|
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الخامس والثلاثون)
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 8116 - 2024 / 9 / 30 - 08:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في نهاية الجزء السابق، وعدنا روبنس بيليدور بتوضيح ماهية الحرية الإنسانية التي هي موضوع هذه الدراسة. حان الوقت لكي نقوم بدراسة ماهية الحرية فعلياً. هكذا اصبح السؤال عن أساس جوهر الإنسان أمرا لا مفر منه. إنما نحو جذر وتجذر وجودنا الإنساني كما هو يقودنا السؤال الموجه بمضمونه الأساسي الخاص. نتساءل من خلال السؤال الأساسي عن فهم وجود الوجود، وهذا التساؤل عن السؤال الأساسي له في ذاته في نفس الوقت توجه متسائل نحو أساس إمكان الوحود الإنساني. يتساءل عن الإنسان في عمق جوهره، بمعنى أنه ينطوي في ذاته على إمكان دراسة لا تتناوله من الخارج، بل تصعد من عمق جوهره. أثبتنا أن عرض أفق مشكلة الحرية لم يكتمل إلا من خلال الخيط الهادي لتأويل الحرية الذي أظهره كانط. لكن من يقول لنا إن هذا التأويل، مهما كان أساسيا، هو التأويل الفلسفي المركزي؟ عند كانط، كما يؤكد شيلينج، ما تزال الحرية هي ما يجب أن يهيمن على الحساسية، لكنها ليست كذلك فحسب، لأنها في هذا هي بالفعل استقلال ذاتي، صيانة نفسها على أساسها الخاص، وتحديد ذاتي باعتبارها تشريعا ذاتيا. إلا انه مع المفهوم الكانطي عن الحرية، فإن تحديد الجوهر الصوري لحرية الإنسان لم يكتمل بعد. ذلك أن كانط وضع هذه الحرية، بمعنى الاستقلال الذاتي، حصرا في العقل الخالص للإنسان. لا يبقى العقل الخالص مختلفا عن الحساسية فحسب، بل يظل هو ما يختلف أيضا عنها جوهريا، ما يختلف عن "الطبيعة" كما هي مختلفة عنه تماما. أكثر من ذلك، من يقول لنا إن الحرية يجب أن تُفهم في المقام الأول في ارتباط بالسببية؟ بكل ذلك، اقتصرنا حتى الآن على تحصيل معرفة، وهو ما مكننا من أن نعلم في أي اتجاه ينبغي، على أي حال، أن يتحرك السؤال حول الحرية. ومع ذلك، ما قيل لنا أبدا ضمن ما قيل إن ذلك هو العرض الوحيد والضروري للمشكلة. أدرك كانط حقيقة الجوهر العام للحرية باعتبارها استقلالا ذاتيا وتحديدا ذاتيا وفق قانون أساسي وصحيح، لكنه لم يتصور بعد الفعل الأصلي للحرية الإنسانية في وقائعيتها. عندما نتساءل حقا عن ماهية الحرية، نجد أنفسنا أمام السؤال عن ماهية الموجود كما هو. السؤال عن ماهية الحرية الإنسانية يتم إدراجه على هذا النحو وبالضرورة في السؤال الذي يطلب تحديد ما يكونه الموجود كما هو على الوجه الصحيح. لهذا ينبغي الآن، في المنظور الهايدجري لمفهوم الحرية، أن نطرح صراحة السؤال عن الحرية الإنسانية. نحن نعرف السؤال بالصيغة الشائعة لـ "مشكلة حرية الإرادة" - مشكلة الإرادة الحرة. هنا نخوض النقاش في ما إذا كانت حرية الإنسان حرة أم غير حرة، وكيف يمكن الاستدلال على ذلك بطريقة مقنعة كفاية. تعتبر الحرية بالتالي خاصية للإنسان؛ لما يكون ومن يكون الإنسان، ما نعتقد في هذه الحالة أننا نعرفه بالفعل - الشك الوحيد الذي ينتابنا بشأن هذه الخاصية التي هي الحرية: معرفة ما إذا كانت تنتمي إليه كما تنتمي أيضا إلى ملكته الإرادية، أو ما إذا كان يجب إتكارها. الحرية عند هايدجر لا تُعطى كخاصية للإنسان، إنما بالعكس الإنسان هو بالأحرى ملك خاص للحرية. الحرية هي الماهية التي تحتوي الوجود الإنساني وتنقله من طرف إلى آخر؛ هي ما يجب أن يُعاد توجيه الإنسان إليه ليصبح إنسانا حقا. ذلك ما يعني أن جوهر الإنسان يقوم على الحرية. لكن الحرية نفسها هي تحديد الوجود بصفة عامة بما فيه من خاص، تحديد يتجاوز كل وجود إنساني. بقدر ما يكون الإنسان كذلك، يجب عليه بالضرورة أن يشارك في هذا التحديد للوجود، ويوجد الإنسان، عند الحد الذي يتمكن فيه الإنسان من المشاركة في الحرية. لنتساءل: كيف تكون الحرية تحديدا للوجود؟ بخصوص الحقيقة، عند هايدجر، هناك سبب للتمييز بين الخاصية اللامتححبة للوجود (الحقيقة الانطولوجية) وقابلية الموجود للانكشاف (الحقيقة الأنطيقية). الحقيقة الانطولوجية والحقيقة الأنطيقية متضامنتان في الجوهر على أساس علاقتهما مع الاختلاف بين الوجود والموجود، الاختلاف الأنطوولوجي. لنحاول فهم أن الاختلاف الأنطولوجي يتم من خلال الوجود-هنا، الذي يتبتى حيال الموجود موقفا يتضمن فهم الوجود، وهكذا يميز بين الوجود والموجود. هذا التمييز، الصعود من الوجود إلى الموجود، يسميه هايدجر "تعالي الوجود هنا".هكذا، يؤدي السؤال عن الأساس إلى السؤال عن الحقيقة، والسؤال عن الحقيقة إلى السؤال عن الاختلاف الانطولوجي، والسؤال عن الاختلاف الأنطولوجي إلى السؤال عن تعالي الوجود-هنا. بالنسبة إلى هيدجر، فإن تعالي الوجود-هنا هو التجاوز، الذي حدث دائما بطريقة ما، لما وراء كل موجود وأي موجود، تجاوز من خلاله فقط يمكن للوجود-هنا أن يعود بطريقة أصيلة إلى الأشياء، إلى الوجود-مع وإلى ذاته. التجاوز لما وراء الوجود "مكون" للعالم، التعالي كوجود-في-العالم، يوفر فقط ولوج الموجود إلى العالم بحيث يتمكن الموجود من أن ينكشف كما هو. من هنا، يكون التعالي هو الحدث الأصلي، التاريخ الأصلي. يجب أن يكون، بالنسبة إلى هايدجر، متصورا على أنه حرية، لأن الحرية تضع أمام نفسها نصب عينها وتقوم بالتالي بالسيطرة على العالم. إذن، لا وجود سوى في الوجود-الأأساس للتعالي (المُتصور على أنه حرية). يتناول البحث حرية الإنسان، لكن هذا في حد ذاته يشير بالفعل إلى أنه يتناول نوعا معين من الحرية بمقتضى ماهية الوجود بشكل عام في ما له من خاص. تبحث هذه الدراسة في جوهر الإنسان، أي أنها تتساءل في ما وراء الإنسان، في اتجاه ما هو أكثر أهمية وقوة منه: في اتجاه الحرية. ونتيجة لذلك، يبدأ توجهنا بأكمله في الطفو. بكل تأكيد يجب علينا ىإخضاع كل ما سبق للتحديد. ونحن نمسك دائما بالخيط الهادئ في الفكر الهايدجري، يمكننا أن نؤكد أنه: إذا كانت مشكلة الحرية مرتبطة - كما هو الحال عند كانط - بالسببية، فإن هذا الارتباط يقودنا إلى المنظور الواسع الذي فتحناه - ولا يكون ذلك إلا بهذا الشرط. لنفترض على العكس من ذلك أن الحرية تسمح لنفسها منذ البداية بأن يتم تحديدها بطريقة أخرى، عندها يصبح المنظور أيضا آخر. الأكثر من ذلك: لا ينبغي علينا فقط أن نعترف بإحتمال تمكن العديد من المنطورات المختلفة من أن تكون منفتحة على موضوع الحرية، ولكن أيضا وقبل كل شيء يتعين أن نكون متأكدين من المكان الذي نحدد فيه الحرية قبل أي انفتاح لمنظور أكثر سعة، المكان الذي تقيم فيه، إذا جاز التعبير. إلا أن هذا المكان ظل غير محدد حتى الآن، ما دمنا، بعد استيلائنا على تعريفات مختلفة للحرية، لم نحدد صراحة أي مجال تنتمي إليها الحرية، ولا كيف تم توطينها في هذا المجال. هكذا، إذا كان لا بد لبحثنا عن ماهية الحرية الإنسانية من أن يجترح مسارا أكثر أمانا، فيجب علينا أولاً أن نتأكد من المجال الذي نكون ملزمين بالنظر إليه ونحن نسائل الحرية ذاتها ونعمل على إلقاء الضوء على ماهيتها. المطلوب منذ البداية هو إدراك ماهية الحرية الإنسانبة، إذن حرية الإنسان والإنسان نفسه، بطريقة يكون فيها للوهلة الأولى - مهما بقي محجوبا تماما عن محتواه المرئي - الجوهري مرئيا؛ ليس باعتباره إضافة تمنح لإرادة الإنسان، ولكن باعتباره جوهر الوجود في حد ذاته، باعتباره كشفا أساسيا للأساس بالنسبة للموجود في الكلية. (يتبع) نفس المرجع
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلم -أمل: روح حرة- للمخرج البلجيكي المغربي جواد غالب دعوة ق
...
-
حزب الله يؤكد مقتل زعيمه على يد الجيش الإسرائيلي
-
الهيئة المغربية لحقوق الإنسان تعي جيدا بأن حرمانها من الوصل
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
برشيد: مستشفى الرازي للطب النفسي يعاني من خصاص في الأطر ونقص
...
-
النقابة الوطنية للصحافة المغربية تناضل من أجل تجويد البيئة ا
...
-
النقابة الوطنية للإعلام/كدش تدعو الحكومة إلى حل ما يسمى -الل
...
-
الطيران الإسرائيلي يقصف لبنان مجددا وحزب الله يستهدف قلب إسر
...
-
المنظمة الديمقراطية للشغل تطالب الشركة الوطنية للإذاعة والتل
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
الفقيه بن صالح: كونفدراليو قطاع الفوسفاط يؤكدون استعدادهم لل
...
-
قطاع الفواكه الحمراء بالمغرب: زيادة في الصادرات ومقاومة للتح
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
الخروج الإعلامي لفاطمة الزهراء المنصوري بصدد -الهروب الكبير-
...
-
هل ربحت النقابات معركة مشروع القانون رقم 54.23 ضد الحكومة؟
-
اللجنة الوطنية للقطاع الحقوقي للاشتراكي الموحد تعتبر الهروب
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
فاس: النقابة الديمقراطية للعدل تدعو منخرطيها إلى المشاركة غد
...
-
ترامب يعاتب بايدن وهاريس بعد استهدافه بمحاولة اغتيال جديدة
-
جمعية عزبز غالي تدخل على خط الهروب الكبير لٱلاف الشباب
...
المزيد.....
-
ضابط ألماني: أمل زيلينسكي في الغرب خاب
-
السبب الكامن وراء الشعور بالتعب المستمر
-
رئيس وزراء السويد كريسترسون يطالب الاتحاد الأوروبي بتصنيف ال
...
-
-القبول بحل الدولتين أصبح أكثر إلحاحاً بعد السابع من أكتوبر-
...
-
الكرملين: الحديث عن تهديد روسيا -الناتو- مغلوط وغير منطقي
-
الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيرتين قادمتين من سوريا
-
الإعلام العبري يقارن بين حرب 6 أكتوبر وأحداث 7 أكتوبر
-
صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع
...
-
دمشق.. وصول طائرة مساعدات فنزويلية للنازحين اللبنانيين (صور)
...
-
تزامنا مع -القمر الدموي العملاق-.. اكتشاف ارتباط بين البدر و
...
المزيد.....
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
المزيد.....
|