أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - الوقوف عند الزمن الأخر/ج2















المزيد.....

الوقوف عند الزمن الأخر/ج2


فرات المحسن

الحوار المتمدن-العدد: 7876 - 2024 / 2 / 3 - 16:25
المحور: الادب والفن
    


ذلك اليوم يخلد في الذاكرة حيث كان من أكثر أيام مدينة الناصرية تهيباً وخوفاً وإيلاماً، فمع شروق الشمس وزخّات المطر المتقطعة، بدأت أوسع حملة لجمع الرجال في أضخم قاطع من قواطع الجيش الشعبي، وجنـّد للمهمّة أغلب، لا بل جميع، الرفاق من منتسبي الحزب. لقد وعد مسؤول المدينة الحزبي قيادة الحزب بذلك. فقد جاء في برقيته الموجهة إلى القيادة في بغداد، والتي أعاد مذيع التلفزيون قراءتها في جميع نشرات الأخبار وليومين متتاليين، أن تكون قواطع مدينة الناصرية للجيش الشعبي التي سوف تتصدى لغزو الأعداء إن حدث، أكبر من كافة قواطع باقي محافظات العراق.
عاشت المدينة منذ الصباح الباكر ساعات الترقب والحذر، وخيّم على أجوائها خوف ظاهر، ومع أصوات الضربات الساقطة بشدة فوق الأبواب في أغلب أزقة المدينة وظهور رجال الجيش الشعبي عند مفترقات الشوارع، أعلنت مساجد وحسينيات المدينة وفاة الحاج محيسن أبو رجب. احتشد بعض رجال عند باب الدار وكان عويل النساء يسمع من الداخل. وقف رجب وولداه يشرفون على التحضيرات والتهيئة لرفع الجنازة ووضعها فوق السيارة المركونة جوار السياج الخارجي. لم يشارك في التشييع سوى أنفار قليلة من المقربين، اغلبهم من الشيوخ أصحاب محيسن أبو رجب. فلم يتسنّ لرجال الحزب حضور الجنازة، وهذا لوحده كان كافياً لجعل رجب في أشد حالات الإحباط والضيق.
انطلقت أربع سيارات لا غير، تخترق شوارع المدينة التي بدت شبه خالية من الحركة. ولكن الأكف كانت ترتفع برتابة تحيي موكب جنازة أبو رجب. وتخطـت السيارات مخرج المدينة تاركة وراءها مدينة تعيش القلق والخوف، وتنتشر بين طرقاتها مجاميع رجال، متوعدة الناس بأقسى العقوبات إن لم يستجيبوا لنداء الحزب.
قدمت لرجب اعتذارات حارة وحميمة أثناء مراسم الفاتحة التي أقيمت في بهو البلدية الكبير. وقد تقبل رجب تلك الاعتذارات بروح راضية واعتذار متبادل؛ فهو وكما سمعه بعضهم " يقدر الظروف ويدركها جيدا، ويعرف أن مهام الحزب والوطن يجب أن تأتي دائما في المقدمة. ومثلما يقول المثل، فالحي أبقى وأوجب من الميت، وصاحب الإرادة والعزم، يجب أن يكون مثلي ويقرّ بأهمية وصواب القرارات التي تتخذها سلطة الحزب والثورة لمصلحة هذا الشعب العظيم "

****
كانت المدينة، حالها حال المدن الأخرى، تترقب بخوف وتوجس ما يطرأ من أحداث، وما يتوارد من أخبار مفزعة عن معارك شرسة وقتلى بالعشرات. كان قصي الابن الأكبر للحاج رجب يلتقط الأخبار من محطات التلفزيون وينقلها لأبيه، مثلما الإشاعات التي تتداولها الألسن في المدينة. جميع الأخبار تؤكد بأن الهجوم بدأ من الجنوب، فالقوات البريطانية تحاصر الفاو، والقوات الأمريكية تتقدم من غرب النهر باتجاه مدينة الناصرية، وشوهدت طلائعها تقترب من منطقة تل اللحم، والبعض تحدث عن إنزال وأرتال كثيفة من الجيوش شوهدت قرب جسر الهولندي.
كان رجب قد استقر على أمر وهيأ نفسه لجميع الاحتمالات، ولكنه لم يكن يعي ما هو قادم مع هجوم القوات الأمريكية. فالواقعة ليست مثل سابقتها عام ما بعد هزيمة الهروب من الكويت. كل الوقائع تشير لحدث جديد مختلف. ببطء شديد حرّك رجب ذراعيه وهزّهما هزاً خفيفاً كأنما راودته فكرة محبطة يريد السيطرة عليها والتحقق منها. ما كان له أن يترك مكتبه دون إحكام أقفاله. ربما تطول أيام المعركة ويجوع الناس ويخرج اللصوص من مخابئهم مثل الجرذان يقضمون كل شيء. كل شيء جائز. كيف فاته مثل هذا الأمر. حتى أوراق المقاولات وغيرها تركها في المكتب. يا للخيبة، جميع استعداداته سوف تذهب أدراج الرياح ويخسر الكثير. الشيء ذاته تعرض له في أحداث الانتفاضة عام واحد وتسعين.
سرح بفكره عند تلك الأيام الصعبة المفزعة،التي عاشها وعاشتها مدينة الناصرية، فشعر بغصة تملأ صدره. فإن كان في دخيلة نفسه يحتقر كل تلك الوقائع والعلاقات والخوف الذي أجبره ليكون الأقرب لرجالات الحزب والسلطة، فإنه اليوم بات يتوجّس من تكرار تلك الأحداث القاسية التي مرّت عليه وعصفت بمدينته أيام انتفاضة ربيع عام 1991. فهو لا يعلم إن كان بقي لديه من القدرة ما يمكنه احتمال إهانات جديدة، مثلما تلقاها حينذاك من بعض الغرباء الذين سيطروا على المدينة بعد هزيمة الجيش إثر نهاية غزو الكويت.
شعر بحزن عميق يخيم على روحه، فلزم فراشه حتى ساعات المساء. كان تفكيره مشوشاً مثل روحه التي بدأ الفزع والجزع يسيطران عليها. هل لهذه الأمور أن تنتهي ذات يوم. هكذا فكر وهو يمدّ جسده الناحل فوق السرير ويطالع المساء الهابط بغبرته المكفهرة خارج النافذة. وراحت تتناهى لمسامعه رشقات الرصاص تأتي أصواتها من بعيد تصاحبها بين الحين والآخر أصوات مدافع تهدر معلنة اقترابها من المدينة.
لم يكن يحسب حسابات خاصة يتوقف بها ملياً عند الخيبات والآلام التي مرت عليه، بل كان يجعل كفـّتها تهوي دائماً حين يقارنها بوفرة ما اكتسبه من نجاحات على مستوى حياته العملية والعائلية، وما ذاقه من أفراح ومسرّات وانتصارات، ولكنه الآن يشعر بأن شيئاً جديداً يطرأ على حياته وحياة مدينته التي أحبها بكل جوارحه وقناعاته. شيء آخر يدفع الماضي إلى الخلف،يسحبه نحو الانهيار. ما الخلاصة التي سوف تستقر عليها الأشياء، ما لون الحياة القادمة وما كنهها؟ لم يكن صراع الخير مع الشر ليستكين أبداً في هذه المدينة البائسة، وروحه أيضاً ما كانت تدرك جيداً أن هذا الصراع لن يهدأ يوماً ما، هذا ما كان يعذبه ويقلقه ككابوس يقضّ المضاجع. هؤلاء الناس البسطاء التعساء الشقاة عانوا كثيراً وغطسوا حد الأكتاف في الفقر والخيبات، وابتلعهم الخوف في جوفه مثل سعلاة لاهية عابثة تتلذذ بسماع صراخ وعويل ضحاياها. ولكن، ويا للعجب، فإن تلك القلوب لم تتخلّ يوماً عن فطرتها الطيبة البريئة المفعمة بالحياة. لقد محضوه بلا شروط محبّة دون ثمن، وقابلهم هو بحبّ مماثل، بالرغم من كون ذلك الحب، وفي بعض الأحيان، لم يكن ليخلو من حسابات الربح والخسارة. اليوم يشعر وبإلحاح مفرط أن حساباته تلك كان لها الكثير من القيمة. وهو يعرف حق المعرفة أن حظوته عند أهل مدينته كانت قد حصدت الكثير من النجاحات، وهذا ما أدركه أيام انتفاضة عام واحد وتسعين. فمساعداته وإحسانه ما كانت تبحث عن غير رضا وطيبة الناس وقناعتهم بانتمائه لهم، ولم يجعل من موضوعة حساباته في كسب محبّة الناس أثم يلوث حياته.
اليوم، وفي قرار روحه، يشعر بوجود مهاوٍ دون ملامح واضحة، ولكنها من الجائز أن تسبب له ولعائلته الكثير من الخسائر والعذاب. حياته بكل تفاصيلها ووقائعها تحتكم اليوم عند حدود تلك الأصوات الثقيلة المدوّية للقنابل المتساقطة، وأزيز الرصاص الذي تثقب حدّته سماء المدينة دون رحمة. لو أن أحداً سأله اليوم عما أدركه في هذه الحياة لأحس بمرارة في الحلق وشحّ كلمات، وحار بعجزه عن الإجابة. مع المجهول القادم..ربما هو اللاشيء أو كل شيء. هذا ما تفتق عنه كامل ذهنه عند تلك اللحظة الرجراجة التي تعدم فيها القدرة على التوقـّع واكتشاف ما يخبؤه المستقبل. فهو لا يملك الإدراك والتقدير للواقعة، فكيف تراه يخمّن أو يتعرف على ما تفصح عنه نهاية تلك المعارك.



#فرات_المحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوقوف عند الزمن الأخر
- اللجوء: لا ضمان في البحث عن بر الأمان
- الموالاة كمدخل لإحكام السيطرة على السلطة
- حماية الطفولة من عبث تجار العنف
- صناعة الإرهاب إعلاميا
- أرواح للشجر.. ج الاخير
- أرواح للشجر.. ج الأول
- مجالس المحافظات صراع الأخوة الأعداء
- بقعة الدم
- تلك الأيام المضنية : ج الأخير
- تلك الأيام المضنية ج 4
- تلك الأيام المضنية ج3
- تلك الأيام المضنية 2
- تلك الأيام المضنية 1
- قانون تنظيم العمل الحزبي عماد الديمقراطية
- يوم أخر من مدونات الوجع/ج الأخير
- يوم أخر من مدونات الوجع ج2
- يوم أخر من مدونات الوجع ج1
- محنة العراقيين بين فيتو أمريكا وعطوة طهران
- العراق وسباق المسافات الأمريكي


المزيد.....




- حديقة مستوحاة من لوحة -ليلة النجوم- لفان غوخ في البوسنة
- عودة الأفلام الرومانسية إلى السينما المصرية بـ6 أعمال دفعة و ...
- عائلات وأصدقاء ضحايا هجوم مهرجان نوفا الموسيقي يجتمعون لإحيا ...
- كيف شق أمريكي طريقه لتعليم اللغة الإنجليزية لسكان جزيرة في إ ...
- الحلقة 2 الموسم 6.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 166 كترجمة على ...
- مهرجان نوفا للموسيقى: قصص لم تُروَ من قبل ناجين من هجوم حماس ...
- لأول مرة.. الكشف عن مخطوطات قديمة من مكتبة خان القرم
- روسيا.. تدريب روبوت على الرسم بأسلوب الفنان التشكيلي
- في الذكرى السنوية للسابع من أكتوبر.. خامنئي يغرّد باللغة الع ...
- شموع وصلوات وموسيقى في إسرائيل لإحياء ذكرى هجوم 7 أكتوبر


المزيد.....

- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري
- هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ / آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
- توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ / وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
- مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي ... / د. ياسر جابر الجمال
- الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال ... / إيـــمـــان جــبــــــارى
- ظروف استثنائية / عبد الباقي يوسف
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل ... / رانيا سحنون - بسمة زريق


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - الوقوف عند الزمن الأخر/ج2