|
تدبير سورة يس
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 8118 - 2024 / 10 / 2 - 18:47
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الحروف المقطعة في القرآن الكريم تبقى وتقرأ كما هي لا تدبر فيها ولا تفسير طالما أن رسول الله المعنى بما أنزل الله لم يتطرق إليها ولم يخوض في علات وجودها ولا علات ورودها بها الشكل، وسورة يس كما في سورة طه تقرأ الحرفين فيهما كحرفين منفصلين "طاء هاء" و "ياء سين" دون دمج بينهما، وكما قلنا في تدبر سورة طه أن الحرفين لم يشيرا إلى اسم للنبي محمد ص ولا إلى أي شخص أخر، وبالتالي من يقول أن يس هي اسم للنبي محمد ص فقوله مردود لا حجة فيه ولا سند وهو قول ليس بذات أهمية. وسميت السورة سورة يس لور هذان الحرفان في مقدمة السورة وعليه نحن نماشي القول العام دون أن نعترض أصلا لأننا لا نعرف المعنى، فهي سورة مكية تجمع بين الحديث التوجيهي التعليمي لرسول الله في كيفية علاجات حالات عدم الأستجابة من قومه {لَقَدۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَىٰٓ أَكۡثَرِهِمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ }، والتي أنتهت لتوصية مهمة هي أنك سواء أنذرت أم لم تنذر فقد وصل القوم لقرار نهائي لا أمل للعودة منه { وَسَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ}، هؤلاء القوم لا يعترفون بكتاب ولا يعرفون الإيمان به لأنهم لم يعرفوا من قبل معنى الرسل بقدر ما يهتمون أصلا بالشعر والشعراء، بينما أنت رسول من الله وصاحب ذكر وحامل رسالة هي القرآن الذي يمهد للصراط المستقيم، وهذا مالا يتطابق مع النسق الثقافي الذي عليه الناس { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكۡرَ وَخَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِۖ}، فالقول الذي يجمع عليه المفسرون والرواة بأن الله أقسم بيس قاصدين به النبي محمد والقرآن الكريم ليقول الله لرسوله (أنك يا رسول الله من المرسلين وعلى الصراط المستقيم)، وكأن المعنى يقول أن هناك رسل من المرسلين ولكنهم غير مرسلين! أو أنك من الرسل المرسلين ولكن ليس رسولا على صراط مستقيم) وفي كلا الأفتراضيين هذا القسم المزعوم لا يتفق مع الفهم القصدي ولا المقصد الأساسي من النص. النمط التبليغي في إيصال الفكرة أو حتى الحكم التكليفي للرسول خاصة ومنه إلى الناس عامة كموعظة أو تدبر عام في المعنى، أما إذا كان الحديث بيني أي بين الله ورسوله ففي جميع الأحوال نجد أن يستشهد بحادث أو حالة تبليغيه حصلت للرسل أو لرسول محدد ليستخلص منها النبي العبرة والدرس المطلوب، وعلى هذا المنوال جاء حيث الله الذي أنتقل من عبرة أن لا أحد يؤمن بإنذارك بعد أن أمن الذين أمنوا من قبل، إلى المثل المطلوب وخاصة في هذه القرية التي أرسلنا لها رسولين فكذبوهما فأرسلنا بثالث تعزيزا، كان جواب أهل القرية مطابقا تماما لجواب أهل قريتك ولنفس العلة والسبب { قَالُواْ مَآ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا وَمَآ أَنزَلَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَكۡذِبُونَ}، يتصور الكثير من الناس أن الله عندما يختار رسولا لتبليغ قومه لا بد أن يختار قوى أو كائنات ذات منزلة غيرية عن البشر { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}، ويأت الجواب من رب العالمين أن لكل مرسل رسول منه وفي لسانه ويتعامل معه لا بصفة القوة أو الرهبة بل بالعقل كما يتعامل الناس بينهم في أمور أخرى، فالدين معرفة وعلم ونمط حياتي أجتماعي وثقافي وإن كان ذا مصدرية فوقية { قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا}، هذا يعني أنكم كبشر نرسل لكم من يمكنه أن يتفاعل مع الرسالة ويفعلها كما لو أنه أحدا منكم. التعليل العلمي من وجهة نظر علمية بشرية في ميل الكافرين لأن تكن الرسل من غير البشر يعتمد تحليليا على طبيعة العقل الإنساني القائم في تأملاته على عنصري القوة والحدية، في علم النفس ندرك حقائق علمية تسمى التحيزات العلمية منها مثلا:. • تأثير الهالة أو ما يمكن تعريفه (أنه نوع من التفاوت في الحكم الفوري القائم على تأثير خارجي متعلق بالشكلية العامة للمؤثر وليس لها علاقة بما في المضمون المحمول فيه، بحيث إذا رأيت أن لدى شخص ما سمة إيجابية أو مميزة قد لا يملكها شخص أخر أو تتمنى أنتكون لديك شخصيا، فسوف ينتقل هذا الانطباع الإيجابي إلى سماته الأخرى دون أي أعتبار لأي محدد أخر، والعكس صحيح في السمات السلبية)، فالملائكة الذين يحملون هالة من النور والتي يصورها الإنسان ذاتيا في مخيلته ولديها أجنحة يطير فيهما لأي مكان وهو لم يراها بالطبع، لا المواصفات تجعل من الملائكة كائن لا تحده حدود ويملك طاقات عمليات أستثنائية، فتثير فيه الرغبة على التسليم لها وأتباعها مطلقا حتى دون سؤال، وهذا يأت من تأثير الهالة على العقل البشري. • التأثيرات النفسية التي تعزل العقل من لعب دور الحكم المنطقي نتيجة محاولة الفرد تجنب تحمل المسئولية، الإيمان بوجود الملائكة وقدراتهم التي تتصل مباشرة مع الله الخالق أكثر أهمية عند العقل البشري الذي يخاف التجربة لخوفه من الفشل، وأعتقاده أن النبي لو كان ملاكا من الله فهو يرى الخوارق أمامه بما له من قرب مكانيا وموضوعيا من الله ويمكن أن يجنب الإنسان من خوض تجارب تحمله مسئولية النجاح والفشل، وبالتالي المعرفة المسبقة للملائكة أقدر للبشر من الحماية والتنبيه من رسول بشري ينتظر الأخبار من الملائكة. • الانحياز التأكيدي والأثر العكسي وكلاهما يفرضان موقفا عمليا قويا حتى خلاف منطق العقل، فالانحياز التأكيدي الذي يتمثل في أعتقاد الكثيرين في أن الملائكة جنس أنثوي يحمل مواصفات جمالية خارقة، وربما لم ولن تتمثل لأي شخص في الوجود، وبما أن العقل الجمعي في المجتمعات الغير مؤمنة أو لنقل التي لا تعرف حقيقة الملائكة والدين يضعون للذكورية دورا مهما في صياغة النسق الثقافي له، ينحازون بالتأكيد لهذا الجمال الطاغي ويتمنون أن يكون الرسول من الملائكة، بينما الأثر العكسي أو ما يسمى العناد العكسي والذي يتلخص مفهومه وأثره على العقل بقوة الرفض، فعندما يواجه الناس أدلة من شأنها أن تجعلهم يشكون في معتقداتهم، فإنهم غالبًا ما يرفضون هذا الدليل ويعززون دعمهم لموقفهم الأصلي برفض الداعي أيضا وأعتباره قليل الفهم وغير جدير بالأستماع له، وبالتالي يسقطون الرفض ليس فقط على هذا الشخص إنما على العنوان الذي ينتمي له، ومن المهم فهم التأثير العكسي جيدا لأنه يؤثر على قدرة الرسل على تغيير رأي الآخرين، وكذلك قدرتهم على معالجة المعلومات بعقلانية من خلال ردات الفعل الغير محسوبة. هذا الملخص البسيط يبن للقارئ أسباب تعلق الكفار والمشركين بقبول الملائكة لو جاؤوا بالكتب أو لو كلفوا بالإنذار والتبليغ وهم نفسهم يرفضونها إن جاءت مع بشر مثلهم، فهم لا يجحدون آيات الله بل يرفضون الوسيلة فقط، لأنهم يعرفون تماما أن ما في الرسل والآيات هي حقائق كونية ثابتة لكنهم يجحدون بها، والجحد ليس إنكارا فقط فهذا يسمى تكذيب بل الجحد هو إنكار وتكذيب خارجي وإقرار وإيمان داخلي، فقد عرف الله الجحد تعريفا كاملا شاملا بقوله { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، أما في اللغة فهو (جحَد بالحقِّ أنكره مع علمه به، جحَد دينَه أي أنكره علنًا وهو غير صادق بما أنكر، لذلك قال الله تعالى يجحدون بالنعمة أي ينكرونها وهي بين أيديهم {أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ}، وحتى آيات الله كيف ينكرونها وهم فيها مثل الليل والنهار وتعاقب الشمس والقمر عليهم {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}). من المواضيع التي أثارتها بعض نصوص هذه السورة موضوع الأجداث تحديدا وكيف أن الأموات تنسل منها يوم الصيحة {وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يَنسِلُونَ}، هذا موضوع شائك ومعقد وإن كان هو أصلا مفهوم ومبين ومفصل في القرآن دون لبس أو خلط، لكن التفسيرات الأعتباطية والآراء الشخصية التي مر بها القرآن على أشخاص ذوي عقلية تقريرية لا تخرج من إطار المباشرة والتفسير المبسط دون أدوات تحليلية وتفكيكية تستبطن المعاني من جذورها القصدية، ومن نمطية وسياق البناء القصدي المميز، جعل من الأمور متداخلة ومن الصعب فرزها أو تحديد شواخص تعريفية لها أو وضع معايير ثابتة في الفهم، هنا مثلا في موضوع الأجداث سرعان ما يقول ودون فحص أن "الأجداث" هي "القبور" مع أن القبور وردت كثيرا في القرآن على أنها مكان قبر الميت بعد هلاكه، ولكنه ليس باقيا فيه إلى يوم الصيحة، فهناك عوامل طبيعية قد تغير المكان أصلا، وهناك عوامل تتعلق بطبيعة الجسد البشري وتفككه وتناثر أجزاءه نتيجة وجود كائنات حية تعتاش على الجسد، أو تحول هذا الجسد إلى تراب بعد التحلل، وهناك من لا قبر له ومنهم من يحترق ومنهم من يكون البحر قبره ومنهم من يكون فريسة للجوارح والضواري، إذا القبر ليس هو الجدث أبدا. السؤال الأول والذي يجب تقديمه للبحث في هذا الموضوع ما هو الشيء الذي ينسل من الأجداث البدن أم النفس؟ وقبل ذلك من يموت الجسد أم النفس؟ وثالثا من يبعث حيا الجسد أم النفس؟. تلك الأسئلة الثلاث هي التي تجيب على كل التساؤلات التي أثارها اللغط حول موضوع الأجداث، وكالآتي:. • النفس هي التي تموت وليس الروح ولا الجسد ولا البدن { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}،وهناك العشرات من الآيات التي تؤكد أن الموت والقتل يرد على النفس تحديدا { مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}. • النفس هي التي يخلقها الله تحديدا وأولا وليس البدن، والبدن هو مجرد الوعاء الذي يضم النفس ويحتويها وهو مشترك حيواني عام بين الإنسان والحيوان، بالتالي البدن ليس إلا نتيجة طبيعية لوجود النفس المخلوقة { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}، فالله خلق الأنفس أولا ومن نفس واحده وأخذ عليها العهد { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ}، فبعد أن خلق النفس أودعها سرها { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}. • التكليف للنفس فالله عندما يريد أن يكلف الإنسان لا يكلف غير النفس، العقل هنا أداة لتوصيل التكليف للنفس بشكل صحيح ومطابق، أما الأستجابة وشكلها فهي تعود للنفس وحدها {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ}، فمن يعمل يكسب ومن يكسب سوف يُسئَل بما يكسب وفق قاعدو الوسع والسعة والتناسب {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، وبناء على التكليف يكون العمل { وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} ويكون الحساب ويكون الجزاء وهذا لا يتم إلا ببعث النفس لهذه الأغراض { مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، بمعنى أن الكل سيبعثون كما تبعث نفس واحدة متشابهين في الطريقة والأسلوب والمنهج والوقت كما خلقوا أول مرة { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}، ويعضده قول الله { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}، هذا اليوم في التعريف القرآني هو{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}. إذا ما يدور في الحساب ومنذ الخلق إلى الحشر والجزاء والتقسيم يدور على النفس وحدها، والنفس لا تدفن في القبور إنما يقبر الجسد وحده، فالأجداث هو عالم تخزين النفوس من ساعة موتها لساعة بعثها، صحيح أن الله قال { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ}، هذا القول جاء ردا على قول الذين قالوا { وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}، فالإخراج من القبور يعني جمع الأولين والأخرين إلى يوم معلوم بوقته ولكن النص لا يوضح أو يثبت بعث البدن حتى مع قوله تعالى في سور القيامة { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}، فالجواب هو أثبات عدم العجز وليس إثبات الفعل على وجه اللزوم فالسؤال يوم القيامة للنفس {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ }، فيبقى الحساب على النفس وحدها يوم تأت كل نفس معها سائق وشهيد، فالشاهد من شهد الكسي من أيديهم وأرجلهم وجلودهم فيشهدوا كلا على لسانه، وأما السائق فهو العقل الذي سوق كل الكسب للنفس لتعمل به، فالعقل لا يشهد لأنه شريك في الكسب { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }. الملخص الذي نريد القول فيه أن الله يبعث الناس كنفوس ويحاسبها كنفوس ويجزيها كنفوس ويعذبها أو ينعم عليها كنفوس، أما ما هي النفوس وأشكالها فنحن نعرف من القرآن الكريم أن النفس هي جوهر معنوي كامل لعنصر مادي هو الإنسان، أي أن النفس ما هي إلا ذات الإنسان في معيار حسي تفاعلي يملك القوة على حمل الروح أولا، ثم بثها في الجسد عندما يقترنان، فالروح ليست في الجسد المادي بل في جوهره المعنوي وهو النفس، لذا أشير بالموت والقتل للنفس لأنها هي التي تفقد الروحية والحياة بالموت والقتل، فينقطع تبعا لذلك التواصل بين الجسد والقوة التي تبعث فيه الحركة بموت وقتل النفس { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، وأيضا القتل { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}، هذا الجوهر المعنوي يهتدي ويضل يفرح ويحزن يصدق ويكذب، وهو في الأخر محل كل الأستشعارات التي ننسبها للبدن ونقول أن الجسد يتألم، والحقيقة أن الجسد لا يتألم ولا يشعر بدليل أن الجسد الميت لا بشعر ولا يحس ولا يدرك شيئا ليس لأنه ميت بل لأن النفس التي كانت تتعامل مع هذه الإحساسات غادرته وتحول إلى مجرد مادة تخرج من الروحانية وتدخل عالم المادة فيزيائيا وكيميائيا فقط. عندما يرد في السورة قوله تعالى { فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡـٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ}، تأكيدا على المعاني التي قدمنها من لحظة الموت إلى ذهاب النفوس إلى أجداثها إلى يقظتها مرة أخرى ثم حشرها لتكون أمام الله تعالى، فالنفس التي تحاسب تمر في وجودها أمام الله اماما كالبذرة النباتية "الحبة" { وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}، فتنبت سريعا لتعود شجرة مرة أخرى ويحاسب الإنسان كشجرة من جديد وليست تلك الشجرة القديمة والدليل ورود الحلق الجديد بمعنى والنص على { عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ }، وذلك من قدرة الله { أَوَلَيۡسَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ}، والحقيقة هو بذرة فقط مما كان ثم عند الأنتهاء من الحساب تساق النفوس كالحبات إلى مصيرها { فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ}، هذا ما كان مني والله ورسوله أعلم.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فاطر السموات والأرض
-
رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ
-
خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ بين النظريات والأراء
...
-
ما معنى الجنة التي كنتم توعدون؟.
-
نوح رسول قومه هل كان واحدامن عدة رسل؟ وما معنى كلمة نوح؟
-
حكاية الثقافة في العراق بعصر الملالي
-
علة التأخر في بناء واقع جديد
-
الخير والشر وخلافات المسلمين على الإصالة فيهم أو الكسب
-
حقيقة معركة بدر من نصوص القرآن الكريم
-
لمذا سميت سورة يونس؟
-
في تدبر سورة الأعراف
-
في معنى رجال الأعراف قرآنيا
-
خمريات... وتريات ... أوهام وأحلام
-
نون والقلم وما يسطرون... من وحي المعنى...
-
فلسفة العقاب في القرآن
-
البيعة في الإسلام... بين المفهوم والممارسة.ح2
-
البيعة في الإسلام... بين المفهوم والممارسة.ح1
-
إشكالية العدل والعدالة في الخطاب الديني الإسلامي.
-
مختارات فيس بوكيه مما كتبت.... 2
-
مختارات فيس بوكيه مما كتبت....
المزيد.....
-
حماة.. هجوم صادم للفصائل وضربة قوية لنظام بشار الأسد.. إليكم
...
-
بمقابلة حصرية مع CNN.. زعيم -تحرير الشام- أبو محمد الجولاني
...
-
بعد سيطرة المعارضة على حماة.. إليك أين تقف الأمور في سوريا ا
...
-
مأزق إسرائيل في سوريا: بقاء الأسد بدعم إيراني أم تهديد متزاي
...
-
-أريشنيك- والغرب وأوكرانيا وأطراف -اللعبة المعقدة- في سوريا.
...
-
-يده الزهرية-.. الشاب الجزائري المختطف 26 عاما يكشف أخيرا سر
...
-
لافروف يناقش في الدوحة -اللعبة المعقدة- في سوريا
-
ساليفان يتعهد لكييف بتزويدها بكميات كبيرة من الأسلحة حتى منت
...
-
-حوار رائع مع دبلوماسي حقيقي-.. مقابلة لافروف مع كارلسون تجذ
...
-
حزب رئيس كوريا الجنوبية يدعو لعزله والجيش يعلن رفضه أوامر جد
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|