أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - عبدالرزاق دحنون - كيف أحبَّ جدّي سميرة توفيق؟














المزيد.....

كيف أحبَّ جدّي سميرة توفيق؟


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 7972 - 2024 / 5 / 9 - 12:45
المحور: كتابات ساخرة
    


ما زلتُ أرى جدّي عثمان دحنون -رحمه الله- يجلس على كرسيّ صغير من خشب وقشّ مجدول ويسند ظهره إلى جدار بيته في حيّ المنطرة جنوبيّ مدينة إدلب. ونحن في الشمال السوريّ نقلب الثّاء في عثمان، فنقول: عتمان بالتّاء، وهي في الحقيقة أيسر في اللّفظ. تعوّد جدّي بعد أن بلغ من العمر عتيّاً، ولم يسأم، أن يُخرج كرسيّه ويضعه قريباً من باب بيته على الرصيف ويجلس مستقبلاً شمس فصل الخريف الواهنة، يُرافقه معظم الأحيان مذياع ترانزستور متوسط الحجم ماركة ناشيونال مفتوح على إذاعة لندن. يعمل الراديو على بطاريتين جافتين من الحجم الكبير، وإلى اليوم مازلنا نستعمل هذه البطاريات، وكانت في أيامنا ثلاثة أحجام صغيرة ووسط وكبيرة، ولكنهم زادوا عليها فيما بعد بطاريات أصغر من الصغيرة للريمونت كونترول-لم تكن في أيامنا تلك- وكأنّهم يقلدون ما نسميه في الأدب: رواية، قصة قصيرة، أقصوصة، قصة قصيرة جداً.

هل نتحدّث عن فترة سبعينيات القرن العشرين؟ عافاك الله، نعم نتحدّث عن تلك الأيام، وكنّا ما نزال في سنّ المراهقة، ولهذه السنّ مهادها الطويل العريض، حيث نظنّ بأنّ الدّنيا ملك يميننا، صحيح بأنّ عقولنا على قدر عمرنا، ولكن كنّا ننضج بسرعة عجيبة وتستقيم المعارف في عقولنا وخاصة بعد أن دخل التلفاز حياتنا. كان والدي راشد دحنون قد اشتراه -أي تلفاز سيرونكس- في أوائل سبعينيات القرن العشرين وكان بالأبيض والأسود بصندوق من خشب مُلبّس بقشر الجوز، ويبث من قناة واحدة في الفترة المسائيّة بضع ساعات يومياً. وقد تعلقنا تعلقاً عجيباً تلك الأيام بمسلسل (الجرح القديم) الذي أدت الفنانة السورية منى واصف دور (أمونة) وشاركتها البطولة النجمة السورية (إغراء) في دور (أسمى). قصة من منطقة الجنوب السوريّ والتي تُعرف باسم حوران، ثأر بين عشيرتين، إذ تحصل علاقة حب بين الدكتور كمال وأسمى ابنة الحجة أمونة ويهربان إلى الشام، فترسل عشيرة الفتاة رجل اسمه عوض العموري يبحث عنهما في المدينة، وعندما يعثر عليهما يطلق النار فيرديهما قتيلين، ثم يقوم حسين العموري بالتدخل ويقتل عوض، لتعود الحرب بين العشيرتين. والمسلسل من إخراج سليم موسى، وأنتجه التلفزيون السوري عام 1971، والموسيقى التصويرية للفنان السوري الملحن سهيل عرفة.

كانت جدّتي زينب تُحبُّ مشاهدة المسلسلات العربيّة، أما جدّي فكان لا يُطيق مشاهدتها، والهاء هُنا عائدة على المسلسلات، حتى لا تظنّ أنها عائدة على جدّتي زينب، لأن الله أمر بالستر. كان جدّي يحبّ أغاني سميرة توفيق. وكانت أغانيها رائجة تلك الأيام في الإذاعات ومنها إذاعة لندن، فيسمعها وتُعجبه. كان بيته لصق بيتنا، بناه، أغلب الظن، في خمسينيات القرن العشرين على قطعة أرض صخرية لا تصلح للزراعة، اشتراها من عائلة آل حكيم المسيحة -وعلاقته بالعائلات المسيحيّة في مدينة إدلب قديمة، وقد ورثها آل دحنون عنه- ظلَّ فترة طويلة من عمره يعمل في أرض عائلة آل أسبر المسيحيّة. كان فلّاحاً مرابعاً بلا أرض، حيث رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعيّ في ستينيات القرن العشرين، مُدعياً أن هذه الأرض مَكْس، فهي حرام، في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنَّة"، وقد كنتُ قريباً منه في تلك الأيام قبل سنّ المدرسة أذهب في أول فصل الصيف لمعاونته في شتل البندورة.

عندما سكن في حيّ المنطرة الضاحيّة الفقيرة من ضواحي إدلب وبعيدة عن العمران، فكان أصدقاء جدّي من زقاق (حمام الميري) وسط المدينة مكان نشأته يقولون له: يا عثمان، خذ حذرك حتى لا تأكلك الضباع. البيت يتألف من ثلاث غرف وقبو وعنبر قمح وحديقة فيها أشجار وجبّ تجتمع فيه مياه الأمطار والثلوج. شغلت جدّتي القبو مع مدفأة الحطب والساعة العربية التي تدور عقاربها على وقت لا ندركه نحن الصغار، ونقول لجدّتي زينب دهنين أم محمد: كم السّاعة الآن؟ تنظر في ساعتها المخبأة في بيت صغير من الخشب بباب مُعشَق من البلور والمعلقة جميعًا في الجدار وتقول واثقة من وقتها: الرابعة. ونضحك من ساعتها تلك، لأن الساعة الآن ليست الرابعة في ساعة يد جدّي ذات التوقيت الافرنجيّ، والفرق شاسع بين التوقيتين العربيّ والافرنجيّ.

كان جدّي يعرف سميرة توفيق من صوتها في الإذاعات ولا يعرف صورتها، وفي أحد الأيام كان يسهر عندنا، والتلفاز شغّال، انتبه فجأة لما تقوله المذيعة السوريّة "ماريا ديب": والآن مع وصلة غنائيّة مع المطربة المحبوبة سميرة توفيق. نظرتُ إليه، فرأيتُ وجهه مشرقاً، منبسط الأسارير، باسم الثغر، وعلى شاشة التلفاز ظهرة سميرة توفيق بثوب مزركش طويل يصل إلى أخمص القدمين، واللافت للنظر هو جيب ثوبها، فقد كان واسعاً يظهر منه أعلى الصدر عارياً، عرماً، كأنّما قُدّ من رخام أبيض، وكأني بأبي نواس يحضر هذا المشهد البديع فيقول:

إذا مـا بدتْ
أزْرَارُ جَـيْـبِ قميصـِـهِ
تَطَلَّعُ منْها
صورة ُ القمرِ البدْرِ

الظاهر -والله أعلم- أن جدّي عشق سميرة توفيق، عن جدّ، من أول صورة لها شاهدها في التلفاز، وهي تستحق ذلك على كل حال، وكلّما قالت المذيعة: والآن مع وصلة غنائيّة مع سميرة توفيق. ينده أهلي: قم يا عبد الرزاق أخبر جدّك (طلعت سميرة توفيق). فلا يتمهل في المجيء؛ بل يحضر حالاً. وحين يُقرّب المصور وجه سميرة توفيق على الشاشة لتغمز تلك الغمزة القاتلة من عيون كعيون المها يصير حال جدّي كحال عليّ بن الجهم حين قال:

عُيونُ المَها
بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ
جَلَبنَ الهَوى
مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ
القَديمَ وَلَم أَكُن
سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على هامش يوم ميلاد لينين
- كيف ظهر البشر على كوكب الأرض؟
- إرث كونفوشيوس فاق في تأثيره ميراث لينين
- نساء في السجون الأمريكية
- لينين والثورات
- في غياب الوعي المعرفي
- غزّة هاشم ووَعْيُ القضيّة الفلسطينيّة
- رد على كلمة الرفيق سعود قبيلات في تونس
- إن المهمة في غزة هائلة وشاقة
- سوري يأكل رسالة مصطفى أمين
- في السجون الأمريكية
- زراعة الشيوعيّة في السعوديّة!
- فصل عن كارل ماركس من كتاب المثقفين
- هل صيرورة الكون واحدة؟
- عن رواية دمشق يا بسمة الحزن
- تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
- فضائل ضبط النفس
- لا أعشق الموتَ لكنه سُلَّمي للحياةْ
- في ذكرى رحيل الشيوعي الأخير في السعودية!
- هكذا تكلَّم عاملٌ عن هادي العلوي


المزيد.....




- منظمة التحرير الفلسطينية هي عنوان الكفاح من أجل التحرر الوطن ...
- بعد قضية -الممثلة الإباحية-.. بايدن يكشف عن -طريقة وحيدة- له ...
- أفضل الأفلام التي يمكنك مشاهدتها في يونيو/حزيران 2024
- اجمل مغامرات الفار والقط .. تردد قناة توم وجيري الجديد 2024 ...
- أقوى حلقات مش بتخلص .. تردد قناة سبونج بوب اطفال 2024 لمتابع ...
- -شراء الصمت- بقضية الممثلة الإباحية.. ترامب أول رئيس أميركي ...
- هيئة محلفين تدين ترامب بجميع التهم الموجهة إليه في قضية المم ...
- -كتاب المغرب-يلوح بالقضاء ضد مشاركة عضوين باسمه في مؤتمر - ا ...
- شاهد حالاً.. مسلسل صلاح الدين الأيوبي الحلقة 26 مترجمة على ق ...
- “الحَلقة الجَديدة” مسلسل قيامة عثمان الحلقة 162 عبر قناة الف ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - عبدالرزاق دحنون - كيف أحبَّ جدّي سميرة توفيق؟