الحسن علاج
الحوار المتمدن-العدد: 8063 - 2024 / 8 / 8 - 04:48
المحور:
الادب والفن
تحت ذريعة هذيان راهب صحراء ،يستكشف الكاتب ، الذي يمقت الكهنة والعقيدة ، على طريقته ، لغز الأصول .
جولي مالور
ترجمة : الحسن علاج
هلوسات أونطونيــوس
لاتنطوي العلاقة التي أقامها فلوبير مع الدين على أي لغز . مُقاوم للإكليروس بشكل لا لبس فيه ، لا يحب النورمانديّ الكهنة والعقيدة التي تعتبر بالنسبة إليه ، مثيرة " للاشمئزاز " ، لدرجة أن المرء ،كان يرى فيه أحيانا ، نوعا من السيد هومي Homais) ( ، الصيدلاني العلموي في [رواية] مدام بوفاري . وهذا لا يمنع ـ وكيف بالمرء ألا يتفاجأ ؟ ـ ومن باب المفارقة أن " عمل حيات[ـه] برمتها " ، الهوس الذي سيعمل على مواصلته بدون هوادة ، طيلة ربع قرن ، يعتبر نصا ذا ثيمة مسيحية :
تجربة القديس أونطونيوس .
انقشعت الفكرة في ذهنه بمدينة جنوة ، بإيطاليا ، سنة 1845 ، أثناء رحلة برفقة أبويه ، اكتشف فلوبير ،في قصر بالبي Balbi) ( ، لوحة بنفس الاسم ، منسوبة إذ ذاك إلى بروغيل الأكبر (Brughel L’Ancien) يقوم بتصوير مجموعة من الشخصيات باعتبارها " مزدحمة ، متحركة ، تصدر عنها ضحكات بلهاء " . وتكمن الصدمة الفنية في أن الشاب يعود إلى فرنسا مع إحساس أن يفعل من ذلك شيئا ما . وبعد ثمانية عشر شهرا من كتابة قوية و" شهوانية " ، فقد قرأ المسودة الأولى على لوي بوييه (Louis Bouilhet) وماكسيم دي كامب (Maxime Du Camp) . وجه له الحكم " ضربة موجعة " : حثه بوييه على أن يُلقي بالمخطوط " في النار " .
وعقب عودته من رحلته إلى الشرق ، عاد فلوبير إلى طاولة كتابته . تابع كتابة النسخة الثانية ، دفعة واحدةحتى منتصفها ، تاركا إياها لفائدة مدام بوفاري ، ليتممها في السنة الموالية ، عاملا على نشر بعض المقاطع في مجلة الفنان L’Artiste) ( ، إلا أنه كف عن النشر بالكامل ، دائما بناء على نصائح أصدقائه . ومع ذلك ، فقد عاد الناسك ليطارده : ففي سنة 1869 ، كتب إلى جورج صاند George Sand) ( بأنه " استعاد افتتانه القديم " ؛ وفي عام 1871 ، قال إلى الكاتبة ماري رينييه (Marie Régnier) إنه يسعى إلى " العودة إليه " ؛ وأعلن في عام 1872 ، إلى ماري صوفيا لورواييه دوشانتوبي ( Marie- Sophie Leroyer de Chantepie) بأنه أتى على إتمام ذلك ، " في خضم الأحزان " . وفي سنة 1874 ، ظهرت النسخة التي نعرفها ، تم إيداعها أخيرا لدى الناشر .
البيئة الثقافية
لا يُعرف عن حياة القديس أونطونيوس الحقيقي ، الكبير ، والملقب أيضا بالناسك ، وهو أول من شيد أديرة العالم المسيحي ، حوالي عام 300 ، إلا ما رواه معاصر ، [الأسقف ] أتناسيوس من الإسكندرية Athanase d’Alexandrie) ( . ذاع صيته بعد ألف عام تقريبا فيما بعد ، وذلك بفضل إجراء تعديل على الأسطورة في " الكتاب الأكثر مبيعا " من القرن الثالث عشر : الأسطورة الذهبية . إن هذه الذخيرة التي هي من توقيع راهب دومنيكاني ، جاك دو فوراجين (Jacques de Voragine) ، و التي تحكي عن الأعمال الجليلة لنحو 150 قديسا ، والرسل والشهداء . تعادل شهرتها شهرة الكوميديا الإلهية لدانتي ، سوف تغذي القرون القادمة ، إلى حدود القرن التاسع عشر الاستثنائي ، الذي شرّع الأبواب للعلوم وأعلن عن موت الإله .
ولقد عمل فلوبير ذاته على استعادة الأسطورة التي هي ، في واقع الحال ، وباعترافه تعتبر " مصرفا" . ويعتبر العمل غزيرا ومتاهيا ، قصيدة نثرية أكثر منها رواية ، تنفلت عن التصنيف . فتارة يعتبر خلاصة لاهوتية ، وتارة أخرى استكشافا فلسفيا لأطروحات سبينوزية ، صوفي وميتافيزيقي ، يقدم المجموع نفسه مثل تعاقب لهلوسات نصف فاوستية ، نصف ميلتونية . نص يظل عصيا على الفهم في القرن التاسع عشر ، وشبه غامض في عصرنا .
تدور أحداث القصة ليلا . أونطونيوس الذي يعيش وحيدا في الصحراء منذ ثلاثين سنة ، يجد نفسه في خضم أزمة فتور روحي ، سأم الرهبان . مستسلما لشيطان منتصف الليل ، لحظة الشك هذه ، يطلق الناسك العنان لشرود روحه ، ثم يجد نفسه محاصرا بالرؤى . " ملكة سبأ [...] ، ثم الميتافيزيقيون ، متفوهون بأقوالهم المأثورة ؛ ثم الهرطوقيون مع كلمتهم الوحيدة ؛ ثم عبدة النار ، أبولو نيوس من تياناTyane) ( ، ثم كافة آلهة العالم ، ثم حيوانات السماوات ، الأرض والبحر ، فالشيطان ، في هيئة حواري القديس هيلاريون ...) ، يعرض أوغست دجو فيلييه Auguste de Villiers de L’isle- Adam) (دو ليل آدم ، بالتفصيل بتاريخ 23 أبريل 1874 في الجريدة اليومية الأسبوع الباريسي ، أثناء نشر النص .
مجموعة من الرموز المسيحية ، تم استلهامها من العهدين القديم والجديد ، تتلاحق ، متبوعة بوفد من المعبودات الوثنية ، اليونانية والرومانية . يصنع بودا عبورا واضحا ، السفنكس تجسيد للعقل ، ويجسد الكيميرا chimère) ( الخيال المبدع ، ينخرطون في مبارزة بلا رحمة . يشكل الهذيان الهلسي للناسك بيئة ثقافية تلفيقية ملائمة ، عاملة على الخلط بين التاريخ ، اللاهوت والفلسفة ، من دون توضيح أي شيء لكن مع القفز باستمرار من سؤال إلى سؤال .
إن فيلييه دو ليل آدم هو من أشار بدقة إلى الجوهري : يعتبر قديس فلوبير قديسا " مزيفا " . " ليس ثمة دفق لعشق ، مضطرم ، متحمس ، أنوثي ، من أجل الإله محبه ومحبوبه ؟ " كتب عن هذا ال" حلم الأدبي " .
ففي ظل مسرح الهلوسات هذا ، لاحظ بعض المحللين النفسيين " ميولا استمنائية " للكاتب أو " شهواني ذهني " ؛ ولاحظ آخرون " انتقاما من الأب الخصّاء " أو " عودة المكبوت " ، كما لا حظت كلودينا غوثو ميرش Claudine Gothot- Mersch) ( في تقديمها لطبعة 1983 لدى دار نشر فوليو .
على نحو معقول جدا ، فإذا كان هذا الكتاب "يحث على التفكير " بالنسبة لفيلييه دو ليل آدم ، فلأن بطله يعتبر " شخصية مرموقة في المجتمع " .
فهو يعتبره رمزا لل" متوحد " ؛ تدركون صورة الفنان ، من طراز فلوبير . لم تعد ملكة سبأ " الزائرة المزعجة لسليمان ، ملك اليهودية ، بل الفكرة الشيطانية والضيقة التي كونها القديس أونطونيوس عن نفسه " . هاهو أونطونيوس ، ذو المكانة المرموقة اجتماعيا ، في مواجهة أفكار عصره . هذه الليلة ، ووراء استعراض الاعتقادات ، فإن بحثا عن المعنى يتم وضعه موضع تساؤل .
الصورة الكبرى
إن الهلوسات ، التي يعرضها فلوبير للقارئ ، تتأرجح بين الكبير إلى أبعدالحدود، وتناهي الصغر ، إلا أنها تسافر عبر الزمن . يتعلق الأمر بهبوط يضعف تدريجيا ، بهدف ، في أي نهاية نص ما ، الشيطان الذي اتخذ اسم العلم ـ تجربة أخرى .
يقود العلم المُشخّص الناسك إلى حضور مشهد الكون وهو في حركة ، ولوج الصورة الكبرى ، من أجل إدراك الأشكال الأولية للحياة ويشهد ولادة المادة .
يستحيل هنا تجاهل السياق العلمي لذلك العصر . لقد عادت سفينة شارل داروين إلى الميناء منذ ثماني وثلاثين سنة (2أكتوبر 1836 ) أثناء ظهور تجربة القديس أونطونيوس ، وكتاب داروين ، أصل الأنواع (1859) ، الذي أتيحت له فرصة الوصول إلى المكتبات . إلا أن مدة تأليف عمل فلوبير كانت متعاصرة جدا مع الجدال الذي تولد عن نظرية التطور ، التي وضعت الإنسان في تاريخ كرونولوجي وتفكر في الطبيعة تم بمسطلحات السببية . وهو ما عمل المصور والنقاش أوديلون رودون Odilon Redon) ( ، في سلاسل ثلاث من الطباعة الحجرية ( 1888 ، 1889 و 1896 ) والتي تم إنجازها استنادا إلى تجربة القديس أونطونيوس .
اطلع رودون على العلم الجديد بواسطة عالم نباتات ، وهوأرمان كلافو (Armand Clavaud) ، اكتشف النهاية الفلوبيرية التي بمقتضاها " لن يتم الفصل في الوقت الراهن ، بينها وبين الحيوانات أبدا ". هنا تتقاطع الممالك ، يغوص الناسك في الانفجار العظيم الأولي بغاية " رؤية ولادة الحياة ". تحكي نقوش رودون ـ بزوغ ، خلية الأذن ، شرغوف ، رأس مع قوائم ـ عن هذا الاهتمام الذي يخترق النصف الثاني من القرن . ومثلما أنه لدى فلوبير ، لا شيء يعد بسيطا ، فعندما يطلع النهار كي يضع حدا لليل يشع للناسك ، ما الذي يتم انبثاقه ؟ وجه المسيح على القرص الشمسي ... العودة إلى نعمة المقدس لدى المقاوم للإكليروس ؟ جواب نورمان : لن يقوم فلوبير بالاستنتاج ؛ سيترك الأمر للقارئ .
ــ
مصدر النص : مجلة لوبوان الفرنسية ( Le Point) في عدد ممتاز خصص ملفا لغوستاف فلوبير عدد 30 نونبر ـ دجنبر 2021
#الحسن_علاج (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟