أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - الوقوف عند الزمن الأخر /ج4














المزيد.....

الوقوف عند الزمن الأخر /ج4


فرات المحسن

الحوار المتمدن-العدد: 7882 - 2024 / 2 / 9 - 12:08
المحور: الادب والفن
    


استفاق ظهر ذلك اليوم وقد انتابه شعور بالاضطراب وانقباض الروح. كان يحلم على الدوام أحلاماً مزعجة، وفي الكثير من المرات خلال الأيام العشرين التي قضاها مع عائلته في بغداد، فكر بهذا الأمر ورغب دائماً بأن يعاف قيلولة الظهيرة لما تسببه من كرب بعد أن يجد نفسه متعباً تعساً إثر أحلام لا بل كوابيس تتكرر وتجرح النفس وتثقلها بالهموم. كان يعجبه أن يتحدث عنها لزوجته أو لابنه الكبير، ولكنه في النهاية يجد نفسه ممسكا عن هذا الأمر. ونادراً ما ينجح في لملمة شتات تلك الكوابيس ليتذكر تفاصيلها بعد النهوض.
لم يبذل في ذلك اليوم جهداً يعينه للملمة ما دار في ذلك الحلم المقلق، وكان الصداع يطرق رأسه بحدة. كان شيئاً مثل حبل ثخين مضفور يلتفّ حول رقبته، وراح يضغط بشدة. شعر بالاختناق وكانت الأشياء من حوله قد بدأت تختفي ملامحها وتضمحل. قاوم الحبل بكل ما أوتي من إرادة، ثم وجد نفسه يصرخ ملء حنجرته بصوت مكتوم. هذا وليس غيره كل ما ورد في باله عن كابوس الظهيرة الذي نهض منه بعد أن ذاق سكرات الموت. عند تلك الساعة عقد العزم على العودة إلى مدينته دون إبطاء. استمع وهو ساهم لحديث ابنه حول استعادة الحكومة السيطرة على مدينة الناصرية وعودة الأوضاع إلى طبيعتها السابقة. شاهد مقدار الارتياح الذي ظهر على وجه زوجته.
كان يشعر بأنه يفكر لوحده، ويحاور نفسه، حين عرض عليهم رغبته العودة إلى مدينتهم بالرغم من جمل الإطراء والتضامن التي قدموها له. أخرج جملته بتثاقل وكأنه يلوكها تحت أسنانه.
ـ قد تكون النتائج غير سارّة، وقد نواجه قرارات صعبة أخرى، وربما نجد هناك من يتربّص بنا سوءاً، ولكن المهم أن لا نفقد السيطرة على أعصابنا ولا نتصرف بما يثير الحنق والبغضاء.
وبدوره، فإن الابن لم يحر جواباً وبدا وكأنه استعد لذلك منذ وقت ليس بالقصير قائلاً:
ـ ولكن الحكومة استردّت مواقعها وانتهى الأمر واستتبّ الوضع في جميع أنحاء المحافظة.
أنعشه هذا القول، فنظر نحو ابنه نظرة ثناء واستحسان، واتجه نحو الكرسي الوثير القريب من النافذة وهوى بجسده المتعب فوقه، كما لو أنه كان قد قام بعمل بدني مجهد، ثم راح يفكر ملياً بأمر العودة. ففي حالات الريبة من هذا النوع، فإن الإنسان لا يبخس ذكاءه ليذهب مباشرة إلى الاحتمال الأفضل، وإنما عليه البحث في جميع الاحتمالات، السيئة منها والحسنة. شعر بعض الشيء بالاسترخاء فشرع يدندن بصوت خافت بأغنية خطرت له تلك اللحظة.
لم تكن العشرون يوماً التي قضوها في بغداد مبعثاً لراحته، فلم تبد له معالم العاصمة بذات أهمية، رغم ما انتابها من تجديد. ووجدها على غير ما عرف عنها في زياراته السابقة. وجولاته في أحيائها كانت في الغالب مبعثاً لذعر وكدر، وكم تمنى، لولا مرافقة عائلته له، أن يلزم الغرفة المركونة في الطابق العلوي من الفندق، ليقضي بقية أيامه دون أن يواجه عيون الناس. تلك العيون الجاحظة الخائفة الحاملة لأسئلة حائرة ومحّيرة تجوب بها شوارع كئيبة مسكونة بالفزع والرهبة.
لاذت الزوجة بالصمت، ومثلها فعل الباقون، في حين راح هو يعبث بجهاز المذياع دون أن يوقفه عند محطة إذاعة بعينها، وكانت عجلات السيارة تلهب الأرض، مولية الأدبار خارجة من بغداد باتجاه الجنوب. لم يستغرق اتخاذ القرار بالرحيل غير القليل من الوقت، ولم يخطر في باله ما سوف ينتابه من خوف، أو ما يواجهه من مصاعب عند عودته إلى مدينته. علت وجه زوجته ابتسامة حزينة خائفة وهو يطالعها في مرآة السيارة الأمامية، حيث لاذت بالصمت في المقعد الخلفي. كان الحزن بادياً على ملامحها وكأنه والذعر قد لازماها طيلة حياتها. كان صوت محرك السيارة وعجلاتها يخرق الصمت المطبق الذي لفّ الجميع، وهذا ما كان يجعله يضغط على عتلة الوقود بقوة. الهواء العليل الرطب يبث رذاذاً خفيفاً يوحي بالنعاس، ولكنه بقي يحملق في البعيد بعيون جاحظة.
لم يشاهد مثلما المرات السابقة حزام الضوء الذي يحيط مدينته حين كان يعود إليها أوقات المساء. فحين اقترب منها ذلك اليوم كانت وكأنها استسلمت كلياً لغول الظلمة الثقيل، فشعر بالشفقة المشوبة بالاشمئزاز والخوف.
*****
لقد أمضى الشطر الأكبر من حياته في كدّ وتعب من أجل الظهور بمظهر محترم يليق بمقام عائلة ميسورة، وكان ذلك مفتاحاً لحياة سهلة رغيدة يجدها اليوم مع تفتت الزمن تتسرب نحو هاوية المجهول مثلما المرة السابقة.
اليوم تـُعاد التجربة مرة أخرى. فكر بذلك وهو يطالع من خلال النافذة لون المساء المغبرّ الذي تبرق فيه، بين الحين والآخر، ومضات من ضوء كان يعرف مصدرها. فقد خبرها سابقاً في العام الواحد والتسعين،واليوم مثلما السابق ثمة وحشة تتجول في الجوار وتملأ روائح الرعب أزقة الناصرية جميعها.
كان النعاس يداعب جفونه، ولكن لم تكن له رغبة بالنوم، شعر بأن رأسه فارغ كلياً من أية أفكار تحيط بما يحدث، لا شيء أمامه غير هلام ممكن أن يصير أي شيء أو كل شيء. يعدّهم الآن جميعاً واحداً واحداً، أبناء مدينته التي احتضرت واستفاقت ألف ألف مرة، رعباً وجوعاً وقهراً وإذلالاً.
ساءت الأمور وأخذت بالتدهور منذ أول أمس. لا يقين يوقف ما يحدث، لأن الرجال الذين يحيطون المدينة الآن ليسوا هم رجال شوارتسكوف عام واحد وتسعين. أولئك الذين تقدموا ثم كبلتهم قياداتهم بأوامر، وحددت لهم خطوطاً حمراً، ليتركوا بعدها الناس في هياج وربكة، وليأتهم الموت مع دبابات وصواريخ وطائرات صدام.
لقد جاء الآن آخرون دون خطوط منع أو مصدات. جاؤوا لإنهاء خصومة وبتر عضوٍ فاسدٍ علق طويلاً بأجسادهم. لا يخفون إعلان نواياهم، بل يصرحون بها على رؤوس الأشهاد. يختارون نقطة الانطلاق مثلما يبحثون عن ركائز عميقة في الأرض. وقائع تصورها محطات الإذاعة والتلفزيون. مشاهد تبعث الرعب في الأوصال . جنود ودبابات ومصفحات تجتاز الترع والقفار والبساتين، وكأنها أسراب جراد تلتهم الزرع. يقضمون الأرض بسرفات عجلاتهم قطعة إثر قطعة دون عدوّ يواجهونه، سيل جارف تنبئ عنه غمامة تراب تتخم الأفق وتحجب الشمس.



#فرات_المحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوقوف عند الزمن الأخر /ج3
- الوقوف عند الزمن الأخر/ج2
- الوقوف عند الزمن الأخر
- اللجوء: لا ضمان في البحث عن بر الأمان
- الموالاة كمدخل لإحكام السيطرة على السلطة
- حماية الطفولة من عبث تجار العنف
- صناعة الإرهاب إعلاميا
- أرواح للشجر.. ج الاخير
- أرواح للشجر.. ج الأول
- مجالس المحافظات صراع الأخوة الأعداء
- بقعة الدم
- تلك الأيام المضنية : ج الأخير
- تلك الأيام المضنية ج 4
- تلك الأيام المضنية ج3
- تلك الأيام المضنية 2
- تلك الأيام المضنية 1
- قانون تنظيم العمل الحزبي عماد الديمقراطية
- يوم أخر من مدونات الوجع/ج الأخير
- يوم أخر من مدونات الوجع ج2
- يوم أخر من مدونات الوجع ج1


المزيد.....




- كرنفال الثقافات في برلين ينبض بالحياة والألوان والموسيقى وال ...
- ما الأدب؟ حديث في الماهية والغاية
- رشيد مشهراوي: مشروع أفلام -من المسافة صفر- ينقل حقيقة ما يعي ...
- شاهد الآن ح 34… مسلسل المتوحش الحلقة 34 مترجمة.. تردد جميع ا ...
- مصر.. تأييد الحكم بالسجن 3 سنوات للمتسبب في مصرع الفنان أشرف ...
- بعد مسرحية عن -روسيات ودواعش-.. مخرجة وكاتبة تواجهان السجن ف ...
- بقضية الممثلة الإباحية.. -تفاصيل فنية- قد تنهي محاكمة ترامب ...
- مصر.. القبض على فنان شهير بالشيخ زايد بتهمة دهس سيدتين
- صلاح الدين 25 .. متابعة مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 25 م ...
- غزة تحت النار.. الشعراء الشهداء إذ ينثرون إبداعاتهم


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - الوقوف عند الزمن الأخر /ج4