهكذا تكون النظام الاقتصادي الدولي المقترح تحت مقتضيات هذه الحرب الباردة .. وفي العقد الأخير من القرن تحلل النظام الاشتراكي وانتهت الحرب الباردة39 ..

ثانيا / نتائج الحرب العالمية الثانية

هناك ثلاث قضايا في غاية الأهمية .. كان لها تأثير كبير في التطورات اللاحقة للنظام الاقتصادي العالمي ( ...... ) وهي قضايا كان لها تأثير عميق في اتجاه السياسات الاقتصادية اللاحقة والمؤسسات الدولية المنشأة وهذه القضايا هي :
القضية الأولى / إعادة تعمير أوروبا بعدما خلفته الحرب من تدمير وما ترتب عليها من بزوغ مفهوم النمو الاقتصادي واستخدامه معيارا للتقدم .
من المعروف أن أوروبا واليابان قد خرجتا من الحرب وقد دمرت بينتهما الأساسية .. وهدمت معظم صناعاتهما وواجهتا بالتالي مشكلة إعادة التعمير وبناء القدرة الاقتصادية لها لمواصلة الحياة بعد انتهاء هذه الحرب .. وكان حجم التدمير والخراب الذي أصاب بعض الدول .. خاصة ألمانيا واليابان وروسيا .. كبيرا مما تطلب استثمارات هائلة لاستعادة نشاطها الاقتصادي .. كذلك جاءت نهاية الحرب العالمية الثانية بخطر جديد كان لابد من مواجهته وهو خطر الشيوعية الذي بات يهدد أوروبا المنهكة من الحروب .. فقد جلبت نهاية الحرب العالمية معها ضمن ما جلبت إحياء المواجهة بين الشيوعية والغرب .. وكانت الأحزاب الشيوعية قد حققت لنفسها مواقع قوية داخل معظم الدول الأوروبية .. وخاصة في فرنسا وإيطاليا .. حين أصبحت هذه الأحزاب أهم الحركات السياسية المناهضة للفاشية . وقد أفادت هذه الأحزاب من نشاطها في المقاومة خلال الحرب ضد الألمان .. فضلا عما وجدته من دعاية وتأييد من الاتحاد السوفييتي بسبب الانتماء العقائدي وممالاة من الدول الغربية .. لهذه الأحزاب بسبب ظروف الحرب والعدو النازي المشترك .. وفي مثل هذه الظروف كان استمرار الأوضاع الاقتصادية المنهارة لأوروبا هو إذكاء ًوتدعيما للحركات الشيوعية النشطة التي وجدت في هذه الظروف المضطربة بيئة مناسبة لدعوتها .. ومن هنا كان تحرك الولايات المتحدة .. التي أخذت زمام المبادرة في زعامة ما أطلق عليه العالم الحر .. فأعلن وزير خارجيتهما جورج مارشال في محاضرة في جامعة هارفارد .. في يونيو عام 1947مبادرة مهمة .. هي ما عرف فيما بعد باسم مشروع مارشال .. فطلب مارشال في محاضرته وضع برنامج خاص لمعاونة أوروبا اقتصاديا مبينا أهمية إعادة إحياء الاقتصاد الأوروبي .. وطالب جميع الدول الأوروبية .. وكانت الدعوة تشمل أيضا الاتحاد السوفييتي – بالتعاون فيما بينها لوضع خطة لإعادة التعمير .. وأشار مارشال في هذه المحاضرة إلى استعداد الولايات المتحدة للمساهمة المالية في مثل هذا البرنامج 40.. وإذا نظرنا إلى تلك الدعوة المباشرة من مارشال إلى العالم الغربي سنجد أن الأسباب الأساسية والمباشرة لهذه الدعوة من الممكن تحديدها في هذه النقاط :

أن الخطر الشيوعي هو أحد الأسباب الأساسية وراء دعوة مارشال41 ..
حاجة الاقتصاد الأمريكي إلى مثل هذا المشروع .. فقد دخلت الولايات المتحدة الحرب في نهاية عام 1941 وساعدت هذه الحرب على إنعاش الاقتصاد الأمريكي الذي عانى من ركود شديد منذ الأزمة المالية العالمية عام 1929 .. ولم يستعد عافيته إلا بقيام الحرب .. فمع الاستعداد للحرب أضيفت إلى الاقتصاد الأمريكي طاقة إنتاجية كبيرة لأغراض هذه الحرب .. وعلى عكس معظم الدول المتحاربة الأخرى .. التي اضطرت إلى تحويل جزء كبير من اقتصادها المدني إلى المجهود الحربي .. فقد نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في أن تضيف إلى طاقاتها الإنتاجية طاقات جديدة لأغراض الحرب .. دونما أي تأثير ملموس في إنتاجها المدني القائم .. فكان اقتصاد الحرب الأمريكي يمثل إضافة إلى الاقتصاد المدني وليس اقتطاعا منه .. وعندما وضعت الحرب أوزارها وبدأت تصفية اقتصاد الحرب وتحويله إلى الإنتاج المدني .. كان هذا الاقتصاد مهددا بخطر الانكماش .. من جديد .. فبعد نهاية المجهود الحربي كان لا بد من تحويل الموارد المستخدمة للأغراض العسكرية .. إلى أغراض مدنية .. وفي الوقت نفسه فإنه مع خروج أوروبا محطمة من الحرب كانت قدراتها على الاستيراد من الولايات المتحدة منعدمة أو شبه منعدمة .. ومعنى ذلك أن أسواق العالم الخارجي كانت شبه مغلقة أمام الاقتصاد الأمريكي الذي خرج من الحرب أقوى مما كان عليه قبل الحرب .. بالغ القوة في مواجهة عالم بالغ الضعف مكن حيث القدرة على الإنتاج والتبادل .. ومن هنا فقد كانت دعوة مارشال إلى تعمير أوروبا خدمة للاقتصاد الأمريكي .. وذلك بتوفير أسواق جديدة له في فترة التعمير .. ثم بعث شريك في المستقبل عندما تتم إعادة تعمير الاقتصاد الأوروبي 42.. والذي يهمنا هنا أن الأمر الأكثر أهمية هو أن مشروع مارشال قد ترتب على تنفيذه توجهات في السياسة والمؤسسات الاقتصادية كما يرى الدكتور حازم الببلاوي :
أ - فعند خروج الدول الأوروبية من الحرب وفي ظل اقتصادات الحرب كان من الممكن أن تتجه أوروبا عند إعادة البناء إلى الاستمرار إلى الأخذ بسياسات التقييد والرقابة التي عرفتها طول سنوات الحرب .. وجاء مشروع مارشال قائما على أساس العمل على الإسراع بتحرير التجارة وإزالة القيود .. وبذلك ساهم في وضع أساس النظام الاقتصادي العالمي القائم على حرية التجارة وحرية الانتقال لرؤوس الأموال .. وقد ترتب على الأخذ بمشروع مارشال أن عمدت الدول الأوروبية إلى تكوين اتحاد للمدفوعات الأوروبية فيما بينها .. وساعد ذلك على أمرين كان لهام أبلغ الأثر أيضا في التطورات الاقتصادية اللاحقة : الأمر الأول هو تدعيم فكرة التجارة متعددة الأطراف والابتعاد عن فكرة المقايضة واتفاقات الدفع .. أما الأمر الثانية هو دفع فكرة التعاون الإقليمي والتنسيق في السياسات المالية والاقتصادية للدول الأوروبية فيما بينها .. الأمر الذي تطور فيما بعد إلى إنشاء السوق الأوروبية المشتركة .. ثم الاتحاد الأوروبي .. وبذلك فقد ساعد تنفيذ مشروع مارشال على الأخذ بسياسات حرية التجارة متعددة الأطراف .. وتحرير القيود على انتقال رؤوس الأموال .. والأخذ بقابلية العملات للتحويل .. وهي أمور كان قد خطط لها الحلفاء عند وضع أسس النظام الاقتصادي الدولي الجديد مع اتفاقية بريتون وودز عام 1944 .
ب- كذلك فقد كانت المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي مقدمة لإرساء أساس التعاون الاقتصادي فيما بين الدول الأوروبية فضلا عما أدت غليه من رسم معالم السياسات الاقتصادية والتي أصبحت تهدف إلى تحقيق معدلات مناسبة من النمو الاقتصادي .. مع شيء من سياسات التدخل ز. تتراوح بين تأميم القطاعات الرئيسية أو الأخذ بنوع من التخطيط التأشيري .. فالسياسة الاقتصادية أصبحت تهدف إلى تحقيق نمو مستمر للاقتصاد .. وهو تغير مهم في التوجهات الاقتصادية .. فقد كان هدف السياسة الاقتصادية لفترة ما بين الحربين هو مقاومة البطالة .. وبعد الحرب واجهت الدول مشاكل اقتصادية مختلفة تماما عما كان يشغلها في فترة ما قبل الحرب .. سواء من حيث الحاجة إلى إعادة التعمير وتحقيق النمو الاقتصادي المستمر أو من حيث مواجهة خطر التضخم وارتفاع الأسعار 43..
القضية الثانية / المواجهة بين النظم الاقتصادية .. نظام رأسمالي يقوم على أساس اقتصاد السوق في الغرب .. ونظام اشتراكي يقوم على مبدأ التخطيط المركزي في الشرق :
تطور النظام الاقتصادي على نحو تلقائي تحت تأثير التطورات التكنولوجية والقوى الاجتماعية السائدة .. مع ظهور الثورة الصناعية في بريطانيا منذ منتصف القرن الثامن عشر .. وظهر ما أطلق عليه ( الرأسمالية الصناعية ) ولم يكن هذا النظام وليد فكرة أيديولوجية لمنظر اقتصادي أو سياسي 44 .. وقد كان هذا النظام أو الفكر الاقتصادي في مجموعه بالرغم من الانتقادات التي وجهت له غلا أنه ظل مؤمنا بأن النظام الرأسمالي هو ( النظام الطبيعي ) وقد يحتاج إلى الإصلاح أو التهذيب هنا وهناك .. ولكنه يظل النظام المعتمد .. ومع ذلك فقد ظهر ومنذ أمد بعيد فكر راديكالي يرفض فكرة النظام الرأسمالي أو الملكية الخاصة .. ويدعو إلى إقامة نوع من الملكية العامة .. وإلى إقامة نظام اشتراكي أو شيوعي . وقد تبلور هذا الفكر وتأكدت معالمه مع دعوة كارل ماركس ومعه فريدريك إنجلز إلى الناظم الشيوعي بإصدار الإعلان الشيوعي أو البيان الشيوعي في عام 1848 .. وقامت الحركة الشيوعية الماركسية في عدد من الدول الأوروبية الغربية داعية إلى إقامة ناظم جديد على أنقاض النظام الرأسمالي القائم 45 .. إلا أن هذه الحركة كانت مجرد دعوة ظلت حركة سياسية ضمن حركات سياسية متنوعة لتغيير العالم قبل قيام الحرب العالمية الأولى 46 .. غير أن الحزب واصل بعد ذلك العمل على تقويض أركان النظام القيصري في روسيا وقبل نهاية الحرب العالمية الأولى ومع اندحار جيوش القيصر أمام ألمانيا في عام 1917 استولى الحرب الشيوعي على الحكم بعد ثورته البلشيفية ووضع موضع التنفيذ أول نظام اقتصادي اشتراكي حديث استنادا إلى أفكار ماركس .. وقد واجهت روسيا الشيوعية معارضة الدول الأوروبية الغربية فيما عرف بحروب التدخل في العشرينيات من القرن العشرين .. ولكنها استطاعت أن تفرض سلطتها وأن تقضي على عناصر المناوءة والتدخل الأجنبي .. وظلت مع ذلك العداوة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي .. فالاشتراكية وخاصة الماركسية ليست مجرد دعوة لتغيير النظام الاقتصادي والسياسي في دولة .. بل إنها كانت حركة تبشيرية لتحرير العالم من مظالم الرأسمالية ومن هنا نشب العداء بين النظامين .. وجاءت الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية بعدد من المشاكل الداخلية لكل من النظامين .. مما فرض على كليهما الانكفاء على الذات لمواجهة هذه المشاكل الداخلية .. فالدول الصناعية الغربية لم تلبث أن واجهت الأزمة الاقتصادية العالمية منذ عام 1929 .. ثم خطر النازية الألمانية .. واتجهت روسيا – الاتحاد السوفييتي فيما بعد – إلى تعزيز وجودها الداخلي ذد أعدائها من الطبقات الاجتماعية القديمة .. وفرض نظم المزارع الجماعية .. ثم تنفيذ الخطط الخمسية للتصنيع بدءا من عام 1929 .. وبذلك واجه كل من النظامين مشاكل داخلية صرفته عن التفرغ لمناوءة النظام الآخر .. وهكذا ظل الصراع كامنا بين النظامين .. وجاءت الحرب العالمية الثانية واضطرت كل من الدول الغربية من ناحية والاتحاد السوفييتي من ناحية أخرى إلى نوع من تحالف الأعداء ضد العدو المشترك ألمانيا النازية وشركائها في إيطاليا واليابان 47 .. كما أن الحرب العالمية الثانية قد ساعدت الاتحاد السوفييتي على الاستفادة من المعونات الاقتصادية الأمريكية في ظل ما عرف بقانون الإعارة والتأجير .. وبمقتضاه حصل الاتحاد السوفييتي إلى جانب الأسلحة والعتاد على العديد من السلع الرأسمالية اللازمة للصناعة .. فضلا عن بعض أشكال التكنولوجيات المتطورة .. وفي الوقت نفسه ساعدت ظروف الحرب على اتساع نفوذ الحركات الشيوعية في معظم الدول الأوروبية فقامت المقاومة في عدد من الدول التي خضعت للاحتلال النازي .. كما لعبت الحركات الشيوعية دورا بارزا فيها .. واكتسبت بالتالي شعبية ومشروعية كبيرتين .. وكانت ماكينة الدعاية والترويج للحركة الشيوعية الدولية بالغة النشاط في هذه الفترة .. ولم تجد مقاومة من الحكومات الغربية الحليفة معها في الحرب .. وهكذا انتهت الحرب العالمية وقد اكتسب الاتحاد السوفييتي مركزا مرموقا ومتميزا في السياسة الدولية سمح له بأن يحتل مكانا بين القوى العظمى 48 .. فقد خرج الاتحاد السوفييتي من هذه الحرب في وضع متميز باعتباره قوة عظمى أو في طريقه أن يصبح كذلك .. وبالمنطق نفسه يمكن القول أن الولايات المتحدة الأمريكية قد خرجت هي الأخرى الفائز الآخر من هذه الحرب العالمية .. فالنظام الاقتصادي العالمي القائم على حرية التجارة وسيطرة الإمبراطورية البريطانية كان قد أنهك بعد الحرب العالمية الأولى .. وجاءت الحرب العالمية الثانية لتجهز عليه كليا 49..وهكذا جاءت نهاية الحرب العالمية الثانية خاتمة لمرحلة تاريخية انتهى معها النظام القديم القائم على الدولتين الصناعتين الاستعماريتين في بريطانيا وفرنسا .. وإحالتهما إلى دولتين من الدرجة الثانية .. في حين قفز إلى المقدمة كل من الولايات المتحدة الأمريكية وهي تدعو إلى ( النظام الحر ) من ناحية .. والاتحاد السوفييتي والذي يدعو إلى ( الاشتراكية ) من ناحية أخرى 50 .. لكن الوضع خلال المراحل الأخيرة للحرب العالمية الثانية قد افترض انتهاج سياسات جديدة اتجاه الاتحاد السوفييتي خاصة وأن العالم الغربي أو أوروبا كان قد انقسمت إلى غربية وشرقية .. غربية قريبة من النفوذ الأمريكي .. وشرقية خاضعة للأحزاب الشيوعية والاتحاد السوفييتي .. وحتى الدول الغربية التي لم تسقط للأحزاب الشيوعية مثل فرنسا وإيطاليا واليونان .. فإن النفوذ الشيعي فيها كان كبيرا .. ووصل الأمر إلى قيام ما يشبه الحرب الأهلية في اليونان بين حركة شيوعية مدعومة من الاتحاد السوفييتي والحكومة الشرعية المدعومة من الغرب .. وكانت هذه المواجهة هي اللحظة التي تخلت فيها بريطانيا رسميا للولايات المتحدة عن الدفاع عما يسمى ( بالعالم الحر ) فأخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة .. وتدخلت بأشكال مختلفة حتى أمكن استئصال الخطر الشيوعي في اليونان51 .. ولكن في نهاية الحرب وعندما تحقق النصر للحلفاء .. بدأ كل من الطرفين الغرب في أمريكا والشرق في روسيا في الإعداد لما بعد الحرب 52 .. لنجد أنه وبعد ذلك كان تحقق كتلتين متصارعتين لهما مطالبهما الخاصة في وقت ارتفعت فيه الأصوات في الغرب للتحذير من مخاطر الشيوعية 53 .. خاصة وأن الاتحاد السوفييتي قد اتسع نفوذه المباشر لمعظم دول أوروبا الشرقية .. وغير المباشر عبر الصين إلى آسيا 54 .. مما دعا الاتحاد السوفييتي إلى تسخير الظروف المواتية له .. لتعزيز وجوده في هذه الأراضي الجديدة .. وتدعيم الأساس الاقتصادي ببناء قاعدة صناعية اشتراكية تمكنه من مواجهة الاقتصاد الغربي .. كما أن الاتحاد السوفييتي سعى إلى تدعيم الاقتصاد الوطني وإنشاء الصناعات الثقيلة .. وتحقيق تراكم رأس مال بما يسمح باللحاق بالاقتصاد الغربي بعيدا عن إغراءات أنماط الاستهلاك الترفي وتشتيت الجهود مع دعاوي التعددية السياسية .. وهكذا جاءت المواجهة الأيديولوجية بين الرأسمالية والاشتراكية استجابة لاعتبارات متناقضة في كل من المعسكرين .. ولكنها مطلوبة لكل منهما على السواء .. كل لأسبابه الخاصة 55 .. هنا كان للحرب الباردة الظهور وبقيامها كان انقسام العالم إلى كتلتين .. غربية رأسمالية وشرقية اشتراكية .. عرف العالم واحدا من أهم العوامل المؤثرة في التطورات الاقتصادية العالمية اللاحقة وقد انعكس ذلك على العديد من القضايا المطروحة .. كذلك فقد كان هذا الاستقطاب العالمي بين المعسكرين أحد العوامل التي ساعدت على حركات التحرير السياسية .. واستقلال العديد من المستعمرات القديمة وطرح قضايا التنمية الاقتصادية56 ..

القضية الثالثة / ظهور قضية التنمية الاقتصادية للعالم الثالث كواحدة من المشاكل الرئيسية في عالم ما بعد الحرب .. حيث انقسم العالم إلى شمال متقدم وجنوب متخلف 57..
كان انقسام المجتمع إلى فقراء وأغنياء ميزة قديمة قدم الزمان .. وإذا كانت المجتمعات تنقسم دائما من الداخل إلى فئات أكثر حظا وفئات أخرى اقل حظا .. في المزايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .. فقد عرف التاريخ كذلك وجود مجتمعات أكثر ثراءً وقوة إلى جانب مجتمعات أخرى أقل ثراءً وأضعف شكيمة 58.. كان هذا الاختلاف والتمايز بين المجتمعات من حيث القوة والثراء محدودا من ناحية .. وكانت هذه المجتمعات محدودة الاتصال فيما بينها من ناحية أخرى .. وكانت الفوارق بين المجتمعات محدودة كذلك .. وكانت متقاربة في مستوى المعيشة وأدوات الإنتاج .. وجاء العصر الحديث فإذا بالفروق بين الأغنياء والفقراء تصبح بالغة الخطورة .. وقد بدأ التمايز والاختلاف بين الدول والمجتمعات في الظهور بشكل واضح منذ الثورة الصناعية .. وازداد الوعي بهذه الفروق مع نهاية الحرب العالمية الثانية 59.. كما أن التطور الاقتصادي قد أدى إلى اندماج الدول والمجتمعات في حلقة من العلاقات الاقتصادية من تبادل تجاري واتصالات بين الشعوب .. بما يجعل انعزال بعضها عن البعض الآخر استثناء من الأصل العام .. وهكذا عرف العصر الحديث اندماجا وتزايدا في العلاقات الاقتصادية بين المجتمعات المختلفة من ناحية .. مع تزايد في التمايز وفي الفروق بين مستويات المعيشة بين مجموعة من الدول الغنية ومجموعة من الدول الفقيرة من ناحية أخرى .. وما تزال الفجوة أو الهوة بين أولئك وهؤلاء في تزايد مستمر.. ويأتي في المرتبة الأولى ليس ظهور هذا التمايز ووضوحه .. إنما الأمر الهام هنا هو في زيادة الوعي بهذه الفروق60 .. ويؤكد الدكتور حازم الببلاوي على أن التمايزات الاجتماعية بين المجتمعات في مستويات المعيشة قد بدأت : تظهر بشكل واضح بين مختلف الجماعات من أيام الثورة الصناعية التي عرفها العالم منذ منتصف القرن الثامن عشر .. فإن هذه الثورة لم تصل إلى مداها بعد .. حيث مازالت بعض الدول والمجتمعات في مراحلها الأولى من هذه الثورة الصناعية .. وفي الوقت نفسه الذي لا تزال فيه بعض الشعوب ( العالم الثالث ) تغالب حتى تدخل المجتمع الصناعي .. فإن العديد من الدول الصناعية قد دخلت بالفعل مراحل متقدمة من هذه الثورة الصناعية فيما عرف بثورة المعلومات والاتصالات .. أو الموجة الثالثة .. مما زاد الهوة فيما بين المجموعتين .. وقد بدأت مشكلة العالم الثالث تظهر مع نهاية الحرب العالمية الثانية فقد برزت على السطح : قضية الانقسام بين الدول المتقدمة والدول النامية أو المتخلفة .. وذلك بسبب تداعيات العلاقات الدولية عند نهاية الحرب .. وكانت معظم المناطق المتخلفة قد خضعت للاستعمار منذ القرن التاسع عشر .. أو قبله .. وأدخلت بالتالي في دائرة الاقتصاد العالمي بوصفها مصدرا للمواد الأولية أو المواد الخام .. والعمل الرخيص من ناحية .. وسوقا للتصريف من ناحية أخرى . دون أن يتغير هيكلها الاقتصادي والاجتماعي .. حيث ظلت مجتمعات ما قبل عصر الصناعة .. فهي مجتمعات تنتمي لمرحلة ما قبل الصناعة في هياكلها الإنتاجية ونظمها الاجتماعية .. ولكنها من خلال الاستعمار والتجارة العالمية أدمجت في الاقتصاد العالمي في تبعية كاملة أو شبه كاملة 61.. إلا أن وعي هذه المجتمعات بنفسها وبما يفرق بينها وبين المجتمعات العالمية من فروق وتمايزات جاء مع الحرب العالمية الثانية .. وذلك من خلال مشاركة أبناء هذه المجتمعات في جيوش الدول المتقدمة .. وبذلك ازداد الاتصال بينهم وبين شعوب الدول الاستعمارية .. وأدركوا الفروق في مستويات المعيشة التي تنعم بها شعوب الدول المتقدمة .. وتطلعوا إلى هذه المستويات العالية .. كذلك ساعدت الحرب على إذكاء روح المطالبة بالمساواة والاستقلال .. وبتحقيق الاستقلال السياسي لهذه الدول سرعان ما اكتشفت أن الاستقلال السياسي يظل هشا وغير فعال ما لم يصاحبه استقلال اقتصادي .. ومن هنا طرحت قضية التنمية الاقتصادية نفسها على المجتمع الدولي .. وأصبحت أحد هموم الاقتصاد العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية .. وقد ـأثرت معالجة قضية التنمية الاقتصادية بالأوضاع السائدة لاسيما بالصراع الأيديولوجي السائد بين الغرب والشرق .. وأصبحت بالتالي من لعبة التوازن الدولي .. فقد فرضت قضية التنمية الاقتصادية نفسها كإحدى القضايا الرئيسية المطروحة على الساحة واحتلت دول العالم الثالث أهمية سياسية كبيرة إبان فترة الصراع الأيديولوجي والحرب الباردة .. وزادت أهمية المساعدات للتنمية ومثلت جزءا من السياسة الخارجية للكتلتين المتصارعتين 62..
إن التغيرات الأساسية التي حدثت وما زالت تحدث هي نتيجة مباشرة لما تمثل من : البروز المتزايد والنمو السريع للاستثمار الأجنبي المباشر .. لقد كان نمو التجارة العالمية هو العامل المهيمن والمحرك للاقتصاد العالمي خلال فترة ( 1945- 1973 ) .. أما العامل المحرك للاقتصاد ابتداء من عقد الثمانينيات فصاعدا فهو وكما يقال .. نمو الاستثمار الأجنبي المباشر ..إن الآليات العالمية التي أثرت وما زالت تؤثر في بنية الاقتصاد الحقيقي دون سواها هي التجارة والاستثمار الأجنبي .. أما التدفقات المالية العالمية قصيرة الأمد .. والتي توسعت توسعا سريعا بعد التخلي عن أسعار الصرف شبه الثابتة وعن الضوابط المقيدة لرأس المال في عقد السبعينيات 63 .كما أن الحرب العالمية الثانية أدت على ظهور التحالفات .. ذلك أن الخوف من الحرب وهذه التحالفات بدورها عملت على التكتلات الاقتصادية الكبيرة التي أخذت تصعد بمرور الوقت .. من كل ما يخدم أهدافها الإنتاجية .. ومن ثم العمل على تلبية أهدافها التوسعية لخدمة مصالحها بفتح أسواق جديدة تسع لمنتجاتها كعملية مكلمة لما تسعى إليه من تحقيق أكبر ربحية ممكنة ..

ثالثا / القدرة التنافسية العالمية

إن القدرة التنافسية العالمية من أهم العوامل الرئيسية المرتبطة بالعولمة . إن التشديد على القدرة التنافسية يهدد بالاستشراء ليعم كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية .. ويصح هذا على الشركات مثلما يصح على الأمم سواء كان نشاطها يندرج في قطاع السلع المتاجرة عالميا أو لا .. وسواء كانت السلع تنتج فرديا أو تقدم جماعيا .. فالكل إلا يخضع على قدم المساواة لمعايير خطاب القدرة التنافسية .. فإستراتيجية الشركة تحرص حرص السياسة الحكومية .. على أن تكون ندا قادرا على أن يباري تحديات عالمية مفترضة .. ويصح هذا أيضا بدرجة متزايدة على الأفراد الذين يتوجب عليهم أن يكونا تنافسيين في طريقة أداء حياتهم .. ويطرح هذا الإلزام تحت عناوين شتى .. من قبيل المرونة والتجديد والابتكار وروح الإعمال .. وما شاكلها .. ويرتبط خطاب القدرة التنافسية هذا ارتباطا وثيقا بالعولمة : أيضا لأن الأسواق الكونية تفرض المنافسة ولا مفر من ملاقاة الأسواق وفق شروطها الخاصة64 .. إن مسألة استمرار القدرة التنافسية العالمية لاقتصادات الشمال تكمن في صلب القلق من تأثيرات نمو التجارة بين الشمال والجنوب ( ........ ) فإن مسالة القدرة التنافسية العالمية نمت مع نمو الخشية من ـأثيرات العولمة .. فهما إذن تطوران متوازيان 65 ..
فلا يمكن تصور حياة طبيعية دون توافر عنصر المنافسة أو التنافس ذلك أن المنافسة كانت ولا تزال ومازالت منذ نشأة الإنسان الحافز لأغلب الأنشطة الجادة .. ولهذا لا يجوز لنا أن نحاول إلغاء التنافس ولكن علينا فقط أن نعمل على ألا يتخذ أشكالا تؤدي إلى إصابات بالغة 66 .. كما أن التنافس البدائي كان صراعا على من الذي يستطيع اغتيال الرجل الآخر .. وزوجته وأطفاله .. والتنافس الحديث في هيئة الحرب يتخذ نفس هذا الشكل ولكن في الرياضة مثلا وفي التنافس الأدبي وفي السياسة الدستورية يتخذ التنافس أشكالا أقل ضررا .. ولكنها مع ذلك تقدم تنفيسا مناسبا إلى حد ما .. لغرائزنا العدوانية .. وليس الخطأ هنا في أن هذه الأشكال للمنافسة أشكال سيئة .. ولكن أنها تكون جزءا ضئيلا من حياة الرجال والنساء العاديين ..
لقد أكدت مثلا الشركات متعدية الجنسيات أو القوميات دور التنافس كعنصر محرك للإنتاج أو للكسب المادي أو ما تحققه من أرباح .. والتنافس أينما وجد حافز بالغ القوة .. ولقد شجبه علماء الاجتماع عامة .. كواحد من العوامل الضارة في مجتمع رأسمالي ولكن الحكومة السوفييتية أعادته إلى مركز مهم في تنظيم الصناعة .. ولكن بالرغم من أن المنافسة في أشكالها العديدة تتعرض لاعتراضات حادة .. إلا أن لها دورا سياسيا تلعبه في تعزيز الجهد اللازم .. وفي بعض الحالات يمكن أن تهيئ منفذا غير مؤذ نسبيا لذلك النوع من الدوافع التي قد تؤدي دونها للحرب 67 .. كما أننا نلاحظ أن عنصر المنافسة هو العنصر الوحيد الذي يحكم العقلية الأمريكية وذلك بخلاف الدول الأخرى التي كانت تعاني الشعور بالاضطهاد أو تواجه متاعب أصعب من أن تفهمها ومن ثم تميل للكراهية كتبرير مزعوم لأي حدث مؤلم قد يفاجئها .. ومن ثم تذهب للبحث عن عدو توقع اللوم عليه .. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية ذهبت إلى زيادة الإنتاج وتقليص الاستهلاك وتنشيط التصدير ولتؤدي هذه الأنشطة اللازمة وجدت أنه من الواجب عليها ابتكار طرق لخلق سبب مباشر بدرجة كبيرة لتنفيذ ما يستلزمه الاقتصاد القومي ومن ثم رأت أن نقل السلطة إلى المحليات ومن ثم إتاحة فرص أكبر لتحرك حر ترغب فيه الأفراد أو الجماعات مع التأكيد على عنصر المنافسة كعامل مباشر للإنتاج والنشاط الإنتاجي .

رابعا / تطوير الأسلحة النووية

منذ القرن السادس عشر حتى الوقت الحاضر كانت القدرة الأولى المحددة للدولة الحديثة هي سلطة إعلان الحرب .. والاعتماد على حيوات وممتلكات مواطنيها في هذا السبيل .. إن الحرب الباردة كما رأينا حافظت على جذوة هذه السلطة حية .. فالعداء المتبادل بين الشرق والغرب عزز الحاجة إلى التعبئة الدائمة ضد خطر الحرب الداهم أبدا .. غير أن تطوير الأسلحة النووية أدى إلى جعل الحرب أمرا مستحيلا بالمعنى التقليدي لاستخدام القوة تحقيقا لبعض الغايات .. فقد كانت الحرب من الوجهة الكلاسيكية .. تعد وسيلة للحسم .. ,عن النصر أداة لتسوية قضية عالقة بين الدول يتعذر حلها بوسيلة أخرى .. لقد كانت الحرب عند المنظر ( كلاوز فيتز ) نشاطا هادفا وبالتالي عقلانيا .. في حدود ذلك فالحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى .. أما الحرب النووية بين متحاربين متكافئين نوعا ما .. فلن تسفر إلا عن دمار الطرفين المتحاربين (........ ) وهكذا فإن امتلاك الأسلحة النووية أنهى إمكان الحروب التقليدية بين الدول النووية .. لقد طردت الأسلحة النووية الحرب من حلبة العلاقات العالمية بين الدول المتقدمة .. حيث لم تعد وسيلة بديلة للحسم .. بل خطر كارثة مهولة تحدق بالطرفين وتتطلب إبعادها بالتفاوض68 .. مما أدى ذلك إلى اصطناع مجال آخر للمنافسة أو قد ساعد ذلك على توكيد مبدأ المنافسة بين الدول وعضده بقوة ذلك أن المنافسة أو الحرب بين القوى العظمى مازال قائما ولكن بصورة مغايرة لاستخدام القوة العسكرية .. وهو الشيء الذي أدى بالتالي إلى تقليص دور الدولة .. ذلك أنه عندما غابت الحرب وغاب الأعداء .. تناقضت أهمية الدولة عند المواطنين 69.. كما أن شرعيتها قد ولت وولت معها طائفة كاملة من إشباع الحاجات القومية المبررة بطوارئ الحرب .. مثل الصناعات القومية والرعاية الصحية والرفاه لتعزيز الكفاءة القومية والتضامن الاجتماعي لتوحيد الأغنياء والفقراء في ظل النضال المشترك .. لذا يمكننا القول أن الأسلحة النووية قلبت شروط الحرب وأضعفت المسوغ المركزي للدولة في غضون ذلك غدت الحرب بين الدول محالا سواء أكانت ليبرالية أو لا .. شريطة توفر قادتها على الحد الأدنى من العقلانية .. وباتت الحروب النووية تقع في المناطق الطرفية .. وهي حروب بالواسطة .. حيث لا تؤدي هزيمة طرف ما فيها إلى إشعال حرب نووية .. وهكذا فإن امتلاك الأسلحة النووية أنهى إمكان الحروب التقليدية بين الدول النووية .. لقد طردت الأسلحة النووية الحرب من حلبة العلاقات العالمية .. بين الدول المتقدمة .. ومن ثم حيث لم تعد وسيلة بديلة للحسم .. بل خطر كارثة مهولة تحدث بالطرفين وتتطلب إبعادها بالتفاوض .. فهي لم تعد الحرب تحظى بأهمية مركزية لدعم إدعاءاتها بـ ( السيادة ) ولم تعد هذه الدول تعتبر أطرافا فاعلة مستقلة .. حرة في انتهاج ما تشاء من سياسة خارجية في مجتمع الدول الفوضوي 70.. وهو الشيء الذي نستطيع أن نحدده على سبيل انه فتح مجالا آخر للمنافسة وفرض القوة من خلال السوق أو هو ما أدى على إنتاج مفهوم العولمة وصياغة مسوغاتها الممكنة في تحديد لعبة الاقتصاد وسيادته محل لعبة السياسة أو لغة الحروب المباشرة .


خامسا / سقوط كتلة الدول الاشتراكية

ومع سقوط الاتحاد السوفييتي .. اندلعت النيران الحامية على الفكر الاشتراكي .. وسبقت المبررات التزويق الرأسمالية ودفع الانتشار الاقتصادي في مرحلتها الراهنة .. وبقاء نشاطها القائم في صيغة الإمبريالية ( الاحتكار ) والعالمية ( التوسع ) وبمساعدة من تقدم تكنولوجيا المعلومات والاتصال .. واعتبارا من عدم انفصالها عن المراحل التي سبقتها ..إلى بلورة العولمة .. في ظل استمرار القوانين الرئيسية للرأسمالية .. قانون القيمة الزائدة .. والقانون العام .. للتراكم الرأسمالي .. وقانون المنافسة وقانون التطور المتفاوت كأبعاد جوهرية ثبتة .. للرأسمالية العالمية .. هي اليوم أكثر عمقا وبروزا من أي مرحلة سابقة .. وإذا كانت العولمة تعد رديفا لتنامي الرأسمالية عبر القرون الأربعة الأخيرة .. فما الذي استجد راهنا ليستدعي حضورها الطاغي .. ؟
وقائع أربعة أساسية :
أولها / تضخم الشركات المتعدية الجنسية والتي يضعها تومبسون في موقع القلب من العولمة الاقتصادية .. ويصفها بأنها المثال الحي لرأس المال العالمي .. وهي بهذا المعنى تمثل الفاعل الرئيسي في عولمة الإنتاج .. والأداة الأساس لممارسة السيطرة الاقتصادية الجديدة .. وخاصة مع تحولها إلى إمبراطوريات إمبريالية .. تتعدد الأنشطة التي تشتغل بها .. وتمتد بمخالبها إلى أقصى بقاع الأرض وتخترق الحدود السياسية والوطنية .
وثانيها / عجز دولة الرفاه التي وضع أساسها عالم الاقتصاد البريطاني اللورد جون منيارد كينز .. حين نادى بانتهاج سياسة تقوم على تدخل الدولة لحماية الاستقرار الاقتصادي .. في محاولة للخروج من الأزمة الرأسمالية المشهورة نهاية الثلاثينيات .. وكرد فعل على الضغوط العمالية والاشتراكية .. فقد قاد التقدم الصناعي والتكنولوجي وتوسيع دائرة السوق العالمية في المستعمرات إلى تعميق التنافس بين الدول الصناعية .. ولم تنته الأزمة الرأسمالية إلا بحربين عالميتين .. انهارت خلالهما جميع الآمال والأوهام الليبرالية .. وظهرت على حقيقتها السياسات الاستعمارية مما اضطر الليبرالية إلى القبول بمبدأ ضبط حركة الاقتصاد داخل حدود الدول الوطنية .. فيما عرف بالسياسة الكينزية التي قدمت التبرير لتدخل الدولة في العملية الاقتصادية .. لتسهل تأمين الاستقرار الداخلي للرأسمالية .. لكن بداية السبعينيات شهدت تزايد دعاوي تحرير الاقتصاد .. وتقليل دور الدولة .. ورفع القيود قادها الليبراليون الجدد من أعداء الكينزية مما دعا الولايات المتحدة أن تنهي العمل باتفاقية بريتون وودز فتوقف مبادلة الدولار بسعر ثابت أمام الذهب وذلك عام 1973 إثر الأزمة النفطية ( وذلك بسبب حرب أكتوبر وما اتخذته دول الخليج من ردود فعل أمام الحرب ) وترفع المزيد من القيود الحكومية في المجال المالي .. وتبع ذلك في بريطانيا إلغاء خطوات تأميم المؤسسات والمرافق العامة .. واتخاذ سياسة الخصخصة وفتح أسواق المال أمام المنافسة لتبدأ بعدها حركة تحرير الاقتصاد تعم بلدانا عديدة في العالم تدريجيا وبدرجات متفاوتة .
وثالثها / الطفرة الراهنة للتقدم التكنولوجي في مجالات الاتصال والمعلومات .. والتي جاءت نتيجة استثمارات ضخمة قدمتها الشركات المتعدية الجنسيات .. قصد استغلال إمكاناتها بما يسمح لهذه الشركات بتيسير إدارة شؤونها .. وتحسين قدرتها على المنافسة من خلال ما تقدمه لها من توسع إنتاجها .. وتنويع أسواقها .. وتجاوز المعوقات القانونية الوطنية في ميادين سوق العمل والسلع والمال .. وتحقيق التزايد الهائل في المضاربة بالعملات والأسهم والسندات .. من هنا فإن تقييم هذه الطفرة التكنولوجية موجه أساسا نحو المردود الذي تدره على هذه الشركات .. لا نحو مجرد السبق العلمي .. وكذلك نحو البلدان الصناعية التي تنتمي إليها .
أما رابع الوقائع .. التي أسهمت في الحضور الطاغي للعولمة راهنا .. فيبدو في قيامها على إطار مؤسسي .. تملك الولايات المتحدة السيطرة المباشرة عليه .. مكون من نظام استثماري عالمي بإدارة البنك الدولي للإنشاء والتعمير .. ونظام نقدي بإدارة صندوق النقد الدولي ..وكلا النظامين يقومان بدوريهما في ضبط العلاقات الاقتصادية العالمية .. سواء من حيث الاستقرار النقدي أو أساسيات أسعار الصرف وحرية التجارة وانتقالات رؤوس الأموال .. أو من حيث السياسات الاقتصادية والمالية لعدد كبير من الدول .. يضاف إليهما بنظام تجري عالمي بإدارة منظمة التجارة العالمية التي خلفت اتفاقية الجات منذ بداية عام 1995 وحوت قواعد ملزمة وآليات تحكم إجبارية .. وعد نفسها لتصبح الحكم الفصل في ميادين التنافس والوصول إلى الأسواق العامة والقوانين المتعلقة بالاستثمار 71 ..
فإن عملية التدويل الاقتصادي ( أو العولمة الاقتصادية ) تتطور بتأثير عوامل وقوى محركة موضوعية عديدة أبرزها التغير في تقسيم العمل الدولي والمزايا النسبية المقارنة .. والثورة التكنولوجية الثالثة .. فقد ترتب على العامل الأول نشوء ظاهرة المصنع العالمي .. أو بالأحرى توسعها وتعمقها .. وحتمية انتقال فروع وربما قطاعات بكاملها من الصناعات الكلاسيكية وربما الجديدة أيضا إلى بلاد مختارة من العالم الثالث .. وترتب على العملية الثانية أي الثورة التكنولوجية إمكانية توحيد العالم اتصاليا ومن ثم تسهيل العولمة الاقتصادية .. هذا إلى جانب كون هذا التوحيد الاتصالي يشكل نشاطا مستقلا بحد ذاته .. ويظهر كأحد جوانب عملية العولمة 72 ..


سادسا / تقليص مفهوم السيادة للدولة القومية

لقد حددت وانتبذت الدول النووية الكبرى السيادة وخلقت بمعاهداتها نظاما مدنيا عالميا .. لا يقتصر على الحد من الحروب .. بل تعداه إلى منح الدول الأخرى صلاحيات التفتيش والإشراف 73 .. كما أن العولمة في المنظور السياسي تعني أن الدولة لا تكون هي الفاعل الوحيد على المسرح السياسي العالمي .. ولكن توجد إلى جانبها هيئات متعددة الجنسيات ومنظمات عالمية وجماعات دولية وغيرها من التنظيمات الفاعلة التي تسعى إلى تحقيق مزيد من الترابط والتداخل والتعاون والاندماج الدولي .. بحيث تكف الدول عن مراعاة مبدأ المساواة الذي يأخذ في التقلص والتآكل تحت تأثير حاجة الدول إلى التعاون فيما بينها في المجالات الاقتصادية والبيئية والتكنولوجية وغير ذلك .. مما يعني أن السيادة لا تكون لها الأهمية نفسها من الناحية الفعلية .. فالدولة قد تكون ذات سيادة من الناحية القانونية ..ولكن من الناحية العملية قد تضطر إلى التفاوض مع جميع الفعاليات الدولية .. مما ينتج عنه أن حريتها في التصرف بحسب مشيئتها تصبح في ناقصة ومقيدة 74 .. وهذا ما يؤكده الدكتور محمد عابد الجابري حيث يقول : العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن .. وبالتالي فإنه يعمل على التفتيت والتشتت وإيقاظ أطر الانتماء إلى القبيلة والطائفة والجهة والتعصب بعد أن تضعف إرادة الدولة وهوية الوطن.. وأخيرا فإن العولمة من المنظور السياسي هي نقل لسلطة الدولة واختصاصاتها إلى مؤسسات عالمية تتولى تسيير العالم وتوجيهه .. وهي بذلك تحل محل الدولة وتهيمن عليها 75..


سابعا / الشركات المتعددة القوميات والاستثمار الأجنبي المؤسسات الليبرالية :

إن الاقتصاد العالمي الحالي شديد التدويل .. ليس شيئا لا سابق له .. فهو واحد من المفترقات والحالات المتميزة للاقتصاد العالمي الذي وجد منذ أن بدأ تعميم الاقتصاد القائم على التكنولوجيا الصناعية الحديثة .. في ستينيات القرن التاسع عشر 76.. كما أن هذه الشركات العابرة للقارات أو العابرة للقوميات لها قاعدة قومية .. وتتعامل في إطار متعدد القومية .. اعتمادا على موقع قومي أساسي .. من الأصول والإنتاج والبيوعات .. إن الشركات متعددة القوميات هي الأدوات المسؤولة عن الاستثمار الأجنبي المباشر وإن إستراتيجيات هذه الشركات وهي تصوغ دور وتوزيع الاستثمار الأجنبي المباشر .. عنصر مركزي فإن توزيع الاستثمار الأجنبي المباشر غير متساو اجتماعيا وجغرافيا .. على نظام العالم كله .. فهذا الاستثمار يتركز بدرجة كثيفة في الدول الصناعية المتقدمة .. وفي عدد ضئيل من الاقتصادات الصناعية ..النامية نموا سريعا 77.. النقطة الأولى هي أن تدويل الإنتاج والنشاط التجاري بقي موزعا توزيعا شديد التفاوت تهيمن فيه بلدان الكتل الثلاث وقلة من الاقتصادات المفضلة والأقل تطورا والأسرع نموا .. أما البقية الكبرى من سكان العالم فلا تنتفع بالمرة من هذه التطورات .. وتعيش في معزل عنه .. كما أن توزيع الدخل متفاوت بشكل حاد .. دون أن تلوح في الأفق أي بادرة على تغير هذا الوضع ( ...... ) وبرغم أن الاكتشاف الرئيسي يشير إلى تركز النشاط في الوطن فإن بقية النشطات كانت متنوعة بتنوع مجاميع البلدان .. نقصد بذلك أن الشركات متعددة الجنسيات أو القوميات من مختلف البلدان تنشط في مناطق مختلفة .. وبأبعاد مختلفة .. ولا تتشابه الشركات متعددة القوميات أبدا من ناحية الانتشار الجغرافي لنشاطاتها خارج أراضي الوطن .. كما أنه لا تتشابه في الطرق التي سلكتها ابتغاء تدويل نشاطاتها وقلنا بهذا الخصوص إن نظم الإنتاج والأعمال في بلدان المنشأ لا تزال تسم الشركات متعددة القوميات بميسمها الخاص من ناحية المقاربة والسلوك 78..
إن الشركات العابرة للقارات أو الشركات المتعدية الجنسيات أو الشركات المتعددة القوميات أو صندوق النقد الدولي .. أو البنك الدولي .. منظمة التجارة العالمية .. هي المؤسسات الرئيسية أو الهياكل الاقتصادية المركزية التي تجسد الليبرالية الجديدة في صورتها المتطرفة .. وهي تعني – ضمن ما تعني – موتا محققا للعالم الثالث .. وهذا على حد قول المفكر وعالم الاجتماع السويسري جون زيغلر .. والتي بالتالي تتحدد مصالحها من خلال ما تتخذه من إستراتيجيات .. معولمة لها نهجها الخاص لفرض قوانين مالية لها فاعليتها في مجال ( السوق – وتداول العملات – وتبادل المصالح – وترويج السلع ) خاصة وأنها تعتمد في تطويرها على ( الاستفادة من فروق الأسعار أو نسبة الضرائب أو مستوى آخر من الأجور ... انتهاء بتركيز الإنتاج في المكان الأرخص ونقله إلى الاستهلاك في المكان الأعلى على مستوى الكرة الأرضية .. ولم لا والعولمة هي صناعة الأسواق التي تضمن عالمية التصدير والاستيراد79 .. فمثلا الشركات المتعددة الجنسيات تتكون من عدة فروع تتوزع أنحاء العالم من خلال الإنتاج والتمويل والتصدير والتوزيع مما جعلها تتسم بعدم التمركز في مكان واحد وبالتالي تتخذ لها مواقع متفرقة وكثيرة فهي مثلا تقوم باستخراج المادة الخام من بلد معين وفي بلد آخر تقوم بتحويله إلى مادة وسيطة .. لتنتجه على شكل مادة نهائية في بلد ثالث .. وهكذا كما أن هذه الشركات تعتمد على رؤوس أموال كبيرة لإنجاز مشاريعها لذا تستطيع هذه الشركات تحريك أو تسيير أموالها بحرية بفضل قوانين حرية التجارة العالمية من أي مكان لأي بلد أو مكان آخر .. أما ( صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ) فقد أنشئت بهدف صك القوانين التي من خلالها يمكن تسيير العالم تبعا لأهداف الرأسمالية العالمية .. أو تبعا مع ما يتماشى وشروط الشركات المتعدية للجنسيات .. وهي بذلك تمثل مرحلة جديدة من مراحل تطور الرأسمالية عابرة القارات أو عابرة القوميات .. تكرسها سياسيا واقتصاديا سياسات وقوانين هذه المنشآت العالمية ..حيث وكما قلنا سابقا أن هذه المنظمات تمتلك فعالية كبيرة في رسم وتوجيه السياسات الداخلية في معظم بلدان العالم .. ولا شك أن لمثل هذه ( التوجهات آثار اجتماعية كبيرة على أوضاع المجتمع المدني .. حيث تؤدي برامج وشروط صندوق النقد لدولي فيما يسمى ببرامج التكيف الهيكلي في العديد من البلدان إلى انفجارات اجتماعية كبرى آخرها ما حدث في اندونيسيا واليمن )80 .. ولكن لنا أن نسأل علام تقوم سياسات هذه المؤسسات والمنظمات ليصبح لها هذه القوة وهذه الإمكانات في التحكم المباشر في العالم عبر الحدود .. ؟ أو ما هو مصدر نشأتها وتكونها .. ؟ وهذه القوة كيف تتخذ لها هذا الموقع الإستراتيجي وما هي سبل هيمنتها وسلطتها .. نستطيع أن نجيب على هذه الأسئلة من خلال الواقع الذي تعايشه هذه الدول .. حيث نجد أن هذه المؤسسات قد أصبح لها وجودها الفعلي في كافة أنحاء العالم ..ومن خلال إحكام قبضتها على أوجه النشاط الاجتماعي كافة استطاعت أن تقبض أيضا على سبل التنمية الاجتماعية فيها .. دون أن تبذل أدنى مجهود في ذلك – مستغلة مفهوم التجارة كآلة من آلات المجتمع الضرورية والحيوية . وقد حددت هذه المؤسسات في برنامج عملها عدة توجهات ضرورية تعتبر أولى مهامها الرئيسية :
1 / لقد اتجهت هذه الشركات ورغبة في الربح الكثير والسريع .. على إقامة مصانعها وخطوط إنتاجها في الدول النامية بالأخص الفقيرة منها وذلك لوجود سوق العمالة الرخيصة .. حيث أن البلدان المتقدمة والتي تأسست فيها هذه الشركات ليس لها من دور سوى جني الأرباح بتقليل التكلفة .
2 / كما اتخذت لذلك السبب وسيلة ( تصدير فرص العمل ) إلى الدول الفقيرة أو ( دول الجنوب ) حيث التكاليف من استعمال العمال ورسوم الضرائب منخفضة كثيرا عن ( دول الشمال ) وبالتالي تحقيق ربحية أكثر .. إلى جانب تسخير هذه الدول لتصنيع المواد الأولية للصناعات الكبيرة في الدول الرأسمالية .
3 / وبناءً على إمكانية ( التقنيات الحديثة في مجال الاتصالات ) استطاعت هذه المؤسسات التحكم في توزيع الإنتاج على أماكن مختلفة من العالم .. ومن ثم التحكم في توزيع المنتجات والخدمات .. بحيث أصبحت الصناعات المحلية لا قيمة لها بالضرورة .. وبالقياس على المنتجات العالمية .
4 / من خلال ما تنتهجه من سياسة توزيع الدخول والإنتاج .. تمكنت من توقيع الكثير من العقود بينها وبين تلك الدول .. أو بينها وبين تلك المناطق التي تسمى بأماكن ( الإنتاج المفردة ) وبهذا تستطيع أن تمارس معاملاتها المادية والتجارية بأقل التكاليف .. من دفع للضرائب أو دفع رسوم المنشآت الأساسية التي تنشئها .. كما أنه في إمكانها فرض عقوبات كيفما ترى على الدول الوطنية التي ترفع أسعارها أو تحاول معاداتها لأي استثمار لهذه المؤسسات فيها .. كما أنه بإمكانها سحب استثماراتها من بلد لآخر حسب ما تفرضه مصلحتها مما يتسبب معه او عنه فقدان الآلاف من العمال لوظائفهم ويكون ذلك سببا مباشرا لتفشي البطالة والفقر .
5 / تعمل هذه المؤسسات والمنظمات على أن تفصل ما بين الدول التي تشكل مناطق للإنتاج وتلك المناطق التي تجعلها مجالا لاستثماراتها المالية .. وتلك التي تقيم فيها بنشاطها الذاتي وهي الأمكنة الأكثر جمالا وذات ضريبة أكثر رخصا 81..


العناصر الفاعلة الكامنة في نسق العولمة

يجدر بنا أن نحدد بداية هذه العناصر وأهمها على الإطلاق .. بل يمكننا القول أنه القاعدة الأساسية التي انطلقت منها وإليها العولمة في مرحلة الانتشار والتحقق . . وهذا ما كان قد أشار إليه الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه ( الفردوس الأرضي ) لذا سوف نعتمد في هذه الفقرة أو هذه النقطة على ما قدمه الدكتور المسيري في تحليله للرؤية الغربية لمضمون أو مفهوم التاريخ في بداية الأمر .
في بداية القول يؤكد المسيري على أن التاريخ الأمريكي قد بدأ حينما استقل البيوريتانيون سفنهم وهاجروا من أوروبا إلى العالم الجديد أو أرض الميعاد هربا من المشاكل التي أثارها التاريخ الأوروبي .. والبيوريتانيون أو المتطهرون هم لفيف من البروتستانت المتطرفين الذين وجدوا أنه من العسير عليهم البقاء داخل الكنسية الإنجليزية .. لأنها – حسب تصورهم – لم تبتعد بما فيه الكفاية عن النمط الكاثوليكي في العبادة بما فيه من طقوس وتماثيل وزخارف .. وطالبوا بتطهير المسيحية من كل هذه العناصر الدخيلة التي لم يأت لها ذكر في العهد القديم أو الجديد .. إن العودة للبساطة الأولى كانت الهدف الأسمى للمتطهرين الذين حاولوا تشييد مدينتهم الفاضلة .. حسب المثل والقواعد التي وضعها وطبقها المسيحيون الأوائل .. ولذا يمكننا القول أن الوجدان البيوريتاني يرفض التاريخ المسيحي كله .. بل ويرفض أية رؤية تاريخية على الإطلاق82 ..
من هنا يمكننا القول أن الوجدان الأمريكي قد تبنى البيوريتانية كفكرة للتطهر أو رفض التاريخ المسيحي كله .. لذا نجد أن المسيري يقول أن اثر هذا التصور البيوريتاني لا يزال واضحا على الوجدان الأمريكي .. فالرفض الكامل للتاريخ يظهر بصورة متكررة في الأعمال الأدبية والفنية الأمريكية مثل قصائد أميلي دينكسون .. وأشعار والت ويتمان شاعر الديمقراطية الأمريكية في القرن التاسع عشر الذي كان يرى أن كل تاريخ العالم لم يكن سوى هراء ووهم وأنه كان مجرد تمهيد لظهور أمريكا .. ,ان كل مآسي التاريخ تكتسب معنى وبعدا جديدا وتصبح ذات دلالة حينما يصل تاريخ البشرية إلى نهايته الأمريكية السعيدة .. التي هي في الوقت ذاته نقطة البداية الحقيقية للحياة الفردوسية الأمريكية .. ولهذا السبب يطلب ويتمان في شعره من المهاجرين الأوروبيين أو المواطنين الأمريكيين الجدد أن يلقوا من على كاهلهم عبء الحضارة الأوروبية ليبدأوا من جديد من نقطة الصفر .. في الأرض العذراء الجديدة .. وفي الفردوس الأمريكي 83..
من ناحية أخرى نرى أن المسيري يضع يده على نقطة في غاية الأهمية بالنسبة للحلم الأمريكي البيوريتاني الفردوسي .. في أن هناك كان تزواجا بين الأحلام الدينية والأحلام القومية التوسعية والتي استمرت كما يقول حتى القرن التاسع عشر .. ذلك أن المفهوم البيوريتاني للتاريخ كان ( مفهوما دينيا ضيقا .. يرى في كل شيء علامة مرسلة من الله يستشهد بها على سيء ما .. نجد أن البيوريتانيين استخدموا هذه العلامات الربانية لتبرير كل أعمالهم العدوانية من إبادة للهنود الحمر واحتلال لأراضي الغير .. فوالت ويتمان كان يؤمن بالفتوحات التوسعية الأمريكية ( في المكسيك وغيرها ) بنفس إيمان المسيحي ( بالسر الإلهي ) على حد قوله .. كما كان يحلم بأمريكا العظمى التي تمتد من كندا إلى كوبا .. ومن القطب إلى خط الاستواء84 ..

أولا / عقلية الريادة
يعطي المسيري أهمية كبرى لعنصر الريادة خاصة .. وأن هذه العنصر كان قد تحقق مع البيوريتانيون عندما اكتشفوا أمريكا ثم انتشروا فيها عن طريق إنشاء مستعمرات ذات طابع زراعي عسكري .. وعقلية الريادة أو عقلية الرائد عملياً تفضل الفعل على الفكر .. والنتائج العملية على الاعتبارات الخلقية .. وقيمة الفعل هو دائما ذبح الخصم 85..

ثانيا / تجاوز التاريخ

إن المسيري يرى أن الإنسان على الرغم من أنه يشكل جزءً من الطبيعة شأنه في هذا شأن الكائنات العضوية الأخرى .. يولد ويموت .. وينطبق عليه ما ينطبق عليها من قوانين طبيعية حتمية .. ولكنه إلى جوار هذا يعيش في بناء مستقل عن الطبيعة من صنع يديه .. هذا البناء هو التاريخ .. ولذا فإن الإنسان لا يخضع لقوانين الطبيعة وحدها وإنما يخضع لقوانين التاريخ أيضا .. وهي بطبيعة الحال قوانين مغايرة لقوانين الطبيعة رغم ارتباطها بها ورغم اعتماد البيئة التاريخية على البيئة الطبيعية .. على أن التاريخ في حقيقته هو تراكم خبرات الإنسان في مجابهة الطبيعة .. ولذا فهو يمنح الإنسان من المعرفة والوعي ما يمكنه من التحكم في الطبيعة وتوظيفها لصالحه .. كما أن المسيري يؤكد على أن وجود الإنسان يتحقق بالضرورة من خلال هذه الازدواجية وهي ما يسمى الوجود الإنساني .. أن يعيش الإنسان داخل جسده الطبيعي يحمل وعيه التاريخي .. والجسد والوعي رغم ارتباطهما منفصلان الواحد عن الآخر .. فبينما يؤكد الأول انتماءه لعالم الحيوان .. يؤكد الثاني انتماءه لما هو غير حيواني .. ويقول أيضا أن هذا الشد والجذب ما بين المادي والتاريخي هو مصدرا لجدلية الوجود الإنساني .. فالإنسان قد ترك الطبيعة الدائرية وسقط في التاريخ وحدوده ولا يمكنه إلا تقبل هذا الأمر .. إلا أن الإنسان في هذه الجدلية الحتمية بين المادي والتاريخي .. كان لابد له أن يثور ضده دائما ويحلم بما هو أفضل خاصة حينما ينظر إلى ذاته .. فيرى الإمكانات الهائلة داخله وداخل وجوده الإنساني .. من هنا يرى المسيري أن محاولات التثوير تلك هي ما تمثل في حقيقتها الرؤية الثورية الحق التي لا تريد العودة إلى البراءة الأولى .. وإلى التكامل المطلق وإنما تحاول الوصول إليها جزئيا وتدريجيا من خلال حدود التاريخ ودون أي محاولة لتدميره .. وقد لخص ماركس لب الموقف بتعريفه للحرية على أنها معرفة قانون الضرورة .. فالوصول للبراءة الأولى أو الحرية المطلقة – الطبيعية مستحيل باعتبار أن قوانين الضرورة الطبيعية تتحكم فينا .. ولكن يظل الاقتراب الجزئي ممكنا عن طريق التحكم النسبي في هذه القوانين بواسطة الوعي والتاريخ الإنساني . ويظل الفردوس الذي لا حدود له حلما وليس كيانا أرضيا متحققا ساكنا أزليا صوفيا .. إذ أنه لا حرية إنسانية خارج القانون والحدود .. هذا التحليل الفلسفي لطبيعة الوجود الجدلي الإنساني هو ما يقرره المسيري كمقدمة ضرورية أو تمهيدا لتناول التفكير الغربي فيما بعد ذلك خاصة وبعد انتشار الفلسفات البورجوازية التي قامت على تقديسها للأشياء ذلك لأنه بدأ يظهر نوع من جديد من الحساسية اسمه – الحساسية الفردوسية – هي في صميمه نوع من الغيبية العلمية .. والغيبية العلمية لا تختلف كثيرا عن الغيبية التقليدية في ادعائها الإطلاق لنفسها وفي نفيها للجدل وفي محاولتها تصفيته .. فالغيبية الدينية التقليدية كانت في جوهرها احتكارا للحقيقة المطلقة النهائية ولسبل الخلاص .. لذا كان على المؤمن أن يتبع هذه الحقيقة حتى يصل إلى الفردوس .. أما الذين يقاومون هذا الخلاص فقد كانت تفرض عليهم العقيدة فرضا عن طريق العنف .. الغيبية العلمية الجديدة تدعي لنفسها احتكار الحقيقة المطلقة .. بل إنها تنسب لنفسها القدرة على تحقيق الفردوس في الأرض ( الآن وهنا ) بإشباع كل رغبات البشر .. وهذا المنطق من وجهة نظر المسيري خطر للغاية ذلك أنه في جوهره ينطوي على رفض للمواضعات الاجتماعية وللحدود التاريخية .. كما أنه ينطوي على رفض لفكرة التناقض التي هي عماد أية رؤية ثورية تاريخية .. فالإيمان بالتناقض هو إيمان بحيوية الواقع وبمقدرة عقل الإنسان الخلاق على التفاعل معه وتخطيه .. وهذا المنطق الفردوسي يسري في كثير من الرؤى البورجوازية الفلسفية وفي كل الرؤى العلمية الميكانيكية البسيطة التي تفرض إن الإنسان كما ً محضاً لا يختلف عن الكائنات الطبيعية الأخرى وأنه يعكس بيئته بشكل مباشر وبسيط .. وهي بذلك تنكر أن الإنسان كيف مركب فريد أو أنه يصنع البيئة التاريخية التي تشكل وجدانه .. وأنه بذلك يقف على طرف نقيض من الحيوانات التي تعيش في البيئة الطبيعية وحسب وخاضعة لقوانينها الحتمية .. كما يؤكد المسيري أن هذه الحساسية الفردوسية الجديدة تستند إلى ميكانيزمات الاقتصاد الصناعي الرأسمالي الذي يعتمد على فكرة التوازن الميكانيكي الدائم بين العرض والطلب ولكن مما يسعر من حدتها في الوقت الحالي ظهور المرحلة الاستهلاكية في الرأسمالية التي تفترض وجود إنسان بسيط غير مركب عنده كم بسيط من الرغبات يمكن إشباعها .. لذا بدلا من الحلم بمحاولة النقاء ومحاولة تنفيذها جزئيا في الواقع ظهرت الرغبة المجنونة في تحقيق الفردوس الأرضي الآن وهنا .. وظهرت الدولة الاستهلاكية المنظمة التي تدعي أنها ستحقق كل الرغبات وتقضي على كل التوترات .. واختفى مفهوم الممارسة الإنسانية الجماعية المسترشدة بحكمة التاريخ الواعية والخاضعة لقوانين المحاولة والخطأ .. وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن التيار الجديد الذي ينادي بنهاية الأيديولوجيا ما هو إلا تأكيد على هذه الفلسفة المادية التي تنفي التاريخ كمرجعية حتمية لوجود الإنسان ككائن تاريخي مركب والذي هو خاص بمجال الفلسفة والأيديولوجيا على حد قول المسيري .. وهو ما يؤكد أيضا ظهور كثير من العلماء الذين يسعون إلى تجاوز الأيديولوجيات وخلافاتها وتوحيد الجهود لإسعاد البشر في حدود الطبيعة المادية لهم دون ذلك 86 . ويرى المسيري أن هذا التصور الفردوسي للإنسان ليس حكرا على فلاسفة الرأسمالية والتكنولوجيا .. وإنما هو جزء من تصورات المواطنين في الحضارات الصناعية في الغرب .. وقد عبر هذا المفهوم عن نفسه في فكرة التقدم السريع والدائم نحو الفردوس العلمي المنظم الذي يعيش فيه الإنسان كالأطفال في تناسق تام مع الطبيعة وكأنه آدم قبل السقوط وقبل أن يكتسب معرفة الخير والشر .. والتقدم العلمي أصبح هدفا في حد ذاته بغض النظر عن العائد المعرفي أو الإنساني له .. وبغض النظر عن مقدار البؤس أو السعادة التي يجلبها للبشر .. وأصبحت مضاعفة الإنتاج أمرا مرغوبا فيه دون اعتبار لحاجات الإنسان الحقيقية ( كما ظهرت عبر التاريخ ) ودون أي احترام لإمكانات البيئة الطبيعية .. أي أن هدف الإنتاج لم يعد إشباع الرغبات الإنسانية وإنما أصبح مرهونا بأنه هو ذاته أصبح الهدف والمثل الأعلى وهذا هو قمة الاغتراب ..
من ناحية ثانية نجد أن هذا الرفض للتاريخ كما يرى المسيري نتج عنه تعامي عن الواقع وتجاهل لكل تفاصيله ولذلك وقع البيوريتانيون والصهاينة في تناقضات رؤياهم المثالية القبيحة .. رؤيا عالم جديد بسيط لا يمكن أن يشيد إلا عن طريق العنف والإبادة .. مما نتج عنه أهم ما يميز العقلية الأمريكية والصهيونية على السواء وهو العنف العنصري كما يقول المسيري .
من هنا نصل على نتيجة مفادها أن هذا التيار الفردوسي الذي تحدث عنه المسيري ويرى فيه معاداة للتاريخ وتجاوز له إلى جانب ظهور تلك الأيديولوجيا التي تلتزم التزاما كبيرا بفكرة التقدم العلمي على حساب أي شيء آخر وبأي ثمن .. هو البناء الكامن وراء الكثير من الأفكار سواء بين أعضاء اليمين أو اليسار .. ويقيم المسيري أيضا مقارنة صريحة بين الإنسان ككائن طبيعي – تاريخي .. وبين أنه كائن يحلم دائما بالفردوس لكنه يعيش في التاريخ .. وذلك بخلاف الإنسان في الولايات المتحدة الذي يهرب من التاريخ ليعيش في الفردوس ..
ولنا أن نقول في النهاية هنا أن هذه الحضارة لا تزال متأثرة إلى حد ما بالأوهام والأساطير والرؤى البيوريتانية على الرغم من مرور عدو قرون عليها وعلى الرغم من التحولات العديدة التي طرأت على بيئة المجتمع الاقتصادية .. وهناك ما يشبه الإجماع بين مؤرخي الحضارة الأمريكية ومن بينهم عميدهم بيري ميللر على أن دراسة الحضارة الأمريكية دون استيعاب الوجدان البيوريتاني أمر غير مجدي ولا طائل من ورائه لأنه لا يمكن الإحاطة إحاطة كاملة بجوهر هذه الحضارة وروحها دون الرجوع للإطار الأول الذي صاغه البيوريتانيون .. كما أن الوجدان الأمريكي يمرح في براءته غير مثقل بالتاريخ ونجد أن الأمريكي لا يؤمن بأية مقدسات أو حرمات أو طقوس .. فكل شيء بالنسبة له خاضع للبحث بل والتجزؤ .. كأن الكل الحي يعادل جماع أجزائه الميتة .. بل إن التاريخ نفسه ( أو ما هو موجود منه ) يتحول على شيء أو موضوع للتأمل أو إلى لحظات زمنية متتالية وليس كيانا حيا مركبا يمتزج فيه الحاضر بالماضي بالمستقبل .. إن الوجدان الأمريكي هو حقا وجدان الرفض للتاريخ والتراث بل .. وأي فكر مسبق عن الواقع .. وجدان تسيطر عليه الفلسفة البرجماتية أو الذرائعية سيطرة كاملة 87 ..

ثالثا / بدايات اليوتوبيا ونهاياتها

ارتباط اليوتوبيا بالحداثة وما بعدها : تعني كلمة يوتوبيا التي كان قد صاغها المفكر أو الفيلسوف توماس مور وعنون بها مؤلفه الشهير عام 1516 كانت قد اكتسبت مدلولات واسعة ومختلفة منذ عصر النهضة الأوروبية وحتى يومنا هذا .. فهذه الكلمة التي كانت تعني في الأصل ( ألا مكان ) وتتألف من كلمتين يونانيتين هما بمعنى لا .. وبمعنى مكان .. أصبحت تشير اليوم إلى ( الأين و ( الهنا ) و ( الآن ) وربما كان لاختيار ( مور ) هذا المعنى الذي يشير إلى النفي والسلب في البداية ما يجعل من اليوتوبيا صورة مثالية للواقع الفعلي .. بمعنى أن ( ذاك الذي لا أين له ) هو ذاته ( هذا الذي له أين ) وربما كانت حركة النفي المكاني تحيل بدهاء إلى إيجابية تاريخية .. قد تكون مقصودة بمعنى البحث عن الأسباب التي أدت إلى أن أصبح ( أين ) بلا سعادة .
لكن على أي حال فقد أصبحت اليوتوبيا اليوم تشير إلى ( الأين ) و ( الآن ) وهذا تعبير إن جاز لنا التعبير ( هذا الانقلاب الدلالي ) قد تم من خلال سلسلة من ( الحداثات ) وليست ( حداثة واحدة ) مر بها الفكر اليوتوبي عبر تاريخه الطويل .. منذ ( بروموثيوس ) قبل التاريخ وحتى مشارف الألفية الثالثة .. أما مصطلح ( ما بعد الحداثة ) فإنه يثير مشكلات أكثر تعقيدا من مفهوم اليوتوبيا .. ويكفي أن نشير هنا إلى السمة البارزة التي ينتقيها الناقد الأمريكي المصري الأصل ( إهاب حسن ) الذي يعد من أبرز الرواد المعتمدين لحركة ما بعد الحداثة .. وهي استحالة التحديد .. وهذا يجعل من الصعوبة في مكان وضع تعريف محدد أو خصائص محددة .. منذ البداية .. يميز بين ما بعد الحداثة والحداثة ذاتها .. فالبادئة ( ما بعد ) في مصطلح ما بعد الحداثة تشير في آن واحد إلى ( الاتصال ) و ( الاستمرار ) ومن ثم فإن درجة وصفها تتوقف على استخدام هذا الناقد أو ذاك ووفقا لما يقوله إيهاب حسن فإن لفظة ( ما بعد الحداثة ) يوحي بفكرة ( الحداثة ) نفسها .. وهي الفكرة التي يقصد تجاوزها أو القضاء عليها .. بمعنى أن اللفظ ذاته ينطوي على خصم له .. كما أنه قد يشير إلى التوالي الزمني من ناحية .. ويوحي بالتأخر الزمني من ناحية أخرى .. وهذا يقود في النهاية إلى النظر إلى ( ما بعد الحداثة ) من منظورين مختلفين هما ( التشابه والاختلاف في الوقت نفسه ) .. ويبقى السؤال الأساسي ما هي المعايير أو الأسس التي يمكن أن ننظر من خلالها إلى هذا المفكر أو هذه الفكرة متوافقة مع بعد الحداثة .. بينما ذاك المفكر أو تلك الفكرة تنتمي إلى الحداثة ؟ .. وما هي دوافع الاختيار .. ؟ إن هذين المنظورين ( التشابه والاختلاف ) معا قد يلقيان الضوء على موضوعنا .. ويجيبان على هذا السؤال 88..
" كلما يمتد المرء ببصره إلى الأمام .. كلما راحت صورة المستقبل البعيد .. تشبه أكثر العصر الذهبي للماضي الأسطوري .. " ( جون كوهن ) .
لقد مضى على جمهورية أفلاطون .. وحتى ( مدينة الله ) للقديس أوغسطين في بداية القرن الخامس الميلادي .. شتاء طويل امتد قرابة الألف عام .. ومن ( مدينة الله ) وحتى يوتوبيات عصر النهضة .. ( يوتوبيا ) مور .. و ( مدينة الشمس ) كامبانيلا .. و( دير تيليم ) لرابليه .. و ( مدينة المسيحيين ) لأندريا .. ما يزيد على ألف عام آخر .. وباستثناء يوتوبيا الراهب الإيطالي ( يواكيم أو يواقيم ) الفيوري حوالي عام 1200 لم تظهر يوتوبيا ذات بال طويل هذه الفترة .. فقد اعتبرت المسيحية – أول الأمر – حركة إصلاح يوتوبي لليهودية على يد المسيح .. فالوصايا الجديدة ( تحب الرب إلهك من كل قلبك .. ومن كل نفسك .. ومن كل فكرك .. وتحب قريبك كنفسك .. إذ ليس وصية أخرى أعظم من هاتين ) .. كانت في الحقيقة دعوة إلى توحيد ذلك القدر الكبير من الطوائف والمدارس الدينية اليهودية المختلفة والمتناحرة .. وهذه الدعوة تشبه إلى حد ما – الدعوة إلى أخوة الجنس البشري عند القدامى اليونان في بعض الوجوه .. وإذا كان كتاب العهد القديم ( التوراة ) ينظر غليه على أنه ديباجة ( ناموسية ) فإن كتاب العهد الجديد ( الإنجيل ) إذا هو ( دراما الخلاص والإنجاز ) كما قال ( أورجين ) ( 184 – 253 م ) أبرز فلاسفة الإسكندرية .. وهو ممن أدركوا الاستمرارية والتواصل التاريخي ( اليوتوبي ) لكتابي العهدين .. القديم والجديد ..إذ لا يفهم كتاب العهد القديم إلا بوصفه الممهد والمرهص والمنبئ سلفا بالمسيحية .. وبدون هذا التحوير التأويلي للعهد القديم لكانت المسيحية برمتها قد اختلفت في كل مظاهرها وجوانبها .. هذه الفكرة الضمنية انتقلت إلى ( العد الجديد ) بالمثل .. وهي تتلخص في ( إمكان تحويره ) ويمكن وصفها بأنها أحد أسباب حركة الإصلاح الديني في أوروبا .. كما أن ( أندريا ) في يتوبياه ( مدينة المسيحيين ) يبدي إعجابه بالكالفينية بقوله .. : ( ما أبدع جمال تلك النقاوة في أخلاقيات الديانة المسيحية ) .. ومع ذلك فإن الموحي الحقيقي بفكرة ( مدينة المسيحيين ) لم يكن ( كالفن – 1509 – 1564 ) وإنما كان ( مارتن لوثر 1483 – 1546 ) فبعد أن أثنى على لوثر ووصفه بـ ( البطل ) يصف أندريا المؤثرات الكلية لمسيحية لوثر الإصلاحية الجديدة بقوله : " لقد أشرق ضوء دين نقي في فجرنا .. وعلى هديه نظمت إدارة شؤون عامة الناس .. وأمكن الحفاظ على ازدهار الآداب والفنون .. وأصبح بإمكاننا الانتصار على كثير من أعدائنا خصوصاً : الخرافة والفسق والفجور وسلطة رجال الدين ) .. هكذا فإن ( مدينة المسيحيين ) قد وضعت للقرن السابع عشر وصفا دراميا للتقوى والتحرر الذي أراد لوثر تحقيقه لأوروبا ومن ثم فإنها تنتمي إلى حركة الإصلاح الديني أكثر من انتمائها إلى ( كاثوليكية ) الكنيسة .. و( مدينة الله ) التي تركها القديس أوغسطين في السماء.. في الحقيقة ما يهمنا هو فكرة الاستمرارية التاريخية التي أكدت عليها اليوتوبيا .. بقد بقي التصور اليوتوبي عن الاستمرارية التاريخية تيارا تحتيا قويا .. بلغ أوجه في معظم اليوتوبيات اللاحقة .. ولعل يوتوبيا الراهب ( يواقيم 1135 – 1202 ) في أوائل القرن الثالث عشر من ابرز اليوتوبيات تأثيرا في هذا الاتجاه على مر العصور 89..
كان مشروع هذا الراهب الذي ترأس دير القديس يوحنا في فيورا بـ ( كالابريا ) على درجة كبيرة من الجدة وقتئذ .. إذ نقل مملكة النور من العالم الآخر إلى داخل التاريخ في دولة لا نهائية للتاريخ .. وأنزل إلى الأرض ( المدينة الفاضلة ) التي تركها القديس أوغسطين في السماء .. أراد لخلاص الإنسانية أن يصير ( عملية تاريخية ) ممكنة للخطاة هنا على الأرض .. ومن ثم أوَل في كتابه ( مملكة الروح القدس ) عقيدة التثليث المسيحية تأويلا تاريخيا .. ويرى في ( الأب ) أو ( مملكة الآب ) التي تبدأ مع بداية الخلق ويمثلها ( العهد القديم ) القائم على الخوف والقانون .. وتسودها السلطة .. رمزا لمرحلة التاريخ الأولى .. أما في ( مملكة الابن ) التي تبدأ بالخلاص عن طريق السيد المسيح .. ويمثلها العهد الجديد القائم على الحب .. وتسوده العناية الإلهية .. فهي ترمز إلى المرحلة الثانية .. والمرحلة الثالثة هي التي ستتحقق فيها ( مملكة الروح القدس ) .. والتي توقع أن تبدأ في العام 1260 .. وهي مرحلة تنوير شامل وديمقراطية كاملة .. لا يوجد فيها آباء أو كنيسة وإنما يسودها الكمال الروحي .. وهكذا ينشأ ( العهد الثالث ) .. أو ( الإنجيل الخالد ) .. من ( العهد الجديد ) في هذا العهد الثالث يكون المجتمع بلا طبقات .. ويكون العصر عصر رهبان ذا نزعة مشاعية عصرا للحرية والتنوير الروحي .. حيث تتحول فيه القلة المختارة التي وجدت في ( مدينة الله ) للقديس أوغسطين إلى جموع الفقراء الذين سيدخلون الجنة بأجسادهم الحية لا بأرواحهم فقط .. لقد كان وصف ( يواقيم ) لأقانيم الثالوث المسيحي بأنها ليست مجرد حقائق لاهوتية دينية فحسب .. وإنما هي أيضا ( حقائق تاريخية ) وصفا ينطوي على مخاطرة وجرأة وإن كان تجديدا جسورا على المستوى اللاهوتي والفلسفي والاجتماعي .
من جهة أخرى .. فقد أمكن العثور على رؤى ( يواقيم ) في العديد من الحركات الراديكالية الداعية إلى فكرة العهد الألفي السعيد .. التي كانت موجودة في العصر الوسيط وأوائل العصر الحديث من أمثال : الأطهار أو الأنقياء .. وإخوان الروح الحرة .. وفرسان الصليب .. وجماعة التحريميين .. وأصحاب القول بتجديد طقس العماد .. وقد بشر العهد الألفي السعيد بشرعية مسيحية حقة .. تقوم على نشر المحبة والسلام والحرية .. وإشاعة نوع من الحياة الفاضلة التي تعيش على هذه الأرض وفقا لوصايا وتعاليم الموعظة على الجبل .
ففكرة العهد الألفي قدمت وعرضت لفترة ( زمان وسطي ) تأتي بين زمن الوجود الأرضي الخالص للإنسان .. الذي حل به السقوط .. وزمن الوجود السماوي للإنسان الذي نال نعمة الخلاص . . إنه سمو وعلو يصل الأرض بالسماء أكثر مما يفصل بينهما .. كما فعل القديس أوغسطين والكاثوليكية .. إنه عصر يعرض للمشهد المأمول ( لملكوت السماء على الأرض ) في كمال فردوسي على نحو ما أعلنه السيد المسيح في الصلاة الربانية : ..
( ليأتي ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ) .. يقول ( مانهايم ) : " إن نقطة التحول الحاسمة في التاريخ الحديث بدأت في اللحظة التي اتحدت فيها العقيدة الألفية مع المطالب النشطة للطبقات المضطهدة في المجتمع ) ويؤكد على أن الاشتراكية الحديثة ترجع أصولها على هذه العقيدة .. ومن ثم فإن الحركة التي قادها ( توماس مونزر ) ينبغي أن تعتبر خطوة في الطريق إلى الحركات الثورية الحديثة .. فقد كان ( مونزر ) ثائرا اشتراكيا بدوافع ( دينية ) ويجب أن تمنح هذه الحركة اهتماما خاصا لأن العقيدة الألفية والثورة الاجتماعية مندمجتان فيها اندماجا بنيويا .
إن مجرد الفكرة القائلة بالمملكة الألفية على الأرض كانت دائما تحتوي اتجاها ثوريا .. لذا بذلت الكنيسة كل طاقاتها واستخدمت كل ما لديها من وسائل لـ ( شل ) هذه الفكرة المتسامية على الوضع .. هذه العقيدة التي كانت تنشط بين الفترة والأخرى .. تبلورت على يد ( يواقيم ) الذي سبب الكثير من المتاعب بتفسيراته وتأويلاته للكنيسة والسلطات .. مع أن يواقيم لم يكن ثوريا إلا أن أفكاره وجدت طريقها في حركة أتباع ( جون هس ) التي قامت في براغ في القرن الخامس عشر وكذلك في قرن ( توماس مونزر ) وكذلك في حركة الداعين إلى إعادة التعميد وغيرها فهذه الأفكار تحولت على حركات تؤمن بالعنف والقوة في تحقيق الأهداف .. وذلك على أيدي طبقات اجتماعية معينة .. فالأشواق التي كانت حتى ذلك الحين غير مرتبطة بهدف محدد أصبحت ممكنة التحقيق هنا والآن .. ولهذا فإنها بثت في السلوك الاجتماعي حماسا لا مثيل له 90..
من هنا نجد أن البداية ( لروحنة السياسة ) أو إقحام الروحانيات في السياسة التي يمكن أن يقال أنها بدأت في هذا المنعطف في التاريخ تركت تأثيرا على كل تيارات العصر .. لقد كان ظهور العقلية اليوتوبية التي نشأت أصلا لدى الطبقات المضطهدة في المجتمع مصدرا للتوتر الروحي .. وعند هذه النقطة بدأت السياسة بمعناها الحديث .. ونعني هنا بالسياسة المشاركة الواعية القليلة أو الكثيرة من كل الطبقات في المجتمع في إنجازه غاية دنيوية .. بدلا من الجبرية والقدرية التي تقبل الأحداث كما تكون .. أو تؤمن بوجود قوة ( عليا ) تسيطر على أمور الحياة وتسيرها .. إن التفاؤل الذي استمت به ثورات العقيدة الألفية أنجبت في آخر الأمر الموقف الواقعي في السياسة .. وكان هذا الوضع ذا أهمية عظيمة بالنسبة للسياسة .. لتلك الحركات الروحية على السواء .. هنا بالتحدي نعثر على الفروق الجوهرية بين اليوتوبيات الخيالية التي توجد في ( ألا مكان ) أو البعيدة أو النائية .. أو قل ( الاشتراكية اليوتوبية ) وبين يوتوبيا العقيدة الألفية .. فبالنسبة للمؤمن بالعقيدة الألفية .. فإن الحاضر يصبح الثغرة أو الصدع الذي يتدفق منه فجأة كل ما كان من قبل داخليا حبيسا .. ثم يستولي على العالم الخارجي ويحوله .. إن المؤمن بالعقيدة الألفية يتوقع اتحادا مع الحاضر المباشر .. ولهذا لا يشغل باله في حياته اليومية بآمال متفائلة في المستقبل أو بذكريات رومانتيكية .. وموقفه يتميز بالترقب المتوتر وكأنه دائما واقف على أطراف أصابعه في انتظار اللحظة المواتية .. إنه في الواقع لا يهتم بالألف سنة السعيدة التي ستأتي .. المهم عنده هو أن هذا الحدث السعيد حدث هنا والآن .. وإنه نشأ من وجود دنيوي وكأنه التفاف مفاجئ إلى داخل وجود من نوع آخر91 .. من ناحية أخرى فإنه يمكن العثور في التاريخ على نمط ثلاثي مشابه لما طرحه ( يواقيم ) خاصة ( العهد الثالث الذي ستتحقق فيه المملكة الألفية ) في الأفكار التي روج لها راهب فرنسي ( بندكتي ) معاصر يدعى ( دوم ديشامب ) وكذلك ( دي مايستر ) .. و ( وليام بليك ) الشاعر المعروف وغيرهم .. فقد تسربت افكار ( يواقيم ) وتأويلاته في القرن الثامن عشر .. حيث وجدت تخطيطات مماثلة ثلاثة التقسيم لمراحل الحضارة الإنسانية والتاريخ الإنساني .. وفي القرن التاسع عشر وجدت التربة الخصبة لانتشار أفكاره .. فقد عادت المراحل الزمانية الثلاث الي قال بها للظهور في سلسلة تعاقب الأحقاب التاريخية عند ( كوندرسيه ) وفي إطار الأزمنة الثلاثة في المذهب الوضعي لدى ( أوجست كونت ) وفي العديد من التخطيطات ذات الطابع التطوري والارتقائي الخاص بالقرن التاسع عشر .. لقد كانت محاولة ( يواقيم ) من أوائل المحاولات لإقامة فلسفة للتاريخ تقوم على مراحل ثلاث .. وفي المرحلة الثالثة تكتمل الإنسانية .. وفي حين رأى ( يواقيم ) أن هذه المرحلة ( عهد الروح القدس ) ستتحقق في عام 1260 .. رأى ( ليسينج ) ( وهو عالم نفس ) أنها تحققت في القرن الثامن عشر .. في عصر فسلفة التنوير .. ورأى هيجل تحققها في القرن التاسع عشر .. عصر المثالية المطلقة .. كما رأى ( هوسرل ) وقد تحققت في القرن العشرين .. عصر الفينومينولوجيا .. وهو عصر اكتمال الوعي الأوروبي .. إذ أن كل فيلسوف يرى أن الإنسانية قد اكتملت في العصر الذي عاش فيه .. إن أفكار ( يواقيم ) التي قد تبناها وأيدها العديد من المفكرين الفلاسفة الأدباء على مر العصور .. قد عادت بقوة مع تيار ( ما بعد الحداثة ) الذي قدم تأويلا جديدا لأفكاره ورؤاه اليوتوبية للعهد الثالث .. عهد استنارة الكل في ديمقراطية عرفانية شاملة 92.. . حتى العقدين الأخيرين من القرن العشرين .. كانت اليوتوبيا في نظر الكثيرين قد لفظت أنفاسها الأخيرة .. أسدل عليها الستار بلا رجعة .. ودعمت هذه النظرة مجموعة من العوامل والأحداث .. فقد شهد هذا القرن حربين عالميتين ( 1914 – 1945 ) وحروب أهلية لا حصر لها .. وخيبة الآمال في الثورات الكبيرة والوعود العظيمة التي بشر بها عصر التنوير والحداثة الغربية .. وضرب مفهوم التقدم تحديدا في مقتل أو الصميم مما جعله أقل القرون ثراءً في حقل اليوتوبيا وحسب تعبير برتراند رسل فإن عصرنا لا يعرف الإيمان بأحلام اليوتوبيين وحتى المجتمعات المثالية التي يطفح بها خيالنا لا تعمل إلا على إعادة إنتاج الشرور المعتادين عليها في حياتنا اليومية .. في إشارة منه لليوتوبيا المضادة التي رسمت صورة قاتمة للمستقبل .. لقد كانت الاشتراكية هي آخر ما ظهر من اليوتوبيا حتى اليوم .. وليس ثمة رؤية اجتماعية شاملة أخرى قد طفرت أو ظهرت لتكون منافسا أو بديلا لها .. ولعل هذا هو ما أحدث لدى كارل مانهايم شعورا بالخوف والذعر من أن يكون المجتمع الغربي قد دنا من حال ( يكون فيه العنصر اليوتوبي قد أجهز على نفسه بالكامل ) .. يقول مانهايم : " إن زوال العنصر اليوتوبي زوالا تاما من الفكر والعقل البشريين سوف يعني أن الطبيعة البشرية والتطور الإنساني سيتخذان طابعا جديدا كل الجدة .. إن اختفاء اليوتوبيا سيخلق وضعا ساكنا جامدا .. لا يكون الإنسان نفسه فيه أكثر من ( شيء ) وستواجهنا حينذاك ( اكبر) ظاهرة متناقضة تخطر على البال أو في الخيال .. وهي إن الإنسان الذي فاز بأكبر سيطرة فكرية على الوجود يصبح حين يترك بلا مثل عليا .. مجرد مخلوق عشوائي نزوائي .. وإذا تخلى الإنسان عن اليوتوبيات فإنه ( يضع ) إرادته في صنع التاريخ .. ويضيع معها قدرته على فهم التاريخ " 93.. وهذا ما يدعونا إلى تفسير ما جد من مقولات عن ( نهاية التاريخ ) أو ( نهاية الأيديولوجيا ) ذلك أن بنهاية الماركسية وتفكيك المنظومة الاشتراكية قد انتهت بها آخر تصور واقعي لليوتوبيا ..ومن ثم كان إدراك نهاية التاريخ هو في حقيقة أمره نهاية اليوتوبيا أو نهاية الاشتراكية أو الماركسية .. إن الماركسية – حسب بلوخ – هي وحدها التي قهرت هذا التجريد ( إذ أن اليوتوبيات السابقة على الماركسية عبرت عن أمل يوتوبي غير دنيوي .. وذلك باستثناء بعض اليوتوبيات التي نظرت على الواقع وانطلقت منه .. ولكنها كانت غير ناضجة .. إذ صورت العالم الأفضل بشكل مجرد .. وأقامت نسقا من التوقعات في عقول مبدعيها فقط ) .. وأن تحسين أوضاع العالم لا يأتي بالتأمل بل بالفعل .. بالنظرة الجدلية إلى الواقع .. مع مراعاة قوانين العالم الموضوعي حتى تتحول اليوتوبيا من تأملية مجردة إلى يوتوبيا عينية ذات نزعة اشتراكية .. ولا عجب بعد ذلك أن ينتهي الفيلسوف الاشتراكي إلى أن تاريخ اليوتوبيا ما هو إلا تطور تدريجي لهذه النزعة التي اكتملت في الماركسية ..
من ناحية أخرى فإنه في الواقع أن هناك تزامناً ين أفول اليوتوبيا وانحطاط شأنها وبين ظهور لمتابعة واهتمام بالغين في زماننا وعصرنا الحالي .. هذه اليوتوبيا المضادة كانت قد تعرضت بالسخرية حينا وبالتحليل حينا آخر لمساوئ النظم الاشتراكية والشمولية مثل ( العالم سنة 1984 ) لجورج أوروبيل ( 1903 – 1950 ) أو لمخاطر التطبيق غير الإنسانية لمنجزات العلم والتقنية ( هاكسلي في عالم طريف شجاع ) .. ومع ذلك لم يقدر ليوتوبيا مضادة أن تخلب الألباب أو أن تحظى باهتمام يذكر أو حتى تتعرض لأخذ ورد محدود .. إذ أنه – حسب كومار – في غياب قدرة اليوتوبيا على أن توحي ( الأمل ) وتبعثه برؤيتها لملكوت السماء على الأرض فإن اليوتوبيا المضادة تخسر علمها المقابل بوصفها الساخر والمستخف بهذه الآمال .. والعدو المناوئ لتلك النظرة أو الرؤية عن طريق تحريكها لوجدانات وذكريات العذاب والخراب على الأرض .. بهذا نصل على النهايات التي رصدها أكثر المفكرين شهرة منها نهايات الأيديولوجيا أو بلغتهم الخاصة .. ( موت عصر الحداثة ) و ( سقوط الأنساق الفكرية المغلقة ) التي تزعم قدرتها على التفسير الكلي للمجتمع ومن أمثلتها الأيديولوجيات ومن ناحية أخرى ( وهو الأهم في نظرنا ) سقوط فكرة الحتمية سواء في العلوم الطبيعية كما عبرت عن ذلك فلسفة العلوم المعاصرة أو في التاريخ الإنساني فليست هناك - كما أثبتت الأحداث – حتمية في التطور التاريخي من مرحلة إلى مرحلة على العكس فإن التاريخ الإنساني مفتوح على احتمالات متعددة 94.. من هنا كان لظهور النسبية فاعلية كبيرة في التوجه الليبرالي المعاصر والفكر الفلسفي في التخلي عن فكرة الحتمية التاريخية وخاصة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وتبديد الآمال في تحقيق فلسفتها وجدليتها التاريخية ومن ثم بقيت النسبية هي التي سوف تتحكم فيما بعد باتجاه التاريخ وتحديد التعامل المباشر مع الكون والأشياء والحقائق التاريخية .

رابعا / النسبية والفلسفة البراجماتية

تنطلق هذه الفلسفة من افتراض أن العالم ليس فيه نظام واضح .. إذ أنه نسبي متغير كما يقول المسيري .. ولا شك أن مناح المرحلة هو مناخ انفتاح على الأفكار الجديدة والتسامح مع التعددية الفكرية والمذهبية .. كما أن الحساسية النسبية والرغبة في مواجهة النظريات الكلية الكبرى قد أنتجت ظروفا ملائمة للخوض في مجالات بحث جديدة مجهولة أو قليلة الدراسة .. الأمر الذي أدى بدوره على اختراع مناهج جديدة واحيانا طرح فرضيات ذات طابع طليعي صحيح .. ويمثل كل ذلك انجازات إيجابية حقيقية لا بد أن تعزى على مناخ ما بعد الحداثة .. على أن الجانب السلبي لهذا التطور هو أيضا موجود في الساحة فالخوف من إعادة ارتكاب أخطاء الماضي الناتجة عن سيادة الخطابات الكبرى المذكورة سابقا .. لا يشجع البحث عن نظريات متماسكة تربط الجزئيات مع بعضها .. فالبحث يظل مشتتا بين مجالات لا تهتم ببناء جسور تربطها .. هذا بالإضافة على خجل النقد لمقولات الاقتصاد السياسي المهيمن95 .. من ناحية أخرى يرى المسيري أن النسبية المعرفية والأخلاقية التي كان من المفروض فيها أنها ستحرر الإنسان وتفسح له الحال أو المجال لتأكيد فرديته .. أدت على العكس فالنسبية تنزع القداسة عن العالم ( الإنسان والطبيعة ) وتجعل كل الأمور متساوية .. ومن هنا فالظلم مثل العدل .. والعدل مثل الظلم .. ولا ثورة ضد الظلم لا تختلف عن الاستسلام له .. فيصبح من العسير للغاية بل من المستحيل على الإنسان الفرد أن يتخذ أي قرارات بشأن أي شيء .. ويصبح من السهل اتخاذ القرارات بالنيابة عنه والهيمنة عليه سياسيا .. فالنسبية قوضت الإنسان / الفرد من الداخل وجعلت منه شخصية هشة غير قادرة على اتخاذ أي قرارات وإن كانت في الوقت ذاته .. قادرة على تسويغ أي شيء وكل شيء 96.. وقد أدى الغلو في النسبية على أن مفاهيم إنسانية فطرية وأساسية مثل الإحساس بالسعادة أو البؤس تصبح هي الأخرى في محل تساؤل بسبب اختفاء المعايير وفقدان المقدرة على الحكم .. وقد استمرت هذه النسبية في الاتساع حتى قوضت كل شيء ( الإحساس بالوجود الموضوعي للعالم – الإحساس بأنه كل متكامل – الإحساس بأي قيم أو مركز ) إذ اكتسحت السيولة والنسبية كل شيء في طريقهما .. ولم يعد هناك أي أساس لأي شيء 97.. ويقرر المسيري من ناحية أخرى أن البرجماتية قد نشأت في تربة الرأسمالية الناهضة الواثقة من نفسها والمؤمنة بأخلاقياتها أو لا أخلاقياتها المبنية على التنافس والصراع والفردية .. كما أنه يقول من هنا جاءت أو كانت مثاليتها وعمليتها المفرطة .. فهي مثالية مفرطة بسبب عمق إيمانها بمقدرة الرأسمالي الفرد على أن يأتي بالعجب العجاب .. وأن يخلق فائض القيمة من العدم بأفكاره الذكية ومقدرته على المناورة والبيع بأسعار مرتفعة وهي مثالية في التزامها بفكرة الفرد الحر الروسوي الذي يسير بمفرده ويوقع على ورقة تعاقدية هل كل ما يربطه بالمجتمع أو الدولة والدولة هي القيد الوحيد الذي ترضاه لنفسه ليحقق لنفسه الأمن98 .. من ناحية أخرى المسيري أن الرأسمالية رغم مثاليتها المفرطة عملية مفرطة لأنها ترتكز على السوق حسب دوراته ألا متناهية .. وحسبما تمليه قوانين العرض والطلب الذي لا يمكن لإنسان التحكم بها .. أي أن الإنسان صانع كل شيء لا يملك في الوقت ذاته من أمره شيئا .. لكن الرأسمالية في مثاليتها وعمليتها .. أي في حديها الأقصى والأدنى تظل منفصلة عن فكرة القيمة ومرتبطة بفكرة الثمن والعرض والطلب والشراء بأرخص الأسعار والبيع بأغلاها وهكذا .. ولعل هذا يفسر إيمان المجتمعات الرأسمالية المجنون بفكرة التقدم – التقدم دائما وبأي ثمن ونحو أي اتجاه وبغض النظر عن مقدار السعادة أو البؤس الذي يحيق بالبشر .. لكن التقدم والحركية والسلام .. إلى أن يصبحا هدفا في حد ذاتهما تماما مثل دائرية الطبيعة العبثية التي تتحرك دون توقف 99.. ويقل بعض دارسي البرجماتية إن إنكار الأمريكيين لقيمة التاريخ مرده أنهم نشأوا في العالم الجديد وليس في العالم القديم .. وأن الهنود الحمر كانوا يعيشون في اتساق مع الطبيعة وأن حضارتهم ذاتها لم تصل إلى وعي تاريخي بذاتها .. ولذا كان من الحتمي على اليانكي أن ينكروا التاريخ في بلد لا تاريخ له .. إلا أن المسيري يعتقد خلاف ذلك ويرى أن لا تاريخية الوجدان الأمريكي تعود إلى بناء البرجماتية الكامن ذاته .. فالهنود الحمر رغم أنه لم يكن عندهم وعي بالتاريخ إلا أنهم كانوا يشكلون نوعا من الوجود التاريخي كما أن الاستيطان الإسباني البرتغالي ( الكاثوليكي ) في أمريكا اللاتينية لم يكن مبنيا على إنكار التاريخ .. إن إنكار التاريخ جزء من بناء البرجماتية ذاته 100..


خامسا / من عالم الأيديولوجيا التوسعي إلى موت الأيديولوجيا

في كتاب طبع في مطلع سنوات السبعين واسمه الصدفة والضرورة .. حاول عالم الطبيعيات ( جاك مونود ) أن يشخص هذا القلق .. فكتب يقول : في غضون ثلاثة قرون احتل العلم موقعه في المجتمع .. في الممارسة ولكن ليس في العقول .. إن المجتمعات الحديثة قد بنيت على العلم .. وهي مدينة له بثروتها وقوتها .. ولكن إذا كانت المجتمعات الحديثة قد قبلت الثروة والسلطات التي قدمها لها العلم .. فإنها بالكاد فهمت ولكن لم تقبل الرسالة الأعمق للعلم .. تعريف نبع جديد وفريد للحقيقة .. ضرورة مراجعة شاملة لقواعد الأخلاق وقطيعة جذرية مع التراث الإحيائي والتخلي النهائي عن الحلف القديم .. وضرورة عقد حلف جديد .. إن التراث الإحيائي والحلف القديم الذي يشير إليه جاك مونود هو في الواقع الوعي الأيديولوجي .. أي الاختلاط الحاصل بين الوقائع والقيم .. أو أيضا بين ما هو كائن ورغباتنا .. أو أيضا لكي نستعمل لغة هيجل ( الذي كان يخلط بين هذه الأمور ) بين الكائن بذاته .. والكامن لنا .. والحلف الجديد هو على العكس من ذلك وعي الانفصال الذي لا مفر منه بينهما 101 .. إن الوعي الأيديولوجي منذ الثمانينيات .. تمدد بشكل مرعب .. حتى ابتلع وهضم كل شيء .. إن الأيديولوجيا قد كانت دائما موجودة .. إلا أنها حظيت بقفزة نوعية .. أعطتها تقريبا سمة أو طابعا جديدا .. في السابق كانت الأيديولوجيا أساساً سياسية .. كان هناك أشكال أخرى من الوعي والعقلية تسكن معها في داخل الفرد .. في سلوكه العملي .. في عاداته .. في طريقة فهمه للحياة .. أصبحت الأيديولوجيا موجودة ضمنا وتغلغلت في كل شيء .. واحتلت مناطق ومواقع في الحياة والسلوك .. كانت حتى ذلك الوقت خارج حقل عملها .. ومتروكة للتقاليد والعادات الموروثة والحية .. هكذا إذن ظهر ولأول مرة – وعلى مستوى الجماهير وهذا الأمر حاسم – الـ ( الإنسان الأيديولوجي ) أي التجسيد الكامل والتحقيق الشامل لشيء لم يكن في السابق موجودا إلا بأشكال جزئية وغير كاملة .. لقد استولت الإيديولوجيا على العمل .. وعلى العلاقات بين الأجيال .. وبين الجنسين .. وعلى حقل الحياة الخاصة بأكمله .. إلى حد أنه يمكننا القول ( وبهذا المعنى عن حق ) بأن الشأن الخاص هو السياسي 102..
لكن الحال قد تغير بعد الانهيار المدوي للنظرية الماركسية بالذات ومن ثم سيطرت القطب الواحد أو الأحادية القطبية .. على مدى القرون الأربعة الماضية .. منذ عصر النهضة وحتى اليوم .. حيث قامت اليوتوبيا بالتعبير عن إيمان أو اعتقاد البشرية في التقدم وفي إمكانية تحسين الوضع البشري .. أما في الوقت الراهن فإن مثل هذا الإيمان ( اليوتوبي ) قد تبدى كحلم واهم مغرق في الخيال مع تيار ما بعد الحداثة .. ويقول ليوتار – الذي أصدر ( المانيفيستو ) الخاص بما بعد الحداثة ونعي فيه خبر موت عصر الحداثة في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي : تقرير عن عام 1979 : إن أهم معالم المرحلة الراهنة من معالم المعرفة الإنسانية .. هو سقوط النظرية الكبرى وعجزها عن قراءة العالم .. ويقصد بها أساسا الأنساق الفكرية المغلقة التي تتسم بالجمود .. والتي تزعم قدرتها على التفسير الكلي للمجتمع .. ومن أمثلتها البارزة الأيديولوجيات .. وربما كانت الماركسية .. برأيه .. هي الحالة النموذجية 103 ..

سادسا / ارتفاع أسعار البترول 73

في 16 اكتوبر عام 1973 وبعد أن تم العبور لقناة السويس اجتمعت ست دول عربية في المنظمة العربية للدول المصدرة للبترول ( الأوبك ) وقررت رفع أسعار النفط .. وهي التي تسمى ( الصدمة النفطية الأولى ) تلاها بعد ذلك صدمتين أخريين أولهما في عام 1979 مع الثورة الإيرانية وهي الصدمة الثانية حين ارتفع سعر النفط إلى 26 دولارا للبرميل .. أما الصدمة الثالثة فقد كانت في عام 1983 وهي صدمة عكسية انخفضت فيها أسعار النفط .. خاصة منذ عام 1986 مما كان لذلك أثره البالغ والذي تحقق من خلال ظواهر عديدة جديدة .. أثرت في الاقتصاد الدولي .. وأهم هذه الظواهر هي أن ارتفاع أسعار النفط أدى إلى ارتفاع تكلفة الطاقة وفاتورة واردات الدول الصناعية من ناحية .. وزيادة الفوائض المالية لدى الدول المصدرة للنفط من ناحية أخرى .. وفي الوقت نفسه ارتبط هذا التغير الكبير في أسعار النفط وصادراته باختلال هيكلي جديد في موازين المدفوعات المختلفة .. كانت له آثار بعيدة على الأوضاع المالية والنقدية لنختلف دول العالم .. المتقدم منها وغير المتقدم .. أم بعد أزمة النفط في بداية السبعينيات فعرفت الدول النفطية فائضا هائلا في موازين مدفوعاتها .. قابله عجز شديد لدى الدول الصناعية .. وهي المستوردة الأساسية للنفط .. فضلا عن عجز متزايد للدول النامية الأخرى104 .. وإزاء العجز المتزايد في الموازين الجارية للدول النامية .. اضطرت هذه الدول إلى الاتجاه على القروض الخارجية التي وفرتها لها إلى حد بعيد البنوك التجارية في الدول الصناعية .. ولذلك ترتب على ارتفاع أسعار النفط وظهور الفوائض المالية ظهور قضية تدوير هذه الفوائض في أول الأمر إلى الدول الصناعية المتقدمة التي لن تلبث أن تصبح إحدى القضايا الرئيسية في العلاقات الدولية في الثمانينيات .. فمن اصل فوائض دول الأوبك البالغة حوالي 30 مليار دولار في عام 79 .. قامت البنوك التجارية الدولية بتمويل قروض للدول النامية بمبالغ لم تقل عن 24 مليار دولار في السنة نفسها .. وبعد الصدمة الثانية للنفط في عام 79 .. تكرر المشهد نفسه إزاء فائض الدول النفطية .. وعجز الدول الصناعية ثم لم تلبث الدول الصناعية أن نجحت في تحقيق التوازن وتحويل العجز على الدول النامية وزيادة مديونيتها بالتالي .. وهكذا استطاعت الدول الصناعية وهي المستهلك الرئيسي للطاقة أن تنقل عبء ارتفاع أسعار النفط إلى الدول النامية .. ويمكننا القول كما يقول الدكتور حازم الببلاوي أن تلك النتائج كانت راجعة في بعضها إلى أسلوب توظيف الفوائض النفطية الذي ساعد على دفع موجة من ارتفاع الأسعار .. كان من نتيجتها ارتفاع تكاليف الواردات للدول النامية .. وبالتالي انتقال العجوزات إليها بدلا من الدول الصناعية المستهلكة للنفط 105 ..

سابعا / تحويل الدولا ر إلى عملة دولية

يقول آدم سميث ( 1776 ) : منذ اكتشاف أمريكا لأول مرة .. وسوق إنتاج الفضة بها تتنامى وتتسع أكثر وأكثر .. أولا أصبحت سوق أوروبا أوسع نطاقا .. ومنذ اكتشاف أمريكا تحسن القطاع الأكبر من أوروبا وإذا بإنجلترا وهولندا وفرنسا وألمانيا .. بل والسويد والدانمارك وروسيا حققوا جميعا تقدما كبيرا في الزراعة وفي الصناعات على السواء . ثانيا .. أصبحت أمريكا ذاتها سوقا جديدة لإنتاجها هي من مناجم الفضة .. ومع تقدمها في الزراعة والصناعة وزيادة عدد سكانها .. زاد طلبها بالضرورة سريعا .. والمستعمرات البريطانية هي أيضا سوق جديدة .. بيد أن اكتشاف أمريكا يمثل أهم إسهام جوهري إذ نتيجة فتح سوق جديدة .. لا تنفذ لجميع سلع أوروبا تهيأت الفرصة لتقسيم جديد للعمل .. ولإدخال تحسينات على المهارة وهو ما لم يكن بالإمكان حدوثه داخل الدائرة الضيقة للتجارة القديمة بسبب الافتقار على سوق تستوعب القسط الأكبر من الإنتاج .. وتحسنت قوى الإنتاج وزادت إنتاجيتها في جميع بلدان أوروبا على اختلافها .. واقترن هذا بتحسن الإيراد الحقيقي والثروة الحقيقية للسكان 106 .. منذ الاكتشاف الأول لأمريكا أخذت سوق الفضة في مناجمها تنمو وتتسع أكثر وأكثر تدريجيا .. وحقق القطاع الأكبر من أوروبا قدرا كبيرا جدا من التحسن .. وتمثل جزر الهند الشرقية سوقا أخرى لمناجم الفضة الأمريكية .. وسوقا أخذت تبتلع باطراد كميات أكبر وأكبر من الفضة .. خاصة في الصين وهندوستان .. حيث كانت قيمة المعادن النفيسة أعلى كثيرا من قيمتها في أوروبا واستمرت على حالها تلك .. وتأسيسا على هذا كله كانت المعادن النفيسة دائما ولا تزال سلعة مفيدة جدا لمن يحملها معه إلى الهند .. ويبدو أن فضة القارة الجديدة أصبحت بهذه الطريقة واحدة من السلع الأساسية التي تتم على أساسها التجارة بين طرفي العالم القديم .. وارتبطت بواسطتها تلك الأطراف البعيدة من العالم ببعضها البعض 107.. وقد يكون كما يقول الكاتب من الضروري التصدي أولا لسؤال : لماذا تحركت هذه النقود حول العالم ؟ .. ومتى وأين حدث هذا .. ؟ بل ولماذا أنتجتها البشرية في المحل الأول ..؟ كما أنه يقدم دراسة عن النتائج المترتبة باتساع العالم على تدفق النقود حول الكوكب .. في حين أنه يقدم لنا إجابة رئيسية عن سؤال من أين ولماذا تحركت النقود .. كما يقول أن الناس استخدموا النقود لتسوية حساباتهم بشأن العجز التجاري عند كل حلقة من حلقات سلسلة التجارة بين من يريدون الاستيراد من الحلقة التالية وليس لديهم ما يكفي لتصديره في المقابل .. لذلك كان لزاما لتسوية الفارق نقدا .. بيد أن هذا لا يجيب على ثلاثة أسئلة لا تزال بدون إجابة 108 ..
يؤكد الكاتب أندريه جوندر فرانك في كتابه الشرق يصعد ثانية أن يفترض وجود نظام / اقتصاد عالمي واحد كانت له ديناميته وله هيكله الخاص .. لأدت النقود دورا مهما خلال فترة التطور الكوكبي في الفترة من 1400 إلى 1800 .. كانت النقود حول العالم وجعلته دائرة واحدة داخل هذا الكازينو الكوكبي .. حيث زودت وزادت على نحو كبير جدا .. دم الحياة الذي أذكى الوقود وساعد على تزييت عجلات الزراعة والصناعة والتجارة .. كما أنه يطرح سؤالا في غاية الأهمية وهو كيف ولماذا جعلت هذه النقود العالم دائرة ؟ لماذا يريد أي إنسان وكل إنسان هذه النقود بنهم يرفع من سعرها ..؟ ولماذا احتفظت آسيا وبخاصة الصين بالنقود التي وصلتها من أماكن أخرى ..؟ ذلك لأن الناس والشركات والحكومات هناك استطاعوا استخدام النقود لشراء سلع أخرى بما في ذلك المعادن النفيسة مثل الذهب والفضة .. إن النقود سواء على الصعيد الجزئي الفردي والمؤسسي أو على الصعيد الاقتصادي الشمولي المحلي والإقليمي والقومي والعالمي عملت حرفيا على تزييت أو تسيير آلية الحركة وتشجيع أولئك الذين أنتجوا أو أداروا الآلية في الصناعة أو في أي مكان آخر في الماضي والحاضر .. دعمت النقود وولدت الطلب النشط الفعال .. وهكذا حفز الطلب عملية العرض وطبيعي أن الطلب الجديد الزائد يمكن فقط أن يحفز عرضا إضافيا ووقتما يكون ممكنا .. معنى هذا أنه لا بد من توفر قدرة إنتاجية و/ أو إمكانية على توسيعها عن طريق الاستثمار وتحسين الإنتاجية 109.. وفيما يخص التوسع في الإنتاج فهو مرتبط أشد الارتباط بكمية أو الزيادة الضخمة في العرض من النقود وذلك له منحنين : الأول : أنه كلما كانت الزيادة في العرض من النقود لا بد من أن يصحبها إحدى النتيجتين التاليتين .. فقد تؤدي تلك الزيادة في عرض النقود إلى زيادة مماثلة في الأسعار ولكن هذا قد يحد منه لسببين يقررهما براكاش في معرض التفسيرات التي قدمها في ضوء نظرية كمية النقود حيث أنه يقول : إذ لو أن الزيادة الضخمة في العرض من النقود لم تؤد إلى زيادة مماثلة في الأسعار .. إذن لا بد وأن السبب هو أن سرعة التداول أو دوران المعروض من النقود زاد مع اطراد غلبة الطابع النقدي في التعامل في مجال الاقتصاد و / أو زيادة كمية الإنتاج .. ويستنتج براكاش أنه على الرغم من أن زيادة دوران النقود استوعبت أو عقمت بعض الزيادة في العرض .. إلا أن الناتج لا بد وأن يكون قد زاد أيضا سواء عن طريق استخدام أفضل لطاقة الإنتاج القائمة من أجل إنتاج موارد و / أو عن طريق تخصيص الموارد بصورة أفضل 110 .. ويعلق آندريه جودنر فرانك على ذلك بأن براكاش لم يفكر أيضا في إمكانية أو على الأصح أن يكون الإنتاج زاد أيضا بقدر ما زادت الموارد التي تمت تعبئتها ومن ثم زادت الطاقة الإنتاجية والإنتاج نفسه .. إلا أن براكاش قد أشار مؤخرا جدا على وجود زيادة سكانية وصافي زيادة جوهرية في الناتج والدخل والعمالة .. وأن الناتج يهيئ الفرصة لتزايد الحاجة إلى النقود .. بيد أنه يرى هذه الظواهر نظيرا لزيادة الصادرات .. وظل حتى في هذه الرسالة يرى الحاجة إلى النقود وليدة زيادة الناتج ..
كما يعلق ريتشاردز على اكتشافات بيرلين التي يوجزها بنفسه قائلا اختصارا تكشف الوثائق عن مجتمع تطور فيع التعامل بالنقود إلى مدى ملحوظ نسبيا إذ أصبحت متاحة لعدد كبير نسبيا من الناس ويتباين بصورة ملحوظة عما نعرفه من الظروف والأوضاع في العصور الاستعمارية الأولى – بيرلين .. كما أن الكاتب يؤكد على نص آخر لبيرلين في مكان آخر .. القرويين .. لم ينخرطوا فقط في عقد صفقات في السوق المحلية بالنقود .. بل كانوا يتقاضون يوميا وشهريا مرتباتهم نقدا مقابل العمل الزراعي والإنتاج الحرفي .. والخدمة العسكرية والخدمة في المنازل .. ومن المهم أيضا أن نبرهن على أن مثل هذه الاتصالات النقدية دمجت أيضا في بقية شبه القارة مساحات ومناطق كانت معنية أولا بالإنتاج الزراعي .. ومن ثم أدمجتها بالأحداث والعلاقات الجارية على نطاق واسع دولي 111.. يطرح الكاتب أيضا السؤال الجوهري هذا وهو كيف خصبت – أو في الحقيقة فتحت – هذه النقود حقول الزراعة .. وأدت إلى تزييت عجلات الصناعة .. ومن ثم بطبيعة الحال يسرت حركة التجارة إلى آماد بعيدة بين مزارعي شبه القارة .. إن وسائل السداد الجديدة بلغة كينز .. أنتجت طلبا فعليا ومؤثرا جديدا .. ومن ثم استلزمت إنتاجا إضافيا داخل الأسواق المحلية في آسيا .. إن النقود الجديدة التي كانت تصب بكميات كثيفة هي التي حفزت إلى تطور إنتاج النسيج وزراعة وتوزيع ومعالجة القطن والأصباغ اللازمة لإنتاج النسيج .. وحفزت أيضا بطبيعة الحال إلى إنتاج وتوزيع الغذاء للمنتجين والتجار .. وإن هذا الدفق من الفضة داخل البلاد والطلب المتزايد الناجم عن هذا الدفق لم يكن ليمثل ظاهرة تضخمية لسبب محدد لأنهما على وجه التحديد حفزا إلى زيادة في العرض ملازمة لهما 112.. من هنا لنا أن نقول أن اكتشاف الأمريكيتين كان له فاعليته الحقيقية فيما ساهم به من ذهب وفضة .. في أرصدة العالم .. وتدفقات النقود .. وأدى هذا الإسهام يقينا إلى بث روح جديد للنشاط الاقتصادي وللتجارة في اقتصاد العالم القديم ابتداءً من القرن السادس عشر فصاعدا 113.. من المعروف أن نظام بريتون وودز جاء بعد ترك قاعدة الذهب وثبات أسعار الصرف التي كانت سائدة قبل الحرب العالمية الأولى خاصة وأن العالم قد مر بتجربة قاسية بعد ترك تلك القاعدة لتأخذ بتقلبات أسعار الصرف .. والدخول في حروب تنافسية لتخفيض أسعار العملات واكتساب الأسواق الجديدة .. وانتهت بفرض القيود على التجارة الدولية .. وانخفاض معدلات النمو .. وأخيرا قيام الحرب العالمية الثانية .. من هنا كان كان اجتهاد القائمين على الاقتصاد الدولي أن يفكروا في نظام أو وضع قواعد جديدة لنظام النقد الدولي في ضوء تجارب الماضي .. وفي الوقت نفسه كان الحنين لنظام ما قبل الحرب العالمية الأولى كبيرا .. لذلك لم يكن من الغريب أن يتجه واضعوا اتفاقية بريتون وودز إلى الأخذ بنظام ثبات أسعار الصرف .. إلا أن نظام بريتون وودز قد أخذ في جانب منه بثبات أسعار الصرف وبهذا يكون قد احتفظ من النظام القديم أي قاعدة الذهب التي كان معمولا بها قبل الحرب العالمية الأولى إلا أن هناك اختلافات جوهرية أخرى وبوجه خاص فإنه في ظل قاعدة الذهب هناك جهاز لتحقيق التوازن في العلاقات الدولية عند حدوث اختلالات عن طريق دخول وخروج الذهب .. وما يرتبط به من تغير في مستويات الأسعار والدخول مع عدم وجود سياسات اقتصادية داخلية مستقلة .. فمنطق قاعدة الذهب هو التخلي عن سياسات اقتصادية داخلية مستقلة وإخضاع التوازن الداخلي لاعتبارات التوازن الخارجي .. أما في زل بريتون وودز فإن الدول مع أخذها بنظام ثبات أسعار الصرف .. لم تتخل عن سياساتها الداخلية المستقلة .. ولم تخضع لاعتبارات قاعدة الذهب .. فكل دولة كانت تقوم بتحديد سياستها الداخلية من حيث مستوى الأسعار والدخول برف النظر عن اعتبارات التوازن الخارجي .. ولذلك فقد واجه نظام بريتون وودز منذ البداية عقبات لم تعرفها قاعدة الذهب 114.. من هنا ظهر التناقض في هذا النظام النقدي الجديد وذلك أن جمد أسعار الصرف من ناحية .. وعدم رغبة الدول في إخضاع توازنها الداخلي للظروف الخارجية من ناحية أخرى .. واجه النظام النقدي الدولي مشكلة النقص في السيولة .. ومع جمود أسعار الصرف من ناحية ورغبة الدول في حماية توازنها الداخلي بصرف النظر عن أوضاع ميزان المدفوعات من ناحية أخرى ظهر التناقض في نظام النقد الدولي .. ولم يكن هناك من مفر سوى توفير وسائل جديدة للمدفوعات تسمح للدول بمواجهة العجز في علاقاتها الخارجية .. وتأمين توازنها الداخلي بما يوفر نمو الاقتصاد واستقرار الاستخدام ولم يتضمن نظام بريتون وودز عند إنشائه سوى وسيلة واحدة للمدفوعات الدولية .. هي الذهب وافقت على أن يقوم صندوق النقد الدولي بمنح الدول التي تعاني من عجز قروضا تمكنها من مواجهة العجز في حالات معينة .. كذلك فقد كانت هناك حاجة إلى توفير كميات كافية من السيولة تسمح بمواكبة الزيادة المستمرة في المعاملات الدولية .. وقد ظهر واضحا أن الذهب غير قادر على القيام وحده بهذا الدور .. فإنتاج الذهب لم يكن كافيا لمواجهة احتياجات العالم من السيولة الدولية .. كما أن فكرة رفع ثمن الذهب , ومن ثم حجم السيولة الدولية .. لم تلق قبولا لدى الدول فهناك أسباب سياسية وأهمها عدم الرغبة في منح الدول المنتجة للذهب ( جنوب أفريقيا والاتحاد السوفييتي أساساً ) مكاسب مجانية .. كذلك فإن منطق النظام وهو يقوم على أساس ثبات أسعار الصرف بالنسبة للذهب .. كان يتعارض مع ترك ثمن الذهب يرتفع .. لأجل تلك الأسباب كلها .. كان من الضروري البحث عن أصول جديدة يمكن أن تستخدم مع الذهب كإضافة إلى السيولة الدولية .. وقد كان من المتصور الأخذ بأحد حلين : الأول وهو الاتفاق على أن تقوم سلطة نقدية دولية بإصدار نقود دولية .. والثاني أن تستخدم إحدى العملات الوطنية كنقود دولية .. ولم يكن العالم مهيأ للحل الأول .. ولذلك لم يكن هناك مناص من استخدام إحدى العملات الوطنية كنقود دولية تستخدم إلى جانب الذهب في تسوية المدفوعات الدولية .. وتحتفظ الدول في احتياطاتها لمواجهة اختلالات موازين المدفوعات وقد كان الدولار أكثر العملات تهيؤاً للقيام بهذا الدور الجديد115 .. ويحدد لنا الدكتور حازم الببلاوي ذلك من خلال الرصد التاريخي التالي فيقول .. فبعد أن خرج العالم محطما من الحرب العالمية الثانية .. لم يكن هناك من اقتصاد سليم سوى الاقتصاد الأمريكي .. فالاقتصاد الأمريكي لم يخرج من الحرب سليما فقط دون أي إصابات .. بل إن الحرب كما سبق وأن أشرنا لم تضعف الإنتاج المدني بقدر ما أضافت اقتصادا عسكريا إلى جانب الاقتصاد المدني .. فالطاقة الإنتاجية للولايات المتحدة الأمريكية زادت مع الحرب ولم تنقص .. وعلى العكس من ذلك كان حال دول العالم التي خرجت محطمة تماما .. وفي مثل هذه الظروف كان من الطبيعي أن ينشأ طلب عالمي على الإنتاج الأمريكي لإعادة التعمير .. وأيضا للحصول على السلع الاستهلاكية والغذائية .. وهذه هي فترة نقص الدولار فالكل يريد أن يشتري من الولايات المتحدة التي تقدم كل شيء تقريبا .. وجميع الدول على استعداد للحصول على الدولار .. من هنا كان مبدأ قبول الدولار ذلك أن الدول التي لا تحتاج إلى سلع من الولايات المتحدة مباشرة ترحب بالحصول على الدولار لأنها تدرك مع هذا القبول العام أنها تستطيع أن تستخدم الدولار للحصول على ما تشاء من الدول الأخرى المحتاجة إلى الدولار .. وهذه هي الخطوة الأولى والأساسية لتحول الدولار إلى نقود دولية 116 .


ثامنا / المجتمع الصناعي وما بعد الصناعي

إن ظهور المجتمع الصناعي من أهم النقاط التي يجب بحثها .. ذلك أن حقا أنه بعد مضي نصف قرن على هذا الحديث لا يزال الاهتمام بالثورة الصناعية يتزايد .. ولكن الملاحظ فيما يتعلق بالبحث عن أسباب الثورة الصناعية على سبيل المثال .. يسود صمت تام أو سذاجة أو شكوك في الرأي .. ترى ما هو المحرك الأول لها .. أو مجموعة المحركات المسؤولة عنها .. ؟ ثورة زراعية ؟ زيادة سكانية .. ؟ ثقافة محسنة .. ؟ كل هذه لها من يدعمها .. أم يجب البحث عن التفسير في القوى غير الاقتصادية ؟ .. التحولات في مجالات الدين والبنية الاجتماعية .. والعلوم والفلسفة والقانون .. ؟ يبدو أن الاتفاق في الرأي في هذا الشأن محدود جدا .. 117 .. لقد استخلص ( ماركوز ) نتيجة أخرى من الدور الجديد الذي جاءت التكنولوجيا للقيام به في المسيرة الإنتاجية المعاصرة .. ضياع قيمة المفهوم القائل بأن القوى التاريخية المحررة تتطور في حضن المجتمع المتشكل .. وهو مفهوم .. يقول عنه ماركوز بأنه حجر الزاوية في النظرية الماركسية .. ومنذ اللحظة التي قامت فيها التكنولوجيا بتخفيف التعب العضلي .. وعموما دور قوة العمل البشري في الإنتاج المكنن ( نسبة إلى الماكينة ) والآلي .. فإن قوة عناصر المعارضة الداخلية للنظام كانت تخف أيضا .. أي ببساطة إن الوزن السياسي للطبقة العاملة كان يخف .. ويلاحظ المؤلف بأن الصراعات الطبقية تخف .. ويظهر المجتمع الرأسمالي .. بعد بلوغه مستوى المجتمع الصناعي المتقدم .. توحدا وتماسكا لم تعرفهما مراحل المجتمع الصناعي السابقة118 .. إن من أهم الأعمال التي حاولت رسم صورة للمستقبل وهو ( الفين توفلر ) خاصة .. في كتابه الشهير ( صدمة المستقبل ) قد رسم صورة للمستقبل كمجتمع تسيطر عليه تكنولوجيا جديدة .. كما صورت آثار هذه التكنولوجيا ونتائجها .. فقد بلور ( مارشال مكلوهان ) تطور نظم الاتصالات الإلكترونية – منذ وقت مبكر – ورأى أن العالم مقبل على عصر تكنولوجي جديد .. يتحول بفضل وسائل الإعلام الإلكترونية إلى ( قرية كوكبية ) وتابع ( جان بودريارد ) مكلوهان في كتابه .. عام 1981 الذي قال إن وسائل الإعلام تحدث ثورة بل إنها ذاتها ثورة بصرف النظر عن محتواها بفضل ما تتمتع به من بنية تكنولوجية .. فالأبجدية المنطوقة .. والكتاب المطبوع يعقبهما الراديو والسينما وهذان بدورهما يعقبهما التلفيزيون .. إننا الآن وفي هذا المكان نعيش عصر الاتصالات الكوكبية الفورية .. ويخلص بودريارد إلى أنه لا بد وأن يحدث تغيير ما .. إن حقبة الإنتاج والاستهلاك الفاوستي والبروميثي وربما الأوديبي تحل محلهما حقبة بروتينية من الشبكات .. حقبة نرجسية بالغة التنوع .. تتسم بكثرة العلاقات والاتصالات والتلامس والاستجابة والتداخل العام الذي يقترن بعالم الاتصالات .. وبفضل الصور التلفيزيونية تصبح أجسامنا والكون المحيط بنا بأكمله بمثابة شاشة تحكم .. كما أن عالم الاجتماع الفرنسي ( آلان تورين ) كان قد تناول ( المجتمع ما بعد الصناعي ) بوصفه مجتمعا مبرمجا بفضل تكنولوجيا تهيمن عليه قوة تكنوقراطية .. يقول تورين : إن شكلا جديدا من المجتمع يتشكل الآن وهذه المجتمعات الجديدة .. يمكن وصفها بلفظ ( ما بعد الصناعي ) للتأكيد على الفرق بينها وبين المجتمعات الصناعية التي سبقتها .. ويمكن أيضا وصفها بأنها تكنوقراطية نظرا للقوة المهيمنة عليها .. ويمكن أن نعرفها بأنها مجتمعات مبرمجة حسب طبيعة أساليب الإنتاج والتنظيم الاقتصادي .. وهناك الناقد الماركسي أيضا وهو ( جيمسون ) حيث ينظر إلى المجتمع ( ما بعد الصناعي ) من زاوية العناصر الرأسمالية لا من زاوية ( الحتمية التكنولوجية ) وهوي يتناول الرأسمالية في مجتمع ما بعد التصنيع والت يسميها بـ ( الرأسمالية المتأخرة ) بوصفها ( شبكة عالمية جديدة لا مركزية ) وهو يذكرنا بوصف ( بودريارد ) لتكنولجيا الاتصالات المعاصرة يقول جيمسون : إن عجز عقولنا البشرية – على الأقل في الحاضر – عن استيعاب شبكة الاتصالات اللامركزية متعددة الجنسيات التي تغطي كوكبنا .. والتي نجد أنفسنا نحيا خلالها ( فرادى ) تشير على أننا لم نؤهل بعد لفهم الطبيعة الحقيقية لما يجب أن يسمى بـ ( الرأسمالية المتأخرة ) .
إن ثقافة ما بعد الحداثة – برأيه – هي ثقافة الرأسمالية – ومجتمع ما بعد التصنيع هو مجتمع الرأسمالية المتأخرة أو المجتمع الاستهلاكي .. مجتمع وسائل الإعلام والإبهار أو الرأسمالية متعددة الجنسيات ..
وهناك أيضا الناقد الأمريكي مصري الجنسية وهو إيهاب حسن الذي أخذ يطور أفكار مكلوهان الخاصة بالمدينة ما بعد الحديثة .. والتكنولوجيا وتابعه في القول بـ ( القرية الكوكبية ) التي ستنشأ عن تطور تكنولوجيا الاتصالات .. فالتكنولوجيا خاطفة السرعة ستحل محل التكنولوجيا التقليدية .. وسيصبح الكمبيوتر كبديل للوعي أو كامتداد للوعي الإنساني .. وقد لخص حسن ثقافة ما بعد الحداثة بأنها ( تيار يعتمد على تجاوز الصبغة الإنسانية للحياة الأرضية بصورة عنيفة .. بحيث تتجاذب فيها قوى الرعب والمذاهب الشمولية .. والتفتت والتوحد .. والفقر والسلطة .. وربما أدى ذلك في آخر المطاف على بداية عهد وحدة لكوكب الأرض .. عهد جديد يتحد فيه الواحد مع الكثير ذلك لأن تيار ما بعد الحداثة ينبع من الاتساع الهائل للوعي من خلال منجزات التكنولوجيا التي أصبحت بمثابة حجر الأساس في المعرفة الروحية في القرن العشرين .. ونتيجة لذلك أصبح الوعي ينظر إليه على أنه معلومات والتاريخ على أنه حدوث 119..

تاسعا / ظهور الوعي وانعدام التعددية القطبية

إن الانتقال من مجتمع الصناعة إلى مجتمع ما بعد الصناعة ( أو المعلومات ) قد ولد نوعا جديدا من ( الوعي ) يمكن أن نطلق عليه ( الوعي الكوني ) الذي يتجاوز كل أنواع الوعي السابقة .. الوعي الوطني بكل تفريعاته من وعي اجتماعي ووعي طيقي ووعي قومي .. هذا الوعي الكوني سيفرز قيما إنسانية عامة .. فـ ( الكونية ) هي روح القرن الحادي والعشرين .. مما يؤكد على ذلك .. أن تنمية شبكة المعلومات الكونية باستخدام الكمبيوتر وكذلك الأقمار الصناعية ستعمق التواصل والتفاهم بين الشعوب المختلفة .. مما من شأنه أن يتجاوز المصالح القومية .. والمصالح الأخرى المتباينة 120 .



المصادر

الفوضى والتاريخ ص 17
الفوضى والتاريخ ص 20
النظام الاقتصادي الدولي المعاصر ص 232,233, 234,235
الفوضى والتاريخ ص21
الفوضى والتاريخ ص 20 , 21
الفوضى والتاريخ ص 21
الفوضى والتاريخ ص 26
الفوضى والتاريخ ص 27
الفوضى والتاريخ ص 17
الفوضى والتاريخ ص 17
قضايا فكرية العدد التاسع عشر والعشرون ص 415, 416
الفوضى والتاريخ ص 46 , 47
قضايا فكرية ص 225
قضايا فكرية ص 225 , 226
قضايا فكرية العدد أكتوبر 99 ص 407 , 408
قضايا فكرية ص 237
قضايا فكرية ص 238
قضايا فكرية ص 336
قضايا فكرية ص 336
قضايا فكرية ص337
قضايا فكرية
قضايا فكرية ص 328,329
قضايا فكرية ص331
قضايا فكرية ص 331
الزواوي بغورة / قضايا فكرية التاسع عشر / ص 236
مجدي عبد الحافظ قضايا فكرية العدد التاسع عشر ص 265
مجدي عبد الحافظ / قضايا فكرية العدد التاسع عشر والعشرون ص 265
قضايا فكرية العدد التاسع عشر والعشرون ص 265-266
قضايا فكرية ص 157
قضايا فكرية ص157
قضايا فكرية ص 157
قضايا فكرية ص 158
قضايا فكرية ص 137
الفوضى والتاريخ ص 47
الفوضى والتاريخ ص 47
النظام الاقتصادي الدولي ص 7, 8
الاقتصادي الدولي ص 8
النظام الاقتصادي المعاصر ص 9 , 10
النظام الاقتصادي الدولي ص 10,11
النظام الاقتصادي الدولي ص 17,18
النظام الاقتصادي ص 18
النظام الاقتصادي 18,19
النظام الاقتصادي ص 21
النظام الاقتصادي ص 22
الناظم الاقتصادي ص 23
النظام الاقتصادي ص 23
النظام الاقتصادي ص 23 , 24
النظام الاقتصادي ص 24 , 25
النظام الاقتصادي ص 25
النظام الاقتصادي الدولي ص 25 ,26
النظام الاقتصادي ص 26 , 27
_____________ ص 27
______________ص 29
_____________ ص 29
______________ص 30
______________ص 30
_____________ص 16
_____________31
_______________ص32
_______________ص 32
____________ ص 33
_____________ ص 38
ما العولمة ... ص 101 , 102
ما العولمة .. ص 146
ما العولمة ص 169
السلطة والفرد ص 24
السلطة والفرد ص 24 , 65 , 66
ما العولمة ص 389 , 390 , 391
___________ ص 391
____________ ص 390 , 391 , 392
قضايا فكرية ص 139 , 140
قضايا فكرية ص 167
ما العولمة ص 390
المستقبل العربي العدد 256 تاريخ / 6/ 2000
--------------------------------
ما العولمة ص 11
ما العولمة ص 11 , 102
________________ ص 142 , 143
المستقبل العربي العدد 256 / 6/ 2000 ص 74
جسور العدد 1 فبراير عام 99 ص 17
ماهي العولمة ص 16 , 17
الفردوس الأرضي / عبد الوهاب المسيري ص 17
______________________ ص 17 , 18
________________________ ص 19
_____________________ ص 20
____________________ ص 9 , 10
____________________ ص 33 , 34
قضايا فكرية العدد اكتوبر 99 ص 355 , 356
___________________ ص 357 , 358
___________________ص 358 , 359
___________________ ص 359 , 360
________________ ص 361
________________ ص 361 , 362
__________________ ص 362 , 363 ,
مناخ العصر ص 50 , 51
رحلتي الفكرية / عبد الوهاب المسيري ص 147
رحلتي الفكرية / عبد الوهاب المسيري ص 151 , 154
الفردوس الارضي المسيري ص 44
___________________ ص 44,45
___________________ ص 45 , 46
أفول الماركسية .. ص 48 , 49
أفول الماركسية ص 49
قضايا فكرية العدد اكتوبر 99 ص 363
النظام الاقتصادي الدولي المعاصر ص 95 , 96
_____________________ ص 97 . 98
الشرق يصعد ثانية ص 388
آدم سميث من كتاب الشرق يصعد ثانية ص 218
الشرق يصعد ثانية ص 220
الشرق يصعد ثانية ص 226
الشرق يصعد ثانية ص 248
_____________ ص 249
_____________ ص 251
الشرق يصعد ثانية ص 116
النظام الاقتصادي الدولي المعاصر ص 83
_______________ ص 84 . 85
_______________ ص 86
الشرق يصعد ثانية ص 393
أفول الماركسية ص 41
قضايا فكريةالعدد التاسع عشر والعشرون ص 394 , 395
120 - قضايا فكرية العدد اكتوبر 99 ص 365



#أمل_فؤاد_عبيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- واقع الثقافة العربية والإسلامية في ظل العولمة
- مخطوط ..
- ارتحالات اللؤلؤ وتجديد الشكل عند نعمات البحيري
- الثقافة العربية في زمن العولمة / قراءة في كتاب أحمد حجازي
- ماجد السامرائي .. وسؤال الحرية
- ممر خلفي .. قصة قصيرة
- عناق .. وردة سماوية .. قصة قصيرة
- تيار الوعي .. دراسة نقدية تحليلية لرواية الخباء للكاتبة ميرا ...
- قراءة في قصائد متناثرة للشاعر الفلسطيني موسى أبو كرش
- قراءة نقدية .. تهويمات على صدى الحقيقة .. لديوان - أف - للشا ...
- ظهور الحركة الصهيونية وتحولاتها التاريخية
- جيل دولوز بين الطبيعية والتجريبية وفقا لهيوم
- جيل دولوز والسؤال الفلسفي
- تهويمات على صدى الحقيقة .. لديوان - أف - للشاعر الفلسطيني مو ...
- قراءة على هامش الأدب والنقد
- الفقد .. شرخ في ذاكرة فلسطينية
- -إدارة الأفكار وإرادة المعرفة - الرهان المعرفي عند الكاتب عل ...
- مكونات اليهودية من وجهة نظر غربية
- - إدارة الأفكار وإرادة المعرفة - الرهان المعرفي عند علي حرب


المزيد.....




- مسؤول إسرائيلي لـCNN: إسرائيل لم تقبل مقترح مصر بشأن صفقة ال ...
- رغد صدام حسين تبدأ نشر مذكرات والدها الخاصة في -المعتقل الأم ...
- وزير الخارجية الأردني: لو كان إلغاء اتفاقية السلام مع إسرائي ...
- بلينكن يزور السعودية وحماس تبث فيديو لرهينتين
- بعد بن غفير.. تحطم سيارة وزير إسرائيلي في حادث سير بالقدس (ف ...
- روبرت كينيدي يدعو ترامب للمناظرة
- لماذا يخشى الغرب تمدد احتجاجات الجامعات الأمريكية لأوروبا؟
- كمبوديا تعلن مقتل 20 جنديا وجرح آخرين في انفجار بقاعدة عسكري ...
- إلقاء القبض على شخصين كانا يخططان لشن هجمات إرهابية في مدينة ...
- شرطي تركي يطلق النار على رئيس مركز الشرطة ورئيس مديرية الأمن ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أمل فؤاد عبيد - العناصر الكامنة والفاعلة ضمن نسق العولمة