أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - الوقوف عند الزمن الأخر /ج3















المزيد.....

الوقوف عند الزمن الأخر /ج3


فرات المحسن

الحوار المتمدن-العدد: 7879 - 2024 / 2 / 6 - 12:21
المحور: الادب والفن
    


وقائع حياته،عمله، مكاسبه، عائلته، الناس المحيطون به، سهراته، أفراحه وأتراحه، كلها ارتبطت بوثاق قوي مكين. شبكة من خيوط محكمة الحبك، لم يشأ أن يدعها تضمحل أو تتمزق وتذهب هباءً. لقد عززها برباط متين حاكه مع الآخرين بعناية ودقـّة ، رجال السلطة والحزب، نساء ورجال هامشيّين وذوي دالـّة من أهل المدينة. كان يعرف جيداً التنوع الغريب لعلاقاته تلك، ولكن روابطه مع رجال السلطة والحزب كان لها طابعٌ خاصٌ. وكان يدرك أيضاً أن تلك العلاقة، رغم ما انطوت عليه من مصالح مشتركة وتوسعت لتكون علاقات اجتماعية وصداقات، وصل بعضها حد التشابك في الخصوصيات. بالرغم من كل ذلك فقد كان يشعر بأنها بعيدة كل البعد عن هواه ورغباته الروحية والمعرفية، فهو يمقت مقتاً لا حدود له تلك الأفكار والنقاشات السياسية الحزبية، وما كان ليتخلى عن اعتقاده، بأن الرجل العملي هو آخر من يمارس العمل السياسي، أو حتى الشروع في حديث حول مشاكل ومسائل حزبية، والركض وراء مناصب حزبية لا قيمة عملية لها، وعَد هذا الحال مضيعة للوقت أو لهواً فارغاً، فالعمل الحزبي يجعل المرء يلج مسالك هو في غنى عن السير فيها، ويبدو معها المرء غير واضحٍ في سلوكه وخطواته، ومتعصباً لمواقفه ومراوغاً ومهاتراً حتى في البسيط منها. وفي الغالب لن يكون قادراً الإفصاح عن ذاته.
كل ذلك كان حقيقة ماثلة أمامه. ولكن المصيبة كانت تتسرب من تحت قدميه، ويشعر بها مثل حية رقطاء تلتف صاعدة لتحيط جسده بالكامل. شباك تحاك بنشاط وغرابة فتلتف خيوطها لتربط حياة البشر دون أن تسألهم عن خياراتهم بمعنى من المعاني. ورغم أن الفعل يظل غامضاً، ولكنه في النهاية يتجلى بوضوح في جميع زوايا ومقتربات الحياة وعلى مدار الساعة. تلك الأيام بمرارتها ولؤمها، ما زالت لحد الساعة ماثلة في ذهنه، حاضرة حيّة متيقظة وفاقعة.
يتذكر اليوم تلك الوقائع بحيثياتها وتشوهاتها. عند الباب الأمامي لمبنى البلدية، بادره أبو مصعب المسؤول الحزبي لمنطقة حيّ البكر، السلام والتحية. للمرة الأولى يتحدث معه، رغم أنهما سبق والتقيا في مرات متباعدة لقاءات عابراة، دون حديث أو حتى سلام. أمسك بكفـّه وهزّ يده بحرارة وبوجه رضي وابتسامة مشرقة، سأله إن كان يوافق على دعوة خاصة في بيته. يتذكر جيداً تلك الساعة حين جاء لمبنى البلدية وسط المدينة ليقدم عرضه الخاص لمقاولة تشييد بناية الجيش الشعبي في حي البكر. كان يستحيل عليه رفض الدعوة، وقرّر دون تردد تلبيتها. كانت تلك الجلسة بداية البدايات، لا بل كانت مفتاحاً لأحداث جسام تلتها.
منذ البداية أسترسل أبو مصعب بكلام مبهم، بعدها راح بمبالغة فجة توصيف شخصيته وقدراته، ثم ولج حديثاً جديداً عن السلوك والأخلاق ومصالح الناس وحاجات الحزب وبرامجه المستقبلية، ومن ثم، وبكلام واضح وصريح، طرح ما أراد الوصول إليه، فكانت المساومة وكانت هناك حجج ونيات، كان عليه أن يكون دقيقاً وحذراً في توصيفها وفهمها، ومع كل ذلك الحذر والتطيّر، سمح لنفسه في النهاية أن يوافق أبو مصعب رغباته، مع الحذر وتفادى الزلل. وجد نفسه يذعن شيئاً فشيئاً لتلك المساومات التي كانت صفقات في الحصول على المقاولات مقابل رشىً. وكان الاضطراب والاشمئزاز مع تقدم الصفقات قد اختفيا كلياً من روحه. صحيح أن البداية كانت صغيرة بمكاسبها، ولكنها فتحت له الأبواب ومهّدت له مسالك، ما كان بمقدوره الولوج وسطها. وصارت بناية المحافظة والكثير من موظـفيها، وكذلك أعضاء مهمّون في الحزب، مجرد معابر مهيأة ووافرة بالطمأنينة. لم تكن الحياة خالية من كلمتي " فيد وأستفيد " ولكن هذا المعنى اختلف بالنوع والحجم، وبدت الأمور تأخذ منحىً آخر، فكان يفرحه معها أن تتاح له فرصة اكتشاف العالم الخاص بهؤلاء الرجال. وبالرغم من التظاهر عن عمد بعدم الاهتمام أو ملاحظة ما يدور في حياتهم الحزبية والمهنية، فقد كان يحتفظ في ذهنه بجميع المشاهد الخاصة بحياتهم، رغباتهم وأهوائهم والكثير من أسرارهم، حتى العائلية منها، وهو يدرك أيضاً أنهم يعرفون مثل هذا الأمر بشكل أو آخر، ولكن هذا لم يكن ليمنعهم في أن يودعوه أسرارهم وأسرار غيرهم دون تحفظ.
هل كان عليه أن يميز بين سلطة الشيطان وسلطة الرحمن، في ذلك الوقت وتلك الحومة التي زلـت إليها قدماه دون رغبة التوقـّف أو الحذر. ولِمَ الحذر والخوف ؟ هل كان عليه أن يصبح شخصاً آخر لينأى بنفسه بعيداً عن تلك الأجواء؟ ولو خُيّر في ذلك، فهل يمتلك القدرة على دفع الخوف جانباً ورفض ما يعرض عليه؟ ما كان سيصبح عليه الحال ؟ هل كان من الممكن للأمور أن تسير بشكلها الطبيعي؟ أم أن كل شيء سيتعرض للانهيار؟ بين هذين الأمرين، لا يمكن أن يرجح غير خيار واحد. الحيرة والتردد لا يمكن للمواعظ والنصائح أن تفك عقدتهما، بل ترتسم هناك صورة واضحة لرغبات مكبوتة كانت ترزح بعيداً في روح البشر، هي كومة من عقد ووجدانات وأمانٍ دون تسميات واضحة، ترتسم عند لحظة الخيار بين حالين، بين مشهدين، بين حياتين، لا بل هما، وفي ذلك المنعطف، خيار بين الموت والحياة، فأين من كل ذلك نصائح الروح والوجدان. قباحة وحماقة كانت، وظلت كذلك وسوف تبقى. ولكن الخوف لم يكن في ذلك الاختبار شذوذاً، نتفاً من شظايا لخيار آخر. كل تلك الصفقات والمساومات ما كان القلب ليبتذل بها، ويلغي معها كلياً ما يمليه الضمير والروح الشغوفان بحب الناس من أهل مدينته والعطف عليهم. هؤلاء القوم الذين قادتهم الأقدار نحو مرارات لا حدود لها. هؤلاء المعذبون الواقفون يتفرجون على ما يحدث، ولا يملكون من قرارهم شيئاً، والخوف يلفهم بقسوته ويسلـط عليهم وحشته، هؤلاء البشر ما كانوا غير عيون تتلصّص فتراها مسّهدة معذبة مع كثرة ما تلتقطه وتخزنه من صور الخسارات والنكبات.
أحَبَ في تلك العيون استكانتها وقدرتها على كتم الألم، وبدوره، ما كان ليوّجه لأحد من أهل مدينته كلمة قاسية أو يواجههم بصدود. صحيح أنه يفعل هذا وفي كثير من الأحيان إشفاقاً وتأسياً. ولكن دخيلته حَوت شغفاً وحباً كبيرين لهم لا يمكن المساومة عليهما
هذه اللحظات الحارقة أيقظت في روحه عواطف محبة ومودة غريبة وطافحة،لأهل مدينته. شقياً كان ساعتها وهو يدرك المجهول الذي لا يفقه كنهه والذي راح يلف المدينة ويثقب سماءها بدويّ الرصاص ولعلعته.
كانت نفسه المكروبة قد جادت اليوم بألمها وهي تلملم ذكرى الماضي القريب. ذاك الأمس المرمي ثقيلاً راكداً في الذاكرة. أيام موحشات صعاب، أيام انتفضت فيها تلك الأرواح المعذبة الكظومة لتفصح بقوة عن خزين عذابها ووجعها. تلك انتفاضة الناس الذين أُطلقوا من قمقمهم الدهري يبحثون عن زمن ينصفهم، ويستعرضون في وجه جلاديهم بأس شجاعتهم وتحدّيهم. يتذكر الآن أيام انتفاضة مدينته، وكيف حُشر وسط مجموعة من الرجال في غرفة ضيقة من بناية البلدية. دُفع بخشونة وسط الحشد تصاحبه شتائم لم يعهد أن وجهت له مثلها من أبناء بلدته. لم يكن ليتعرف في بادئ الأمر على تلك الوجوه التي سحبته من أمام باب مكتبه ودفعت به نحو جوف السيارة، ولكن راوده اعتقاد بوجود بعض ممن كان قد شاهدهم سابقاً من بين تلك الوجوه المنقّبة. كانت هتافات التكبير تتردد في أنحاء المدينة وصوت الرصاص يلعلع وصفيره يخترق الرأس بحدّة، دون أن يعطى المرء فسحة من تفكير. امتد أمر الحجز حتى المساء حين بدأت حركة فوضى تعمّ المكان، وكان هناك صراخ وعويل وثمة أشخاص يدخلون ليسحبوا أحداً من الغرفة، ثم بعد دقائق يأخذون شخصاً آخر، ولم يرجع أحد من هؤلاء المسحوبين إلى الغرفة بعد ذلك. كان ينتظر أن يحلّ دوره حين دخل أبو ساطع حاملاً سلاحه وطالع الوجوه ثم صرخ
ـ أبو قصي ...شتسوي هنا..منو جابك.. يمعودين شني... شصار بيكم...شتسوون ..جا هذا ما تعرفونه ؟
ثم سحب رجب من يده، وكانت وجوه عديدة تطالع الأمر بوجوم واستغراب. تقدم به نحو غرفة مجاورة حيث يجلس وسطها رجل معمّم يقف قبالته ثلاثة رجال بثياب رثة يتأبطون أسلحتهم. دون تردد وبلغة فيها الكثير من الحزم، طلب أبو ساطع إطلاق سراح رجب مع ضمانة من قبله، وتم الأمر بعد حديث طويل مرتبك وكلمات فيها نوع من الجفوة والمماطلة.
كان أبو ساطع صاحب سيارة قلاب، عمل طويلاً مع رجب في مواقع عمل كثيرة ويشعر بقيمة الروابط التي جعلته يحتفظ بمكانة خاصة لتلك العلاقة ولشخص رجب بالذات. فرجب هو من ساعده على امتلاك تلك السيارة القلاب، وقدم له العون المالي، وكفله في أمر شرائها. وقد عمل في أكثر المقاولات التي كان رجب يقوم بتنفيذها. وبالرغم من أنه كان مهذاراً متطيراً وسكيراً في الغالب، لكنه كان يحمل قلباً طيباً وروحًا تفيض محبة، وفوق هذا فهو يعمل بإخلاص منقطع النظير وينجز عمله بتفان وإتقان شديدين.
بعد أن أعاده أبو ساطع إلى بيته وتحاشياً من تكرار اعتقاله، فقد صحب رجب عائلته تاركاً وراءه بيته ومكتبه ومدينته التي سقطت بيد المنتفضين. اجتاز بسيارته طريقاً صحراوياً وصل في نهايته وسط مدينة النجف، فوجد أن الأمور ليست مثلما توقعها، وكان حال المدينة مثلما مدينته، فهي ملتهبة وتمور بالثورة، والغضب أخذ مأخذه من أهاليها. وبالرغم من انتصاف الليل، فقد قرر عدم البقاء ومتابعة طريقه نحو بغداد وبدأت الشكوك تساوره، فربما الانتفاضة قد تجاوزت الحدود ليجد بعدها بغداد كباقي المدن والقصبات التي مر بها.



#فرات_المحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوقوف عند الزمن الأخر/ج2
- الوقوف عند الزمن الأخر
- اللجوء: لا ضمان في البحث عن بر الأمان
- الموالاة كمدخل لإحكام السيطرة على السلطة
- حماية الطفولة من عبث تجار العنف
- صناعة الإرهاب إعلاميا
- أرواح للشجر.. ج الاخير
- أرواح للشجر.. ج الأول
- مجالس المحافظات صراع الأخوة الأعداء
- بقعة الدم
- تلك الأيام المضنية : ج الأخير
- تلك الأيام المضنية ج 4
- تلك الأيام المضنية ج3
- تلك الأيام المضنية 2
- تلك الأيام المضنية 1
- قانون تنظيم العمل الحزبي عماد الديمقراطية
- يوم أخر من مدونات الوجع/ج الأخير
- يوم أخر من مدونات الوجع ج2
- يوم أخر من مدونات الوجع ج1
- محنة العراقيين بين فيتو أمريكا وعطوة طهران


المزيد.....




- الإعلان الأول حصري.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 159 على قصة عش ...
- أكشاك بيع الصحف زيّنت الشوارع لعقود وقد تختفي أمام الصحافة ا ...
- الكويت.. تاريخ حضاري عريق كشفته حفريات علم الآثار في العقود ...
- “نزلها لعيالك هيزقططوا” .. تردد قناة وناسة 2024 لمتابعة الأغ ...
- تونس.. مهرجان الحصان البربري بتالة يعود بعد توقف دام 19 عاما ...
- مصر.. القضاء يحدد موعد الاستئناف في قضية فنانة سورية شهيرة ب ...
- المغربية اليافعة نوار أكنيس تصدر روايتها الاولى -أحاسيس ملتب ...
- هنيدي ومنى زكي وتامر حسني وأحمد عز.. نجوم أفلام صيف 2024
- “نزلها حالًا للأولاد وابسطهم” .. تردد قناة ميكي الجديد الناق ...
- مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا يطالب بوقف الحرب عل ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - الوقوف عند الزمن الأخر /ج3