|
ما معنى الجنة التي كنتم توعدون؟.
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 8107 - 2024 / 9 / 21 - 22:57
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الجنة أسم مصدره من الفعل جن يجن جنونا فهو مجنون أي مخفي أولا يرى أو متوقي ويقال أن الصَّوْمُ جُنَّةٌ أي وقايةٌ من الشهَوَات، فكل مجنون هو المتوقي أو المستتر الذي لا يرى، فالإمام جنة أي أنه في المقدمة ليستر ما ورائه، وسميت الجنة مكان لأن الله أخفاها عن عيون خلقه كي لا تعرف أو ترى، وسمي الشخص مجنون لأنه ترك عقله خلف ستار الإهمال فلا يراه ويتقيد به، وفق هذا المعنى يمكن أننفهم معنى الجنة بالقرآن الكريم { مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (سورة محمد الآية 15)}، فهي إذا حيز وجودي لا مكان فيه لغير الطاهر المظهر ولا إمكان حتى السماح فيه ولو مؤقتا، لذلك الله خصها للمطهرين بصفاتهم المتعددة { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٤٣ الأعراف﴾}. فالله عندما أختار الجنة مسكنا لآدم وزوجه وجعلهما متنعمين كان ذلك بناء على طهرهم الفطري الطبيعي ولم يكن قد أرتكبوا ما يجرح هذه الطهارة { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿٣٥ البقرة﴾}، فالشجرة التي ذكرت هنا ليست غير مطهرة ولكنها علامة أو دليل مخالفة بالتقرب منها أو ضبط الألتزام بها، فعندما دلاهم الشيطان بغرور عليها وقاسمهما أنه من الناصحين أراد بذلك أن ينزع عنصر الطهارة منهم ويعريهم منها كي يطردوا أو يخرجوا منها، فالعصيان لأمر الله وإن كان بحسن نية وغير متعمد هو مسخ لهذه الطهارة { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿٢٢ الأعراف﴾}، ربما يسأل سائل كيف يكون إبليس وهو العاصي قد دخل الجنة وهي محرمة على غير المطهرين؟ وفقا لقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴿٤٠ الأعراف﴾}، الجواب لا لا يوجد نص أو خبر من الله أنه إبليس سكن الجنة أي كان فيها أو داخلها بعد أن طرده الله من الملأ الأعلى {قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين} (الأعراف:13)}، بل هو كان يوحي إليهما وحيا من خارج الجنة فهذه من صفاته وقدراته {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) الأنعام}، فقد قال الله تعالى أنهما ينزلان مما كانا فيهما وليس إخراجهما من الجنة { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36) البقرة}، والدليل استخدام تعبير المثنى في الجملة على المكان والأشخاص { فَأَخْرَجَهُمَا} { مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ } أي أن عملية الإخراج كانت أكثر من مرة والمكان أكثر من واحد وإلا لقال الله (فأخرجهما منها). بعد صدور الحكم الإلهي بحق إبليس جراء رفضه لأمر ربه بالسجود لأدم وهما في الملأ الأعلى وبحضور كل الملائكة، ومن الحوار الذي جرى بين إبليس ورب العالمين كان نتيجته أن أمره بالطرد من مكان الحوار وليس من الجنة، لأن الجنة وأمر سكناها كانت بعد الطرد والتنبيه بأنه عدوا لهما { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}، وهذا ما صرحت به بعض الآيات ومن ذلك قوله تعالى {قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين} (الأعراف:13). ولم يتقبل إبليس هذا الحكم، بل عقب معترضا عليه بقوله {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} (الأعراف:16)، بيد أنه سبحانه رد عليه جراءته ووقاحته بقوله {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} (الحجر:42)، فخروج آدم وزوجه كان من الجنة، وإبليس كان مما كان فيه وليس من الجنة بعد تحذير آدم وذريته من إغواء إبليس وكيده، قال تعالى {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} (طه:123)، فالجنة محرمة على الكافرين وأولياءهم { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٥٠ الأعراف﴾}. نعود لنعرف معنى الوعد بالجنة من الله بموجب النصوص والآيات التي وردت في القرآن الكريم، هنام اقصد المعنى العرفاني والروحي للجنة وليس المكان أو الحيز الذي سيكون المأوى لمن دخل الجنة، عملية الحساب بعد البعث والخروج ثم الحساب ففريق للجنة وفريق للنار يساقون سوقا، هناك ملاحظة لم ينتبه لها أحد وهي لقاء الملائة لأهل الجنة قبل الدخول { لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) الأنبياء}، هذا اللقاء هدفه الأساس نزع الغل من صدورهم أي تطهيرهم ليكونوا متماهين بمعنى الجنة وطهارتها {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47)}، هذه الجنة تحديدا في هذه العملية إخفاء وستر ما كانوا منهم في الحياة الدنيا ليعودوا مطهرين تماما كما كانا أبويهما من قبل، ومن قبل أن يوسوس الشيطان لهما، بمعنى إعادتهم للنسخة الأساسية التي خلقها الله قبا أن يلوثها إبليس، أما الأوصاف والتفاصيل الأخرى فهي وسائل توصيل للفكرة وقد لا تكون لها مصاديق حقيقية كاملة بقدر ما للفكرة والمفهوم من حقيقة. والله أعلم
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نوح رسول قومه هل كان واحدامن عدة رسل؟ وما معنى كلمة نوح؟
-
حكاية الثقافة في العراق بعصر الملالي
-
علة التأخر في بناء واقع جديد
-
الخير والشر وخلافات المسلمين على الإصالة فيهم أو الكسب
-
حقيقة معركة بدر من نصوص القرآن الكريم
-
لمذا سميت سورة يونس؟
-
في تدبر سورة الأعراف
-
في معنى رجال الأعراف قرآنيا
-
خمريات... وتريات ... أوهام وأحلام
-
نون والقلم وما يسطرون... من وحي المعنى...
-
فلسفة العقاب في القرآن
-
البيعة في الإسلام... بين المفهوم والممارسة.ح2
-
البيعة في الإسلام... بين المفهوم والممارسة.ح1
-
إشكالية العدل والعدالة في الخطاب الديني الإسلامي.
-
مختارات فيس بوكيه مما كتبت.... 2
-
مختارات فيس بوكيه مما كتبت....
-
الدين والإنسان وحقيقة تأريخ الإيمان 2
-
الدين والإنسان وحقيقة تأريخ الإيمان
-
- نحن إلى أين؟... ما هو مستقبل العقل البشري؟- 2
-
- نحن إلى أين؟... ما هو مستقبل العقل البشري؟-
المزيد.....
-
وقف خلفه وأرداه قتيلًا.. لحظة إطلاق النار بمسدس كاتم للصوت ع
...
-
مباشر: 47 قتيلا في غارات إسرائيلية على غزة وتوغل للدبابات في
...
-
إيران تمرر قانون -العفة- المثير للجدل رغم انتقاد الرئيس.. إل
...
-
البنّ يمني والقهوة تركية.. مذاق يطول أثره 40 عاما
-
وسائل إعلام: الجيش السوري يوقع بـ -العصائب الحمر-
-
كوريا الجنوبية: كتلة المعارضة تدعو للتصويت على عزل الرئيس يو
...
-
البتكوين يتخطى حاجز 100 ألف دولار للمرة الأولى
-
ما هو الخبر الذي تلاه ارتفاع سعر عملة البيتكوين لـ100 ألف دو
...
-
صحفي إيرلندي يهاجم بلينكن بعد الدعوة لتخفيض سن التعبئة في أو
...
-
أطعمة شائعة الاستهلاك قد تسرع الشيخوخة البيولوجية
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|