أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - اسبوع الآلام -عشر روايات قصار















المزيد.....



اسبوع الآلام -عشر روايات قصار


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 7839 - 2023 / 12 / 28 - 23:54
المحور: الادب والفن
    


أسبوع الآلام
"عشر روايات قصيرات"
مختارات
محمود شاهين







(1)
أسبوع الآلام .

تحلق الأطفال الأيتام بملابسهم الخضر حول مائدة الإفطار الطويلة في الدير ، وجلسوا ينتظرون إشارة الأخت لويزا ليبدأوا تناول الطعام .
وقفت الأخت لويزا إلى رأس الطاولة وجالت بنظرها إلى الأطفال ثم إلى المائدة المؤلفة من الشاي والزعتروبعض القطع الصغيرة من الخبز الجاف الذي مضى على وجوده في الدير أكثر من أسبوع . وبدت الكآبة وقد أضفت على وجهها الجميل هيبة ووقارا ..قالت بينماىالأخوات ( مارتا ومريم وحنة وماري وتيريزا) يأخذن أماكنهن إلى جانب الأطفال :
" سيحضر الأب بطرس هذا اليوم وسنرى ما يمكننا أن نفعله "
وحبست دمعة كادت أن تسقط من عينها ، عندما كشفت للأطفال الحقيقة التي أخفتها عنهم طوال أسبوع قائلة :
" لقد انتهت مؤونة الدير منذ ثلاثة أسابيع ، وما تناولناه حتى اليوم ليس إلا بعض الفتات الذي تصدقت علينا به باقي الأديرة ، عندما طرق الأب بطرس أبوابها قاصدا "
ومسحت بيدها على رأس الطفلة " لوسيا " والطفل " يوحنا " الجالسين إلى جانبي رأس الطاولة ، وأردفت :
" والآن لنتناول ما يسره الرب "
وأخذت مكانها إلى رأس الطاولة ، ورسمت علامة الصليب قائلة " باسم الآب والإبن والروح القدس "
فردد الأطفال والأخوات من خلفها وهم يرسمون شارة الصليب ، وبدأوا بتناول الطعام .
****
" يا اورشليم يا اورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا .. هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا ... "
" وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع ، حينئذ يسلمونكم إلى ضيق ويقتلونكم وتكونون مبغضين من جميع الأمم لأجل اسمي ..."
وتنبهت الأخت لويزا إلى خطوات خفيفة تقترب منها ، فقبلت الكتاب المقدس وأطبقته . رسمت شارة الصليب أمام أيقونة العذراء، ثم نظرت خلفها. شاهدت الأب بطرس يقدم إليها:
- أب بطرس !
- أخت لويزا.
- لماذا أنت مكتئب هكذا يا أبتاه ؟
تصافحا .. نظر إلى أيقونة العذراء ثم إليها :
- ألا ترين كم هي مكتئبة !
نظرت إلى الأيقونة تتأملها فبدا لها الحزن يخيم عليها . رددت : " أيتها العذراء البتول ليتقدس اسمك "
ومكثا برهة يلفهما صمت كئيب، ثم خرجا إلى رواق منعزل في الدير .
- أخت لويزا .
- أبتاه .
- تشجعي قليلا واستمعي إلي .
-أبتاه ! أنت تعرف كم تشجعت وصبرت واستمعت !!
- تشجعي هذه المرة فقط يا أختاه لعل الرب يلطف بنا !
- ماذا لديك يا أبتِ؟
- لم أحصل على شيء يذكر يا أختاه !
- أبتاه !
- نعم يا أختاه إن الدنيا تضيق بنا على الرغم من رحبها ووسعها .
- هل نصرف الأطفال من الدير ؟
- إلى أين يا أختاه ليفتك بهم الجوع ؟ ألا تعرفين أنهم أيتام ولا أهل لهم ؟!
نظرت إليه بعينين يقطر منهما الأسى :
- لكني لا أحتمل مشاهدتهم يموتون بين يدي يا أبت !
- لويزا ؟
- أبتاه !
- قلت لك تشجعي!
- إن ذلك لأصعب علي من أن أحمل صليب يسوع .
- لويزا ؟
- ومع ذلك سأحتمل يا أبتاه .
- ليباركك الرب يا أختاه.
سارا قليلا في الرواق وأخذ يخبرها عما عزم عليه :
- اخت لويزا.
- نعم يا أبتِ .
- غدا تبدأ احتفالات اسبوع الآلام وموسم النبي موسى . ستخرجن الأطفال ليقفوا على جوانب الطرقات حيث تمر المواكب، وتجعلنهم يمدون أيديهم إلى المارة لعلهم يتصدقون عليهم .
- أبتاه !
- قلت لك تشجعي يا لويزا ..!
- لكن كيف تطلب مني أن أتشجع يا أبتِ بينما الدموع تترقرق في عينيك ؟!
- أنا ؟ كلا ! كلا يا أختاه هذه ليست دموعاً!
وأخذ يمسح عينيه بباطن كفه .
- سنفعل ما تراه يا أبتِ ولتكن مشيئة الرب .
- ليباركك الرب يا أختاه ... أما أنا فسأذهب إلى مقام النبي موسى ..
- تتسول أنت الآخر يا أبتِ؟
- إنها ليست المرة الأولى يا أختاه !
- متى تعود؟
- في نهاية الأسبوع .
- ليباركك الرب يا أبتِ.
- وليباركك يا أختاه .
وأخرج قريشات قليلة كان قد حصل عليها وقدمها للأخت لويزا وهم بالإنصراف . قالت له :
- ألن تشاهد الأطفال قبل انصرافك ؟
نظر إليها بوجه تلفه الكآبة:
- كيف لي أن أقابلهم ويداي خاويتان ؟ ماذا سأقول لهم حين يتحلقون حولي ويتعلقون بعنقي سائلين " ماذا أحضرت لنا يا أبانا ؟"ماذا سأقول لهم يا لويزا .. قبليهم عني يا أختاه، قبليهم... كيف حال لوسيا ويوحنا؟
- بخير يا أبتِ.
وانصرف خارجا متحاشيا أن يمر من أمام رواق الأطفال كي لا يشاهدوه أو يشاهدهم .
******
شلومو؟
- نعم يا أبي .
واقترب الطفل شلومو من والده المقعد:
- هل ذهبت إلى الكنيس ؟
- ذهبت يا أبي.
- وشاهدت الحخام إلياهو؟
- كلا يا أبي. لقد منعني الشماس من دخول الكنيس ، وقال إن الحاخام معتكف يفكر بشؤون أبناء الطائفة ، وأن الكنيس لا يستطيع مساعدة أحد !
صمت الأب قليلا وخاطب ابنه :
-غدا تبدأ احتفالات اسبوع الآلام وموسم النبي موسى فاخرج يا ولدي لعلك تحصل على شيء نقتات به .
- سأخرج يا أبي .
- والآن ساعدني يا ولدي لأجلس على الرصيف أمام القبو لعل أحدهم يتصدق عليّ بشيء.
شرع شلومو في مساعدة والده . وما أن أجلسه حتى سأله :
- ماذا اردد من قول الرب هذا اليوم يا أبي ؟
فكر الأب قليلا ثم قال :
" لأنه لا تفقد الفقراء من الأرض ، لذلك أنا أوصيك قائلا : افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك "
ردد الطفل ما سمعه وانطلق عبر أزقة حارة اليهود يترنم بكلمات السيد الرب، وصوت والده يلاحقه" ليباركك السيد ويحرسك ويضيء بوجهه عليك ويرحمك..."
****
انكمشت الطفلة " عائشة " في حضن أبيها الضريروألقت رأسها على صدره . قالت وهي ترقب القمريتلألأ بين النجوم:
- هل يجوع القمر يا أبي؟!
طوق الأب الضرير طفلته بذراعيه وضمها إلى صدره برفق وأخذ يداعب شعرها :
- كلا يا ابنتي القمر لا يجوع !
- لماذا يا أبي ؟
- لأنه لا يأكل يا حبيبتي !
- وكيف يعيش يا أبي؟
- يعيش بلا أكل يا ابنتي.
- والنجوم ؟
- والنجوم يا حبيبتي .
- ولماذا لا نحيا دون طعام كالقمر والنجوم يا أبي ؟
احتار الأب الضرير في أمر طفلته:
- نحن لا نستطيع ان نحيا بدون أكل يا حبيبتي .
- ولهذا أنا جائعة !
اعتصر الأب طفلته وعبث بخصلات شعرها :
- أنت جائعة كثيرا يا حبيبتي ؟
- كثيرا يا أبي سأموت من الجوع !
نزلت كلماتها على قلبه كما الجمر. ضمها معتصرا .. وود لو يتمكن من شق صدره ليخفها بين ضلوعه لعله يبعد عنها شبح الجوع :
- أنا أموت من الجوع عوضا عنك يا حبيبتي. غدا يبدأ موسم النبي موسى وسنأكل حتى نشبع !!
- وتشتري لي ثوبا وصندلا يا أبي.
- سأشتري لك كل شيء يا حبيبتي !
ومكثا مستلقيين أمام كهفهما الصغير في الوادي، والأب يروي لطفلته حكايات عن القمر والنجوم والجن وموسم النبي موسى .. حتى نسيت الطفلة جوعها وأسبلت جفنيها ونامت وهي تحلم بموسم النبي موسى والثوب والصندل إلى أن بزغ النهار.
*****
جلس الأب بطرس على قمة جبل الطور خاشعا:
" أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض .. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين إلينا . ولا تدخلنا في تجربة ، لكن نجنا من الشرير ، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد . آمين ."
ونهض وانطلق منحدرا الجبل بثيابه الرثة المرقعة وشعره المسترسل على كتفيه ، وذقنه طويلة الشعر ، يرتدي نعلا مهترئا تظهر أصابع قدميه منه .
*****
جمعت الأخت لويزا الأطفال وأرسلتهم اثنين اثنين ليقفوا في مختلف الشوارع والطرقات . وأرسلت بعض الأخوات مع الصغار منهم كي لا يضلوا الطريق .. وأوصت الأطفال أن يرددوا قول الرب أمام الناس.
*****
تفرق الألاف من البشر تحت أشجار الزيتون حول مقام قبر السيدة العذراء، وعلى سفوح جبل الطور وفي الوادي، وقد نصبوا الخيام والشراشف والبطانيات اتقاء لحر الشمس وبرد الليل .. وبدا بعضهم وهو يتجمعون في حلقات ويغنون ويرقصون بينما بعض النسوة يزغردن .
*****
انطلق موكب النبي موسى من ساحة المسجد الأقصى وقد تصدره بعض راكبي الخيول من الولاة الأتراك والعرب وبعض القضاة والأعيان ورجال الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي وبعض الوجهاء. وقد أحاطت بهم البيارق والأعلام المركزة على الخيول ، وسارت خلفهم فرق الإيقاع بطبولها الصغيرة والكبيرة ومزاهرها وكؤوسها النحاسية ، مرتدين ثيابا ملونة وينقرون على دفوفهم بإيقاعات رتيبة منتظمة .
وسارت خلف هؤلاء وعلى مسافة منهم جوقة تنشد وترتل الموشحات والمدائح النبوية . تبعها فرق وحشود من مختلف القرى والمدن وبدوا وهم يهزجون وينشدون :
صلوا يا أهل الفلاح ... عالنبي زين الملاح
شعره أسود يماني... كامل زين المعاني
ماله في الحسن ثاني... شأنه شأن الملاح
رمش جفنه والعيون...مثل زهر الياسمين
ارتسمت تحت الجبين ...مثل قوس في الصباح
له على الخد شامة ... أكتافه فيها علامة
قد ظللته الغمامة ... وجهه مثل الصباح !
*****
عشرات المواكب تتجه إلى الشرق عبر طرق تجتاز الجبال والأودية ، يتقدمها موكب الحكام والولاة والوجهاء ورجال الدين الذي انطلق من ساحة الأقصى .
تحتار الطفلة عائشة وهي تقود أباها الضريرعلى قمة هضبة ، تحتار في أمرها عندما طلب منها الأب أن تخبره عما تشاهده عيناها. تتوقف وتمسح قطرات العرق عن جبينها وتجلس والدهاعلى حجر وهي تجوب بنظراتها الجبال والسفوح والهضاب ، فينسيها جمال المواكب الجوع الذي يمغص أمعاءها، وتتمنى لو أن الله يعيد البصر إلى والدها ليرى ما تراه .
- اسمع يا أبي .
- أنا مصغ إليك يا حبيبتي.
- هناك على الهضبة المقابلة تسير جموع كثيرة , في المقدمة هناك من يركبون الخيول ويرفعون البيارق والأعلام الملونىة ، يرافقهم عشرات الفرسان ، ويتبعهم بشر يضربون على دفوفهم ألا تسمع يا أبي؟
- بلى إنني اسمع صوت الدفوف والآلات الموسيقية يا ابنتي . ما ذا يرتدون يا حبيبتي؟
يرتدون ملابس حمراء وخضراء وزرقاء وبيضاء ويرفعون رايات ملونة وآلاتهم تلمع في الشمس. هل تعرف من هم يا أبي؟
- إنهم الحكام والأعيان والشيوخ يا ابنتي. لا تسرج الخيول وتقرع الطبول والدفوف إلا لهم يا حبيبتي!
- تقصد الأتراك يا أبي؟
- نعم يا ابنتي إنهم الأتراك وأصدقاؤهم من العرب. وماذا ترين أيضا يا حبيبتي؟
- أرى بشرا كثيرين يا أبي يسيرون على مسافة من هؤلاء، إنهم يركبون البغال والحمير والجمال ،وقلة منهم تسير على الأقدام ، إنهم ينشدون يا أبي، وهناك من يركبون أطفالهم على الحمير ويغنون من حولهم ، ما أجمل الملابس التي يرتديها أطفالهم ! هل عرفتهم يا أبي ؟
- عرفتهم يا ابنتي ، إنهم الميسورون من أبناء المدن والقرى والبدو وقد أحضروا أطفالهم ليختنوهم في سهول النبي!
- إنهم يحملون خرافا وجديان في خروج دوابهم يا أبي، ويسوقون كباشا وأبقارا ..
- نعم يا ابنتي ليوفوا نذورهم إلى الله والأنبياء والصالحين وليذبحوا ذبيحة الختان .
- وهل سيطعموننا من لحمها يا أبي؟
- سيطعموننا يا حبيبتي.. وماذا تشاهدين أيضا يا ابنتي؟
- أشاهد آلافا مؤلفة من البشريسيرون على أقدامهم مبعثرين خلف الذين سبقوهم يا أبي، إنهم أكثر من كل الناس ويسيرون كالتائهين ، بعضهم يتعكزون على عصي ، وقلة منهم تمتطي الحمير. هل عرفتهم يا أبي؟
- نعم يا ابنتي إنهم من الفقراء والمتسولين !
- ولماذا أتوا يا أبي؟
- ليأكلوا اللحم اسبوعا في العام يا ابنتي.
- وهل يبقون لنا شيئا يا أبي؟
- سيبقون يا ابنتي سيبقون !
- ومتى سنصل إلى النبي يا أبي؟
صمت الأب قليلا ثم قال:
- إذا سهل الله طريقنا سنصل بعد الظهر يا حبيبتي.
- وكيف يسهلها يا ابي؟
- يجب أن يساعدنا أحدهم ويركبنا على حماره ، وإلا لن نصل يا ابنتي !
- وإذا لم يساعدنا أحد يا أبي ؟
- سنجد من يساعدنا يا حبيبتي!
وتطلعت عائشة إلى السماء وبسطت يديها وتضرعت إلى الله متوسلة ليرسل من يساعدهما ليصلا إلى النبي موسى مع الناس.
سمع الأب تضرعات ابنته فتضرع بدوره إلى الله :
" إلهي يا من حرمتني نعمة البصرومتعة الحياة ، ,جعلتني أصبر على ذلك ، أتضرع إليك أن لا تحرم طفلتي من الحياة وأن تيسر لها طريقها وتكون لها عونا، إلهي ..!"
- هل ننهض يا أبي؟
- ألن تخبريني أكثر يا ابنتي؟
- هناك مواكب صغيرة يا أبي تبدو قادمة من مختلف الاتجاهات ، وتسير عبر الطرق الجبلية والمنحدرات والهضاب .
- ايه يا حبيبتي!
ومد يديه يتحسس قدميها .. كانت ترتدي فردة حذاء واحدة في إحدى قدميها. تحسسها بيده ثم انتقل إلى القدم العارية . تحسس الخدوش وأماكن انغراس الشوك، ثم رفعها ووضعها على باطن كفه :
- هل تؤلمك يا حبيبتي؟
- قليلا يا أبي.
- لن تستطيعي السير يا ابنتي فالطريق طويلة ولا نعرف متى نجد من يساعدنا بحمار نمتطيه .
فكر قليلا ولم يجد سوى عمامته . نزعها عن رأسه ومزقها نصفين ، لف قدم الطفلة بنصف ورأسه بالنصف الآخر.
- والآن أليس أحسن يا حبيبتي؟
- أحسن يا أبي.
- لننهض يا ابنتي .
ونهض واقفا معتكزا على عصاه بينما الطفلة تمسك بيده اليمنى.
- اسمعي يا ابنتي.
- أنا مصغية يا أبي.
- انظري إلى أقرب طريق يمر معها الناس ، لنذهب ونجلس إلى جانبها، إلى أن يأتي من يساعدنا .. وراعي أن نجلس في مكان فيه ظل يا ابنتي.
جالت الطفلة بنظرها فوجدت أن الناس الذين يسيرون مع الوادي القريب منهما هم أقرب الناس إليهما . وهو طريق لا بد أن تجد فيه ظلا ..قادت أباها وأخذت تنزل السفح باتجاه الشرق وهي تنذره ليتحاشى الحجارة في طريقه .
*****
تتعثر خطى الأب بطرس . تصطدم قدمه بالحجارة . ينبجس الدم من ابهام قدمه اليمنى. يمزق من طرف ردائه ويلف اصبعه ، ثم يجاهد ليقلع شوكة انغرست في عقب قدمه اليسرى لكنه لم ينجح. ينهض سائرا على قدم ونصف لعدم تمكنه من أن يضع عقب رجله على الأرض. ينظر إلى مئات الناس السائرين من حوله، فيرى وجوها تدمغها الكآبة بأشكال مختلفة. يطلق بصره إلى الأمام ويسير بصمت.
*****
ينتشر أطفال الدير بين أشجار الزيتون وفي أحياء القدس العتيقة ، يمدون أيديهم إلى الناس، وتتلكأ ألسنهم وهم يبحثون عن كلمات يستدرون بها عطف الناس. ذاك ينقد أحدهم قرشا وتلك تقدم لآخر قطعة بسكويت وأخرى تقدم رغيف خبز.
ينطلق الطفل يوحنا عبر الازقة الضيقة في حارة اليهود ليبحث عن صديقه السابق شلومو. تشعر الطفلة لوسيا بالإجهاد وهي تعدو خلفه . تتوقف لتلتقط أنفاسها منادية .
- يوحنا ؟
يلتفت خلفه .
- انتظرني لقد أتعبتني.
ينتظرها ريثما تلحق به . يمسك بيدها وينطلقان . يشاهدان شلومويمد يده إلى المارة.
- ىشلومو؟
- يوحنا !
يتصافحان بحرارة .
- أيه .. كيف أنت وكيف الحياة في الدير ؟
- أحسن من التشرد لولا الفقر.
- من هذه الطفلة ؟
- صديقتي لوسيا من الدير.
- أحقا إن حياة الدير حلوة؟ ماذا تأكلون هناك ؟
- الخبز والشاي والزعتر والجبن إن توفر. لكنهم لا يدعوننا نخرج من الدير كثيرا.
- وكيف جئتما؟
- أرسلتنا الأخت لويزا مع أطفال الدير لنتسول.
- تتسولون ؟ ألم تنتهوا من حياة التسول بعد ؟
- لا أعرف . قالت لنا الأخت لويزا أنه لم يبق أمامنا إلا أن نتسول.
- أيه ! كنت أفكرفيما إذا يقبلون أن أنضم إليكم في الدير ، وها أنتم تعودون لحياة التسول . لقد عدلت عن فكرتي.
وسارواعبر الأزقة الضيقة في اتجاه حارة النصارى ليتسولوا فيها ، وبدا شلومو فرحا بصديقه المتسول القديم وصديقته الفاتنة.
******
مئات البشر يمرون من امام الطفلة عائشة وأبيها الضرير.. مر أحدهم يمتطي حمارا ، تشبثت بطرف ثوبه متوسلة : عماه أبي ضرير ، اركبنا على حمارك حتى نصل إلى النبي موسى ، ليمد الله في عمرك وعمر أولادك ، اركبنا يا عم !
ويبتعد الحماروهي تعدو إلى جانبه متشبثة بثوب صاحبه ، يدوس الحمار بطرف حافره على قدمها ، تجلس وتشرع في احتضان قدمها صارخة متألمة . تعود إلى أبيها وتجلس إلى جانبه تحت ظلال صخرة إلى جانب الوادي.
يمر عشرات من ممتطيي الحمير.. هذا يردف طفله أوامرأته. وذاك يردف والده العجوز. " من يمكن أن يستغني عن حماره ليردف عليه هذا المتسول الأعمى وطفلته إلى النبي موسى ؟!" بدا النبي موسى لعائشة أبعد من بلاد السند والهند التي يحدثها والدها عنها، حتى أن الحصول على ما يسدان به رمقهما، لم يعد صعبا أمام الذهاب إلى النبي.فقد تصدق عليهما بعض الناس بقليل من الخبز والتين المجفف. وبينما هي تتثاءب شاهدت بين الناس رجلا يمتطي حمارا يقدم مع الطريق ، أخذت ترقبه حتى اقترب منهما ، نهضت وودت أن تسأله ، غير أن هيئته كانت تدل على أنه متعب ومنهوك القوى ، فهل يتخلى لهما عن حماره ؟! وبدا وجهه لها لا يختلف عن وجه أبيها في التعبير الذي ارتسم عليه ." وهذا الذي يسير خلفه ممسكا بذنب الحمار، إنه يبدو منهوك القوى هو الآخر.."
نظر الرجل إليهما باستغراب وحزن وهو يمر من أمامهما ويتابع طريقه . خطر لها أن تخبر والدها :
- أبي لقد مررجل عجوز يمتطي حمارا ولم أسأله .
- لماذا يا ابنتي؟
- لأنه عجوز وقد لا يستغني عن حماره يا أبي.
- صفيه لي يا ابنتي ؟!
- له ذقن طويلة وعريضة يا أبي. وشعره يسترسل على كتفيه . ويتدلى صليب خشبي كبير على صدره .وينتعل حذاء مهترئاً ، والعرق يتصبب من جبينه، ويبدو منهكا من التعب، وأحسست أنه يتألم حين نظر إلينا يا أبي !
قاطعها الاب قائلا بحزم :
- اتبعيه قبل أن يبتعد يا ابنتني فلن يساعدنا إلا هو !!
انطلقت عائشة تعدو بين الناس إلى أن لحقت بالرجل :
" عماه عماه "
أمسك الأب بطرس بمعرفة الحماروشدها قائلا " هيش هيش" فتوقف الحمار. نظر الأب بطرس إلى عائشة متسائلا :
" ماذا يا ابنتي "؟
" والدي ضرير يا عماه خذنا معك إلى النبي موسى ، لم يقبل أحد أن يساعدنا "
نظر الأب بطرس إلى صاحب الحماروكأنه يستشيره . أطلق الآخر ذنب حماره ونظر إلى الأب بطرس فالطفلة ، دون أن يتكلم ، إلا أن الأب بطرس فهم من التعبير الذي ارتسم على وجهه أنه قد أوكل حماره إليه وهو حر في ما يتخذه.
أدار الأب بطرس رأس الحماروانثنى عائدا مع عائشة إلى أبيها ، وصاحب الحمار " حسن " يتبعهما.
أردفا الأب على الحماروأردفا عائشة أمامه وسارا خلفهما ..
*****
بدأت المواكب تتوالى إلى سهول النبي موسى . وسمعت أصوات الغناء تتردد من مختلف الشعاب والتلال:
سيدي يا موسى حلي لي دقت العدة
يلي المزاهر طول الليل مشتده
سيدي يا موسى حلي لي دقة الكاسة
يلي المزاهر طول الليل رداسه
****
يا زايرين النبي وش وصفت حجاره
سعيد من راخ لقبر النبي وزاره
يا زايرين النبي وش وصفت القبة
سعيد من راح لقبر النبي وحبه
****
سيدي يا موسى زرتك ابنية
والسنة زرتك وابني عإيدية!
****
أحاط رجال الجندرما بمبنى ضريح النبي وقد أقيمت حوله عشرات الخيم المخصصة لإقامة الباشوات والأغوات والوجهاء .. أخذ الناس يتوافدون ..
حط الباشوات ومرافقوهم في الخيم التي استولت على مساحة كبيرة من السهول المحيطة بالضريح . وعلى مسافة من هؤلاء أخذ وجوه العشائروالحمائل والمقربون إليهم يحطون رحالهم ، ولم يكن يفصلهم عن خيم الأغوات والباشوات والوجهاء سوى بعض الفرسان الذين أحاطوا بالخيم ، وبدا شيوخ المشايخ وهم ينسلون واحدا خلف الآخر ويخترقون حواجز الفرسان لينضموا إلى الباشوات والوجهاء.
وخلف هؤلاء تناثر آلاف البشروحطوا رحالهم تحت العراء أو نصبوا الخيم الصغيرة والبطانيات ، وأخذوا يجمعون الحجارة الكبريتية من سهول وأخاديد النبي ويشعلون فيها النارليطهوا الطعام أو ليعملوا الشاي.. وتعجب كثيرون لهذه المعجزة الإلهية ، فأخذ البعض يروون الأساطير التي تتحدث عنها :
قال بعضهم أنه عندما آنت ساعة النبي موسى خاطب الله وطلب إليه أن لا يدفن في أرض قاحلة ، حتى إذا ما جاء الناس ليفوا نذورهم وجدوا حطبا يطبخون عليه ذبائحهم . وعندئذ حلت المعجزة الإلهية بكل الحجارة المتواجدة في المنطقة ، ومنذ ذلك اليوم أصبحت نار النبي من حجارته. وظل الناس يرددون حتى اليوم " ناره من حجاره " لكن البعض اختلفوا مع هؤلاء ورووا الأسطورة بشكل مختلف ، إذ قالوا أن الرب جعل الحجارة تشتعل بعد أن مات النبي وجاء الناس ليقدموا القرابين والأضحيات فلم يجدوا حطبا ، فأنزل الله معجزته .. ولم يطلب موسى منه ذلك عندما آنت ساعته. وكثرت الإجتهادات والتفسيرات إلى أن تطرق راهب إلى الحجارة الكبريتية التي أنزلها الرب على سدوم وعمورة ليحرقهما بعد أن طغى أهلهما، حسب ما يرد في سفر التكوين في الكتاب المقدس، وقد تكون الحجارة من بقايا الحجارة التي أنزلت على المنطقة كلها.." المهم أن الحجارة تشتعل وأن ذلك من إرادة الرب " هكذا قال أحدهم ليحسم الأمر ..
****
أنزل الأب بطرس عائشة وأباها عن الحمار، وانضما وحسن "صاحب الحمارإلى جماعة من المتسولين كانوا يضطجعون منهكين على تلة منبسطة .وبدت الشمس وهي تميل إلى الغرب، وكان الإنهاك قد نال منهم . فاستسلموا إلى النوم .
*****
وقفت الأخت لويزا أمام الديرفي انتظار الأطفال. ظلت واقفة إلى أن عادوا جميعهم مع باقي الأخوات .أخذت تتفقدهم متلمسة خدودهم ورؤوسهم وهم يقدمون ما حصلوا عليه طوال اليوم . هذا يخرج بطعة قروش ، وهذا يحمل بضعة أرغفة من الخبز ، وهذا بعض قطع الحلوى ، وهذه تشكو الشرطي الذي صفعها حين سألته أن يعطيها شيئا، وتلك تلقت ركلة من أحدهم .. تكتم الأخت لويزا حزنها وتبتسم في وجوه الأطفال ، وتحتضنهم وتقبلهم وتشجعهم مداعبة ، مدعية أنهم سيحصلون في الأيام القادمة ما هو أفضل مما جمعوه هذا اليوم ، لا سيما وأن الاحتفالات ما تزال في بدايتها.
******
" ملعون من يضل الأعمى عن الطريق،ملعون من يعوج حق الغريب واليتيم والأرملة ، ملعون من يقتل قريبه في الخفاء، ملعون من يأخذ رشوة لكي يقتل نفس دم بريء ..."
ويصلح الأب المقعد من وضع جلسته بينما طفله شلومو يردد من بعده كلمات الرب. وما أن يحفظها جيدا حتى يخاطب والده :
- وماذا قال الرب أيضا لموسى يا أبي ؟
يطرق الأب رأسه وكأنه يبحث عن كلمات معينة ، وما يلبث أن يتكلم :
" لا تظلم أجيرا مسكينا ، وفقيرا ، من أخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك ، في أبوابك ، في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس ، لأنه فقير وإليها حامل نفسه "
ويستمر الطفل في الترديد بعد أبيه إلى أن يغلبه النوم فينام إلى جانبه .
*****
تهز الغجرية خصرها فتخشخش الجواهرمن حول سرتها .. يرفع أحد الحكام كأسه ليشرب نخب الغجرية ، فترتفع الأيدي بكؤوس الخمر، وتنطلق الآهات من أفواه الباشوات والشيوخ استحسانا وطربا . يحدق الشيخ علي إلى سرة الغجرية بعينين شرهتين . تدنو الغجرية منه ، تهز ردفيها، تتلوى وتمد رأسها نحو الشيخ ليشعل لها سيجارة كانت في فمها. يشعل الشيخ عود ثقاب ويمده نحوها .. تشمئز الغجرية عابسة وجهها ، وتدير رأسها جانبا معولة مستنكرة ، يعلو الضحك ، يحتار الشيخ في أمره . ينظر ‘لى جاره الآغا مستفسرا . يهمس الآغا في أذنه :
- كيف تشعل لها السيجارة بعود ثقاب يا شيخ ؟
- لكن بماذا أشعلها برب الكائنات ؟
- بورقة نقد من هذه الأوراق الجديدة !
- أه ما أغباني!
ويخرج الشيخ رزمة من الاوراق النقدية وينهض باتجاه الغجرية ، يشعل عود الثقاب بدفعة من الأوراق ويقربها من سيجارتها " لتحرق كل العملات الصعبة كرمال سرتك " يلقي بالدفعة المشتعلة أرضأ ويطأها بقدمه ، ويضع من باقي الرزمة ورقة تحت حمالة نهدها الأيمن ، ثم ورقة أخرى تحت حمالة نهدها الأيسر، ثم أخرى إلى جانب سرتها تحت النطاق الذهبي الرفيع الذي يطوق خصرها مزينا بالجواهر .. وينثر باقي الرزمة على رأسها ..يعلو التصفيق والهتاف وتشرع الغجرية في هز نهديها وباقي جسدها بعنف وسرعة فائقة . وتدور على نفسها رافعة فستان الرقص عن فخذيه وردفيها . تتلألأ الجواهر من حول سرتها وخصرها " ينسى الشيخ نفسه وهو يهيم في سرتها ويشرع في رقص أهوج محاولا تقبيل السرة ، وبالكاد حتى أتاحت له الغجرية ملامستها بشفتيه ..
*****
يجمع القرويون حجارة النبي ويشعلون فيها النار تحت القدور ، وعلى قمم الروابي والتلال وعلى المنخفضات والسهول.. تضطرم النار ويتأجج سناها ، فتبدو الأرض وقد أنيرت وظهرت في مشهد أخاذ.
يصطف القرويون في سوامر مستقيمة أو مستديرة ويشرعون في الرقص والغناء:
يا حلو يا بو ثلاث دقات عالمبسم
ون قدر الله نصيبك عندنا يقسم
ون قدر الله وخلتنا منايانا
والحنظل المر نسقيه لعدانا
ون قدرالله وخلتنا الليالي السود
لنضمن القوم ضمن الملح في البارود
*****
تزغرد النساء. تختلط الزغاريد بأصوات المغنين ، وأصوات الدفوف والموسيقى الآتية من خيم الباشوات والأغوات ، وأصوات الأناشيد والمدائح النبوية ، من مختلف الشعاب والتلال.
تلتصق الطفلة عائشة في حضن أبيها وترقب الأضواء المنبعثة من مختلف الأماكن .. وتستمع إلى الأغاني والأناشيد وعلامات فرح يشوبه الحزن ترتسم على وجهها .
يجلس الأب بطرس صامتا تحت جنح الظلام . يطرق مسامعه صوت قروي يردد بين الشعاب :
يا طايح الشام هات الشام عكفك !
ون حاربوك الجماعة صرت أنا صفك !
يا طايح الشام هات الشام عزندك !
ون حاربوك الجماعة صرت أنا عندك .
****
يختفي القمر خلف الأفق الغربي . تظهر النجوم وقد زينت وجه السماء . تبدأ الأضواء تخبو وتتلاشى تدريجيا .والأصوات تخفت ، ويبدأ بعض الناس في الإخلاد إلى النوم .
تتسلل الغحريات إلى خيم الباشوات المنفردة والجماعية! ويلتحف القرويون بأغطيتهم، ويفترش المتسولون الأرض وينامون شبه فرحين .
يجلس بائس أعمى على رابية عالية ، يشعر بالسكون وقد خيم على الجميع ، فيبدأ بتلاوة بعض الأيات القرآنية . يتسلل صوته عبر التلال، يبلغ مسامع الناس، يداعب صوته الجميل آذانهم ، يصرخ بعضهم باسم الله استحسانا وطربا . يبدأ صوت البائس يحتد شيئا فشيئا .. يستيقظ من لم يسيطر عليهم النعاس من الناس ، تصلهم الكلمات واضحة وجلية .
" يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون "
يستيقظ مئات الفقراء من نومهم ويصرخون مع المستيقظين وبصوت عال : " الله ! الله يسلم ثمك يا شيخ "
تتقلب الغجرية على فراش الشيخ علي .. تتعرى .. ينزع الجواهر من حول سرتها .. يمرغ صفحة رأسه على حوضها .. تتأوه .. تتلوى .. تتقلب يمينا وشمالا .. بطنا وظهرا .. يعلن الشيخ أمامها انه يمتلك العالم بأسره ...
*****
اصطف عشرات الرهبان بملابسهم الفاخرة في موكب منظم تظلله أعواد السعف المزينة بالأزهاروالأشرطة الملونة .. خرج البطريرك من الكنيسة وقد زاده اللباس الفاخر المزين بالجواهر الثمينة هيبة وجلالأ.. تقدم من الحمار الذي أسرج بسرج مزين بالذهب والفضة ، وأرسن برسن من الحرير الثمين الموشى بالخيوط الملونة .. فساعده المطارنة والقساوسة على امتطائه ، ثم وضعوا في يده عودا من سعف النخيل. لكز البطريرك الحمارفسار ببطء والقساوسة والمطارنة يحفون به من اليمين والشمال.. وارتفعت أصوات ترتل بكلمات من الكتاب المقدس.
انطلقت المواكب متتبعة الطريق التي سار عليها المسيح عندما دخل القدس. يتقدمها موكب البطريرك ، فمواكب الرهبان والتلاميذ، بملابسهم الملونة البراقة ، يحمل بعضهم الصلبان وآخرون سعف النخيل.. تبعتهم مواكب لآلاف البشر من فلسطين ومختلف أنحاء العالم .
تفرق اطفال الدير بين آلاف الناس الواقفين على جوانب الطرقات ، وأخذوا يمدون أيديهم إلى المارين مع المواكب ، دون أن يتنبه لهم أحد .
وقفت الطفلة لوسيا باهتة إلى جانب يوحنا وشلومو، وهي ترقب الجواهر البراقة على صدر البطريرك والمحيطين به . وبلا وعي منها كانت تمد يدها وتردد بخشوع بعض الكلمات التي حفظتها من الكتاب المقدس " لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض ، حيث يفسد السوس والصدأ ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون ، بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ويسرقون. وما كادت تنهي عبارتها إلى وانهال أحد رجال الجندرما على رأسها صفعا، وبعد جهد تخلصت من يديه وهي تصرخ وتستغيث، ولحقت بيوحنا وشلوموأ وبعض الأطفال الهاربين من سطوة رجال الجندرما ، الذين كانوا ينظمون سير المواكب ويفسحون الطرق أمامها . ويبعدون المتسولين الذين انتشروا على الأرصفة .
وصل موكب البطريرك إلى باب السباط .وفي الوقت نفسه كان موكب أهالي الخليل يخرج من ساحة الأقصى ليتابع طريقه شرقا إلى النبي موسى ، متتبعا طريق باب السباط أيضاً. اصطدم الموكبان .. وقف شيوخ الخليل على خيولهم تحيط بهم البيارق والأعلام ، ووقف البطارقة والمطارنة خلف حمار البطريرك المزركش، تظلله أعواد السعف.
احتار الطرفان في الأمر . القى بعضهم اللوم على رجال الجندرما الذين لم ينظموا سير المواكب ، بحيث لا تتصادم مواكب المسيحيين مع مواكب المسلمين في هذا المدخل الضيق.
وبعد مداولات دامت لأكثر من نصف ساعة اقتنع الخلايلة بالتراجع بموكبهم إلى ساحة الأقصى ريثما تمر مواكب المسيحيين إلى داخل المدينة ، لا سيما وأن تراجع موكبهم أسهل من تراجع مواكب المسيحيين التي انحسرت بين الأسواربحيث أصبح تراجعها مستحيلا ..
انتهىت مواكب المسيحيين إلى كنيسة القيامة ثم تفرقت إلى مختلف الأديرة والكنائس ، حيث تناول البطاركة وضيوفهم " المحليون والعالميون " الخراف المحشوة بالأرز والصنوبر.. وتابع موكب الخلاليلة بطبوله وأعلامه طريقه إلى النبي موسى .
*****
تقام المبارزة ويبدأ سباق الخيل والجريد .. تذبح ذبائح الختان والنذورات والقرابين .. تركب القدور على النار ويتصاعد الدخان عاليا من مختلف شعاب وتلال النبي ..
ينتشر مئات المتسولين فيحصلون على لحم ناضج فيأكلونه أو يحصلون على لحم نيء فيشعلون النارويقومون بشويه .
يعد القرويون عشرات الأطفال الذين تجاوز معظمهم الثامنة ليقوموا بختانهم على أرض النبي... تتعجب الطفلة عائشة وهي تقود أباها من يده وترقب هؤلاء الأطفال وقد ألبسوا ملابس ملونة ووضعت على رؤوسهم طرابيش مزدانة بقطع النقود الذهبية والخرز الأزرق (الحاجب لأعين الحساد ) كما ألصقت بعض المرايا بطرابيشهم من الأمام فبدت وهي تعكس أشعة الشمس . وبدا المطهرون ومعظمهم من الحلاقين وهم يشحذون أمواسهم استعدادا لعمليات الختان ، بينما النساء يحففن بالأطفال من كل جانب يزغردن ويغنين :
يا مطهر الصبيان بالله عليك .. لا توجع الصبيان وبزعل عليك
طهره يا مطهر وناوله لبوه ... يا دمعة الولد لولو ونظموه
طهره يا مطهر وناوله لأمه ... يا دمعة محمد سقطت عكمه .
طهره يا مطهر في الموس الرفيع ... والولد مدلل عمهله تيطيع !
من طهرك يا زين ريت إيده خضرا ... يزور النبي محمد والكعبة والصخرة .
من طهرك يا زين ريت إيده مرية .. . يزور النبي محمد والكعبة المبنية
*******
تقود الطفلة عائشة أباها وتسير بين مختلف المحتفلين . تمد يدها بينما والدها يسير بصمت . تتألم الفلاحات حزنا عليهما ،تخرج إحداهن قطعتي لحم كبيرتين من القدر الذي يغلي فوق الناروتلفهما في رغيفين من خبز الصاج وتقدمهما لهما .. وأخرى تقدم قطعة كبيرة وتلفها برغيف خبز أيضا .. وأخرة تعطي عائشة قطعة نقود .. تشعر عائشة بسعادة كبيرة وتتمنى لو تظول احتفالات النبي موسى .
يقدم الأب بطرس سائرا على قدم ونصف وقد حمل في خرج الحمار شيئا من الطحين والشاي والسكر والخبز واللحم .. يبحث عن عائشة وأبيها في المكان الذي تركهما فيه . لا يجدهما .. حتى حسن صاحب الحمار لا يعرف أين ذهب . ينطلق بين الناس يبحث عنهما .. شاهدهما بين مجموعة من البشر .. أخذ بيد عائشة وهو يخاطبها :
" أين أنت يا ابنتي ؟ ألم أخبرك أن لا تبرحي المكان الذي تركتكما فيه ، وسأحضر لكما كل ما تريدانه .. أين تقودين والدك في هذه الشمس الحارة ؟"
تصمت عائشة خجلا من الأب بطرس . يتكلم والدها :
- سامحنا يا أبت ، لقد أصرت أن تشاهد حفلات الختان فاضطررت لمرافقتها ..
يتقبل الأب بطرس عذر الأب الضرير ويقوده من يده ويعود بهما إلى حيث ترك الحمار.
- انظري ماذا أحضرت لك !
ويفتح الأب بطرس خرجه ويخرج صندلا جديدا وهو يقول :
- لقد نزعته امرأة فلاحة من قدمي طفلتها وقدمته لي عندما عرفت أن عندي طفلة حافية القدمين ، وقالت أنها ستركب طفلتها على حمارعند العودة وقد لا تحتاج إليه .
تفرح عائشة بالصندل وتضعه في قدميها وتتبختر به .
- إنها امرأة طيبة يا عماه ألم تعطها شيئا مقابله ؟
- لم أعطها يا ابنتي ستحتفظ بثمنه في السموات ، ثم ألم أخبرك أنهم ينادونني يا أبت كما يناديني أبوك ؟
- سامحني يا أبت.
يحتضنها الأب بطرس فتتابع :
وهل ستشتري لي ثوبا يا أبت ؟
- لن أجد لك ثوبا هنا يا ابنتي ، سأشتري لك ثوبا كالذي يلبسه أطفالي عندما نعود إلى الدير .
- هل لديك أطفال يا أبت .؟
- لدي أطفال كثر ومعظمهم في سنك .
- وهل ستدعني أقيم معهم .
- نعم يا ابنتي ستقيمين معهم .
- ووالدي ؟
- ووالدك سأخصص له غرفة وحده !
- تقول غرفة يا أبت ؟
- طبعا يا ابنتي فأنا لا أدير ديرا في مغارة !
تصمت الطفلة . يقول الأب :
- سامحها يا أبت ، لم تشاهد في حياتها ديرا .
- يفتح الأب بطرس خرجه ويخرج بعض قطع اللحم ويقدم للطفلة .
يقول الأب أنهم أكلوا كثيرا ويطلب إلى عائشة أن لا تأكل كثيرا حتى لا تصاب بالإسهال.
جاء حسن يحمل على ظهره كيسا وضع فيه ما تسوله . طرح السلام وجلس إلى جانبهم ... أخذوا يتحاورون بينا الشمس تجنح إلى الغرب وأصوات الطبول تتجدد من خيم الباشوات والولاة .
******
بدأ الأطفال يتوافدون إلى الدير والأخت لويزا تنتظرهم كعادتها .. تحلقوا من حولها وأخذوا يبكون وهم يقصون عليها ما حصل لهم من قبل رجال الجندرما . وأكثر ما آلمها مشهد الطفلة لوسيا إذا بدا وجهها متورما ..
جمعت ما حصلوا عليه في يومهم وجعلت الاخوات يهيئن حماما لهم .وانصرفت تحضر لهم طعام العشاء.
ما أن اغتسل الأطفال حتى تناولوا عشاءهم وذهبوا إلى أسرتهم .. اتخذت الأخت لزيزا قرارا على عاتقها بأن تدعهم يستريحون في اليوم التالي ، خاصة وأن بعض الأديرة والكنائس والجمعيات الخيرية قد تبرعت بمؤونة للدير تكفي لبضعة أيام .
****
تبزغ الشمس من خلف الجبال الشرقية فتنحسر الظلال عن الروابي ويتبخر الندى عن قمم الجبال. ينتشر الناس بين الشعاب وعلى القمم يعرضون أنفسهم لأشعة الشمس الدافئة ، ليطردوا قشعريرة الصباح .
يتفرق المتسولون بين الناس حاملين أوعيتهم في أيديهم أو على ظهورهم ليضعوا فيها ما يتسولونه .
يصطف مئات العازفين حول خيم الولاة ويشرعون في العزف والنشيد وقرع الطبول . يهرع آلاف الناس من التلال والشعاب ، بعضهم يجلبه صوت الطبول وبعضهم ليحظى بنظرة على ضريح النبي المجلل بالحرير الأخضر,
يعجز الحراس عن ردع حشود البشر الذين كانوا يهرعون من كل صوب ويتسللون إلى مبنى الضريح ثم ينتشرون بين الخيم دون أن يتنبهوا لهم .
يستيقظ بعض الولاة على الضجيج وقرع الطبول وتضرعات المتسولين وعشرات الغجريات تتقلب في أحضانهم ضجرا من "تلك الأصوات المنكرة " التي أفسدت أنغام الموسيقى الرتيبة .
يهدئ مندوب السلطان من غضب محظيته ويعدها بمعاقبة الذين تسببوا في ازعاجهم ، ويخرج من الخيمة بثياب النوم . ينظر إلى مختلف الاتجاهات ، يذهل لهذا الاختلاط بين البشر. " ما هذا " ؟ ويرسل من يستدعي رئيس الحرس.
ينهض رئيس الحرس من حضن غجرية . يفرك عينيه وقد هده النعاس والسكر.يذهب متمايلا.. تتعثر خطواته .. يقف أمام المندوب.. يرى الغضب يقدح من عينيه . ترتجف أوصاله .. يحاول أن يقف معتدلا:
- نعم سيدي!
- سيدك قرد يضربك ! كيف تسلل هؤلاء البجم من القرويين والمتسولين إلى خيم رجال الدولة والأعيان والولاة والوجهاء؟
- لا أعرف سدي سأستجلي الأمر.
- لا تعرف ايها السكير! اسمع !
- نعم سيدي .
اطردوا هؤلاء البجم من هنا ـ وهؤلاء المتسولون لا أريد أن أراهم أو أسمع بوجودهم في أرض النبي. اطردوهم لمسافة خمسة أميال من هنا .. تبأ لهم ولأصواتهم ما أقبحها . دنسوا المقدسات وانتهكوا الحرمات .. !!
- حاضر سيدي .
وانصرف قائد الحرس يتعتعه السكر .. ومع أنه خطر له أن يخبر المندوب أنه ليس في الامكان عزل مئات المتسولين من بين آلاف البشر ، غير أنه لم يجرؤ على مواجهته بالأمر ..
******
امتطى قائد الحرس صهوة جواده وانطلق إلى أن وقف أمام فرقة الخيالة التي هيأت نفسها بناء على أمره .. تفرس وجوه الفرسان وبدأ يخاطبهم :
" لقد تمكن القرويون والمتسولون من التسلل إلى ما بين خيم رجال الدولة والوجهاء مما سبب ازعاجا كبيرا لأصحاب السعادة والمعالي ، فنهضوا من نومهم قبل أن يحين موعد النهوض . حتى أنا انزعجت كثيرا واستيقظت قبل الأوان ! وأنتم تقع عليكم مسؤولية طرد هؤلاء وإبعادهم بعيدا عن الخيام .. المتسولون يجب طردهم نهائيا من أرض النبي ومن بين القرويين أيضا ، لأنهم يسببون مشاكل كثيرة ويسلبون أموال الناس، وزيادة على ذلك فإن أصواتهم لا تطاق ، كما أنهم يدنسون الحرمات بقذارتهم كما قال سعادة مندوب السلطان .
وصمت قليلا وهو يجوب بنظراته مختلف الوجوه، ثم تابع ليجيب على بعض التساؤلات التي قد تخطر للفرسان :
" لا تستعتملوا العنف المفرط إلا إذا دعت الضرورة ! وقولوا للناس أنهم سيتمكنون من زيارة الضريح والتبرك به بعدما ينصرف الولاة والأعيان والوجهاء. وقد تضطرون للبحث عن المتسولين بين الناس لإبعادهم . ولا تنسوا أننا نحرص كل الحرص على أن لا نميز بين الغني والفقير في هذه المناسبة الدينية المجيدة . حتى أنه يمكن للمتسولين أن يزوروا الضريح ويتبركوا به ، تماما كما يتبرك الناس، إنما بعد أن ينصرف أصحاب السعادة والمعالي.
وتنبه قائد الحرس إلى أن كلامه هذا قد لا ينسجم مع الوقائع ، فتابع بعد برهة صمت :
- لكن للضرورة أحكام . فالفوضى لا يمكن السكوت عليها . ولا يمكن للمتسول والفلاح أن يختلطا بأصحاب السعادة والمعالي والوجاهة . يجب أن تنهوا كل شيء بنظام ، وحتى لا يطرق القرويون والمتسولون أبواب الولاة ويقلقون مضاجعهم .
طالت خطبة قائد الحرس فأخذ يسترشد ببعض الآيات القرآنية ، حتى بات كل فارس يشعر أن مهمة طرد القرويين والمتسولين مهمة وطنية جهادية قد لا تقل عن الذود عن حمى الإمبراطورية العثمانية أمام أعتى الغزاة .
*****
لكز الفرسان خيولهم فانطلقت إلى مختلف الجهات ,, أرخوا الأعنة ولوحوا بالسياط .. ارتفع صراخ وضجيج .. انهالت السياط على الأجساد .. تعثر البعض وانطرحوا على الأرض فداستهم الخيول ..وقفت الغجريات بثياب الحريرالشفافة أمام خيم الولاة والشيوخ وأخذن يرقبن مآثر الفرسان .
لحق أحد الفرسان بالطفلة عائشة وهي تقود أباها الضرير. انهال بسوطه على الأب . صرخت الطفلة " والدي ضرير " فذهب كلامها أدراج الرياح .. نزلت الدماء من رأس الأب ووجهه . سقط على الأرض . انطرحت إلى جانبه تعول وتصرخ " بابا بابا "
نظر الأب بطرس حوله .. الناس يهربون والخيول تلاحقهم والسياط تنهش ظهورهم . لم ير الطفلة عائشة وأباها .. راح يبعث عنهما بين الناس وهو يتلاشى سياط الفرسان وخيولهم .
*****
أنات وآهات مؤلمة تنبعث من الشعاب والأودية والأخاديد. نساء يولولن ويصرخن ويشتمن . متسولون يئنون من ألم الجراح ، ذعر يرتسم على وجوه الأطفال .
تمكن الأب بطرس بمساعدة حسن من نقل الأب الضريرإلى ناحية متطرفة .. مدداه على الأرض بينما الطفلة تنتحب وتعوًّل . كانت الدماء تنزف من رأس الأب ومن جرح في وجهه ، وكان يتألم بشدة من خاصرته التي وطأها حافر حصان .. وبدا شبه فاقد للوعي .
مزق حسن كوفيته وساعد الأب بطرس في تضميد جراح الأب.
*****
طرق الطفل شلومو أبواب الكنيس للمرة العاشرة .. خرج الشماس ممتعضا .
- ماذا أيها الطفل الوضيع ؟
- والدي يموت !
- والدك يموت ؟ وماذا في الأمر؟ ألم يمت موسى من قبل ؟ ثم ألم أخبرك من المرة
الأولى أن الحاخام مشغول بشؤون الرعية وأبناء الطائفة ؟ ألا تسمع ؟!
وصفع الطفل على وجهه وهو يتهدده " اذهب أيها المتسكع إلى أبيك الكسيح ، ولا تدعني أشاهدك هنا ثانية ، هل تسمع ؟
مكث الطفل جامدا في مكانه لبرهة وقد اندفعت الدماء من وجهه جراء الصفعة .، ثم استدار وانصرف بينما كلمات الشماس تلاحقه : " ما الذي سنجنيه منك ومن أبيك أيها الوضيع ؟! هل نترك شؤون الطائفة ونهتم بكما ؟"
وللحقيقة فإن الحاخام كان مهتما بشؤون الطائفة فعلا في ذلك الوقت . فقد كان في لقاء مع المندوب الذي نقل إليه أسرار الإجتماع الذي دار بين هرتزل والصدر الأعظم حول اقتطاع جزء من الارض الفلسطينية ، ليكون وطناً قوميا لليهود . وقد غضب الحاخام للنتائج السيئة التي أسفر عنها اللقاء ، إذ لم يوافق السلطان على المقترحات التي تقدم بها هرتزل ، بالرغم من وعد هرتزل بدفع أموال طائلة لإنقاذ المالية التركية وإرضاء السلطان . وتقدم السلطان بشروط عدة منها: " أن يستقر اليهود في الامبراطورية العثمانية بشرط أن لا يكونوا في مكان واحد ، وإنما في أماكن تعينها لهم الحكومة . وأن يحدد عددهم مسبقا من قبل الدولة العثمانية ، وأن يمنحوا الجنسية العثمانية ، ويسألوا من جميع الضرائب المدنية ، وأن يكونوا خاضعين لجميع قوانين البلاد ، كالأتراك تماما " ولم يقبل هرتزل بهذه الشروط ..
*****
فوجئ الطفل شلومو بوجود الطفلة لوسيا والطفل يوحنا إلى جانب والده ، إذ حضرا ليصحباه في تسولهما ، فوجدا أباه في حالة غيبوبة فمكثا إلى جواره .
كان الأب يرتجف بشدة والزبد يخرج من فمه لا يقوى على الكلام ، بينما يوحنا ولوسيا يجثمان إلى جانبه باهتين .
جلس شلومو إلى جوارهما يخاطب والده فلا يجيبه ، فشرع في البكاء.
*****
بدأ الولاة والحكام وتابعوهم يغادرون أرض النبي في مواكب منتظمة . هرع الناس إلى الضريح يشاهدونه ويتبركون منه !
جلس الاب بطلرس والطفلة عائشة وحسن إلى جانب الاب الضرير صامتين يلفهم الحزن والأسى .
****
عاد كافة الأطفال إلى الدير باستثناء لوسيا ويوحنا .. ارتابت الأخت لويزا في الأمر. تقنعت بردائها وخرجت تبحث عنهما . وبينما كانت تمر من جانب كنيسة العذراء، شاهدت جنازة يسير مرافقوها على الرصيف المقابل يتبعها أطفال ثلاثة . وقد تجاوزت الكنيسة ببضعة أمتار. حثت خطاها ولحقت بالجنازة ...
كانت لوسيا تسير بصمت إلى جانب يوحنا حانية رأسها . وسار الطفل شلومو أمامهما خلف جثمان والده الذي كان يقله أربعة رجال تدل هيئتهم على أنهم من المتسولين .. كانوا يسيرون بخطوات بطيئة منهكة .
لحقت الأخت لويزا بالجنازة وتأكدت من وجود الطفلين .سارت خلفهما بصمت دون أن يتنبها لوجودها إلا فيما بعد .
عرجت الجنازة إلى مقبرة اليهود ..ووري الجثمان التراب والأطفال يقفون بصمت وحزن ، وقطرات دموع طفيفة تنحدر من مآقيهم .
أحاط يوحنا ولوسيا بشلومو وأمسكا بذراعيه واستدارا به عن القبر فشاهدا الأخت لويزا تقف خلفهما .. نظرا إليها بإمعان ولم يتمالكا نفسيهما فأخذا يبكيان ، وكأنهما يقولان لها " لقد رحل والد صديقنا شلومو فهل يمكننا ان نصحبه معنا إلى الدير ليقيم معنا ؟"
اقتربت الأخت لويزا وانحنت تضم ثلاثتهم .. وساروا أمامها إلى الدير .
****
غصت كنيسة القيامة بمختلف الطوائف المسيحية وقد مكثت كل طائفة في المكان المخصص لها ، أما طائفة الروم الأرثوذكس فقد احتلت سطح الكنيسة . وأخذ الشبان من مختلف الطوائف يغنون ويهزجون ويدبكون ويلعبون بالسيوف والأتراس على سطح كنيسة مار يعقوب المجاورة لكنيسة القيامة . كما تحلق مئات الزوار والحجاج ورجال السلك الدبلوماسي ورجال الحكومة من حول السرير الكبير الذي نصبته البطريركية وثبتت من حوله ثلاثة عشر مقعدا حسب عدد تلاميذ يسوع ، وجلس عليها الكهنة في تواضع واحتشام .
نهض البطريرك يقلد المسيح في غسل أرجل الكهنة وتنشيفها بينما الشماس يصب الماء من ابريق فضي .
****
بدأت المواكب الممتدة على طول يقارب العشرين كيلو مترا ما بين القدس والنبي موسى .. بدأت تدخل المدينة المقدسة عبر باب السباط في موكب ضخم ترافقه الأناشيد الوطنية والأغاني الشعبية وإيقاعات الطبول والكاسات ..
*****
غادر ما تبقى من القرويين والمتسولين أرض النبي، ولم يبق غير الاب بطرس وحسن ينتظران المصيرالذي سيؤول إليه الأب الضرير، وقد بات الأمل في شفائه مفقودا لدى الاب بطرس. وبدت الطفلة عائشة وهي في غاية الحزن .
*****
أبقت الأخت لويزا الأطفال طوال يوم الجمعة العظيمة في الدير. فقد خشيت أن يضيعوا بين الزحام ، إذ سارت عشرات المواكب المسيحية تتقدمها الصلبان الضخمة ، متعقبة المراحل الاربع عشرة للدرب التي سلكها المسيح أثناء حمله الصليب. وفي صبيحة اليوم التالي جعلتهم يخرجون اثنين اثنين ، ما عدا لوسيا ويوحنا فقد اصطحبا شلومو معهما ..
****
بدأت ساحة كنيسة القيامة تزدحم بألاف البشرمن مختلف الزوار والطوائف المسيحية - ما عدا طائفة اللاتين التي لا تؤمن بفيض النور- ومكثوا ينتظرون فيض النور.. وعلى الشرفات المواجهة للقبر المقدس ، جلس المتصرف وقومندان البوليس وعائلتاهما ومختلف الشخصيات التي حضرت من حلب ودمشق وشرق الاردن ولبنان .
وأخذت مواكب أكليروس الطوائف الشرقية المختلفة تدخل إلى الكنيسة وتتفرق في الأماكن المخصصة لها ... ودخل عدد كبير من الزوارواصطفوا حول القبر المقدس. أما الجلجلة فقد احتلها بعض الأثرياء من الزوار الروس واليونانيين ، كما ظهر بعضهم على الشرفات المطلة على القبر المقدس.. وفي الخارج كان شباب الروم يسيرون بمواكبهم حاملين " سنجق " الشباب ، ومعهم لاعبو السيف والترس والفرق الإيقاعية ، وقد انضم إليم شباب القدس ورام الله وبيرزيت والطيبة وبيت لحم وبيت جالا وجفنا ونابلس ، وغيرها من المدن والقرى الفلسطنية . وأخذ لاعبو الترس يمتطون ظهور زملائهم وينشدون، بينما الباقون يرددون من خلفهم :
سبت النور وعيدنا .. وهذا امر سيدنا ..
وسيدنا عيسى المسيح .. والمسيح فدانا
بدمه اشترانا..
يا مار جريس عالخضر صلينا
واحنا النصارى والشمع بإيدينا ..
ويا عذرا عليك السلام .
******
حشر الأطفال الثلاثة " شلومو ويوحنا ولوسيا" أنفسهم بين مئات البشر .. أخذ الناس يتدفقون ويزدحمون ، فلم يبق مكان لموضع قدم . أحس الأطفال بالاختناق. احتضنوا أنفسهم وأخذوا يدفعون الناس عنهم دون جدوى. انحشرت لوسيا بين رجلين . جاهدت لتنقذ نفسها غير أنها لم تفلح . فأخذت تستغيث. حاول أحد الرجلين أن يبعد نفسه عنها بدفع الناس من حوله بكل ما اوتي من قوة ، غير أن الأمواج البشرية المتدافعة باتجاه باب الكنيسة جرفته في طريقها، فلم يجد إلا أن يستسلم لها ويدفع الطفلة أمامه لتنحصر ما بينه وبين آخرين بينما صراخها يعلومستغيثة بشلومو ويوحنا اللذين كانا يصرخان بدورهما مستغيثين تارة ومنادين لوسيا تارة أخرى .
خرج بطريرك الروم من البطريركية بلباسه الأسود تحف به جماعة من رجال الدين واتجه ناحية القيامة، وما أن دخلها حتى أعلق الباب فصاح كل من في الداخل وكأنهم في سجن كبير مغلق !
وصل البطريرك باب القبر المختوم بالشمع الأحمر وفتحه ، ثم خلع ثيابه ولبس ثوبا أبيض ودخل إلى الدير ، بينما رجال الحكومة والجمهور ينظرون إليه ، ومختار الطائفة يوزع السناجق والأعلام الثلاثة عشر التقليدية على ثلاثة عشر رجلا ينتمون إلى ثلاثة عشر عائلة أرثوذكسية ، فيدورون بها ثلاث دورات حول القبر المقدس في صمت تام . ثم يسلمونها إلى مسؤول لتحفظ في الخزائن المقفلة قرب المغتسل ثلاثمائة وستة وخمسين يوما حتى سبت النور القادم ، ليدار بها من جديد .
وقف الآلاف سكوتا ينتظرون فيض النور، وقد رفعوا الشموع بأيديهم . وبدت لوسيا وقد ضمت يديها إلى صدرها وهي منحشرة بين ثلاثة رجال وتصرخ مستغيثة والدموع تنحدر على خديها ولا تجد مخرجا ..
قرعت أجراس القيامة معلنة فيض النور ، فتبعتها أجراس ونواقيس مختلف الكنائس في المدينة المقدسة .. وانطلقت زغاريد النساء وبدأ الرجال بالشوبشات !
وزع البطريرك النور ، فأعطى فندا إلى خوري الطائفة وفندا إلى أحد أفراد عائلة أخرى نيابة عن الطائفة وأبنائها العرب . ثم فندا إلى رجل مفوض عن طائفة الأرمن ، فأعطاه بدوره إلى طوائف الأرمن والأقباط والحبش ، . وربط فند بحبل طويل وسحب مضاء من أعلى نوافذ القبة التي تعتلي القبر. وخرج من باب خاص في أعلى القبة يشرف على سطح ديرالروم .
تدافع الناس لإشعال شموعهم فحدثت ضوضاء وازداد الازدحام والاختناقات ، وارتفع صراخ النساء والأطفال.
انضغطت لوسيا بين رجلين فأخذت تصرخ بأعلى صوتها مستغيثة بينما يوحنا وشلومو يصرخان مستغيثين ليس بعيدا عنها محصورين بين مجموعة من الرجال.
انتشر النور بسرعة بالايدي المرفوعة بالشموع المشتعلة .. وظهر خمسة رجال من طائفة الروم يحملون الشموع ويركضون بألبستهم البيضاء فوق أكتاف الجمهور بسرعة فائقة وكأنهم يركضون على الارض. فازدادت الضوضاء وعلا صراخ الذين يختنقون في الزحام من نساء وأطفال وشيوخ.
أحست لوسيا كما لو أن قلبها يقفز من صدرها ، ولم تجد استغاثاتها فتيلا ، فقد ضاع صراخها بين مئات الصرخات المستغيثة . وإن جاهد أحد الرجلين ليبعد الناس عنها من جديد ، عندما شاهد عينيها تجحظان وصوتها يهمد شيئا فشيئا ، غير أنه لم يفلح في عمل شيء. فأخذ يصرخ ويرقبها برعب وهي تضم يديها إلى صدرها وتلفظ أنفاسها..
بدأ الحجاج والزائرون والكهنة يخرجون من الكنيسة بصعوبة بالغة ، والشباب يتجمعون على سطح دير الروم حيث تتجلى ألعاب الفروسية والدبكات ..
*****
أخذت وفود المسلمين تتجمع في ساحة الأقصى والصخرة وساحة الحرم العامة . وتلتقي بجمهور المصلين الذين غصت بهم جوانب الحرم ، وقد صفت السناجق والأعلام المختلفة في أشكال هندسية بديعة، وعزفت الآلات وترنم المنشدون في أكثر من تلاثين فرقة إيقاعية من المنشدين والمرتلين .
*****
يجلس الأب بطرس صامتا إلى جوار الأب الضرير، يصالب يديه فوق ركبتيه ، ويتكئ بذقنه عليهما ، وينظر إلى الأفق الشرقي فيبدو له القمروقد بزغ من خلف الجبال . تمر في مخيلته عشرات الصور لأطفال الدير ، يتذكر الطفلة لوسيا فالطفل يوحنا ومختلف الأطفال . ترى هل تدبرت الأخت لويزا أمرهم ؟ هل أرسلتهم ليتسولوا ؟ هل حصلوا على قوت يومهم ؟ ماذا حدث لهم ؟ تختلط الصور في مخيلته ، ينظر إلى القمر فالسماء متأملا ، طالبا رحمة الرب وعطفه . ثم ينظر إلى ما حوله حيث يرقد حسن فالأب الضرير الجريح إلى جوار طفلته " مسكينة هذه الصغيرة لماذا يا إلهي تجعلها تحيا كل هذا الشقاء، إلى متى يا إلهي سننتظر رحمتك ؟!"
ينظر إلى الجسد الممدد إلى جانبه ويعود إلى شروده . يقطع صمته صوت الأب الضرير مستغيثا " أبتاه " يخرج الأب بطرس من شروده ويقترب منه . يمد الاب الضرير يديه فيمسك الأب بطرس بهما .. يجاهد الأب الضرير ليرفع رأسه ، ويبدو أنه يود أن يقول شيئا .. يقرب الأب بطرس رأسه منه , يفتح الأب الضرير شفتيه محاولا النطق .. يقول بصعوبة . " عائشة " ينظر الأب بطرس إلى حسن الذي نهض من نومه . ويومئ إليه أن يقرب عائشة ، فيحملها ويقربها من أبيها . يترك الاب الضرير إحدى يديه من يدي الأب بطرس، ويضم الطفلة النائمة إليه بينما الأب بطرس يمسك باليد الأخرى . ويجاهد ليتكلم من جديد إلى الأب بطرس :
" إنني أتركها أمانة بين يديك يا أبت "
ويعيد رأسه إلى الأرض ببطء ويستلقي هادئا ، دون أن يبدو عليه أنه فارق الحياة ، إلا بعد أن ارتخت يده من يد الاب بطرس وسقطت لتستقر إلى جانبه .
نظر الأب بطرس إلى حسن متأملا :
" عرفت أنها صحوة الموت "!
هز حسن رأسه بينما الأب بطرس يتابع :
- احمل الطفلة بهدوء ومددها بعيدا عن الجثمان ودثرها بشيء لعلها لا تستيقظ .
قام حسن ينفذ ما أشار به الأب بطرس، ولم يجد شيئا يدثر به الطفلة ، فنزع ثوبه وغطاها ، وعاد إلى الأب بطرس.
- والآن يا أبت؟
نظر الاب بطرس إلى ما حوله وكأنه يبحث عن شيء :
- اسمع !
- نعم يا أبت .
- سوف ندفن الجثمان قبل أن تستيقظ الطفلة !
- هل ندفنه هنا يا أبت ؟
- نعم !
- وقبل أن يطلع النهار؟
- نعم نعم !
- لكن ليس معنا ادوات للحفر يا أبت.
- لن نحفر!
- ماذا إذن ؟
- سنبحث عن جحر أو كوة في سد صخري أو حائط ونضعه فيها .
- لكننا لن نجد ذلك في مكان قريب يا أبت .
- سوف نجد في الوادي المجاور.
- لكنه بعيد يا أبت .
- ليس بعيدا .
إذن ، سأذهب وأبحث .
- اذهب .
- هل تعتقد بوجود ضباع في هذا الوادي يا أبت ؟
- لا بد وأن فيه ضباعا ! ألا تحمل خنجرا ؟
- بلى يا أبت .
- هاك عصا الفقيد تسلح بها أيضا .
التقط حسن العصا وانطلق إلى الوادي. غاب حوالي ساعة وعاد . خاطبه الأب بطرس قبل أن يجلس:
- هل وجدت ؟
- نعم يا أبت هناك كهوف كثيرة ، لكن اغلاقها يتطلب جهدا كبيرا لاتساع ابوابها .. لكنني وجدت كوة في حائط ، ,هي تكفي لإيلاج جسم انسان فيها وترتفع عن الأرض قرابة متر ونصف ، ويبدو أنها كانت تستعمل كقبر في الماضي ، فقد أشعلت عود ثقاب وشاهدت ما يشبه الهيكل العظمي فيها . لكني لم أجرؤ أن أشعل عودا أخر فقد تملكني الرعب يا أبت .
- إنها تفي بالغرض.
تماما يا أبت .
نظر الأب بطرس إلى الجثمان مليا . وشرد قليلا يتأمل الآلام التي يواجهها الناس إلى أن قطع حسن صمته قائلا :
- والآن يا أبت .
أطرق الأب برهة أخرى ونهض. سار باتجاه خرج الحمار . أفرغ محتوياته وأحضره . فرشه إلى جانب الجثمان ، وأشار إلى حسن أن يحمل معه الجثة .
مددا الجثمان فوق الخرج . قال حسن .
- لماذا لا نضعه على الحمار يا أبت ؟
- لن يستريح سنحمله .
- وهل نترك الطفلة ؟
- نعم !
- نخاف أن يأتيها الضبع يا أبت !
- سنتركها بين يدي الله !
- وإذا ما استيقظت ؟
صمت الاب بطرس برهة وتخيل الطفلة تصرخ وتستغيث. غير أنه لم يجد بدا من تركها نائمة . وأخذ يتضرع إلى الله أن يبعد عنها الضباع والذئاب ويبقيها نائمة ريثما يعودان.
تساءل حسن :
- لماذا لا نؤجل الدفن حتى الصباح يا أبت ؟
- لا أريد للطفلة أن ترى أباها ميتا .. سيترك في نفسها أثراً لا ينسى .
حملا الجثمان وسارا . أخذا يتعثران بالحجارة . وما أن قطعا ربع المسافة حتى أخذا قسطا من الراحة ثم تابعا .. وهكذا إلى أن بلغا المكان .. وأكثر ما أزعج حسن قربة الماء التي جعله الأب بطرس يحملها على ظهره ليجبلا طينا لإغلاق باب الكوة على الجثمان.
أحضر الأب بطرس حجرين كبيرين ووضعهما فوق بعض. صعد عليهما. أشعل عودين من الثقاب داخل الكوة ، وحدق ملياً ، ارتعد قليلا حين أبصر جمجمة متوسطة الحجم في عمق الكوة إضافة إلى بقايا هيكل عظمي. انطفأ العودان . انتظر حتى طرد هالة الرعب التي اجتاحت نفسه . مد يده بالعصا . إلى داخل الكوة وأخذ يجمع الرفات. أخرج الجمجمة وتأملها للحظات على ضوء القمر. بدا له أنها جمجمة طفل لم يبلغ سن الرشد .. أعادها إلى جانب ركن في عمق الكهف وجمع بالعصا باقي الرفات إلى جانبها .. وأشار إلى حسن أن يرفع جثمان الأب إليه . رفع حسن الجثمان دون أن يتنبه إلى فردة حذاء ألأب التي سقطت وهو يرفعه . أمسك الأب بطرس بالجثمان من تحت ابطيه ورفعه إلى الكوة وأخذ يولجه بينما حسن يرفعه من أسفل . . أدخلاه في الكوة ، وحاول الأب بطرس قدر الامكان أن يجعل مرقده مريحاً، وخاطبه في سريرته أن يصفح عنه لأنه دفنه في هذا المكان المنعزل في الجبال .
أخذ حسن يجمع الحجارة ويناولها للأب بطرس ليغلق بها باب الكوة . وما أن انتهيا حتى جبلا قليلا من التراب ليمكنا به اغلاق الكوة ، وقد اقتصدا في الماء فلا يوجد لديهما سوى ما تحويه القربة . لكنهما عملا مقدارا من الطين كان كافيا لسد الفراغات بين حجارة باب الكوة ولصق طبقة طينية خلفها .
وما كادا ينتهيان حتى سمعا قرقعة حجارة تتدحرج من السفح المواجه لهما .أنصتا مذعورين .
- ما هذا يا ابت ؟
- لعله ضبع !
- ألا تسمع ؟
- بلى
- إنه ينحدر إلينا جريا .
وقفا صامتين وقد لفهما رعب شديد . أخذ الوقع يقترب بسرعة ، تبين لهما شبح يبدو كشبح حمار ينحدر باتجاههما مباشرة ,,
ارتعدت فرائصهما وتحضرا للدفاع عن نفسيهما وتوقف لساناهما عن النطق .
صرخ حسن فجأة :
- حماري ! إنه حماري يا أبت !
- انفرجت أسارير الأب بطرس ومرر يده على وجهه وانتظر برهة ليتبين الأمر .
كان الحمار فعلا فقد ظل يركض حتى بلغهما وأخذ يشخر من منخريه ويضرب الأرض بقائمتيه الأماميتين وهو ينظر إليهما .
- لكن كيف أفلت من مربطه وكيف عرف أننا هنا ولماذا حضر ؟
لم يرد حسن على الأب بطرس فقد كان يفكر في طبائع حماره ، ليكتشف السبب الذي دفعه لقطع رباطه والهروع إليهما جريا :
- لقد حدث مكروه للطفلة يا أبت ،أرجو أن لا يكون الضبع قد فتك بها .
- لا ! صرخ الأب بطرس .
- هيا يا أبت لنسرع إلى الطفلة .
امتطى الأب بطرس الحمار وانطلقا ..
حين اقتربا من مكان الطفلة شاهدا شبح حيوان يحوم حولها . توقفا، وقد نزل الأب بطرس عن الحمار.
تقدما ببطء.
قال حسن :
إنه ضبع يا أبت !
- ما العمل ؟
- يجب أن نقترب أكثر لنتبين الأمر. لنحاول أن نفعل شيئا لعله يهرب ويتركها . ويجب ألا نقوم بحركات تظهر أننا خائفان أو جبانان أمامه !
- ماذا نفعل :
- يجب أن نواجهه بشجاعة فيهرب منا ، أما إذا لمس الجبن لدينا فلن يترك الطفلة . ألا ترى أنه غير مكترث لوجودنا ويحوم حول الطفلة .
- لكن لماذا يدور حولها ولا يفترسها ؟
- يقال أن الضبع لا يفتك بفريسته وهي نائمة يا أبت ، انه ينتظر أن تستيقظ !
- شيء لا يصدق ! هل هناك أمل في انقاذ الطفلة ؟
- كل الأمل يا أبت .
- ماذا نفعل ؟
- ستشهر عصاك وأشهر خنجري ونهجم عليه !
- ماذا لو هاجمنا.
- كلا سيهرب يا أبت لكنه قد يجرب قوته أمامنا !
- وإذا كان شجاعا ؟
- حتى لو كان أشجع ضبع في البرية ، وإذا ما هاجمنا سنتفوق عليه !
كان الضبع يحوم حول جسد الطفلة وينظر باتجاههما ويهز ذنبه !
- هل نبدأ يا أبت ؟
- ليكن !
- استل حسن خنجره ورفع الأب بطرس عصاه إلى كتفه ، وتقدما إلى بعض بثبات والأب بطرس يذكر اسم الرب .. وحسن يردد اسم الله في سره .
تنبه الضبع لتقدمهما . توقف ناظرا إليهما بإمعان ثم كر في اتجاههما .. مد الأب بطرس عصاه أمامه وكذلك فعل حسن . توقف الضبع على بعد خطوات منهما فارجا قوائمة متحفزا دون أن يبدو عنه أي صوت .. تقدما برباطة جأش ، وما أن اقتربامنه حتى وثب باتجاههما. رفع الأب بطرس عصاه تلافاها الضبع ومر من جانبه بسرعة هائلة وشرع يحوم من حولهما مزمجراً ، مما اضطرهما إلى أن يحوما معه .. ويبدو أن الضبع أدرك أنه ليس ثمة مجال سهل للفتك برجلين مستعدين للقتال حتى النهاية ، فاستدار وهرب موحيا أنه ولى الأدبار ..
قال الأب بطرس :
- لقد هرب !
- كلا يا أبت هذه مجرد خدعة !
- ماذا إذن بحق يسوع ؟
- سوف يهاجمنا من الخلف في محاولة لإرهابنا وكسب المعركة! إنه يمتحن مدى شجاعتنا وقدرتنا على المواجهة وإذا ما فشلنا في الأمر سينقض علينا ..
- يا يسوع !
- احترس يا أبت !
كان الضبع ما أن ابتعد عن أنظارهما حتى عاد ليباغتهما من الخلف بسرعة هائلة .
انثنى الأب بطرس على غير هدى وهيأ عصاه في الهواء بينما لمع خنجر حسن على نور القمر .
ضرب الضبع الأرض بقائمتيه الأماميتين ليحد من شدة اندفاعه باتجاههما ، وانتنى يفر ثم يكر من جديد مزمجرا حائما من حولهما بسرعة .
أصبحا على بعد خطوات من الطفلة . توقف الضبع فجأة على مقربة منها وثبت قوائمه بالأرض متحفزا مزمجرا .
- إنه يستقتل بالقرب من الطفلة! اضبط جأشك يا أبت لقد اجتزنا الامتحان بنجاح ، وسيهرب لو هجمنا نحن عليه ! هيا اهجم يا أبت !
- ماذا ؟
- - اهجم يا أبت ! اهجم ولا تتراجع !
رفع الأب بطرس عصاه وهزها وخطا مسرعا وهو يسددها أمامه وكأنها رمح ! وكذلك فعل حسن بخنجره .
صوُّت الضبع فاتحا فمه مكشرا عن أنيابه وظل ثابتا متحفزا إلى أن أصبحا على مسافة حوالي ثلاث خطوات منه ، فاستدارببطء وانصرف على مهل دون أن يلتفت وراءه .
اقترب الأب بطرس من الطفلة . انحنى عليها وقبلها . ضمها. تبين له أنها يقظة فقد كانت ترتجف بشدة . غير أنها لم تستطع الكلام " يا يسوع انها جامدة من الرعب . أعطني ماء يا حسن "
وكان حسن ما يزال واقفا متحفزا ليتأكد من أن الضبع لن يعيد الكرة .
ضم الأب بطرس الطفلة إلى حضنه . داعب خديها . كانت تحدق في وجهه وأسنانها تصطك ، لا تقوى على الكلام .
أحضر حسن الماء . رش الاب قليلا منه على وجهها .. وجاهد ليسقيها .. أخيرا تفوهت بعد أن ابتلعت قليلا من الماء : " أبتي " اعتصرها الأب بطرس ، ثم مد يده حتى لامس كفها الأرض، وأعادها إلى فمه وقبلها وهو يشكر الرب .
- أين أنا يا أبت.
- أنت معنا يا حبيبتي.
- شاهدت وحشا كبيرا بالقرب مني . صوته مخيف !
- لقد طردناه يا حبيبتي.
- ألم يؤذ أحدا يا أبت ؟
- لا لم يؤذ؟
- وأبي يا أبت ؟
- إنه نائم وبخير يا حبيبتي !
وضم رأسها حتى أصبح تحت ذقنه . اختفت عيناها خلف شعر ذقنه الطويل ولم تتمكن من النظر إلى حيث كان أبوها يرقد . أخذ الاب يملس بيده على شعرها إلى أن نامت من جديد وهي ما زالت ترتجف بين لحظة وأخرى .
*****
أشرقت الشمس من خلف الجبال الشرقية . أحست عائشة بشعاعها يداعب جفنيها .. فتحت عينيها فلم تتمكن من النظر إلى الشمس . فركتهما ثم جلست تنظر في ما حولها .. الأب بطرس وحسن ينامان إلى جوارها .. لكن أين أبوها ؟ ألم يكن يستلقي هنا على مقربة منها ؟ أين ذهب ؟ ثم لماذا لم ينهض الأب بطرس حتى الآن ؟
أخذت تتساءل بابا بابا وهي تمد يدها إلى كتف الأب بطرس لتوقظه.
فتح الأب بطرس عينيه :
- هل استيقظت يا حبيبتي؟
- نعم يا أبت أين أبي ؟
- سيأت يا حبيبتي ، لقد جاء الرب واصطحبه ليشفيه من جراحه ويعيد له البصر !
وأخذ يملس على شعرها ويربت على ظهرها .بينما هي تفكر في كلامه . ويبدو أنها لم تتأكد من كلامه ، فقالت مؤكدة :
- تقول الرب يا أبت ؟
- نعم يا ابنتي !
- واصطحب أبي معه ؟
- نعم يا حبيبتي.
وبدت مشككة في الأمر. نظرت إلى ما حولها. شاهدت عصا والدها .زادت شكوكها .. " لكن هل يمكن لهذا الأب الطيب أن يكذب عليها "؟ ورغم ذلك سألته :
- لكن لماذا لم يأخذ عصاه يا أبت ؟
- لن يحتاج لها يا ابنتي .. سيعيد الرب إليه كل شيء .
- وسيرى الطريق؟
- طبعا يا ابنتي سيرى كل شيء.
- ومتى سيعيده يا أبت ؟
- بعد أن تشفى جراحه !
- شكرا للرب يا أبت يخلي لنا إياه !
- العفو يا حبيبتي..
- وأنا يا أبت؟
- قال لي أن أصحبك معي إلى الدير حيث ستمكثين مع أطفالي وتلعبين معهم ، وسأشتري لك ملابس جديدة وصندلا أجمل !
- وإذا ما تأخر أبي يا أبت ؟
- لا تهتمي يا حبيبتي حتى لو تأخر فأنت بأمان مع أطفالي .
أفاق حسن من نومه ونهض جالسا . لم يستطع ان يحبس دموعه عندما شاهد الطفلة تسأل عن أبيها ، أدار وجهه إلى ناحية وأخذ يمسحها .
- حسن ؟
- أدار وجهه إلى الأب بطرس وآثار الدموع بادية في عينيه بينما عائشة تعود إلى السكينة .
- هل لدينا ما يكفي من الماء؟
- كلا يا أبت ، لكن قد نمر ببئر في طريقنا ونملأ القربة .
- إذن لنتناول شيئا من الطعام ولننصرف. لقد تغيبت كثيرا عن الدير ولا أدري كيف حال الأطفال والأخوات .
نهض حسن وأحضر قليلا من الخبز وبقايا اللحم وشرعوا يأكلون .
حملا ما تسولاه على الحمار وأردفا الطفلة عليه .
- يجب أن نودع الضريح ونتأكد من أننا أحكمنا اغلاقه .
- وسأقرأ أية الكرسي عليه يا أبت .
- حسنا يا حسن !
*****
انحدرا إلى الوادي .. كان الإغلاق محكما .. أخذ الأب بطرس يرسم شارة الصليب فيما حسن يقرأ الفاتحة وآية الكرسي. فكر الأب في أنه سيصطحب عائشة إلى الضريح حين تكبر وتعرف الحقيقة . لم تعرف عائشة ما الذي يقومان به وهي تنظر إلى آثار الطين والكوة المغلقة به . سألت مستفسرة . أجابها الاب بطرس :
- هذا ضريح لأحد الفقراء الصالحين يا حبيبتي مات ودفن هنا !
- مثل أبي يا أبت ؟
- نعم يا ابنتي إنه فقير كأبيك .
- يرحمه الله ! متى توفى يا أبت ؟
- في اليومين الماضيين يا ابنتي .
- ولماذا دفنوه وحيدا بين هذه الجبال يا أبت !
- لم يكن له أحد يصحبه إلى مقبرة يا حبيبتي .
الطين غير الجاف على الكوة جعل عائشة تشك في قول الاب بطرس. ومع ذلك لم تقل شيئا لكنها راحت تنظر الأرض من حولها لتستقر نظراتها على فردة حذاء أبيها ملقاة بين حجرين . نزلت عن الحمار .. بدا الأب بطرس ذاهلا إذ شاهد الحذاء ،ولم يعرف حسن ماذا يفعل ، وأخذ يتمنى من الله أن يلهم الأب بطرس هذه المرة فقط ليعرف ماذا يقول للطفلة .
اقتربت عائشة من الحذاء. انحنت عليه . أمسكته بيديها ورفعته وهي تقترب من الأب بطرس . لم يستطع الاب أن ينظر إلى وجهها فأحنى رأسه وبدا عاجزا أمامها . اقتربت إلى أن وقفت أمامه ورفعت الحذاء بيديها الاثنتين وهي تتساءل مرددة ببطء :
- هل اصطحب الرب والدي وهو بفردة حذاء واحدة يا أبت ؟
- انهمرت دموع الأب بغزارة رغم أنه جاهد أمامها منذ الليلة الماضية حتى هذه اللحظة . وانحنى عليها يضمها معتصرا .. وسار بها باتجاه الكوة ..
" هنا يرقد والدك الطيب برعاية الرب يا حبيبتي. لقد توفى متأثرا بجراحه يا حبيبتي ولم يقتله الوحش.
بسطت الطفلة يديها تتلمس الطين وتنتحب. بينما الاب بطرس يتابع :
- ليس في وسعنا أن ننقله معنا يا حبيبتي.. فحملناه أنا وحسن ودفناه هنا وتركناك نائمة . قلت قد أستطيع أن أخفي الأمر عنك إلى حين آخر لأخفف من أثر الصدمة عليك . جاءك الضبع خلال غيابنا . لولا حمار حسن لفتك بك . فقد قطع رباطه وجاء يخبرنا . هرعنا إليك وأنقذناك بمعجزة .. فشكرا لله يا حبيبتي. هل تسمعينني يا حبيبتي.
- إنني أسمعك يا أبت .
ينزلها ويوقفها على الحجرين وهي تبسط يديها على الكوة وتنتحب.. بينما الأب بطرس يتابع:
أوصاني أبوك بك يا حبيبتي . فأنت منذ اليوم ابنتي. سأصطحبك معي لتعيشي مع اطفالي. ولن تحتاجي إلى شيئ طالما أنا على قيد الحياة .
أخذ نشيج الطفلة يتلاشى شيئا فشيئا .
نظر الاب بطرس إلى حسن . كان يجلس حزينا وقد أخفى رأسه بين يديه.
انتظر الأب بطرس عائشة إلى أن انتهت من وداع أبيها . قالت له وهي تنشغ : لننصرف يا أبت .
احتضنها الأب بطرس وأنزلها عن الحجرين وأركبها على الحمار .
ساروا وعائشة تنظر خلفها إلى الضريح إلى أن انعطفوا في منحنى الوادي فلم تعد تراه . حنت رأسها وأمسكت بشعر معرفة لحماروأخذت تعبث به جاهدة لأن تضفر منه خصلة ، لكنه كان قصيرا فلم تتمكن ..
*****
تجاوزت الشمس قمم الجبال وأخذت حرارتها ترتفع شيئا فشيئا .. عائشة تركب الحمار صامتة تنتابها بين فترة وأخرى نشغة بكاء . تنظر إلى حذاء أبيها الذي وضعته على وجه الخرج .. الأب بطرس يسير مترنحا خلف الحمار والعرق يتصبب من جبهته ، هواجس كثيرة تتصارع في مخيلته . يعبث بشعر ذقنه بين فينة وأخرى ..يتبعه حسن بخطى بطيئة .. ينظر إلى ما بين قدميه وقد شكل أطراف جلبابه ووضعهما تحت نطاقه .
لم يتوقفوا طوال الطريق إلا مرة واحدة، إذ مروا ببئر ماء فشربوا حتى ارتووا وملأوا القربة .
بلغوا مفترق طرق . كان على حسن أن يتجه إلى الجنوب الغربي حيث جبل المكبر الذي يقطن فيه بينما الأب بطرس يتابع طريقه نحو العيزرية فالطور .
- أبت !
- توقف الاب يطرس .
- يجب أن أنصرف من هذا الطريق يا أبت .
قال الأب بطرس بعد لحظة تفكر :
- أتريد حمارك الآن ؟
- كلا يا أبت إنني أتبرع به للدير.
نظر الأب بطرس إلى السماء لبرهة ثم إلى حسن :
- والأشياء التي حصلت عليها هل تحملها على ظهرك ؟
- نعم يا أبت .
- قد تكون ثقيلة !
- سأحمل بعضها يا أبت والباقي سأتركه للأطفال .
- يكثر الرب خيرك وأمثالك يا حسن . هيا لننزل ما ستأخذه .
أنزلا عائشة عن الحمار. أخذ حسن يضع بعض ما حصل عليه من الطحين في كيس. بينما الاب بطرس يقف شاردا ..
طوى حسن باب الكيس وأعاد الخرج بما بقي فيه على ظهر الحمار وأركب عائشة عليه .
حمل حسن الكيس على ظهره وعانق عائشة مودعا ومد يده للأب بطرس، فأخرجه من شروده.
تعانقا .. هتف الأب بطرس :
- ماذا تعمل يا حسن ؟
- أنا عامل غير مهني يا أبت أعمل في أعمال البناء والحفروغيرها ..
- هل لديك أطفال ؟
- ثلاثة يا أبت .
- اسمع .
- نعم يا أبت .
- هل تعمل معي في الدير؟
- أكون ممتنا لك يا أبت .
- اذن اذهب أحضر زوجتك وأطفالك سأجد لك الكثير مما تفعله في الدير .
- أنا ممتن لك يا أبت ألف شكر لك .
- العفو يا حسن لقد كنت أنت السباق إلى الخير والإحسان .
صافح الاب بطرس ثانية معانقا وانطلق وابتسامة فرحة تطوف على شفتيه .
*****
أخذ الأب بطرس يصعد السفح الشرقي لجبل الطور سالكا الطريق الذي يقال أن يسوع سلكها حين دخل القدس. يتحدث إلى عائشة ويجيب عن أسئلتها المتكررة عن أبيها في آخر لحظاته ، وصور الأطفال ولقاؤه بهم بعد قليل تجوب مخيلته .
شعر بإنهاك شديد .. جاهد وسار يتثاقل خلف الحمار إلى أن بلغ قمة الجبل . أحس الحمار أنه انتهى من الصعود فتوقف ليلتقط أنفاسه . توقف الأب بطرس من خلفه وهو ينظر إلى القدس بقببها ومآذنها وقد أشرف عليها من ارتفاع 2710 أقدام عن سطح البحر. حيث صعد يسوع إلى السماء. وبدا فرحا حين ادرك انه سيحتفل بعيد الفصح مع أطفال الديرهذه الليلة .
جابت عائشة بنظراتها مختلف الجهات ثم استقرت على مدينة القدس ، فأخذت تسأل الأب بطرس عنها وهو يجيبها .. وبينما هما كذلك شاهدا جنازة تطل من السفح الشمالي الغربي للجبل وتنحدر باتجاه كنيسة العذراء. كان ثمة أطفال ونساء يرتدون
الملابسش السود ويحملون أعواد السعف ويسيرون بصمت خلف التابوت .. نظرت عائشة إلى الأب بطرس متسائلة :
كان الاب بطرس قد عرف الأطفال والأخوات فوقف باهتا شبه فاقد الوعي ، وعندما سألته عائشة لم يتنبه لها .
انطلقت قدماه باتجاه الجنازة دون وعي. نزلت عائشة عن الحمار وخطت في أثره مسرعة إلى أن لحقت به وأمسكت يده .
نزل السفح مسرعا إلى أن بلغ الجنازة .
وقفت الأخوات بصمت وحزن ، وأبطأ الأطفال من سيرهم ثم توقفوا خلف الجنازة تلف الكآبة وجوههم وقد أحنوا رؤوسهم وانحدرت الدموع على وجناتهم .
نظر الأب بطرس إلى وجوه الأخوات متسائلا ..
- حنت الأخت لويزا رأسها لتخفي دموعها ونطقت ببطْ والغصات تقف في حلقها وموجة جديدة من الحزن تنتابها :
- لوسيا يا أبت !
جحظت عينا الأب بطرس وتغير لون وجهه . وردد ببطء وحزن " لوسيا "؟!
تابعت الجنازة سيرها بخطوات وئيدة . سار الأب بطرس خلفها بخطوات ثقيلة منهكة ممسكا بيد عائشة ، وقد أثقله الحزن والأسى .. يردد بين الفينة والأخرى" لوسيا لوسيا "
*****
أيلول 1977










(2)

العبد سعيد*

(1)
طرحت الجدة زبيدة عصبتها عن رأسها وأصلحت من وضع جلستها فوق كيس الخيش، وأخذت تروي قصة العبد سعيد للفتيات اللواتي تجمعن من حولها :
(( يجوز أن لا تصدقن هذه القصة يا بنات ، لكن وحياة أولاد أولادي أنني لا أكذب عليكن .. كنت ألعب مع أولاد العشائر في السهل الفسيح المنبسط أمام عشرات بيوت الشعر، وكان سعيد ابن عبد الشيخ علي يلعب معنا. كم شاهدت في حياتي أبناء عبيد لكني لم أشاهد مثل ذاك الإبن .. وحياة رأس والدي أنه كان كان ينقض على الأولاد كما ينقض الصقرعلى طيور الحجل .. ولد يا بنات
، ولد لم تلد مثله النساء من قبل .. فهو أطول من عمود البيت ،وله وجه لوحته السمرة ، وبلا ركبتين ، لذا كان يسبق كافة الأولاد في الجري .
وبينما كنا نلعب ذلك اليوم ، مر الشيخ علي يتبعه العبد قعدان .. كان أولاد العشائر يهجمون على سعيد من كل صوب ، فيصرخ في وجوههم ويبدأ بطرحهم أرضا واحدا بعد الآخر . أما نحن الفتيات فكنا نقف جانبا ونرقب المعركة باهتمام .. تصورن أنه كان يطلب من أبناء العبيد عدم التدخل في الصراع والوقوف إلى جانبه ضد أبناء العشائر ، إلا إذا هزم ، لكنه نادرا ما كان يهزم .
وعندما شاهده الشيخ علي ، وقف يرقبه في اندهاش من على ظهر جواده ، كان قد طرح كافة الصبية أرضا ، وعاد يقف إلى جانب أبناء العبيد، ونحن نقف في ابتهاج ، حتى أن صبية العشائر طأطأوا رؤوسهم خجلا منا .
التفت الشيخ إلى العبد قعدان وقال له ( إذا ما كبر هذا الطفل فلن تبقى امرأة في العشيرة إلا وتنزع ثيابها له ، اذهب وأتني به سأقطع خصيتيه ) !!
وقف العبد قعدان حائرا للحظة ، ثم تهاوى على الأرض وأخذ يبكي ويذر التراب على رأسه !!
فقال له الشيخ :
- ما الذي ألم بك يا عبد النحس ؟
قال العبد قعدان :
-إنه ابني يا سيدي الشيخ إنه ابني !!
فقال الشيخ :
-أنا لا يهمني إذا كان ابنك أم غيره ، يجب أن تحضره وإلا ستكون وذريتك مطرودا من عشيرتي حتى سابع عشيرة إلى يوم الدين !!
ولكز الجواد فانطلق به نحو مضرب العشائر .
لم يجد العبد قعدان مفرا من ذلك .. نهض عن الأرض وسار باتجاه الأولاد . قاد ابنه من يده والدموع تتدحرج على وجنتيه.. وسارعشرات الأولاد من خلفهما ..
بلغ الخبر مسامع الناس فتجمعوا في الساحة أمام بيوت الشعر ، وأحاطوا بالعبد قعدان وابنه..
أشعل الشيخ النار ، وأحضروا له سكينا فوضع نصله فيها ..
قال سعيد لأبيه قعدان :
- لماذا أشعل الشيخ النار ووضع السكين فيها يا أبي ؟
فلم يعرف الأب بماذا يجيب، لكنه خاطب الشيخ :
- ألا يسمح لي سيدي الشيخ أن أبتعد لأنني لا أستطيع تحمل ما سيحدث .
فسمح له الشيخ قائلا :
- إلي بالولد ولتنصرف حيثما شئت :
أسلم العبد قعدان ابنه إلى الشيخ وانصرف .
أحس الولد بالرعب فأخذ يصرخ وينادي والده جاهدا لأن يفلت من يدي الشيخ ، لكن يدي الشيخ كانتا تتصلبان على معصميه عدا أنه أمر بإحضار الحبال ليقيدوا الولد ويشلوا حركته .
قيدوه من يديه ورجليه ، لكنهم لم يحدوا من حركته ، فأمسك رجلان بيديه ورجلان بقد ميه .. ثم جاؤا بخيط من القنب، حصروا خصيتي الولد أسفل كيس الخصيتين وربطوا الخيط من فوقهما .
أخرج الشيخ السكين من النار فبدا أحمر كاللهب .. ابتعدت بعض النساء فيما أخفى بعضهن وجوههن .. وهرعت أم سعيد من بعيد وهي تصرخ ( ابني ابني ) مرر الشيخ السكين من تحت الخيط فقطع الخصيتين وألقى بهما بعيدا فلاحقتهما عيون الناس وهرع الأطفال نحو المكان الذي ستسقطان فيه !!
انقضت أم سعيد كلبوة فقدت أشبالها .. انتزعت الولد من بين أيدي الرجال وانطلقت به عائدة إلى البيت وهي تصرخ بحرقة وألم .
(2)
قلت لكن أنه يجوز أن لا تصدقن يا بنات ، لكن هذا ما حدث بالفعل وهو ليس كل الذي حدث ، فقد كبر سعيد وأخذ يرعى قطعان الشيخ التي يزيد تعدادها على سبعة آلاف وخمسمائة نعجة وماعز . نعم يا بنات كان يرعى كل تلك القطعان وحده ، ويا ليتكن ولدتن من قبل لتشاهدن ذاك الفتى الأسمر ، إنه الراعي الوحيد الذي لم يكن يصطحب الكلاب معه ، وقد لا تصدقن أنه عندما كان الذئب يسطوا على قطعانه كان يجري خلفه إلى أن يلحق به ويخلصه الشاة التي خطفها ثم يسمه بوسم القطيع على أذنه ويطلق سبيله !!
إن هذا أغرب من الخيال يا بنات لكنه ما حدث بالفعل فلا تلمنني إذا ما تنهدت وبكيت بحسرة على ذاك الفتى الأسمر الطيب ن فكم من أرانب برية وذئاب وضباع وغزلان أمسك بها ووسمها بوسم القطيع واطلقها .
آه آه ..!! أما عندما كان يعزف على الناي أو المجوز أو الأرغول ، فهذا ما لا أستطيع وصفه لكن . قلت لكن يا ليتكن ولدتن من قبل لتشاهدنه ، فهؤلاء الرجال الذين تشاهدنهم الآن ليسوا رجالا !!
كان سعيد يجلس دائما على رابية عالية والقطعان تنتشر من حوله في الأودية وفي الجبال وبين الشعاب ، ويشرع في العزف :
تثبت كل شاة في مرعاها .. تتوقف الطيور عن تغريدها .. تمر أسراب القطا عبر الفضاء وتحلق فوق رأسه ثم تحط على مقربة منه .. تتوقف النساء عن قطع الحطب وتعشيب الزرع ، وقطف الخبيزة والبابونج ويجلسن يتنصتن .
تداعب أصابعه ثقوب المجوز بخفة .. ينتقل الصوت عبر الأودية والشعاب ليتردد صداه من قفر إلى قفر محمولا على أجنحة الريح !!تخرس كل نايات الرعاة وأراغيلهم ومجاوزهم .. تتجه أغنامهم إلى الناحية التي يسمع فيها صوت ناي سعيد .
تدور النشوة في رؤوس النساء اللواتي يحتطبن أو يغسلن الثياب أو يعشبن ، فيتسللن إلى سعيد وينزعن ثيابهن أمامه ، إذا لم يكن في مرأى من أعين الناس ، وإذا كان كذلك فكن ينزعن ثيابهن في أماكن تقيهن العيون !
وذات يوم يا بنات – قربن آذانكن لأهمس لكن – كنت أحتطب في واد يرعى فيه سعيد قطعانه . سمعته يعزف فتسللت إليه .. نزعت ثيابي أمامه قطعة قطعة وجلست عارية بين يديه !! لم يتوقف عن العزف وخلال لحظات كانت نسوة كثيرات يتعرين ويجلسن أمامه خاشعات بين الحجارة والصخور !!
(3)
لا تصدقن يا بنات من يقول أن المرأة لا تؤتمن على سر ، فلم يكتشف أحد أن النساء يتعرين عندما يسمعن عزف سعيد ، على الرغم من أن أغلب نساء العشائر تعرين عند سماعه ولو داخل خدورهن !!
وجاء يوم يا ليته لم يأت ! آه آه فقد جاء فرسان الأتراك من القدس ليجمعوا الضرائب لخزينة السلطان . كانوا يجوبون الأودية والجبال بحثا عن القطعان لتعدادها وللحصول من أصحابها على ضريبة عن كل شاة .
أقبلوا على سعيد .. كانت قطعانه تنتشر على مساحات كبيرة بين الأودية وعلى سفوح الجبال وقممها ..
قال له مأمور الفرسان :
- أنت الذي ترعى كل هذه القطعان ؟
- نعم يا سيدي المأمور .
- وحدك ؟
- نعم وحدي يا سيدي !
- وهل تستطيع حمايتها من الذئاب؟
- نعم يا سيدي .
- وكيف تتركها تنتشر بين حقول الزرع هكذا ؟
- إنه لم ينبت جيدا بعد يا سيدي المأمور ، ثم إنني طوعت قطعاني على عدم الإقتراب من الزرع !!!
وهنا صمت المأمور للحظات مخفيا دهشته من قول سعيد ، وراح يجوب بنظراته مختلف الجهات
فبدت له الأغنام أكثر من النمل ، فاحتار في أمره ولم يعرف كيف سيعدها .. نظر إلى سعيد :
- قل لي أيها العبد !!
- نعم يا سيدي المأمور .
- ألا تتفقد قطعانك كل يوم ؟
- نعم إنني أتفقدها يا سيدي .
- كيف ؟
- أقوم بعدها يا سيدي !
- ألم يسبق ووجدتها تنقص شاة أو أكثر ؟
- لم يسبق يا سيدي !
- وكم تعداد قطعانك ؟
- سبعة آلاف وثمانمئة وإحدى وثمانون شاة يا سيدي !!
- وهل كلها لسيدك ؟
- إنها لكل العائلة يا سيدي لكن سيدي يملك أكثرها .
وصمت المأمور قليلا .. نظر إلى وجوه الفرسان ، ثم نظر إلى سعيد :
- اسمع أيها العبد !
- نعم يا سيدي .
- أنا أصدقك ولن أقوم بعد القطعان ، لكنني لن أبرح مكاني هذا قبل أن أرى كيف تجمعها وتعدها ، ما رأيك ؟
صمت سعيد للحظة موجسا أن يحدث له شيء، قال :
- هل يحلف سيدي المأمور بالله ورأس السلطان أن لا يمسني بسوء إذا ما فعلت ذلك ؟
- إنني أحلف أيها العبد !
وهنا اعتلى سعيد صخرة عالية يا بنات ، هيأ مجوزه وشرع يعزف لحنا خاصا ..
نزل الفرسان عن خيولهم حين أدركوا أنهم سيسمعون عزفا غير عادي ، وجلسوا على الحجارة ينصتون وينظرون إلى القطعان ..
راح صدى اللحن يتردد من سفوح الجبال وأعماق الأودية..
أخذت الأغنام تهرع من كل صوب وتقف في طوابير منتظمة أمام سعيد .. انتظمت النعاج في طابور والمعز في طابور آخر .. وصلت كافة الأغنام وانضمت إلى الطابورين .. توقف سعيد عن العزف لكنه لم ينزل عن الصخرة .
همس المأمور في اذن معاونه :
- قل لي برب الكائنات ؟!
- ماذا يا حضرة المأمور ؟
- إذا كان هذا فعل العبد بالأغنام ، فما بالك بالنساء بالله عليك ؟!!!
همس المعاون دون تردد:
- أعتقد أنهن يشمرن له عن أفخاذهن يا حضرة المأمور !!
ونظر المأمور إلى سعيد نظرة ماكرة :
- ألا تنزل أيها العبد ؟
تنبه سعيد بفطنته إلى أن المأمور يبطن له الشر !!
- لن أنزل يا سيدي !!
اعتلى المأمور جواده وحاول أن يصعد إلى سعيد ، لكنه لم يظفر به ، فقد وثب سعيد عدة وثبات وراح يتسلق صخور الجبل ، فلم يستطع الجواد أن يلحق به ، لكن المعاون تنبه إلى أمر هام ، فالتفت إلى المأمور :
- جاءتني فكرة يا حضرة المأمور!
- ما هي قل ؟
- أعرف أن هؤلاء العبيد يحرصون على القطعان التي يرعونها أكثر من حرصهم على أنفسهم ، فإذا ما أوهمنا هذا العبد اننا سنأخذ قطعانه ، فسيلحق بنا لاستردادها .
- انت مدهش يا حضرة المعاون ، هيا بسرعة ولننهل على الأغنام بالسياط.
- أحاط الفرسان بالمعز والنعاج وانهالوا عليها بسياطهم وساقوها أمامهم . جن جنون سعيد فأخذ يصرخ من على صخرة مناديا :
"ألم تحلف بالله ورأس السلطان أنك لن تمسني بسوء يا سيدي المأمور فلماذا تأخذ قطعان سيدي "؟
خاطبه المأمور بأعلى صوته:
" لن نفلت الأغنام إلا إذا سلمت نفسك لنا أيها العبد "!
شاهد الناس الفرسان يسوقون القطعان فأخذوا ينظرون من على قمم الجبال..
هرع سعيد خلف الفرسان وهو يدرك في قرارة نفسه أنه يسلم نفسه إلى قدره .. لحق بهم .. لم يكن خائفا .. نزل الفرسان عن خيولهم . أمسكوا به .. قيدوا قدميه وطرحوه أرضا . وضعوا يده اليسرى على حجر .. استل المأمور سيفه وأهوى به على أصابعها فبترها .....
(4)
ايه يا بنات .. قلت لكن أن لا تلمنني إذا ما تنهدت وبكيت ، فكم تغير العبد سعيد بعد ذلك .. لم يصدق أحد أن هذا هو سعيد الأمس ، فقد ترهل كل شيء فيه ، ضمر جسمه ، وبرزت عظام صدغيه ، وغارت عيناه في رأسه ، وتهدل هدباه ، وخارت قواه ، ولم يعد يهتم بنفسه ، وأهمل قطعانه ، فلم تعد تذعن له ، وأصبح يتعذب كثيرا في السيطرة عليها وجمعها ..
وذات يوم داهمت الذئاب قطعان سعيد ، فهربت القطعان أمامها .. راحت الذئاب تشتتها بين الأودية وعلى سفوح الجبال وكلما لحقت بشاة فتكت بها وتركتها لتلحق بأخرى .. إلى أن أتت على الكثير من الأغنام ..ولولا هروع الناس من البيوت لأتت على معظم القطعان ..
حين بلغ الخبر مسامع الشيخ جن جنونه، وانهال على سعيد بالضرب المبرح ما أن مثل أمامه .
وأقسم برأس والده أنه سيجعل منه عبرة لكل العبيد إذا ما شاهده في ربوعه .
هام سعيد على وجهه لا يعرف أين تجره قدماه ... وانقطعت عنا أخباره منذ ذلك اليوم يا بنات .
*****
1978












(3)
أم الغيث ثلاثية














(1)
أم الغيث!

(1)
تدافعت الأغنام حول أحواض البئر وقد فتك الظمأ بها . رفع الراعي عوده أذيال جلبابه ووضعها تحت نطاقه . ألقى بالدلو في البئر. وأطلق الرشاء حتى اصطدم الدلو بالقاع. انتظر قليلا وأخذ ينشل وهو يحدي محاولا أن ينسى مأساة القحط :
باطل ونا راعيكن ... من مية زمزم لاسقيكن .
كان الماء آسناً وقد تغير لونه . امتعض . أفرغ الدلو في الحوض. بدت المياه أقرب إلى الطين منها إلى الماء . مدت الأغنام رؤوسها . وما أن تذوقت الماء حتى توقفت عن الشرب وأخذت تعفط وتهز رؤوسها وتبتعد عن الأحواض وهي تثغو وتهمهم ..
توقف عودة عن الحداء وشتم في سره المندوب السامي ، الذي وعد المخاتير بجلب الماء إلى قرى القدس التي جف الماء في أبارها ، ولم ينفذ وعده حتى اليوم . ونظر إلى قمة جبل المكبر حيث ينتصب قصر المندوب عاليا ، محاطا بأشجار السرو الباسقة . وتساءل في سره عما إذا كان المندوب قد ذاق طعم العطش في حياته . وظل يرنو إلى الجبل ومخيلته تبحث عن ماء يروي به عطش أغنامه .
*****
جلس العم محمد فوق تراب الحقل . عبث بالتراب وأخذ يفرغه من يد إلى يد . تذكر أيام الخصب حين كان الزرع يغطيه حتى الحزام . وجابت عيناه مختلف التلال والشعاب إلى أن استقرت على رمة حماره الوحيد الذي مات من الجوع . كانت الكلاب تتجمع حول الرمة وتنهشها من جوانب مختلفة ، بينما كانت بعض الغربان تحلق فوقها وتنعب وكأنها تندب نصيبها من الرمة .
اضطجع العم محمد واضعا خده فوق التراب والدموع تترقرق في عينيه .
****
عرت خديجة البسيط صدرها واحتضنت طفليها التوأمين وضمتهما إليه وألقمتهما نهديها .. اعتصراهما .. لم ينزل منهما قطرة واحدة . أخذا يبكيان . أجلستهما جانبا وسخنت قليلا من الماء لتدرأ به جوعهما .
****
تحلقت مجموعة من النساء بصفائحن وقربهن وجرارهن حول صهريج الماء الذي أحضره الانكليز خصيصا للشيخ علي ، ورجون الشيخ أن يضع لهن ولو القليل من الماء. غضب الشيخ من "هؤلاء المقاطيع الذين لا يدعونه يذوق طعم الراحة والهناء ، فيرسلون نساءهم ليتسولن الماء من بيته " وأعلن امام النساء أنه لن يوزع الماء مجانا .. فقد كلفه الصهريج ثلاثة جنيهات استرلينية بالتمام والكمال! وأنه لن يبيع الماء بأقل من قرشين للصفيحة الواحدة .
عادت النساء بلا ماء . قالت ثريا ابنة العم محمد بعد أن ابتلعت لعابها ومررت لسانها على شفتيها لترطبهما " يلة يا بنات خلينا نجيب الحمير ونروح على بير أيوب أحسن ما انموت من العطش "
وقالت ذوابا زوجة الراعي عودة وكانت قد جابت القرية هي وعائشة العلان بحثا عن قطرة ماء صافية :
" جنود النكليز سكروها وبركوا فوقها وقاعدين يبيعوا التنكة بقرشين "
وقالت مشايخ العلي وهي عجوز هد الشقاء حيلها :
" الله يقطعها من عيشة ! ول يا ربي لو أنك تنزل صاعقة تحرق هالدنيا وتسخطها ، حتى المي صرنا نشتريها مشترى "
وقالت الحاجة كافية وهي عجوز تنتمي إلى أسرة الشيخ علي :
" يا ولايا ما دام النكليز ببيعوا التنكة بقرشين من نبع بير أيوب ، ليش ما نشتريها من عند الشيخ علي بقرشين ونوفر على حالنا مشوار نص نهار ؟"
فقالت مشايخ العلي" والله لاو بنمشي طول النهار وبنجيبها من سيل الكلت ما بنجيبها من عند كرابتك "
وأوشكت مشاجرة عارمة أن تقع بين مشايخ العلي والحجة كافية لولا أن النساء بلغن بيوتهن وبدأن يتقرقن .
*****
(2)
" هيه يا عم محمد هيه "
رفع العم محمد رأسه عن الأرض العطشى ، وكان يتمنى أن تأتيه المنية وهو يعانقها حتى لا يرى المأساة التي ستحل بالناس من جراء أعوام القحط المتلاحقة . خيل إليه أن صوتا يناديه . نظر إلى مختلف النواحي فلم ير أحدا .. غير أن الصوت طرق مسمعه ثانية " هيه يا عم محمد هيه "!
كان الراعي عودة ينادي من قمة جبل دون أن يرى العم محمد . وبدا صوته جليا للعم محمد هذه المرة ، فقد نظر إلى مصدر الصوت فشاهد عوده يعتلي الجبل . نهض ولوح بأذيال عباءته .. شاهده عوده . أو مأ له العم أن يحضر إليه .
نزل عودة من قمة الجبل جريا إلى أن بلغ العم محمد .
" يا عم محمد انته نايم هون والقرية ماتت من العطش والجوع . . أطفال خديجة البسيط ماتوا فوق صدرها. والغنم مات منها ثلاث نعجات والكبش الأدرع . الكبش الأدرع مات يا عم محمد ! والحريم راحن لبيت الشيخ علي وما رضي يحط لهن مي إلا بمصاري . والنكليز احتلوا بير أيوب ومنعوا الناس يملوا إلا بمصاري كمان . وكلاب الشيخ عطية انسعرن وسطين على قطيع فهد المشلح وفتكن بتسع نعجات . وبغلة علي سالم لقوها ميتة في المربط . ومحمد فظة يا عم نسيت أقلك ، لقيوه شانق حاله في سد العقاب .. بقولوا إنه من يوم ما ماتن بقراته وطلق مرته وهو مجنون ، وبيقولوا إنه إله ثلث أيام معلق هناك ولولا واحد صياد شافه كان ما حدا دري عنه "!
بدا العم محمد ذاهلا وهو يستمع إلى عوده . واعتقد عوده أنه لم يسمع من كلامه كلمة . مد يده إلى كتفه وهزها .
- انته سمعتني يا عم محمد ؟
حرك العم محمد شفتيه كمريض فاق من غيبوبته لتوه .
- أيوه اسمعتك شو بدكم مني ؟
- بدنا نجمع النسوان ونسوي أم الغيث يا عم محمد، بلكي ألله يفرجها علينا وتمطر الدنيا .
وجم العم محمد قليلا فبدت الكآبة مرتسمة على وجهه ، ولم يظهر عليه أنه ضد الفكرة ، فنهض بتثاقل .
*****
(3)
ويا أم الغيث وغيثينا ... وجيبي المطر وسقينا
ويا أم الغيث ويا دنة ... وقربتنا غدت شنة !
وقربتنا غدت شنة ... من بعد المواريدي
ويا أم الغيث ويا دايم ... وبلي زرعنا النايم
ويا أم الغيث وغيثينا ... وجيبي المطر وسقينا
....
سارت عشرات النساء خلف شعبتين من شعب البيوت ، ربطتا على شكل صليب وألبستا بعض الأسمال البالية لتبدوا في شكل انسان . حملتهما مشايخ العلي وسارت في المقدمة . وسارت النساء من خلفها ، بينما سار الأطفال في الأمام والخلف وعلى الجانبين ، وهم يحملون المشاعل . بدت الأصوات شبه مبحوحة في البداية غير أنها أخذت تعلو وتحتد شيئا فشيئا، ثم تنسجم وتتحد . لم تكن أصوات ندب ، فهي أقرب إلى صوت المستغيث منها إلى صوت النادب , غير أنها تبعث الحزن في نفس المستمع . وقد انقسمت النساء إلى مجموعتين مجموعة تردد مقاطع تتجدد كلماتها في كل مرة ، بينما المجموعة الأخرى لا تردد إلا اللازمة " ويا أم الغيث وغيثينا .. " وتردد البيت مرتين في كل ترديدة . ولا يبدو أن اللحن متعب على المرددات . فهن يرددن المقطعين قبل أن يلتقطن أنفاسهن من جديد . كما أنهن لا يمددن الأحرف طويلا ، ما عدا حروف الياء كونها الحروف الأساسية في اللحن ـ فهن يمددنها اكثر من باقي الحروف ...
خرج الناس من بيوت الشعر والطين والحجر المختلفة . وجلسوا على جوانب طرق القرية ومداخلها وفوق السطوح ، وقد حضروا قليلا من الماء والطحين ، لينثروه فوق المسيرة عندما تمر من أمامهم ، ومكثوا ينتظرون ويتفرجون على مسيرة أم الغيث تحت جنح الظلام وعلى نور القمر ، فبدت المشاعل وقد أنارت الطرقات في مشهد أخاذ . وكانت الأصوات تتردد من جوانب القرية :
راحت أم الغيث تجيب الرعود... ما جت إلا والزرع طول الكعود
راحت أم الغيث تجيب المطر... ما جت إلا والزرع طول الشجر
ويا أم الغيث غيثينا ... وجيبي المطر وسقينا ..
جثت ثريا ابنة العم محمد على ركبتيها ، وشقت ثوبها عن صدرها ، وأخرجت نهديها واحتضنتهما من أسفل برفق وكأنها تحتضن فرخي حمام ، ووجهتهما إلى السماء وهي تميل بجسمها إلى الخلف ، وأخذت تتضرع إلى الله متوسلة من فوق سطح المنزل:
" يا ربي يا حبيبي بجاهك وجاه هالليل الهادي وصدري العاري ، وأنا البنت العذراء ، أن تفرجها علينا وترحمنا برحمتك يا رب "
نظر عودة إلى السماء شرقا وغربا . شمالا وجنوبا لعل الرب استجاب لاستغاثات أهل القرية وتوسلاتهم ومسيرتهم ، وأرسل بعض السحب .
وقف الشيخ عطا مدرس القرية أمام منزله ، وقال متضرعا كما كان يدعو الأطفال صباح كل يوم في الكوخ "المدرسة" ليرددوا " اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانتين "
جلس العم محمد أمام الخشة ذاهلا كئيبا كعادته .وقد أثقله الجوع والحزن والألم. وشوهد شاب يوزع منشورات تحرض الناس على النضال ضد الانكليز وطردهم من أرض الوطن . وإقامة جمهورية فلسطين الديمقراطية الاشتراكية !!وكان من عجب العجائب في نظر الشيخ عطا أن هذه المنشورات كانت تقول " المعامل للعمال والأراضي للفلاح " وكأن الذين يعملون في المعامل والأرض ليسوا من العمال والفلاحين .
هذا ما قاله الشيخ في سره وهو يقرأ منشورا على ضوء الفانوس ، والأعجب من ذلك أن بعض المنشورات الصغيرة كانت تطالب المندوب السامي بالماء والطعام والكهرباء والمدارس والعيادات الطبية ، وكأن بيده خاتم اللبيك !
انطلق صوت من فوق سطح منزل : " الغيث الغيث أجا من غربا "
كانت غيمات متناثرة قد ظهرت في الأفق الغربي ، فبدت وكأنها فوق سماء القدس ، فأخذت العيون تتطلع إلى الغرب في بهجة وأمل , ازداد حماس النساء وارتفعت أصواتهن الواهنة وأخذن يعرين صدورهن وينثرن شعورهن . وبدأت أصواتهن تتهدج من شدة التأثر .
هب الناس . وقفوا على السطوح والتلال والصفائح والبراميل . اشرأبت الأعناق ، وارتفعت الزغاريد ، واندفع بعض الناس خلف المسيرة التي توغلت في القرية وجابت معظم الطرقات والمداخل ، والناس ينثرون عليها الماء والطحين ويقدمون بعض فتات الخبز للأطفال .
أخذت الغيمات تقترب والعيون تنظر إلى السماء متوسلة مستغيثة . وصاحت الديكة قبل أوان الفجر، وبزغت نجمة الصباح من الشرق، وعاص كلب من حجر أصابه في راسه كان قد رماه به أحدهم .. وانطلق من الجبل المقابل عواء ذئب لم يحصل على فريسة لتلك الليلة ، فنبحت كلاب القرية باتجاهه . وفي أطراف البلدة سمع صراخ امرأة داهم ثعلب قن دجاجها وافترس ثلاث دجاجات ، فاختلط العواء بالعويص والنباح بالصراخ وصياح الديوك بأهازيج أم الغيث .
تبددت الغيمات وتجاوزت البلدة إلى الشرق . بحت الأصوات وأخذت المشاعل تتهاوى وتخلو بعد أن تعبت سواعد الأطفال من رفعها . وبدأت العيون تنظر إلى السماء وتذرف الدموع وتتوسل .
بدأت المسيرة تتبدد شيئاً فشيئا .. وقد عم الناس الحزن والأ سى . ردد الشيخ عطا قوله تعالى " وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " دون أن يعرف كيف ظلم هؤلاء الناس أنفسهم أو ظلموا الله حتى لا يستجيب لاستغاثاتهم . ألقى العم محمد جسده أمام الخشة شبه فاقد للوعي، وقد أحبطه اليأس .. وسمع صوت خديجة البسيط تندب طفليها بصوت مفجع وكأنها تندب العالم بأسره . وتعثرت مشايخ العلي بحجر فوقعت فوق "الشرشوح" الذي كانت تسير به أمام المسيرة . تفرقت النساء وعادت ذوابا زوجة الراعي عودة تقود مشايخ العلي من ذراعها .
زفر عودة نفسا عميقا حمل الخرج ووضعه على الحمار . قال لزوجته :
- أعطيني القربة وجلان المي !
- لويش يا عوده ؟
خرج عودة عن هدوئه وأخذ يصرخ بجنون بينما مشايخ العلي تئن بصوت حزين ، وتتذكر كيف نزلت السماء مدرارا ذات يوم عندما قامت النساء بمسيرة أم الغيث :
- لويش يا عوده ، لويش يا عوده، الغنم قتلها الظمأ وبتسأليني لويش؟ ودي أروح للشيخ علي أشتري منه مي وانقلها للغنم .
****
وعلى ذمة الراوي أن سعر صفيحة الماء في منزل الشيخ علي بلغ ثلاثة قروش عندما صاح الديك صيحته الثانية تلك الليلة ، وبلغ أربعة عندما بزغ النهار ، ثم بلغ خمسة عندما انتصف . وقالوا في القرية أن السعر قد استقر على ذلك . أما كم أصبح ثمن كيلو الطحين فلا يعلم بذلك إلا الله ، فقد روي عن الراعي عوده أنه ابتاعه بسبعة قروش . وروي عن مشايخ العلي أنها ابتاعته بتسعة . وكثيرون رووا غير أن رواياتهم لم تتطابق والله اعلم .
*****


(2)
الموت تحت الحوافر .
(1)
" يا ويلي يا حسرتي رحلوا وخلوني" "
وتدق : عليا " زوجة محمد فظة المطلقة صدرها بقبضتيها وتلطم خديها وتدخل إلى المغارة ، حيث كانت تقيد البقرات ، فتختلط في مخيلتها صور البقرات وهي في النزع الأخير والزبد يخرج من أشداقها بصورة الزوج الذي شنق نفسه " كان الحبل يتدلى من أعلى السد الصخري والجثة تتأرجح قليلا، والرأس يميل إلى الجانب الأيمن ، واللسان يبرز ذابلا من بين الشفتين ، والعينان تجحظان إلى أسفل "
" قالت له : لا تيأس يا محمد سيعوضنا الله عن البقرات ، وستمطر السماء فينبت الزرع وتنقبر أيام القحط إلى الأبد ، وتبتسم الحياة من جديد. لم يلتفت إليها . قال لها " أنت طالق بالثلاثة " ! وخرج تائها بين الجبال كما تاه ابنه ( علي ) ذات يوم ولم يعد .. ومرت أيام إلى أن وجدوا جثته معلقة بسد العقاب.
تنحدر عبرات حارة من عينيها وتأخذ في الندب والعويل وعيناها ترقبان المرقد الذي كان زوجها يخلد إليه ، والحبال التي كانت تقيد بها البقرات ، بينما الأطفال يبكون ويصرخون من حولها :
طير زعق بالفراق ... ريت أنا شفته
بإيدي كسرت القلم – والحبر أنا اشربته
طير زعق بالفراق ... ريت أنا ريته
بإدي كسرت القلم ... والحبر كبيته .
******
" تسع نعجات يا ويلي . تسع نعجات يا حسرتي . ومن وين بدنا نعيش يا ويل حالنا" تسع نعجات فتكت بها الكلاب المسعورة .. انقضت على القطيع وشتته بين الجبال والاودية ، وأخذت تبقر بطون النعاج ولم يفلح الراعي عودة في أنقاذ القطيع . ولو لم يهرع أهل القرية لأتت الكلاب على القطيع .
" يا ملعون أبوك يا شيخ عطية لا انته ولا كلابك ، الناس مش قادرين يحصلوا لقمة الخبز وانته حاط عندك خمس كلاب ومخليهن بالجوع .. "
وتندب زوجة فهد المشلح وأخواته النعاج ويذكرنها بأسمائها وهن يكنسن المراح " الدرعاء والصبحاء والشقراء وأم اللية وعيدة والحجلاء وأم الضروع – التي لا تلد إلا التوائم – والغراء والمرياع " فيتحول بيت فهد المشلح إلى مناحة كبيرة ، بينما الغبار يتطاير من جراء كنس الزبل من المراح ...
*****
شقي يا خديجة توبك عالصدر ... وأطفالك الاثنين ما ماتوا غدر
شقي يا خديجة ثوبك المنقوع ... وأطفالك الاثنين ماتوا من الجوع .
أتت خديجة البسيط على معظم شعر رأسها وهي تندب طفليها الصغيرين وتنتفه ، وقد شقت ثوبها ومزقت خديها بأظافرها .. يرتفع صوتها باكيا مفجعا فتحمله الريح الخفيفة إلى مختلف بيوت القرية المتناثرة بين الشعاب . فتلك زوجة علي سالم تندب البغلة الوحيدة لتي ماتت جوعا .. وتلك ذوابا زوجة الراعي عوده تندب الكبش الأدرع والنعجات الثلاث التي ماتت من العطش والجوع . وتلك ثريا ابنة العم محمد تجثم تارة قرب رأس ابيها –الذي بد يفقد وعيه منذ ليلة اول امس – وتارة تندب الكبش الادرع والنعجات الثلاث مع زوجة ابن عمها ذوابا .. وثمة أصوات كثيرة لم تفقد أملها بالله تتردد من مختلف الشعاب والتلال:
يا ربي يا عوادي ... سحابة تجر الوادي
يا ربي ما هو بطر ... بنشحد منك المطر .
يا ربي ما هو غية ... بنشحد منك المية .
يا ربي ليش هالكنة ... أكلنا طحين الكرسنة .
****
(2)
تتوالى صهاريج الماء وسيارات الشعير والطحين والقمح ومختلف الحبوب والسلع من قبل الانكليز إلى بيت الشيخ علي، ليملأ البئر والصهاريج الاحتياطية بالماء ، والمخازن بالحبوب والطحين ومختلف السلع الاستهلاكية الضرورية ولا عجب في ذلك ، فللشيخ مكانة مرموقة لدى الانكليز، فهو العين الساهرة على كل ما يمكنه أن يشكل أي خطر عليهم .. وعندما قابل المندوب السامي بعد تمرد قام به القرويون منحه سلطة مطلقة على كافة قرى المنطقة وعشائرها وحمائلها .. وجعل علاقة المخاتير بسلطة الانتداب من خلاله !
يتجمع الناس بصفائحهم وقربهم ليملأوها بالماء ، وبحميرهم وبغالهم المحملة بالخروج ليبتاعوا ما يحتاجون إليه. تزدحم الساحة أمام بيت الشيخ بعشرات القرويين والقرويات . ويجلس كل واحد منهم في انتظار مقيت حتى يلحقه الدور ليحصل على صفيحة ماء أو كيلو طحين .ارتفعت الأسعار بجنون رهيب خلال ساعات إلى أن أصبحت شبه مستقرة . ينادي مناد من أعوان الشيخ :
" تنكة الماء بخمسة قروش ! كيلو الطحين بتسعة . كيلو الشعير بسبعة . سارعوا لشراء ما تحتاجون إليه ، فاليوم أفضل من الغد ، وادعوا للشيخ علي بطول العمر ، فهو منقذكم وراعيكم والساهر على راحة اطفالكم واطمئنانكم في الأزمات وأيام القحط السوداء "
قال الراعي عودة وهو يمسك برسن حماره في انتظار الدور، ويكز على أسنانه من شدة القهر الذي كان يغلي في صدره :
" داهية توخذك وتوخذ شيخك "
ولم تجد عائشة العلان وهي تنتظر دورها إلا أن تحرق في مخيلتها الشيخ علي وأعونه والانكليز ! وقالت امرأة اخرى " باطل وين النشاما " ! وتطلعت في ما حولها علها تجد أحدهم ، فشاهدت الراعي عوده ينظر إليها بعينين ينبعث منهما غضب مخيف .. وذاك ذاك الشاب مفتول السواعد الذي يتلثم بكوفيته . إنه الشاب
الذي كان يوزع المنشورات ليلة مسيرة أم الغيث للسماء لعلها تمطر .إنه ينظر إليها بإصرار قد يفوق إصرار عودة .
حقد مخيف يغلي في القلوب . القرية تجلس على بركان من النار والغضب . من يشعل الفتيل ؟ من يشعله ؟
(3)
بلل الراعي عوده وجه العم محمد بقطرات من الماء البارد . أخذ يهذي بكلمات فهم منها اسم الشيخ على والانكليز . فتحت ثريا ذراعيها وتطلعت إلى السماء متضرعة راجية من الله ان ينقذ والدها .
فتح العم محمد عينيه . بدأ وجه عودة يتضح له شيئا فشيئا . بدا ذاهلا وهو يتذكر آخر لحظات عاشها قبل أن يسقط شبه فاقد الوعي " كانت الغيمات تتجاوز القرية وتتبدد والمشاعل تخبو، ومسيرة أم الغيث تتفرق . وكان الحزن يلف الوجوه ، والشيخ عطا يردد بعض الآيات القرآنية .." تذكر العم محمد كل هذا ونهض جالسا في ذعر . أمسك عودة بذراعه الأيمن وأمسكت ثريا بذراعه الأيسر وجلست ذوابا بالقرب من قدميه . نظر إلى الوجوه وقال بحدة :
- عوده !
- أيوه يا عم محمد .
أنا وين ؟
- بسم الله الرحمن الرحيم أنت معنا يا عم محمد هي احنا قدامك . هي ثريا وهي ذوابا وهي أنا ..
- السما مطرت ولا لا ؟
- ما مطرت ياعم .
- جبتو مي للغنم ؟
- جبنا يا عم.
- من وين ؟
- من عند الشيخ علي . شريناها بمصاري.
- ولي ما معه مصاري يا عوده ؟
- إله الله يا عم !
وأخذ عوده يخبر العم محمد بكل ما حدث خلال اليومين السابقين . لم يصدق العم ما قاله عوده . يومان يمضيان وهو فاقد الوعي . صفيحة الماء بخمسة قروش . كيلو الطحين بتسعة ! كيلو الشعير ...شو هاظا ؟! هل جاء الشيخ بالماء والحبوب من بلاد واق الواق ؟
وصمت العم محمد قليلا فتناهت إلى أسماعه أصوات الندب من نواح مختلفة .
- شو فيه يا عوده ؟
- النساء ينعين الناس إلي ماتوا والغنم والدواب إلي فطست من الجوع والعطش !
وأخذ العم محمد يتذكر من جديد ، فمر في مخيلته شريط المآسي الذي نسيه في غيبوبته ، حتى أنه تذكر رمة حماره الوحيد والكلاب تنهشها .. نهض واقفا وقد اكتسى وجهه بملامح الغضب ."
" اطلق ذراعي يا عوده ، هل الناس ماتوا ؟ ها ؟ قل لي وين الرجال ؟ ونتع ذراعه من يد عوده ويد ثريا. اقترب من قن الدجاج وأخذ رفشا كان ملقى عليه .. وفي تلك الأثناء كان الشاب مفتول السواعد يعبر الطريق حاملا رفشه على كتفه وينطلق بخطى ثابتة باتجاه بيت الشيخ علي ، ولثمته تدل على الغضب والثورة .
رأه العم محمد فتبعه وعيناه تنظر إلى الأمام بإصرار وغضب ، ولم يبد عليه أنه شيخ مسن ومريض وجائع !
خرج الناس من الخشش وبيوت الطين وخرابيش الخيش وبيوت الشعر. شاهدوا العم محمد يتبع الشاب مفتول السواعد . انثنى الراعي عودة إلى فأس وحملها وانطلق .. اعترضته زوجته فدفعها بيده قائلا " بعدي عن طريقي يا حرمه "!أمسكت خديجة البسيط بشعبة خربوش الخيش وسحبتها فانهد الخربوش. حملت الشعبة وسارت .
انثنت عليا زوجة محمد فظة على مناجل الحصاد .. حملت اثنين وأعطت الباقي للناس.. ,هرعت زوجة علي سالم إلى مربط البغلة وخلعت الوتد الذي كانت تقيد البغلة إليه .وقف الشيخ عطا على حجر وأخذ يردد الآيات القرآنية وخرزات المسبحة تمر بين أصابعه بسرعة . أما " عائشة العلان فقد وقفت باهتة . ومرت في مخيلتها للحظات طفولتها مع أبيها الضرير في موسم النبي موسى في العهد التركي ، وصحبتهما مع الأب بطرس الذي ضمها إلى أطفال الدير الذي يرعاه .. دب الضجيج في بيت العجوز فهد المشلح . حملت زوجته سكين المطبخ وحملت شقيقته هراوة مجرفة . ولم تجد زوجة ابنه إلا مسعار النار.
دب الهرج والمرج وارتفع الصراخ ووقف البعض على التلال ينظرون . عشرات الرجال والنساء يهرعون بفؤوسهم ورفوشهم وعصيهم وهراواتهم وشعبهم ومناجلهم إلى بيت الشيخ علي. ولم تجد ثريا ابنة العم محمد إلا أن تزغرد لتحمس الرجال .. فزغردت والدموع تتدحرج على وجنتيها . وزغردت ذؤابة من خلفها فتبعتهما عائشة العلان وعشرات النسوة .
*****
دخل أحد أعوان الشيخ علي وارتمى مذعورا أمام الشيخ :
" القرية فزعت علينا بالعصي والفؤوس يا شيخ " نهض الشيخ مذعورا بدوره " ماذا " ؟ وأطل من شرفة المنزل فشاهد عشرات القرويين يهرعون عبر التلال والشعاب في جنون وغضب .
امتطى الشيخ ظهر جواده وخاطب أعوانه : : دافعوا عن المخازن وصهاريج الماء والبيت على بين ما أجيب الانكليز " وأركن إلى الفرار .
أقبل الشاب مفتول السواعد يتبعه العم محمد . اعترض طريقه أحد أعوان الشيخ . صفعه بعرض الرفش على أذنه فخر على الأرض طريحا .. أطبق اثنان آخران على الشاب وتصارعا معه بعصيهما ،وكادا أن يطرحاه أرضا ، فقد نالاه بضربة من عصا على ذراعه ، لكن العم محمد كان يصل في تلك اللحظة وكل همة الشباب تعود إليه ، ضرب أحدهم بحافة الرفش على أم رأسه فسقط على الأرض صريعاً ، وهرب الثاني على أثر ضربة رفش من الشاب على ظهره كادت أن تطرحه أرضا .
ما أن شاهد أعوان الشيخ زميلهم يهرب والناس يقتربون هارعين حتى ولّوا مدبرين .
ذهلت ذوابا عندما شاهدت عودة يثب وثبات طويلة ليلحق بأحد الأعوان ، لكن الآخر كان قد ابتعد ، فوقف عودة ولوح بفأسه وقذفها خلفه لترتطم بظهره وتطرحه أرضا . وأكثر ما أذهل ذوابا براعة زوجها في قذف الفأس ، التي رسمت بقذفها قوسا في الفضاء قبل أن تقع على ظهر الهارب. وخالجها الندم لأنها خافت عليه وحاولت أن تمنعه عندما انطلق ليلحق بالعم محمد.
وصل عودة إلى العون ليجهز عليه ، غير أنه فوجئ بخديجة البسيط تبعده جانبا والغضب يتطاير من عينيها ، وهي ترفع شعبتها عاليا وتنهال بها على رأس العون ، الذي كان يتلوى على الأرض، ولم يستطع عودة أن يحتمل ما حصل بعد ذلك ، فقد أخرجت خديجة البسيط سكينا من جيبها وقلبت العون على ظهره وشقت صدره وأخرجت كبده وأخذت تلتهمه في جنون مخيف، وهي تهذي بكلمات لم يفهم منها عودة سوى اسمي طفليها الصغيرين اللذين قضيا جوعا وعطشا فوق صدرها .. أغمض عودة عينيه لبرهة وانثني عائدا ..
اقتحم الناس مخازن الحبوب والطحين ومختلف السلع .. كانت أصوات تطالب بحرق المخازن والبيت ، وأصوات تسأل عن مكان إقامة عائلة الشيخ لتشفي غليلها منها ..
وقف الشاب الملثم " مفتول السواعد " فوق صهريج وأخذ يخاطب الناس :
" يا اخوان، يا اخوان ... الشيخ راح يجيب الانكليز من القدس وييجي لا تفكروه هرب . ما فيه معانا وقت . هاتوا الحمير والبغال وحملوا كل شي في المخازن ، وخذوه عالقرية وخبوه . وبعدين بتوزعوه بينكم كل أسرة حسب حاجتها . وهاتوا براميل وصفائح وقرب لملئها بالماء ونقلها إلى أبار القرية حتى ما نموت من العطش . بسرعة يا اخواني واختفوا قبل ما ييجوا الانكليز . اختفوا في بيوتكم وفي الجبال .. ولما ييجوا الانكليز لا تقروا لا بناكر ولا بنكير .. قولوا انكم لم تعملوا شيئا ولا تعرفون شيئا .. وطالبوا الانكليز يا اخواني بالماء والطحين والمدارس والعمل والكهرباء.. وما تنسوا يا اخواني وين ما القيتوا انكليزي وقدرتوا تقطعوا رأسه اقطعوه عالساكت وما تدروا حدا عنه . والشيخ علي يا اخواني جايه يومه بعد ما نخلص من الانكليز والصهاينة ! ونعيش بخير وحب وسلام في ظل دولتنا الفلسطينية .
كان كلام الشاب مقنعا إلى درجة لم يجد فيها الناس ما يخالفونه به . فاندفعوا إلى المخازن . حملت الحمير والبغال بـأكياس الطحين والقمح والشعيروالعدس والسكر والشاي والقهوة، فيما أخذ أخرون يملأون قربهم وبراميلهم بالماء من الصهاريج والبئر لتنقل إلى آبار القرية المختلفة حتى لا يكتشف الانكليز مكانه ويطمرونه .. والحال نفسها كانت من الحبوب والمواد الأخرى فقد خزنت في أماكن مختلفة كالكهوف أو دفنت في الأرض أو أخفيت في مخازن ..
وما أن أوشك الناس على الفروغ من النهب حتى دعا الشاب إلى التفرق والاختباء إلى أن تهدأ الأوضاع .. انطلقت أصوات توافقه القول وأخرى تدعو إلى مواجهة الانكليز .. صعد العم محمد إلى جانب الشاب فوق صهريج ماء ، وشرع في مخاطبة الناس :
"اسمعوا يأ اخوان ويا أخوات .. كلام الشاب صحيح فليس لدينا قدرة على مواجهة الانكليز ونحن عزل من السلاح ..روحوا اختفوا قبل ما ييجوا الانكليز .. أنا سأبقى هنا لمواجهتهم حسب استطاعتي"
رد عوده قائلا :
" باطل يا عم محمد وين نخوة الرجال ؟ انت تظل تجابه الإنكليز لحالك وحنا نروح نتخبا في البيوت والوديان ؟ ما بيصير هالحكي احنا قاعدين معك !"
أحست ذوابا أن قلبها قفز من بين ضلوعها . وعلى الرغم من قناعة الشاب بجدوى الاختفاء ريثما يهدأ غضب الانكليز ، إلا أنه أصر على أن يبقى إلى جانب العم محمد لعلهما يتفاديان نقمة الانكليز ولا تشمل القرويين كلهم . فتابع بعد أن حزم أمره على هذا الرأي :
" أنا رايح أظل مع العم محمد نستنا الانكليز على بين ما ييجوا ,, اختفوا يا اخوان ما ظل وقت ."
كانت خيول الانكليز تهرع من الغرب وبدت وهي تطل من قمة هضبة وتنحدر مع سفحها، ولم يبق أمامها إلى عبور بعض التلال والشعاب لتبلغ القرية .
****
بدأت بعض النساء والفتيات بالابتعاد ، ولم يبرح المكان إلا القليل من الرجال وبعض الطاعنين على الرغم من اصرار العم محمد والشاب . فقد لعب الحماس برؤوس الرجال فثارت النخوة والشهامة .. انحدرت خيول الانكليز من السفح وعبرت الشعب الذي يفصل ما بين الهضبة والتلال شبه المنبسطة .. أطلق الفرسان أعنة الخيول وأخذوا يلوحون بسياطهم ويطلقون النار في الهواء. ثار الغبار وتصاعد فانعقدت سحابة ما بين السماء والأرض . وبدأ الشيخ علي يتأخر بفرسه عن الفرسان ,
أمسكت الأيدي بالشعب والفؤوس والعصي والرفوش والمناجل .. انحبست الأنفاس واترتجفت قلوب النساء, تطلعت العيون إلى السماء. إنها الملجأ الوحيد للفقراء في ساعات الضيق .. ولم تجد ثريا ابنة العم محمد وهي ترقب من على سطح خشة الخيول الهارعة من الغرب ، إلا أن تجثو على ركبتيها وتخرج نهديها وتوجههما إلى السماء في خشوع مذهل في محاولة لاستدرار عطفها . ولم تبق امرأة أو فتاة في القرية إلا وجثت على الأرض وأخرجت أحد نهديها أو الاثنين ، أو كشفت عن رأسها ونثرت شعرها وتضرعت إلى الله من قلب منفطر ليقف إلى جانب الرجال ويكتب النصرلهم .
الدقائق تمر كلمح البصر .الخيول تنطلق بجموح رهيب . أيد تتصلب على الفؤوس والمعاول . عيون تجحظ في محاجرها بأهداب لا ترف . أقدام تتثبت في الأرض كما الفولاذ. نظرات قد تعبر من الصخر . وجوه مقدودة من الصوان .. تصر الخيول آذانها وتنطلق كاسهام . ينحني الفرسان ويمسكون بمعارفها ويلوحون بسياطهم . تزغرد امرأة فتشق زغردتها عنان الفضاء. تطبق الخيول على الرجال وتبدأ لحظة الالتحام .
تكبر امرأة وتهلل أخرى ووتتضرع ثالثة وتقلب العشرات نهودهن إرضاء للرب .. ترتفع السياط وتهوي على الأجساد ، وتخترق السناكي اللحم , يخر فارس صريعا من رفش العم محمد. ويجندل عوده آخر عن فرسه . ويسقط رجل تجلله الدماء .. تجمح النهود إلى السماء .. تصرخ .. تستغيث .. تحتضنها الأيدي ، تلفها ، تقلبها ، وتوجهها مستصرخة إلى أعلى ... يصرخ فارس من شدة ضربة تلقاها من رفش الشاب ..ويسقط أخر عن فرسه بضربة من شعبة خديجة البسيط . يسقط العم محمد تحت حوافر الخيول . تصرخ النساء برعب شديد ، وتنحبس أنفاس الأطفال. ويردد الشيخ عطا كلمات يتضرع بها إلى الله داعيا إياه إلى نصرة المؤمنين وهزيمة الانكليز. يصفع الشاب الملثم برفشه فارسا على ظهر جواده ، ويثني بصفعة أخرى على رأس فرسه ، فترفع قائمتيها الأماميتين إلى أعلى وتقف على الخلفيتين ، تهز رأسها يمينا وشمالا من شدة الضربة ، فيهتز شعر معرفتها ويتأرجح جسمها في الهواء ، يسقط الفارس عن ظهرها فينهال الشاب برفشه عليه ، فتنهال على الشاب السناكي والسياط.. يضرب عودة بفأسه يمينا وشمالا .. يسقط الشاب مضرجا بدمائه . تنطلق زغاريد وصرخات مذعورة . تهرع عليا بمنجلي الحصاد . تقترب من جتة الشاب وتضرب في كل الاتجاهات على غير هدى . يشهق العم محمد شهقته الأخيرة وحوافر الخيول تدوس على بطنه . يسقط عودة والدماء تنزف من جراحه .
يحيط الفرسان بالرجال ، ويقف الشيخ علي بعيدا يرقب المشهد من على ظهر جواده . يرفع الرجال أيديهم مستسلمين . ينزل الفرسان ويشرعون في تقييد أيديهم خلف ظهورهم ، ثم يربطونها بحبال قيدت إلى سروج الخيول . يجبر الرجال على السير إلى الى الخلف وراء الخيول . يتعثرون بالحجارة ويسقطون على الأرض ، فتسحبهم الخيول خلفها ..
.....








(3)
الربق !*
( ا)
قال الراوي : واستشهد منا في تلك المعركة ثلاثة رجال وجرح كثيرون بينهم الراعي عودة ، فنقلوا إلى المستشفى ، واعتقل الإنكليز خمسة عشر آخرين ، ولم يكتفوا بذلك ، فقد داهموا البيوت بحثا عما نهبه القرويون من مخازن الشيخ علي ، بعد أن فتك القحط بالكثير من المواشي وكاد أن يفتك بالناس . وأعملوا هدما وتخريبا في البيوت : خلطوا العدس بالشعير والقمح والطحين وأجبروا النساء على عزل كل نوع على حده، فقد قيل لهم أن النساء شاركن في نهب الحبوب من مخازن الشيخ ، كما أنهن شاركن في المواجهة ـ وثمة من عرين نهودهن ونثرن شعورهن وتضرعن إلى الله أن ينصر القرويين ، عدا أن بعضهن اعترك مع الفرسان بالمناجل والفؤوس.
لم يقف عسف الانكليز على هذا الحد ، فقد جمعوا من ألقي عليهم القبض مع باقي الرجال وحشروهم في الساحة القريبة من مخازن الشيخ علي ، وأجبروهم على الركوع ومن ثم ربقوهم بحبال غليظة في ثلاثة أربقة ، فأصبح هم الرجال الوحيد الإنعتاق من هذه الأربقة .
(2)
أخذ الليل يرخي سدوله .. وقف الحراس ببنادقهم وأحاطوا بالرجال المربوقين . تململ عواد شقيق الراعي عوده في الربق ونظر إلى سالم الذي ربق إلى يساره ، همس في أذنه :
- فكرك لأيمتا رايحين يخلونا مربوقين ؟
همس سالم دون أن يلتفت إليه :
- يا ملعون الوالدين الحكي ممنوع . أسكت أحسن تخرب بيتنا !
تمتم عواد بصوت خفيض: " حسبنا الله على الشيخ علي وعلى النكليز من وراه ، ليش بعدهم ما خربوا بيتنا "؟ ونظرخلفه حيث كبل باقي الرجال في ربقين آخرين . وبقدر ما أتاحت له الربقة التي طوقت عنقه وحدت من حركته ، وخاصة باتجاه الخلف ، جاهد لأن يرى معظم الرجال المربوقين . حاول أن يتأمل بعض الوجوه غير أن الظلام لم يمكنه من رؤيتها بوضوح . تنبه إلى كتف سالم تميل عليه وهو يهمس وينظر باتجاه أحد الحراس الذين كانوا يقفون على بعد خطوات منهم ." ما بتعرف إنه كمان ممنوع الواحد ينظر وراه " ؟! لكن عواد لم يأبه للأمر، حتى أنه همس بصوت أعلى : ولك هم شايفين في هالليل داهية توخذك ما أخوفك "
امتعض سالم وعاد إلى سابق وضعه ، ينظر أمام ركبتيه فبدا وكأنه خاشع في صلاة !
أحس عواد بتشنج في عروق رقبته ـ فأدار رأسه ونظر إلى المربوقين عن يمينه . بدوا وهم يجلسون كالحملان الوديعة ، حتى أنفاسهم باتت غير مسموعة . وتمنى في سره لو أن البعض ينامون علهم يغطون ، فيتمكن من التحدث بصوت أعلى ، وتساءل في سره عما إذا كان الغطيط في النوم مسموحا به أم لا ! أخيرا استقرت عيناه على عبد العطا المربوق عن يمينه فهمس إليه :
- يا عبد !
- أيوه ! أجاب عبد دون أن ينظرباتجاه عواد ، غير أنه أدنى رأسه قليلا :
- فكرك مطولة هالحالة ؟
- شو بيعرفني ؟
تمنى سالم في سره أن لا يعتقد الحراس أنه هو الذي يهمس فينهالون عليه بينما عواد وعبد العطا يتابعان الهمس:
- وإذا طولت شو بده يصير فينا ؟ البيوت ما فيها غير الحريم والأطفال معقول يعرفوا ايمشوا حالهم ؟
- أنا عارف ! اسمع !
- شو؟
- أنا أعتقد انهم رايحين يحققوا معانا ويفلتوا إلي ما له علاقة بجماعة القسام .
- واللي نهب من مخازن الشيخ واشترك في المعركة؟
- كلهم رايحين يعتبروهم من جماعة القسام !
- والباقين ؟
- بيفلتوهم !‍
- معقول ؟
- معقول . لأنه ما معقول يظلوا معتقلين الكل .
- بعد ما انقتل اثنين من النكليز وانجرح فرسان كتير ما رايحين يطلقوا سراح حدا .
- واحنا انقتل منا ثلاثة وانجرح اكثار واعتقلوا كثيرين .
- فكرك مين دفن الشهداء؟
- الحريم !
- أيه رحمة الله عليك يا عم محمد .
- تعيش يا عواد ! الله يرجع لك عودة بالسلامة.
- الله يسلمك ؟
وصمتا برهة .. قال عواد :
- فكرك مين هالشب الملثم إلي كان يحرض الناس؟
- بقولو ا إنه من هذول ما بعرف شو اسمهم!
- الشيوعيين ؟
- أيه !
- مش من جماعة القسام ؟
- لأ !
- طيب ما كان حدا من جماعة القسام؟
- كان !
- مين ؟
- ما بعرف بس الزلمة الثاني إلي استشهد بقولوا إنه من جماعته .
- ما ابتعرفه ؟
- لا بس بعرف الشب الملثم !
- بشرفك ؟
- والله !
- مين هو ؟
- علي ابن محمد فظة !
- مش معقول !
- والله ! ما شفت أمه عليا كيف هجمت على النكليز بمناجل الحصاد لما وقع تحت حوافر الخيل ؟
- رحمة الله عليك يا علي ... ييه عليك يا دنيا .. والله إنك ما تسوي ثلث قروش !
وتنبها إلى أحد الحراس يقدم باتجاههما . فأحجما عن الكلام . اقترب الحارس .. رفع بندقيته وضرب بأخمصها كتف سالم . انفجر عواد وعبد بضحك مكتوم بينما سالم يصرخ ." مش أنا يا سيدي " ! فصرخ به الحارس " اسكت يا خمار " وأهوى بالأخمص على كتف عواد .
تراجع الحارس وأخذ يخاطب المربوقين ، وأيقن عبد العطا انه نجا من أخمص محتوم. قال الحارس بلهجة تشوبها اللكنة الانكليزية :
" ما بدي أسمأ ( أسمع ) نفس ، فاهمين يا خمير ! "
وانصرف عائدا إلى مكانه .
لم يكن الأخمص الذي ناله عواد كافيا لأن يجعله يحجم عن الضحك ، على الرغم من الألم الذي سببه الأخمص، فقد كان سالم يتململ في الربق من ألم الضربة الأولى وينظر إليه بغضب مما يزيد في ضحكه . أما عبد فلم يستطع أن يكتم ضحكه أكثر من ذلك، فأطبق شفته العليا على السفلى بشدة وأخرج الضحك غطيطا من أنفه !فعمت موجة الضحك معظم الذين في الربقين الأماميين . وخاصة الذين يعرفون أن سالم لم يتكلم . أما الذين كانوا في الربق الخلفي فقد ابتسم بعضهم ببلاهة ، بينما تلقى أخرون الموجة بنظرات باهتة . ففلتت ضحكات كثيرة ، لكنها لم تخرج على شكل ضحك قطعا ، لكثرة ما كتموها لتخرج مقطرة كالغطيط أو الأنين أو الازورارمن أنوفهم وأفواههم . ومما زاد في طينهم بلة الإحساس بأن مثاناتهم تكاد أن تنفجر . ولم يتنبه أحد من الحراس إلى أن هذا ضحك هستيري !
******
سمع هدير آليات يقترب عبر الطريق الترابية المؤدية إلى مخازن الشيخ ، فاغتنم عواد الفرصة وهمس مخاطبا عبد :
- شو هالهدير ؟
- مجنزرات !
- لويش ؟
- ربما لتعزيز الحراسات حتى ما نهرب !
- والفرسان ما بيكفوا ؟
- لا أعرف كيف يفكرون .
وصمت عواد قليلا ثم تابع حواره :
- ما بدهم يخلونا نبول ؟
- ربما ممنوع إلى أن يطلع النهار.
- لويش ؟
- حتى ما نهرب تحت جنح الظلام .
- معقول هالحكي ؟
- ما فيه إشي مش معقول مع النكليز .
- وكيف بدنا نستنى للصبح ؟
- ما بعرف !
*****
توقفت الأليات على مقربة من المكان ؟ نزل الجنود وكثر اللغط . كانت فرصة لأن يتهامس الرجال ، وأكثر ما كان يشغل فكرهم هو ما إذا كان الحراس سيسمحون لهم بالتبول ، وإذا ما كانوا سيقضون الليل مقيدين في الأربقة . ولم ينس عواد أن يعتذر من سالم لما حدث، بيد أن الآخر لم يتقبل العذر.
حضر بعض الجنود المسلحين وحلوا مكان الفرسان في الحراسة .
أحس سالم أن مثانته ستنفجر . همس إلى عواد :
- ما بدهم يخلونا نتبول ؟
- ما بعرف !
- شو رأيك تطلب لنا إذن من الحرس؟
ولم يتمهل عواد ولو للحظة . رفع صوته مناديا أحد الحراس الأقرب إليهم :
- يا هيه، يا مستر!
- حضر الحارس ووقف أمام الصف .
- ايش بدك؟
- بدنا نبول !
- ما فيه بول خبيبي! بولوا تختكم ( تحتكم) أو استنوا ليطلأ ( ليطلع ) النهار!
- طيب فكو إيدينا خلي الواحد يعرف يطلع بتاعه !
- ما بيصير خبيبي بعدين انته بهرب !
واستدار الجندي عائدا إلى مكان الحراسة .
لم يستطع سالم الاحتمال أكثر من ذلك فأطلق العنان لمثانته .
شاهد عواد أسارير وجه سالم تنفرد . عرف أنه يتبول في ملابسه . ضحك بمرارة وحزن وهو يعرف أنه لن يجد مهربا من أن يفعل مثله إن امتلأت مثانته .
*****
أخذ الطقس يبرد .. هبت ريح صاقعة وازدحمت السماء بالغيوم .. وبدأ البرق يومض من جهات مختلفة . ومع انتصاف الليل كان هبوب الريح يزداد والبرق يشق الغيوم تتبعه رعود مدوية .
أخذ الرجال يرتجفون من البرد ويهيئون أنفسهم للمطر القادم . وما هي إلا لحظات حتى هطل المطر مدرارا . ارتدى الجنود معاطف وأقنعة واقية تمنع عنهم المطر. اصطكت أسنان الرجال وأخذوا يئنون و" يتأححون " من شدة البرد .
خرجت النساء من بيوت الشعر وأخذن يرخين حبالها ويضعن الحجارة على الأوتاد حتى لا تنقلع من الأرض. وكم تمنت ثريا ابنة العم محمد لو أن هذا الخير انهمر قبل الذي حدث ، لزغردت من قحف رأسها ، لكن هيهات لها أن تزغرد ووالدها استشهد ذلك اليوم تحت حوافر الخيول ، وعودة في المستشفى ، والرجال كل الرجال ، إما في السجن أو الأربقة أو المستشفيات أو مشردين في الجبال .
كانت هذه حال كل القرويات ، فلم يفرحن بالمطر ولم يزغردن .. فها هو المطر الذي كن ينتظرنه بفارغ الصبر ينهمر بغزارة ليجعل من الأودية أنهارا ، دون أن يستقبله أحد ولو بابتسامة!
(3)
أطلت الشمس من خلف الروابي العالية . شخص إليها الرجال وهك يأملون في أن تبعث الدفء في أفئدتهم . فهم ما زالوا يرتجفون من جراء المطرالذي انصب عليهم أثناء الليل . وملابسهم تلتصق بأجسادهم وقد ابتلت بالماء ، والأرض من تحتهم تحولت إلى طين ، فتوحلت هدومهم وباتوا في حال يرثى لها .
*****
أقبلت النساء من البطاح والشعاب وقد حملن الشاي والخبز والبيض المسلوق واللبن والجبن .
أوقفهن الحراس على مسافة من الرجال ومنعوهن من الاقتراب منهم أو تقديم أي شيء لهم مما أحضرنه . جلسن إلى جانب تلفهن الكآبة والحزن .
جاء أحد الحراس . وقف أمام الرجال ينفخ في يديه ويفركهما ، وشرع في اعطاء تعليماته . قال أنهم سيفكونهم عشرة عشرة لمدة ربع ساعة، ليقضوا حاجتهم بمرافقة حارسين ويعودون إلى الربق ." ويا ويل من تسول له نفسه بالهرب ، فستطلق النار عليه دون انذار"
جاءت سرية من الجنود. أحاطت بهم وبدأت بفك قيود أول عشرة رجال من الربق الأول . أشار أحد أحراس إلى تلة قريبة وأمر الرجال لأن يقضوا حاجتهم خلفها .
اتجه الرجال ناحية التلة يجرون أقدامهم المتيبسة وأجسادهم المنهكة . وقد سار خلفهم خمسة حراس يشهرون بنادقهم ,
وقف الحراس أعلى التلة بينما تفرق الرجال بين حجارة متناثرة على مسافة حوالي ثلاثين مترا منهم .
بدأ كل واحد من المربوقين يحسب متى سيلحقه الدورفتبين لآخر عشرة أن الدور لن يلحقهم قبل خمس ساعات ، إذ عليهم أن ينتظروا انتهاء قرابة مائتي رجل.
****
أقبل الشيخ علي بفروته الصوفية يحيط به بعض الضباط.. وقف أمام المعتقلين .. تأمل وجوههم .. نظر إلى النساء المنتحيات جانبا في انتظار أن يسمح لهن الجنود بتقديم الطعام للمربوقين . تأمل الرجال ثانية وأخذ يخاطب كبير الضباط :
" ليش هالمعاملة يا حضرة الضابط ؟ كيف بتعاملوا أبناء شعبي بهذا الشكل . فكوا قيود الرجال خليهم يستريحوا ، هذي مش معاملة أبدا ! أنا ما بقبل أسكت عليها ! ليش وقفتوا الحريم .. جيبوا الأكل منهن على الأقل خلي الرجال يفطروا .."
انطلق صوت سالم :
" يعيش الشيخ علي يا "
رددت بعض الأصوات الواهنة " يعيش "
وانطلق صوت آخر :
" شوف حالتنا يا شيخ منعوا عنا كل شي. وخلونا تحت المطر طول الليل وحنا مكتفين . وهالساع يفلتونا عشرة عشرة تحت الحراسة لقضاء حاجاتنا، ايمتى الدور رايح يلحق كل الناس "؟
التفت الشيخ إلى الضابط وخاطبه بانفعال :
" لا لا ! هاظا ما ممكن يصير يا حضرة الضابط " وانصرف معولا .. لاحقه صوت أحد الرجال " شوف حالتي يا شيخ ، ليش اعتقلوني أنا ؟ مش حرام عليهم يمنعوني عن الصلاة ؟ شو بدهم مني أنا ما اعتديت على حدا .. وما نهبت من مخازنك لا قمح ولا شعير ، ولا عبيت من بيارك وصهاريجك مي "
التفت الشيخ علي خلفه " مين؟ شيخ عطا ؟ كيف اعتقلوك ؟ شو هاظا يا حضرة الضابط انتوا بدكم تجعلوا كل الناس أعداء إلي وإلكم ؟ حتى شيوخ الدين معتقلينهم ؟ اطلقوا سراح الشيخ المسكين ! وتابع سيره معولا .. فلاحقته أصوات أخرى تقول " وحنا يا شيخ "؟ فالتفت قائلا : كلكم رايحين تروحوا . وتابع سيره .
أمر الضابط الحراس بأن يطلقوا سراح الشيخ عطا وأن يفكوا أيدي الرجال ويحضروا لهم الشاي والطعام من عند النساء ، وأن يطلقوهم عشرين عشرين ليقضوا حاجتهم .
لم يصدق الرجال أنفسهم ، فها هو الشيخ علي نفسه لا يرضى عما حدث ويحدث . صحيح أن سالما لم يشترك في القتا سواء ضد أعوان الشيخ أو ضد الانكليز ، لكنه قام بنهب بضع حفنات شعير من مخازن الشيخ . وها هو الآن يندم أشد الندم لهذه الحفنات . وأيقن أنه لو حيا الشيخ وعيشه عشرات المرات أمام الناس لما جزاه على حسن فعاه . وتمنى لو أنهم يخرجون رأسه من الربقة كما فكوا يديه ليقف أمام الناس ويحيي الشيخ ، ثم يذهب ويقبل الأرض بين قدميه ، لكنهم لم يخرجوا رأسه !
أما بعض الرجال الذين نهبوا وقاتلوا فقد كان ندمهم كبيرا، حتى أن بعضهم نسي أن الشيخ كان يبيعهم صفيحة الماء بخمسة قروش .!
قال الراوي : وما أن قضى الرجال حاجتهم وتناولوا فطورهم مربوقين حتى أعاد الجنود تقييد أيديهم ولم يعد الشيخ علي يظهر .
*****
(4)
جنود مشاة وخيالة يجوبون الجبال بحثا عن الرجال المتهربين في الكهوف الجبلية .. يلقون القبض على بعضهم .. عدد المعتقلين تجاوز الثلاثمئة .. أحضروا الكمزيد من الأربقة . التحقيق يبدأ مع المعتقلين .. ينكرون علاقتهم بالقساميين والشيوعيين .. يسوقون من ثبت لهم أنه نهب من مخازن الشيخ أو اعترك مع الفرسان إلى معتقلات محصنة . يعدمون بعضهم شنقا .. وبعضهم رميا بالرصاص . المربوقون يتململون في الأربقة ألما وحزنا وتشنجا .. يسألون " إلى متى تعتقلوننا " يقول الانكليز أنهم لا يعتبرون الأربقة معتقلا .. ويقول الشيخ علي " إنها مجرد اجراء احترازي مؤقت لكي لا ينضم الناس إلى المتمردين ويقوموا بأعمال تخريبية "
لكن هل أفلح الانكليز في قمع الثورة ، وإن كانوا قد حدوا من نشاطها ؟
" الأحداث تنفجر في الخامس عشر من نيسان عام 1936: طريق طولكرم نابلس تقطع . يهوديان يقتلان .. العصابات الصهيونية تنتقم لمقتلهما فتقتل عاملين عربيين ، وتهاجم العرب في المنطقة المتاخمة لتل أبيب .. الثورة تتأجج . الثوار يردون بعنف. اليهود يقومون بمظاهرات صاخبة .. صدامات واعتداءات تحدث هنا وهناك . اعتداءات على السكان العرب في يافا . العرب يردون . يافا تعلن الإضراب في التاسع عشر من نيسان . الإضراب يشمل عمال الميناء في اليوم التالي . القوى الوطنية توزع منشورات ضد سياسة الوطن القومي لليهود . اضراب يافا يمتد إلى النقليات ، ثم يشمل كافة المدن الفلسطينية .
اللجنة القومية تشكل في مدينة نابلس في العشرين من نيسان . قيادة الأحزاب القومية العربية تسير في مجرى التيار وتعلن الاضراب العام في الحادي والعشرين من نفس الشهر . قيادات الأحزاب تجتمع وتشكل اللجنة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني ، وأمانة سر عوني عبد الهادي ، وعضوية سائرقادة الأحزاب في الخامس والعشرين من نيسان .
مؤتمر اللجان يتخذ قرارا بالإحجام عن دفع الضرائب في الحامس عشر من أيار ، إذا لم تغير الحكومة البريطانية سياستها تغييرا أساسيا وتمنع الهجرة اليهودية . المدن تعلن العصيان المدني . المظاهرات العارمة تتأجج في كل المدن . المواجهة تتصاعد . المعتقلون يتجاوزون 4500 معتقل . الانكليز يهجمون كالكلاب المسعورة . يعتقلون . يسفحون الدماء ويرفضون مطالب العرب .
النضال يتصاعد من مظاهرات عارمة إلى حركة أنصار مسلحة تنازل الجيش البريطاني في الريف :
ثمانية وأربعون جسرا تنسف . ثلاثمائة سلك كهربائي وهاتفي تقطع . اتنتان وعشرون قاطرة تتعطل . مائة وثلاثون سكة حديد تنسف . معارك تضطرم في مناطق : طولكرم ، وادي عزون ، باب الواد ، بلعا ، عصيرة الشمالية ، وادي عارة ، الناصرة ، وعين دور .
خمسة آلاف جندي بريطاني . دبابات . مدافع ثقيلة . خمس عشرة طائرة . خمسة آلاف من رجال الهجاناه الصهيونية ، يطاردون الثوار في الجبال . ثلاثة آلاف شهيد يعانقون التراب . الثائرون يفضلون الموت على حيات الذل ، ويصمدون صمودا مذهلا . الأحكام العرفية تفرض على البلاد , سلطات دكتاتورية تتولى الحكم وتخول صلاحيات مطلقة . المطبوعات تراقب . التوقيف والاعتقال الادراي يطبقان . النفي والابعاد أمران عاديان ! حق استهلاك الأموال ومصادرتها لا نقاش حولهما أمام سلطة الانتداب.
حي بأكمله في يافا ينسف في شهر حزيران . المجاهدون ينضمون من سوريا ولبنان والاردن والعراق إلى الثورة . مصطفى النحاس يعلن أن مصر لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يجري في فلسطين . وهي تؤيد مطالب الشعب العربي الفلسطيني .
*****
(5)
كل هذه الأخبار وردت تباعا إلى المربوقين عن طريق المعتقلين الجدد . ونادرا ما كان يعتقل أحد لا يحمل اخبارا جديدة ..
ومرت فترة لم يعتقل فيها أحد . شعر المربوقون فيها انهم عزلوا عن العالم . وعندما وصل معتقل جديد لم يمهلوه حتى يلتقط أنفاسه المتعبة نتيجة جره خلف الخيول . فما أن كبلت يداه ووضع رأسه في الربق وابتعد الحارس قليلا . حتى همس عواد لعبد العطا دون أن ينظر إليه ، لكنه أمال رأسه قليلا إلى ناحيته " شو الأخبار ؟" همس عبد العطا للرجل الذي عن يمينه .. وهكذا من رجل إلى رجل حتى بلغت الهمسة المعتقل الجديد .
نظر الرجل من حوله . تأمل وجوه الحراس ثم بعض وجوه المعتقلين . سحب نفسا عميقا . حدق أمامه وكأنه سيتحدث إلى الأرض ، وشرع يهمس وهو يميل برأسه قليلا ناحية المعتقل الذي عن يساره :
" مختصر الحديث : الراعي عوده هرب من المستشفى . باع ابنة عمه ثريا ببندقية والتحق بالثوار من جماعة القسام في الشمال. حالة الناس زي الزفت . الجوع في كل بيت . لكن القتال مستمر . أصحاب البيارات تضررت مصالحهم . المنتوجات الزراعية كسدت وتلفت . البرتقال مرمي في الشوارع . لجأ وفد منهم للشيخ علي حتى يوخذوا جماعة من المعتقلين يشتغلوا في البيارات . وما بعرف شو قال لهم . لكنهم استنجدوا بالزعماء العرب منشان يتدخلوا ويقفوا الإضراب . وبعدين صدر بيان عن اللجنة العربية العليا يشير إلى اتفاق بواسطة نوري السعيد مع الزعماء العرب، يطالب بوقف الإضراب مقابل أن توقف الحكومة البريطانية الهجرة اليهودية مؤقتا . وستقوم الحكومات العربية : السعودية واليمن والعراق وإمارة شرق الاردن ، بالسعي لدى بريطانيا لإنجاز مطالبنا ، على أن تصفى الثورة نهائيا على أساس إلقاء الغرامات ووقف عمليات التفتيش وإطلاق سراح المعتقلين وصدور عفو عام .. خلص "
ومع انتصاف الليل كانت الأخبار قد انتقلت من رجل إلى رجل حتى بلغت جميع المعتقلين .
*****
الأيام تمر قاسية مريرة .. تفشل كل مشاريع الحلول .. الثورة تستمر، لكن الناس لا يجدون ما يدرأ جوعهم ، والمعتقلون يكثرون ، والاربقة تزداد طولا وعرضا .
يجلس عبد العطا صامتا في الربق. يفكر مليا . يهمس إلى عواد :
- اسمع!
- شو؟
- لازم نضرب عن الطعام !
- ليش ؟
- بلكي نخلص من هالربق.!
أنا موافق!
- انقل الخبر من ناحيتك وأنا بنقله من ناحيتي.
- شو أقول ؟
- قررنا الإضراب عن الطعام اعتبارا من اليوم صباحا! حتى يفك الانكليز أسرنا .

- فكرك رايحين يتجاوبوا معنا ؟
- من مصلحتهم يوافقوا.
وشرعا في التبليغ كل من ناحيته .
*****
حضر الجنود في الصباح ليفكوا قيد عشرة من الرجال كانوا قد اعتادوا أن يفكوهم ليحضروا الطعام للمعتقلين . فوجئوا بإجماع كافة الرجال على الاضراب .
بلغ الخبر مسامع الشيخ علي فحضر بصحبة بعض الضباط . وقفوا امام المعتقلين .
قال الشيخ :
- إيش يا جماعة !
تكلم أكثر من رجل .
= أولادنا وأهلنا يا شيخ بيموتوا من الجوع ، وحنا ما عملنا شي للإنكليز ، لوينتا بدهم يظلوا مربطينا ومعتقلينا .
صمت الشيخ لبرهة . تأمل وجوه الرجال قليلا .
- اسمعوا يا جماعة . لا تفكروا إني أنا راضي عن هالحالة إلي انتوا فيها . يشهد الله إني ما بنام الليل وأنا افكر فيكم . لكن ما باليد حيلة . وبوعدكم إني ما رايح بالي يرتاح إلا بعد ما يطلق سراحكم!!
رددت بعض الأصوات " الله يديمك يا شيخ "بينما الشيخ يتابع :
- وهالساع وقفوا اضرابكم مش كافي الاضراب العام إلي خرب بيتنا من أواخر الشتوية لليوم ، وشمل كل المدن والقرى ومعطل مشاغل الناس ومشاريعها وبضايعها ، وسبب إلنا مشاكل كثيرة، وجاب إلنا الويل بدل ما يجيب الخير !
- لكن احنا ما اعملنا شي يا شيخ ليش يعتقلونا؟
- أنا ما قلت لكم إنه ما باليد حيلة ! بعدين ما بدهم يعرفوا مين الي شارك في المواجهة من إلي ما شارك حتى يعرفوا مين يطلقوا ؟
- وحنا ما رايحين نوقف يا شيخ ؟
- يا جماعة القضية مش بس قضيتكم . القضية قضية فلسطين كلها وشاغلة كل الناس. والزعماء العرب بيجروا مفاوضات مع الانكليز حتى تنحل القضية برمتها . لا تسببوا لنا مشاكل جديدة .
قال عبد العطا :
- احنا ما بهمنا حدا يا شيخ ، بهمنا في الاوقات الحرجة نكون مع أهلنا وأولادنا .
- أيه كل واحد ذنبه على جنبه . أنا رايح وأرجوا انكم تفكروا في الأمر .
****
(6)
مر ثلاثة أيام ولم يتوقف المعتقلون عن اضرابهم .. اجتمع بعض أصحاب البيارات والشيخ علي في مكتب قائد المنطقة ليتدارسوا الأمر :
قال الشيخ :
يجب اطلاق سراح المعتقلين يا سيدي ، فالأمر ما عاد يحتمل!
نهض القائد من خلف منضدته . جاب بنظراته مخنلف الوجوه :
- هل يضمن الشيخ أن لا ينضم هؤلاء الرجال للمخربين إذا ما أطلقنا سراحهم ؟!
- انا لا أضمن يا سيدي !
- كيف سأخلي سبيلهم اذن، كيف ؟
قال احد أصحاب البيارات :
- عندي اقتراح يا سيدي !
- ما هو ؟
- نطلق سبيلهم في النهار ونعيدهم إلى الأربقة في الليل !
اقتراحك عظيم ! لكن كيف نضمن عودتهم إلى الأربقة في الليل ؟
- افرضوا غرامات مالية وعقوبات جزائية على كل من يتخلف يا سيدي ؟
- وما الذي سنجنيه من ذلك ؟
قال صاحب بيارة آخر :
- يجب أن نجني الفواكه ونسوقها يا سيدي .
- هل تعتقد أنهم سيوافقون ؟
- حتما يا سيدي .
- اذن ليذهب الشيخ علي ويبلغهم .
*****
(7)
قال الراوي :
وعندما أبلغ الشيخ علي المربوقين بالأمر، مدعيا أن هذا أقصى ما استطاع أن يحققه لهم من الإنكليز .
أخذ سالم يهتف: يعيش الشيخ علي يا !
ردد من خلفه بعض المعتقلين : يعيش يعيش يعيش‍!
بيد أن عواد وعبد العطا رفضا أن يطلق سراح المعتقلين بهذه الشروط المجحفة ، فوافقهم معظم الرجال .
وفي اليوم التالي اختفى عواد وعبد العطا . من الوجود ، وتبين فيما بعد أنهما أعدما رمياً بالرصاص ، فلم يعد أحد يجرؤ على اعتراض شروط الشيخ والإنكليز للإنعتاق من الأربقة ، وخاصة أن الجوع قد عض الناس بأنيابه ، فأطلق سراح الرجال .
*****
وراحوا يعملون ويناضلون ، لكنهم يعودون إلى الأربقة عند غروب الشمس ويفادرونها عند شروقها!
أجل إنهم يعملون ويناضلون لكنهم يعودون إلى الأربقة عند غروب الشمس ويغادرونها عند شروقها !!!
*****
1978


















(4)
الخطار

)1)

هاهي أول قافلة للخطار تطل من بعيد عبر التلال ... انفردت أسارير وجه عائشة العلان وهي تصالب يديها على صدرها وتتكور على نفسها فوق قمة الجبل ، لتجابه القشعريرة التي اجتاحت جسمها من جراء نسيم الصباح.
"متى تقطع القافلة كل تلك الشعاب والتلال ، وتصعد منعرجات جبل المنطار ، وتصل إليها ، لترى فيما إذا كان ابنها معها" ؟
تخيلت نفسها بجناحين وطارت .. حلقت فوق القافلة .
شاهدت ابنها يسوق الحمير وقد حملها بأكياس الملح .. رفرفت بجناحيها فوقه ، حطت عليه ، ضمته ، قبلته ، حملته وحلقت به .
أطلت الشمس من خلف جبال البحر الميت ، تأملت عائشة كل الجهات المشرفة عليها ؛ ها هو البحر المالح يركد شرقا بين سلسلتين من عشرات الجبال . أدارت وجهها إلى الجنوب :
ترامت على مدى نظرها جبال بيت لحم ومناطقها ، ثم إلى الغرب حيث القدس ورام ألله ، بدا لها الندى وهو يطير عن قمة جبل الزيتون ، فجبل المكبر .. ابتعدت ببصرها نحو الشمال لتشاهد عشرات القرى..
وراحت تقصر نظرها شيئا فشيئا لتجوب المراعي والجبال .. عشرات الرعاة يخرجون بقطعانهم من العزب والصير.. نظرت إلى الشرق من جديد .. ها هي القافلة تقدم عبر التلال وها هي عشرات القوافل تطل من ورائها.
أخرجت جزة الصوف من الصرة الموضوعة إلى جانبها ، لفتها حول ذراعها وأخذت تغزل ، ثم عادت إلى شرودها.
(2)
قلت له يا ولدي أنت صغير والملح لا يخطر إليه قبل سن الشباب ، لا تدعني أنتظر على الدروب اسأل عن عيونك ، غدا يا ولدي تكبر ويكبر اخوتك وتخطر مع الخطار ، بحر الملح يا ولدي ما وديك عليه ، تروح يا ولدي يشرق عدوك بمية البحر ،تنزل بجوفك ، تغرق يا ولدي ، وأنا ما أطيق فراقك يا روح أمك ، اخوتك ينتظرونك يا حسن يا بني ! صبرت يا ولدي على الذل وما هو أمر منه ، تحملت المهانه ، تعبت، شقيت ، كلت عيني وانهد حيلي ، لكن العمر في سبيلك وسبيل اخوانك يرخص يا ولدي.
عشر سنين يا بني ، عشر سنين مرت على وفاة بيك في حرب النكبة ، كنتوا صغار يا حسن ، خبيتكم، ربيتكم ، منعت كل الشر عنكم داريتكم ، مثل حجلة تداري فراخها يا ولدي .. في الشتا أبيع البقول يا ابني ، وفي الصيف أنسج البسط للشيخ علي وأغزل ، تحملت الكثير يا ولدي ، أتحمل القليل حتى تصيروا رجال وتجوزوا ، وتدفنوني بإيديكم تحت التراب لما أموت يا بني.

" لا تقاطعني يا بني خليني أكمل كلامي ألله يرضى عليك . قلت له
بحر الملح يمه ما أوديك عليه "
قال :
"أنا افديك بعيوني يمه ما تقطعي قلبي بحياة تراب أبوي . قلت لك أنا ماني صغير، أنا كبرت يمه ، أنا شاب وشبيت على يديك اللتين لم تعرفا الكلل ، وكيف لا تريديني أن أخطر إلى الملح ؟ هل نسيت يا أمي عندما جئت البارحة وقلت لي : الشيخ علي هددنا ، يبغي ديونه، وإلا سيأخذ قطعة أرضنا الوحيدة التي رهناها عنده. لا تحسبي يا أمي وما تخلي الهم يشغل بالك ، رطل الملح بقرشين ، أخطر كل خمسة أيام مرة ، أجيب مائة رطل ، لن ينتهي الصيف إلا وأنا جامع ديون الشيخ علي ، ونسترد قطعة أرضنا يا أمي!"
قلت له :
"برضاي عليك يا ولدي ، أنا أرضى والله يرضى ، والسهل يرضى ، والسما ترضى ، لا تروح يا ولدي ، أخاف عليك يا حسن ، أخاف أنحرم من شوفة عيونك يا بني ، يغرق عدوك في البحر مثل الناس إلي غرقوا ، أو تقبض عليك دورية الفرسان يا بني ، أشق ثوبي ، أجن ، أدور على الدروب يا ولدي ، لا تخليني أتحسر عليك يا بني كما اتحسرت على بيك واخوانك . برضاي عليك لا تخطر يا حسن ، ابق في المدرسة يا بني ، وليأخذ الشيخ علي قطعة الأرض ، وعوضنا في عين الله يا ولدي ، وإن شاء الله أن عينه ما تخيبنا وما تخطي عنا يا بني "
قال لي:
"يا أمي ، يا أمي ، قطعة الأرض لن أتخلى عنها بدمي ، وحياة تراب والدك المدفون وحده في البراري ، والمدرسة ما هو وقتها ، وعلى الملح لازم أخطر، واطردي كل أفكار السوء من راسك"
قلت له :
" روح يا ولدي عين الله تحرسك في كل خطوة تمشيها ، روح "
*********

سمعت أن علي الخطيب سيخطر إلى البحر .. ذهبت إليه في الخشة.
. يصبحك بالخير يا علي -
. الله يصبحك بأنوار النبي يا عايشة -
- يا أخي حسن يريد أن يخطر مع الخطار إلى البحر ، خذه معك يا علي وأعره انتباهك ، الله يطول عمر اولادك ، ما يزال صغيرا يا علي ودروب الملح كلها مخاطر ، وعمره ما مشاها.
قال:
- ولا يهمك يا أختي ، والله لأحطه في عيني ، وإن شاء الله ما يصيرعليه إلا إلي يصير علي.
. يكثر خيرك يا علي ويستر على عيالك ربنا من فوق -
عدت إلى البيت . قال حسن :
"لا بد لي أن أحضر حمارا آخر ، حمارنا ما يقدر يشيل إشي"
راح .. استعار حمارا من عند بيت عوده السلمى . قال لي :
"حضري لي زادي وزوادتي يا أمي "
رحت .. طليت في خم الدجاج .. لقيت أربع بيضات ، سلقتهن ، وسلقت ست حبات بطاطا ، وحضرت أربع حبات بندوره ، وقليل من الزيتون ، وعشرة أرغفة خبز.
صريت له إياهن في منديلي.. حط راسه ونام ! قال:
- صحيني قبل صيحة الديك يمه حتى ما أتأخر عن الخطار .
قمت علفت الحمارين ، وحطيت لهما قليلا من التبن . نيمت الأولاد .. ما أجا عيني نوم .. قعدت أغزل صوف لبيت الشيخ وأغني للأولاد . غنيت لحسن ووطفا ومحمد وندى .. ثم قمت قبلتهم وقعدت أتطلع عليهم وهم نايمين.
"يا حبيبيني ، تكبروا وتجوزوا وتخلفوا صبيان وبنات وتدفنوني بإيديكم يا حبايبي . سمعت شبابة محمود ابو ردان في هالليل الهادي . حسيت إنه بجرح قلبي بعزفه ! يا ويلي عليه كم قلبه ملوع !! خلاني أتذكر كل الأيام الماضية : أبي الضرير الذي كنت أقوده وهو يستعطي ، وموته في تلال النبي موسى ، ودفنه هناك لوحده بين الوديان الأب بطرس الطيب إلي رباني في الدير ! الأخت لويزا ! زواجي . وفاة طفلي البكر ، وطفلي الثاني ، ووفاة البنت . استشهاد زوجي في القسطل في الثمانية وأربعين .. تعبي وشقاي إلى أن ربيت الأولاد.
تطلعت إلى حسن . شعرت بالخوف . بكره سيخطر إلى بحر الملح . يا ولدي صغير ولا يعرف السباحة ، والبحر مرعب والملح تعب وشقاء وهو غير معتاد على السفر والتعب والمخاطر ، ماذا أفعل لأمنعه من هذه السفرة ، أخليه نائم وما أنبهه ؟!أخاف أن يغضب إذا قام ووجد انني فعلتها معه . يا رب أنت أدرى وأعلم بحالي ، وتعرف كم تعبت وشقيت ، حتى خليت أولادي شباب ، انا أضعهم امانة بين يديك يا ربي ، ونذر علي ، إذا رجع حسن من البحر سالما ، لأذبح لك كبشاً في النبي موسى - ولو أني سأستجدي ثمنه – وأوزع لحمه على الفقراء والمساكين.
أحسست انه لن يغمض لي جفن وشبابة محمود أبو ردان جرحت قلبي ولوعتني وأثارت كل همومي . نزل علي وحي الشعر . رحت أغني ما يجول في راسي
أجاني حسن يا ليل مع بكرة الضحى
حامل شجرة البأس لاوي غصونها
شاكل اذيال الثوب ومشمر الزندين
شاد العزم والحيل لإمه يصونها
قلي يمه عالبحر لا بد ما أخطر
لنخلص من الذل والشيوخ وديونها
قلت أخاف يا ولدي تروح وما تيجي
أحرم دخول الدار ويا سكونها
أخاف يا ولدي في البحر تغرق
أحرم عيوني النوم ويا جفونها
أخاف يا ولدي بيد الفرسان توقع
وسجون مظلمة عليك يقفلونها
للشيخ علي يا أمي نتخلى عن الأرض
وعين الله يا بني ما تقطع منونها
قلي يمه عالبحر لازم أخطر
والأرض يمه بدمي أصونها
قلت روح يا ولدي عين الله تحرسك
عين بصيرة وما تغفل بنونها
*************
أفاق حسن من النوم . قال لي
-أنت تبكين يا أمي ؟
مسحت دموعي . قلت له:
. برضاي عليك يا ولدي لا تخطر إلى البحر -
غضب وثار .. قلت له:
كفى يا بني ، الله يرضى عليك ويحن عليك ، قوم صارت الدنيا نص الليل ، الآن ينادي عليك علي الخطيب.
قال لي:
. إنما لا أريد أن أسمعك تقولين ، ما تروح وما تيجي -
ز لن اتكلم يا ولدي ، لقد تكلمت ما فيه الكفاية -
أحضرت له كاسة شاي . تركته يشربها ورحت حلست الحمارين وحطيت عليهما خرجين وثلاثة أكياس. ملأت القربة الصغيرة ماء ووضعتها في جانب الخرج ، ووضعت في الجانب الثاني صرة الأكل ، وحطيت له شوية سكر وشاي وكيلتين وعلبة كبريت.
استيقظ محمد وندى ووطفا . اشوي وإلا علي الخطيب ينادي . قام حسن . قمت معه . قلت لمحمد :
. دير بالك على خواتك يمه على بين ما أودع اخوكم
ساق الحمير قدامه . وصلنا علي الخطيب .. صبحنا عليه . قلت له
"حسن وداعتك يا علي"
: قال
-الوداعة على الله يا عايشه ، إن شاء الله ما بيصير إلا الخير . روحي ارجعي لعند الصغار أحسن يخافوا لحالهم.
-لا خوف عليهم يا علي ، أبقيتهم مستيقظين ، بدي أمشي معكم لوصلكم لباقي الخطار.
الخطار بعيدين يا عايشه ، وين بدك تروحي معنا في هالليل ؟ -
في أي مطرح ينتظروكم يا علي ؟
. في وادي المنطار-
, طيب خليني أمشي معكم اشوية وبرجع -
مشيت معهم . الدنيا ليل يا حسرتي .
قلت:
- يا ريتكم استنيتوا لما يطلع القمر يا علي.
. القمر بطلع متأخر يا عايشة -
قال حسن:
-ارجعي يمه وين بدك رايحة معنا في هالليل ؟
قلت له:
. رايحة ارجع يمه بس وقف تبوسك -
وقف يا حبيبي . بوسته .. وبوسته. -
في حفظ الله يا بني ، أودعتك للي ما يخون الودايع ، إلهي يفتح لك في كل ضيق طريق يا ولدي ، ويكف عين الظالمين عنك ، ويعيدك بالسلامه يا بني . إذا مريت عن قبر جدك إقرأ عليه الفاتحة يا ولدي .. وداعتك حسن يا علي"
. اتكلي على الله يا عايشه -
ركبوا الحمير وتسهلوا.. رجعت وأنا اناشد البحر أن يحفظ حسن ويرجعه لي سالما ، وتمنيت من الله أن يجفف ميته إذا غدر فيه.
(3)
وصلنا مكان التجمع . ما لقينا حدا . قال علي:
. خلينا ننزل عن الحمير يا حسن ونرتاح شوية على بين ما ييجوا الخطار -
نزلنا. ...
-ايمتى نصل البحر يا علي ؟
. بكرة في الليل يا عمي -
- ابعيد هالكد ؟
- لا والله يا عمي ما هوه بعيد ، لكن ما فينا نمشي في النهار ار ، نخاف من دوريات الفرسان تشوفنا.
فكرت اشوي . قلت له: -
- والله لا أعرف يا علي لمذا تمنع الدولة الناس أن يبيعوا الملح ؟
. لأنهم يظاربون على معمل الملح وعلى الملح المستورد من بلاد برا -
- كيف يا علي ؟
. إحنا بنبيع الملح بسعر أرخص من سعر المعمل يا عمي -
- طيب ليش ما يغلقوا المعمل ما دام إحنا بنبيع الناس بسعر أرخص ؟ وكمان ما يستوردوا ، إحنا بنجيب ملح يكفي لكل البلد.
- ما بنفع يا عمي ، هاظا المعمل كلف مصاري كثير كيف يغلقوه ؟
- طيب وحنا كيف بدنا نعيش ؟
- إلي أرزق الدود في الصخر يا عمي يرزق الطيرعلى الشجر.
بدأ الخطار يصلون. تجمع أكثر من خمسين خطار من خطار بلدنا . إلي أجا بحمارين
ولي أجا بثلاثة أو ببغل وحمارين ، والبعض أحضروا جمال.
ومشينا في هالليل . صعدنا جبل المنطار ونزلناه . قطعنا تلال وجبال ووديان
إلى أن انحدرنا إلى واد سحيق . حسيت إنه علي خايف عليه كثير ، لأنه أصر عليه أن أركب الحمار وأمشي قدامه .
بدت قافلتنا تجنح إلى جنب واد بعد ما كانت تمشي في منتصفه . وسمعت الناس يتهامسوا ، كل واحد يهمس للذي خلفه . التفت الزلمه إلي قدامي عن ظهر حماره
وقال لي :
"تصادفنا مع دورية مهربين أوعه حدا يحكي معهم "
نهر علي حماره ولحقني . همس لي . التفت لأحكي معه. قال " ما تخاف يا عمي"
خلاني أحس بالخوف أكثر. سمعت وقع حوافر خيل ، حدكت ، شفت زلمتين راكبين فرسين وحاملين بواريد وملثمين. شكلهم مرعب ! خفت . طل وراهم كمان اثنين
وكمان اثنين. ست خياله. جانبنا بالحمير على جنب الواد على بين ما يمروا. خوفني علي لما قرب مني وحط إيده على ظهري. اطلعوا الخيالة فينا ومروا من غير ما يحكوا معنا وأنا أنظر لبواريدهم.
طل أول القافلة من وراهم . بغال محملة بكياس مليانه ، عديت عشرين بغل مرت من جنبي . كل بغل وراه زلمه ملثم وحامل باروده بكتفه ! طل وراهم ست خيالة يحرسوا القافلة من ورا.
مروا . تنفست من كاع كلبي !! همست لعلي.
- شو هذول ؟
- هص! هذول مهربين حشيش وفلفل!
ما هصيت!
- شو؟
- قلت لك هص
- لمين بهربوا؟
قرب مني وهمس في ذاني :
! لاسرائيل ! هص ! أوعك تسأل كمان ! هص ولا نفس -
ما هصيت ! همست:
- ليش ما فيه في اسرائيل حشيش وفلفل حتى يهربوا لها؟
- هص هص لحدا يسمعنا. هاظا حشيش وفلفل غير إلي إحنا بنعرفه !
- كيف هو ؟
- يا ملعون الوالدين يا بعيد، بدك تودينا في داهية ! قلت لك هص ! بيقولوا إنه غالي كثير.
- من وين أجوا؟
- يا ملعون لا أمك ولا أبوك يا اليهودي ! قلت لك هص ، خلص ما تسأل ! أجوا من الشرق !!هص هالساع!
ما هصيت
- وهل يوجد في الشرق فلفل وحشيش غير إلي عندنا ؟
- هالساع بزعل منك ، هذي القضية ما فيها مزح ، للحيطان آذان ! هاظا بيجي من بلاد بعيده وما عندنا منه.
هصيت وسكتت غصبن عني ، وفي نفسي أعرف شو الحشيش هاظ وشو الفلفل ، ومين هذول المهربين ، ومنين تجيهم لبضاعة ، وليش حاملين بواريد ، وكيف بدخلوا لإسرائيل ؟ والأهم ليش علي الخطيب بيقلي هص وكأني بسأله في السياسة ؟!!

****************
تابعنا سيرنا . تعدينا قبر جدي من غير ما أعرف ! قلت لحالي بقرا عليه الفاتحة وأنا راجع.
وقفت القافلة في واد تحيطه السدود من كل النواحي . نزل الخطار عن دوابهم وربطوها إلى جوانب الصخور أو في الكهوف أو تحت الأشجار البرية ! فرشوا أكياس الخيش واستلقوا عليها.
انبطحنا انا وعلي جنب بعظنا ! قلت له:
- لإيمتى بدنا نظل هان ؟
. لبكرة المسا يا عمي لما ننزل للبحر -
قام بعض الخطار يحضروا الشاي . هم علي للنهوض ، حلفت عليه ما يقوم . قمت ، جمعت اشوية حطب وولعت النار ، وحطيت ابريق الشاي عليها.
قلت لعلي :
- البحر بعيد من هان يا علي ؟
. ظربة حجر يا عمي ! شي عشر دكايك بنكون فيه -
خلصت الشاي وصبيته ! طلع شاي أخو شليته!
البغال جنننا وهن بيضربن حوافرهن في الأرض وبشخطن من منخيرهن ، بدهن يقطعن الرباطات واللجامات . سألت علي عن سبب جنونهن . قال لي:
! - خايفات من الجمال يا عمي
- وليش الحمير ما يخافن ؟
! الحمير يربطهن صداقة قديمة بالجمال ، بعكس البغال يا عمي -
- وليش البغال محرومين من هالصداقة ؟
- ما بعرف يا عمي ، بس البغل بحس إن الجمل هو الوحيد بين الدواب إلي ما بتربطه فيه قرابة!
- كيف يا علي ؟
! أبوه حمار وأمه فرس وخاله حصان يا عمي ، ما ظل غير الجمل ما بقرب له -
- ليش البغلة مش أم البغل ؟
! لا يا عمي البغلة ما بتخلف -
- وكيف ينط الحمار على الفرس لتلد بغل ؟
يا بغل يا ابن الحمار! - تلد يا عمي ! ما بتسمعهم لما بسبوا على واحد بيقولوا
! صحيح والله -
سمعنا هرج ومرج جاي من بعيد . تبين إنهم خطار العبيدية . لقيونا نحتل المكان ، راحوا يدوروا على مطرح ثاني.
بعد اشوي وصلت قوافل التعامرة . خبرناهم إن العبيدية مروا قدامهم . راحوا يبحثوا عن واد ثالث.
قلت لعلي:
دخلك فيه في البحر ملح يكفي لكل هالناس ؟
فيه كثير يا عمي. -
خطرت لي أسئلة كثيره . لكن علي قال :
"لازم ننام يا عمي ، بكره بخبرك قبل ما ننزل للبحر "
**** **************
ما غمضت لي عين . ظليت باقي الليل أرقب القمر والنجوم والجبال إلي محاوطتنا . واتنصت لصرير الصراصير وعوي الذياب وفغير الحصينيات.
فوجئت بطلوع النهار . قمت طلعت سفح الجبل وطليت عالبحر . كعدت على حجر وصرت أتفحصه ! ظليت لما طلعت الشمس.
كنت اسمع إن المية في الأماكن إلي فيها ملح ما هيه غميكه ! لكن حسيت ونا بطلع عالبحر إنه كله غميك ! ون إلي ما بعرف يسبح رايح يغرك ! مع إني سمعت إن مية هالبحر ما بتغرك مثل باقي البحور . حاولت أقنع حالي بهالحكي، لكني ما اقتنعت ، وحسيت إن البحر أرهب بكثير من الصورة إلي كنت متخيلها . وبديت أخاف ، وأفكر في كلام أمي وخوفها وحزنها.

(4)

قمت من النوم . نظرت حولي . لم اشاهد حسن . ناديت " يا حسن "

لم يرد أحد . ناديت مرة أخرى بصوت أعلى . رد علي من فوق الجبل.
- - شو بتسوي عندك يا عمي ؟
. بتفرج عالبحر -
. خليك مطرحك جاي لعندك -
أطلقت الدواب لترعى . حملت صرة طعامي وطعام حسن وإبريق الشاي وقربة الماء وطلعت لعنده.
انتشر الخطار في الوادي وعلى التلال المشرفة على البحر ، وأطلقوا دوابهم ترعى بين الأودية ، وراحوا يشعلون النار ليغلوا الشاي . وعلى التلال المقابلة لنا انتشر العبيدية والتعامرة . سألني حسن:
- ما بتيجي الدوريات في النهار يا علي ؟.
لا يا عمي. -
؟ - ليش ؟
- لأنهم يعرفون أن الخطار لا ينزلون إلى البحر في النهار
! - لعاد خلينا ننزل
! الله يرضى عليك يا عمي ، الناس بيشوفونا وببلغوا الحكومة -
أشعلنا النار . صعد الدخان من عندنا ومن الوادي ومن السفوح والتلال التي صعد إليها العبيدية والتعامرة.
: ولم نسمع إلا وأحد العبيدية يصرخ إلينا من الجبل المقابل
"يا ناس يحرق امكم في عزا أبوكم ما عرفتوا تشعلوا النار في الواد ، وتغلوا الشاي بعدين تطلعوا تدردوه فوق"
رد عليه واحد من جماعتنا
"هوه انت صبحت فاتح عقيرتك علينا على هالصبح ليش؟ هم إلي بدهم يشوفونا رايحين يعرفوا إنا خطار "؟
رد العبيدي عليه:
" لا سيظنون أنك سائح يا أبو القمل "
رد رجلنا بغضب:
"قمل في بيت إلي خلفك يا جيفة يا ابن الجيفة"
" أنا جيفة يا بن عشيرة جايفة ؟! والله إن جيتك لدحرجك من فوق هالجبل "
وثارت حمية رجلنا ونهض وراح يعدو نحو العبيدي وهو يردد:
"والله لأحرق اظلاع إلي خلفك ، خليك عندك لشوف مين يدحرج الثاني ؟ باطل ولا ما تكون ولدتني سحورية"
وتابع انحداره عدوا وهو يستنجد بخطار السواحرة

ثارت نخوة رجالنا فانفضوا من أماكنهم . قال حسن
- شو بدنا نسوي يا علي ؟
قلت له:
. خليك كاعد يا عمي -
قمت . جريت خلف رجلنا لما لحقته . أوقفته وأوقفت رجلا آخر كان يندفع خلفه . وحلفت على باقي الرجال أن يختصروا الشر.
قالوا:
! هوه إلي بدا يسب علينا -
قلت:
! العبيدية جماعة طياب وحقنا لن يضيع عندهم -
حاولوا الإفلات مني فلم يستطيعوا.
وصل بعض العاقلين من جماعتنا وحجزوا الهواشين ، ورأيت رجلا من العبيدية يسبق الرجال الذين كانوا يركضون خلف العبيدي ، الذي دبت فيه الرجولة ونزل يجري ناحيتنا . صرخ فيه:
"هيه يا ابن البغل ! وين كار على السواحرة لحالك ؟ هالساع دبت فيك الرجولة يا نذل ! كنت ورينا مراجلك على اليهود ! وقف ولا والله لجيب خبرك"
توقف العبيدي في مكانه ، لحقه الرجل الثاني الذي بدا أنه محترم عند قومه ، فقد صفعه كفين دون أن ينبس ، وجعله يرجع مع باقي العبيدية ، فرجع رجالنا بدورهم
جاءنا ثلاثة رجال من العبيدية مع الرجل الذي أوقف الإشتباك قبل أن يحدث
قال لنا الرجل:
< حقكم علينا يا سواحرة ولي تريدونه نحنا نسويه >
تشاورنا بيننا ! اتفقنا أن نسامح العبيدية لأنهم جاءوا لعندنا.
قمت حفرت حفرة صغيرة ووضعت فيها حصوة ! قلت للعبيدية :
"والله لوانكم قتلتوا منا رجل وجيتوا لعندنا لسامحناكم بدمه ، جيتكم عزيزة علينا يا جماعة "
ومددت يدي نحو الحفرة وطمرت الحصوة بالتراب وأنا أقول
! هذا عليها يا رجال ،اعتبروها حصوة ودفناها !حياكم الله
و حطينا على القضية جورة وصرارة!
خجلنا العبيدية .
قاموا وخلوا رجلهم يبوس روسنا كلنا ، لأنه شتم العشيرة. وشربنا الشاي معا.
واتفقنا أن لا نشعل النار مقابل البحر ، وأن لا نتجمع ، حتى لا نلفت انتباه أحد ، وأن لا ندع الدواب تخرج من الأودية.
ارتفعت الشمس قليلا . قال حسن:
؟ خلينا نرجع نقعد مقابل البحر -
فكرت للحظة:
- والله يا عمي إن القعدة فوق ما بتتفوت ، يله لنصعد قبل أن تحمى الشمس.
صعدنا . جاء إلى الشاطىء سيارات وباصات سياح ، نزلوا من السيارات ، رجال ونساء، تعروا ونزلوا إلى البحر . قال حسن:
؟ خلينا ننزل نتفرج عليهم -
قلت له:
! ممنوع يا عمي ، بتطردنا الشرطة السياحية -
- ليش ؟
. عشان معهم حريم مزلطات يا عمي -
ولا أعرف لماذا قال حسن:
؟ وحنا ما إلنا إلا التعب والشقاء -
قلت له:
. بتهون يا عمي يا حسن بتهون -
سكت وسرح بعينيه إلى البحر . سرحت أنا أيضا . نظرت إلى الملاحات . فكرت مسكين هذا الولد كم تعبت أمه حتى انتشلته هو وأخوته من الموت والعوز ، والآن خايفه عليه ، يحق لها والله ، يحق لها ! وأنا حاسس إنه حمل على ظهري ، ولن أرتاح إلا بعد أن أعيده إليها سالما . ، الله يسامحها ، ما لقيت واحد غيري توديه معه ؟!
فكرت في الأمر كثيرا ، خفت أن تكون المياه في الملاحات عميقة ، فيغرق الولد ، قلت لحالي :
أفضل شي ما أخليه ينزل للبحر ، وإذا ساعدني الخطار كلهم ، لن يصيب الواحد إلا حفنة ملح ، ، نملأ الكيسين اللذين معه ، ونحملهما على الحمارين ونعود . المهم أن لا أدعه ينزل إلى الماء ولو ملأت الكيسين وحدي.
نظرت إليه . شاهدته سارحا يفكر.
- حسن ؟
. نعم -
- ألله ينعم عليك يا عمي ، البحر صعب على من لم يعتد عليه يا عمي ، وأنت صغير، وهذه أول مرة تخطر فيها إلى الملح ، ابق عند الحمير يا عمي ، ونحن نملأ أكياسك.
نظر إلي:
-إنت خايف علي يا علي ؟
- والله يا عمي إن أردت الصدق إني خايف . وما تنسى إن أمك وصتني عليك ، ولا يهون علي أن يحدث لك شيء لا سمح الله.
سكت قليلا . رنا إلى البحر وهو واجم . ضم شفتيه ، عض على السفلى ، وكسر عودا صغيرا كان في يده ، نظر إلي نظرة واثقة:
- اسمع يا علي.
. أنا مصغ لك يا حسن -
-الحقيقة إني ما كنت خايف من البحر ، لكن لما شفته وتذكرت خوف أمي ،خفت ، وخوفك الآن خلاني أحس بالخوف أكثر ، لكني سأنزل في الماء وأملأ أكياسي بيدي ، ولا أقبل أن تملأوها عني ، وليكن ما يكون.
- لماذا هذا الإصرار يا حسن ؟
-لأنها ليست المرة الوحيدة يا علي ، ممكن أن يساعدني الخطار هذه الخطرة ، وخطرة أخرى ، لكن ما ممكن يساعدوني الخطرات كلها . لا بد من نزولي إلى الملاحات يا علي حتى أعرف دروبها ومخاطرها ومتاهاتها.
نظرت إليه لبرهة . كلامه صحيح . مددت يدي . ربت على ظهره . قلت له
" ولا يهمك يا حسن ، اتكل على الله يا عمي وإن شا الله ما يصير إلا الخير "
قعدنا حوالي ساعتين . نزلنا إلى الوادي ، تغدينا ، ووضعنا رؤوسنا ونمنا
في ظلال الصخور.
*************
(5)
قمنا في المساء. تعشينا. سقنا الحمير قدامنا وربطناها عند باب الواد ي بين التلال ، حتى لا تراها دورية الشرطة إذا جاءت . نزعنا ملابسنا وتركناها عند الحمير . أخرجنا الصفائح من المخابىء، أعطيت حسن صفيحة ، قلت له :
"هاي صفيحة مثقبة من تحت لتغرف بها الملح يا عمي "
حملنا الأكياس ومشينا . وصلنا الملاحات . وجدنا العبيدية والتعامرة سابقينا ومحتلين راس البحر كله . قلت :
"يا رب اجعل هذه الليلة تمضي على خير ولا تجعل العشائر تتقاتل على الملح فيها "
نزلنا إلى الماء . اختلط الناس الواحد بالآخر ، قلت لحسن:
< خليك واقف يا عمي لأبحث لك عن ملاحة قليلة الماء >
رحت يمين ، رحت شمال ، هناك ملاحات لم أتمكن من عبورها إلا سباحة ، وصلت إلى مقربة من مصب الشريعة فما وجدت . رجعت إلى حسن . قلت له إنني لم أجد.

انحنيت في الماء مددت يدي تحت ، تحسست الملح ، وجدته قليلا ، أخذت ملء يدي منه ، قربته من عيني ، لم يكن نظيفا ، أخذت حسن لملاحة أخرى ، وضعنا الأكياس إلى جانبها ونزلنا فيها.
قلت له ابعد إلى جانب الملاحة يا عمي ، إياك أن تتعمق إلى منتصفها ، المياه عميقة .
أمسكت بيده وقدته حتى بلغ الماء حزامه . قلت له:
< إياك أن تغوص أكثر من هنا >
انحنيت تحت الماء ، غرفت بالصفيحة شيئا من الملح ، أعطيته إياها ، ذهب وأفرغها في الكيس وعاد ، قلت له:
"عندما تنزل تحت الماء اغمض عينيك ، وإياك أن تتنفس تحت الماء ، هه"
ومن خوفي عليه أعدته إلى جانب الملاحة ،حتى لا ينزل رأسه تحت الماء عندما ينحني.
قال: الملح قليل هنا ! قلت له:
"معلش يا عمي ، أنا بساعدك بعد ما أملأ أكياسي ، فهمت ؟ "
قال :
- فهمت إنما سأتقدم قليلا
- لكن إياك أن تتجاوز المكان الذي قدتك إليه ، وإياك أن تذهب يمينا أو شمالا ، هناك أماكن عميقة في الماء ، وإذا دخلت مياه الملح في عينيك لا تستطيع فتحهما ، وإذا شرقت بها لا تعرف الطيط من الغيصلان !! وقد تموت هه ، دير بالك يا عمي ألله يرضى عليك .
قال : ولا يهمك
وقبل أن أبتعد عنه ، قلت له أهم شيء ؛
إذا جاءت دورية الشرطة وأنت في الماء ، لا ترتبك يا عمي ، توقف فورا ، وضع اصبعيك ، السبابة والإبهام ، على أنفك ، وعندما ترى ضوء الكشاف يتجه إلى ناحيتك ، اغطس تحت الماء - إياك تنسى أن تغلق أنفك – لحظة ويكون ضوء الكشاف قد ابتعد عنك ، تطلع .. إياك أن تتنفس تحت الماء أو تفتح فمك هه ! وكيسك تتركه ممدا إلى جانب الملاحة ، لا توقفه ، وعندما يصير فيه قليلا من الملح ، اذهب وافرغه في الكيس الذي عند الحمير ، وعد بسرعة ، وإذا جاءت الدورية ، وأنت في الطريق تمدد على الأرض أو اكمن بجانب شجرة أو أي شيء ، أفهمت ؟
قال : فهمت ، ولا يكون لك فكر.
ابتعدت عنه قليلا . رحت أبحث عن مكان فيه ملح كثير . غطست تحت الماء ، تحسست القاع ، الملح قليل ، وجدت ضرسا صغيرا ، حملته وطلعت ، مسحت الماء عن رأسي ووجهي وعصرت شعري إلى الوراء لكي لا ينزل الماء في عيني عندما افتحهما.
أيه لن نملأ الأكياس حتى الصباح على هذا المعدل . ليت هذا البحر قريب من بلدنا ، لسرقنا المياه وانتظرناها إلى أن تجف عن الملح ، وما تعذبنا هذا العذاب.
*********
ملأت حوالي ربع الكيس . حملته وأرسلته إلى عند الحمير ورجعت . قلت أروح ناحية حسن أطمئن عليه وجدته متوغلا في الماء ، وقد جمع بعض الملح:
. يعطيك العافية يا حسن -
الله يزيدك عافية -
- كيف الشغل معك ؟
مليح ، لاو ما نزلت مية الملح في عيني ، لملأت أكثر. -
- استريح اشوي يا عمي.
! ماشي الحال بغمظ عين وبفتح عين -
! ما قلت لك خليك إلى جانب الملاحة يا عمي الله يرضى عليك -
! الملح هناك قليل يا علي ، ما جمعت إشي -
انتبه يا عمي -
توكل على الله -
نظرت من حولي لعلني أرى الملاحين ، لم أشاهد أحدا في هذا الظلام . الناس متفرقون في الملاحات ويعملون بصمت شديد ، وإن كنت أسمع بين الفينة والأخرى
بحركة بعضهم على مقربة منا.
غطست تحت الماء ، ملأت شيئا في الصفيحة وطلعت ، مسحت رأسي من الماء وفتحت عيني ، فوجئت بضوء كشاف الدورية وقد سلط على المنطقة من مسافة بضع مئات من الأمتار ، وأخذ يمشطها من الشمال إلى الجنوب ، لم أتمكن من النظر إلى حسن لأن الضوء جاء إلى ناحيتي ، أطبقت باصبعي على أنفي وغطست تحت الماء ، أطلعت نصف رأسي بعد أقل من دقيقة ، شاهدت الضوء على منطقة حسن ، تأكدت أنه غاطس تحت الماء ، قلت يا رب ابعد الضوء عن منطقته واحفظه بجاهك وجاه هذا الليل الميمون!
ابتعد الضوء ناحية الجنوب . سبحت ناحية حسن لأطمئن عليه ، لكن ضوء الكشاف رجع بسرعة .. همست " يا حسن " قال " نعم " "
" لا تخاف يا عمي الآن ينقلع..
ودهمني ضوء الكشاف ولم أكمل . غطست لحظة وطلعت. رأيت ضوء الكشاف يتجه ناحية الشمال . قلت له :

! الآن ينقلعون يا عمي . اصمد اشوي وخذ حذرك هه -
ولم اسمع ماذا قال لأن الضوء دهمني ثانية.
غطست .. طلعت .. ابتعد الضوء .. قلت : سمعت يا حسن ؟ قال :
- سمعت ، لكن الماء دخل عيني ، ولا أستطيع أن أفتحهما نهائيا ، كيف سأرى الضوء يجيء إلى ناحيتي ؟
قلت:
. امسح عينيك وتحمل يا عمي -
وسمعت الناس يهمسون لنا :
" بدون كلام أنت وهو ، تريدان أن توقعانا في داهية ؟"
سبحت ناحية حسن . لكن الضوء دهمني . همست:
"اغطس يا حسن"
غطس وغطست بعده . وحاولت أسبح ناحيته . طلعت بعد لحظة صغيرة ، قلت
"اطلع يا حسن "
لكنه لم يطلع !! أدركت أنه لا يسمع صوتي من تحت الماء . سبحت ناحيته . رجع الكشاف . غطست .. طلعت . لم يطلع حسن.
"يا إلهي ، صار له حوالي دقيقتين تحت الماء "
شاهدته يطلع . صرخت به:
! أنا قادم إليك يا حسن لا تخف يا عمي -
قال:
! الحقني يا علي سأموت -
قلت ؛
! أنا أموت عنك يا حسن ، روحي فداك يا عمي -
سبحت ناحيته..
يا رب توقف هذا الضوء قليلا حتى أصله وأغطسه وأطلعه معي "
رجع ضوء البين علينا ! صرخت له : اغطس . وغطست .
< يا ملعون أبو إلي انت ضوه من وين جيت ؟>
طلعت من تحت الماء وعيناي على حسن ، لم يطلع . رجع ضوء الكشاف ، طلع حسن ، ما كاد يتنفس يا ويلاه ، قلت له : أغطس . وغطست ! يا رب امتني أنا وأعد هذا الولد سالما لأمه . طلعت . طلع حسن . رجع الكشاف . أغطس ! وغطست
طلعت . لم يطلع حسن . رجع الضوء مرتين وغطست وطلعت وهو تحت الماء. .
طلع فيما بعد وشاهدته يخابط بيديه . استنجدت بكل الأنبياء والمرسلين ، صار الضوء يروح ويجيء بسرعة مخيفة ، صرت أغطس وأطلع وعقلي مع حسن ،
وعلقت كلمة (اغطس ) بلساني ، فما أن أطلع وأتنفس إلا والضوء راجع ، أقول لحسن : اغطس ! ورغم أنني أعرف أنه لا يسمعني تحت الماء ، كنت أقول: إطلع
!لما أطلع . وظللت أتمنى من الله أن يفدي هذا الولد بروحي ويعيده سالما لأمه
.
(6)
ها هي اولى القوافل تقترب من سفوح جبل المنطار ، وأطفال عائشة العلان يهرعون من البيت . يتحلقون حول أمهم ويرقبون القوافل من على قمة الجبل .. يسألونها
"ألم يأت أخونا يا أمنا "؟ فتجيب " إن شاء الله يأتي بالسلامه يا أولادي"
تضع جزة الصوف والمغزل في خريطة الخيش وتنهض . تحمل الخريطة على ظهرها. تقود ابنتها الصغرى (ندى) من يدها وتشرع في نزول الجبل يتبعها محمد ووطفاء.
تطلق بصرها جاهدة لتتأكد من هوية القافلة . لا تستطيع . تسير بخطوات حثيثة تقترب من القافلة ، تنغرس شوكة في إحدى قدمي البنت العاريتين . تتألم وتفلت يدها
من يد أمها وتجلس لتقلع الشوكة.
************
دواب منهكة تسير مثقلة بأكياس الملح . العرق ينضح من أجسادها ، واللهاث يبعث صفيرا من أنوفها .، والرجال يسيرون خلفها بخطوات متعبة مترنحة وقد خارت قواهم . ، والتصقت ملابسهم بأجسادهم من جراء العرق المتصبب، وتقصفت شفاههم الجافة ، وارتسمت على وجوههم مسحات من الكآبة المفجعة ، وتورمت عيونهم وانتفخت من جراء مياه الملح . ، تتعثر أقدامهم بين الفينة والأخرى ، وهم يدارون ألم الحرقة الذي تحدثه مياه الملح في أجسادهم ، فقد تسلخ ما بين أفخاذهم ، فأخذوا يسيرون وقد باعدوا ما بين أفخاذهم.
تمر عائشة العلان من جانبهم .. لا ينظرون إليها .. تتأمل الدواب المنهكة تحت الأكياس .. تسأل أحدهم:
- ألم تروا خطار السواحرة يا أخي ؟
يشير الرجل بيده إلى الوراء ويقول
" مع الناس الذين وراءنا يا خاله "
ويتابع سيره المتهالك خلف الحمار.
تتجاوز عائشة عشرات الحمير والبغال . تمر عنها مجموعة أخرى . ترى ثلاثة رجال يسيرون خلف أحد الحمير . تقترب منهم . تتسمر عيناها على جثة رجل مربوطة بالحبال وقد تدلى رأسه وقدماه على جانبي الحمار . تهرع إليهم:
" البقية في أعماركم يا أخي ، ؟"
" وعمرك يا خاله "
"خير إن شاء الله يا بني"
يجيب أحدهم بكلمات يثقلها الحزن:
"جاءت إلينا الدورية ونحن في الماء ، شرق ومات ، ألله يكون في عون أمه ليس لها غيره.
" يا حسرتي عليه "
رددت ذلك وهي تهمد على الأرض وتجلس في مكانها مذعورة ، هرع الرجل إليها.
- ما بك يا خاله ؟
! - ولدي يا ولدي
- ولدك مع الخطار ؟!
-أيه يا ابني!
- أي خطار ؟
خطار السواحرة يا بني . -
. توكلي على الله يا خاله ، ما مات منهم إلا واحد حسب ما سمعت -
أحست بقلبها يتقطع ، وجاهدت وهي تقول:
-ألا تعرف كم عمره يا بني ؟
. والله لا أعرف يا خاله -
وانصرف الرجل خلف الرجال.
مكثت جالسة في مكانها لا تقوى على النهوض . خاطبت أولادها:
إرجعوا إلى البيت يمه الله يرضى عليكم ، أخوكم قد يتأخر ، والدجاجات بحاجة إلى ماء وعلف ، روحوا ضعوا لها ، والصيصان أخاف أن تخر العقبان والصقور عليها وتخطفها ، ارجعوا يا إمي ارجعوا.
ويرجع الولد والبنتان تحت إلحاحها.
الخطار يمرون .. مر كل خطار العبيدية ، وهاهم خطار التعامرة يطلون من سفح تلة . تجاهد لتنهض على قدميها لكنها لا تستطيع.
مر حماران يتبعهما رجل ، ومر ثلاثة يتبعها ثان. ، ومر اثنان يتبعهما آخر . ويمر الخطار بدوابهم المثقلة المنهكة وهي تجلس خائرة القوى.
"هاهي جثة ثانية محمولة على حمار يتبعها خمسة خطار .. يمرون من جانبها .. يلقون عليها نظرات حائرة حزينة ويمرون ... تمر مجموعة خطار آخرين يمتطون بغالا..
هاهي جثة أخرى يتبعها أربعة رجال تطل .. يمرون عنها ويبتعدون.. .
أين قافلة البلد ، لماذا لم تأت حتى الآن ، هل ستشاهد عيون حسن ؟ لن تدعه يعود للملح ثانية ولو سيأتيها ببحر الملح كله ! والشيخ علي " يدهاه في ماله وعياله هو سبب كل هذا الشقاء "
نظرت إلى ما حولها .. شاهدت القوافل تصعد منعرجات جبل المنطار وتتوارى خلفه حدقت لتشاهد أولادها ، لكنها لم تشاهدهم . شردت..
طارت بجناحين من اقحوان ! قطعت التلال والأودية ، بلغت قافلة الخطار ، حطت فوقها ، شاهدت حسن يسير خلف الحمارين ، والعرق ينضح من جبينه . ضمته ، قبلته ، سقته ماء باردا من القربة ، احتضنته ، حملته وطارت به.
***********
هاهي قافلة البلد تطل . تنفرد أسارير وجهها . تجاهد لكي تنهض ، تنهض ، تسير ، تستقبل القافلة:
هذا أحمد السلمى خلف حماريه يدنو منها ، ينظر إليها متمعنا ثم يطأطىء رأسه إلى الأرض ويسير خلف الحمارين دون أن ينبس ببنت شفة ، يتجاوزها دون أن ينظر إليها أو يرد التحية .. تنده له:
- ابني يا أحمد، ما شفت ابني ؟
يشير بيده إلى الوراء دون أن يلتفت نحوها.
تحس أن قواها عادت تخونها ، فهاهم خطار البلد يمرون عنها ويتجاهلونها ولا يجيبون على تساؤلاتها ، أو يشيرون بأيديهم إلى الوراء ، تتهاوى متهالكة في مكانها ..
أطل علي الخطيب من سفح تلة .. نظر .. شاهدها تجلس على قارعة الطريق.
لم يخطر له أنها قد لا تكون هي ، لقد جاءت اللحظة التي حسب حسابها ألف مرة ومرة ، ( ماذا يقول لها بحق كل الأنبياء ؟! هل يقول أن ضوء الكشاف حاصرهم لمدة تقارب الساعتين ، وأن معظم الخطار قد شرقوا بالماء ، ولم يسلموا إلا لأنهم اعتادوا هذه المياه اللعينة القذرة ،وأنه عمل كل ما في وسعه لينقذ حسن ، بل وتمنى أن يموت هو بدلا منه ؟)!
أحس أن الموت أهون عليه من مواجهتها . توقف . فتوقف حسين الرشود إلى جانبه ، وتوقف الحما ر الذي يقل جثة حسن أمامهما ، ولم يعرفا ماذا يفعلان..
حدقت عائشة العلان باتجاههما .. ارتابت من وقفتهما .. أيقنت أن أحدهما لا بد وأن يكون علي الخطيب وإلا لما توقفا..
نهضت واقفة على ساقيها الخائرتين .. هرعت نحوهما . أحست بأن رجليها لن تبلغا بها المكان .. اقتربت منهما .. شاهدت الجثة على الحمار .. حدقت تتأملها .. خارت قواها أكثر من جديد .. جاهدت ، حنت ظهرها واستمرت في هروعها .. أقبلت على الجثة ، تأملت القدمين البارزتين من تحت الكيس والمدلاتين على جانب الحمار ( إنهما قدما حسن ) أجل إنهما قدما حسن..
تعثرت خطاها .. سقطت .. حبت على أربع .. اقتربت .. مدت يديها .. تشبثت بقدمي حسن ، ضمتهما وسقطت متهالكة عليهما وهي تلثمهما وتردد من أعماق فجيعتها
(عدوينك يموتون عنك يا ولدي يا عيوني )
وخرت مغشيا عليها ..
1978







(5)
نار البراءة
(1) الراوي
رفعت الحاجة صفية يدها بخيط الصوف عاليا وفتلت المغزل على فخذها المعرى فانبرم الخيط .. قالت وهي تطويه على رمانة المغزل :
- سمعتن يا جارات ، بدهم يوخذوا علي الخطيب لنار البراة ؟!
استلقت عيشة المسلم على بطنها وعرت نفسها من الخلف حتى أعلى الكتفين ، لتتلقى المعالجة بكؤوس الهواء :
- نار تحرقهم ! والله بحلف على أيتامي إن علي الخطيب بريء من عرض مليحة أبو الجدايل براءة الذيب من دم يوسف !!
أشعلت الطرمزية ورقة ووضعتها في كأس ثم قلبته على ظهر عيشة المسلم .. قالت وهي تمسك بطوقها وتهزه:
- ندخل على الله ! لعاد شو جاي يعمل عندها بزي ربه بعد نص الليل ؟!
أدخلت عايشة العلان المنحاز بين خيوط النول وأمسكت من طرفيه وشدته إلى الوراء عدة مرات لتباعد ما بين الخيوط :
- استغفري ربك يا ولية انتي شفتيه ؟
- مليحة قالت ، بعدين الناس شافوه شارد ورافع البلطة الي حكت عنها مليحة في ايده ، ووجهه ملثم !!
- ول يا ربي شو بده في البلطة بده يقطعها ؟
- من شان تخاف منه وتسكت !
- والله هالقصة ما هيه خاشة مخي ، قال زلمه بيدخل على حرمه من الشباك بعد نص الليل وهو مشلح مثل ما جابته أمه ، ووجهه ملثم ، او مش بس هيك كمان حامل في إيده بلطه ! بعدين الناس ما بيسمعوا صراخ المره إلا بعد ما ييجي زوجها من وظيفته متأخر وبيدق الباب ، لحظتها بتصرخ !! شو يا مليحة ؟-علي الخطيب اعتدى عليه !!-كيف عرفتي ما دام إنه ملثم ؟- نزعت اللثمة عن وجهه – ول يا ربي ، زلمه في رقبته سبع أنفار ، ومظى عمره حصاد عند دار أبو الجدايل ، وسمعته عندهم زي المسك ، يم أجا اليوم واعتدى على مرة ابنهم ؟!
وحياة تراب أبوي علان إبن علان -العمر لكن – إن هاقصة كلها كذب في كذب ، وخلي خطية مليحة تجمد الدم في عروقي !!
ألقت الحاجة صفية جزة الصوف عن ذراعها ، وطرحت المغزل إلى جانبها ، وجالت بنظرها إلى وجوه النساء :
- أنا حجيت لبيت ألله! إلي شافوا مليحة بيقولوا إنه وجهها مثل العطبة ، بعد ما سمعت إنهم بدهم يوخذوا علي الخطيب لنار البراة ، ألله ما بيراجم الناس بحجار ، ومليحة خايفة يا جارات ، خايفة ان النار ما تحرق لسان علي الخطيب لما ينوشها ، بعدين تنفظح بين الناس وتفظح عيلة أبو الجدايل معها ، ويرجع علي الخطيب لولاده مرفوع الراس !!
كانت الطرمزية قد وضعت مزيدا من الكؤوس على ظهر عيشة المسلم ، فامتلأت بالدخان ، أفرغ الهواء فانقبض الجلد داخل فوهات الكؤوس .. تألمت عيشة المسلم وقالت دون أن ترفع رأسها عن الأرض ، غير أنها نظرت بطرفي عينيها :
- ندخل على ألله ! ايدي تحت صدري والكاسات على ظهري ، ما نيش عارف أتف في عبي وأهز طوقي !!
مليحة مرة بتلعب على الحبال ، وربنا رايح ينتقم منها ويخلي النار تكون باردة مثل الأسكيمو على لسان علي الخطيب !!
توقفت عايشة العلان عن النسيج قليلا :
- ألله يسمع منك يا عيشه !!
أخذت الطرمزية تنزع الكؤوس عن ظهر عيشة المسلم ( بق ، بق ، بق ، ) لكن الكأس الرابع لم.. يبق !!

نهضت عيشة المسلم، أصلحت ملابسها ونفضت التراب عن ثوبها .
قالت الطرمزية :
- وإذا ظلت النار نار وما صارتش مثل الأسكيمو ؟
فقالت عايشة العلان
- بعدين روحي اشتري رطل حنا وحني .... !!!
قالت الحاجة صفية :
- يا ولايا طولن روحكن ، بكره بيظهر المخفي لما يشعلوا النار في حرم النبي موسى !!
قالت عيشة المسلم :
- سمعت ما بدهم يوخذوه لا عالنبي موسى ولا عالنبي شعيب ، بدهم يعملوها في الساحة قدام دار المختار !!
جنحت الشمس إلى المغيب .. أخذ الرعاة يقتربون من العزب .. وضعت الحاجة صفية جزة الصوف والمغزل في خريطة الخيش :
- خاطركن يا جارات .. الصباح فيه الرباح .. بدي أروح أحظر شوية شعير للعنزات .
أدخلت عايشة العلان المطوى من طرف النول وأخرجته من الطرف الآخر .. شدت الخيط وثبتت المنحاز .. أمسكت بالمخلال وأخذت تنسج .. ومع كل طرزة كانت تحبكها في النول ، كان المخلال يضرب ما بين المنحازوحبكة النسيج ، فينبعث ذاك الصوت الرتيب ( طق طق طق طق ) وهي تهتف في سرها ( ياربي تسترعلى علي الخطيب واولاده يا ألله )


( 2) علي الخطيب
يا رب تعطينا بما عطيت وتكفينا بما كفيت وترضينا بمت رضيت وتبعد عنا كل ردية بجاه عائشة وصفية والكعبة المبنية والمصاحف المقرية .. يا رب أنت أدرى وأعلم في الحقيقة يا الله ، ومليحة مرة خالد أبو الجدايل بدها تنتقم مني ، أستغفرك يا ربي وأتوب إليك ، قلت لها يا مليحة حرام عليك شو بدك مني ، أنا زلمه وراي اولاد بدهم لقمة خبز أسد ثمامهم فيها ، أسوك عليك ألله تكفي شرك عني يا ولية ، يوم بتكشفي لي عن صدرك يوم بتشلحيلي سروالك ، أستغفرك يا ربي أستغفرك !!( والله لأنتقم منك ياعلي الخطيب )لسا كلماتها بترن في ذاني من هظاك اليوم ! ول يا ولية مش حرام عليك أنا شو عملت لك ؟ ( انت عملت كل شي يا علي ) !! ول يا ربي أنت أعلم في الحقيقة .. خفت منها قلت بكره بترميني في داهية .. قلت لسلفها رزق .. قلت له ( مهرة أخوك فالته يا رزق ) فهم علي ، والله فهم وقال لأبوه وما بعرف شو صار .. يا سلام عليك يا رزق والله من خيرة الصحاب عمره ما أجا عليه وأنا بحصد في زرع ابوه إلا وقال إلي الله يعطيك العافية يا علي ، ارتاح لك اشوي يا زلمه ، دنيا ورايحة ، وانت عليش مستعجل ، خايف على زرع أبوي ما ينحصد ، رايح ينحصد يا زلمه ، ورايح انت تموت مثل ما مات حسين الرشود وانت بتحصد في زرعه ، ارتاح يا خوي ارتاح !!
أجاني امبارح في الليل ، قلت له بتصدقني يا خوي يا رزق، قال بصدقك ، قلت له والله إن كان دخلت بيت أختي بسوء نية أكون دخلت بيت مرة أخوك . قالي صادق يا علي لا تحلف إيمان يا زلمه أنا مصدقك وشاعر معك وهاكل همك ، شو بدك تسوي ؟ قلت رايح أروح لنار البراة ! صار رزق يشتم على نار البراة وعلى المختار عايد إلي صار في آخر الزمان قاضي ويحكم بين الناس ! الحقير كان ممكن يحكم عليك بيمين ويزكيك اثنين ولا ثلاثة ولا خمسة يا سيدي ، وتنتهي المشكلة ! لكن أبوي وراه ! أبوي عارف إشي ومخبيه يا علي ، من ما صارت هالقصة وهوه زي إلي حاط في عبه حية ، ما بينام لا في الليل ولا في النهار !!
قلت له ولا يهمك يا رزق أملي بالله كبير وثقتي فيه أكبر مش رايح أخاف لاو حطوا نار الدنيا كلها على لساني وكلها لحظة وبتمر وبيظهر الحق ويبان !! قلي خليك عاقل يا علي ، النار نار يا جاك البين وعمر الحق ما أظهرته نار ، اختفي يا علي اختفي بلكي أبوي يقبل انك تحلف يمين في النبي موسى إنك ما دخلت دار مرة أخوي وتنتهي المشكلة . قلت له باطل يا رزق أختفي منشان تثبت علية التهمة ؟ انته بتشكك فيه يا رزق ؟ قال أستغفر الله لكن لما تثبت عليك التهمة ولسانك سالم أحسن من ما تثبت عليك ولسانك محروق ! بعدين من وين بدك تدفع غرامه ومصاريف صلحة وجاهة .. حطيت إيدي على ركبته وقلت له ولو يا رزق أنته بتشكك إني اعتديت على مرة أخوك ولا كان ما بتحكي هالحكي !! سكت اشوية . اطلع فيه . شفت الدموع بتطفر من عينيه .. مسك ذرعاني بيديه وهزني ، قلي علي قلت نعم . قال أنا امصدقك يعني امصدقك ، لكن النار نار وبتحرق كل شي بتعرض إلها والله ما إله دخل فيها ، إفهمت ؟! قلي هيك وراح !!!!!
- فاطمه !
- مالك يا علي ؟
- انت نايمه ؟
-لا ...
- سيدنا ابراهيم الخليل ، ألله يرضى عن روحة ، لما حطوه في النار ، وقال ربنا سبحانه وتعالى ( يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم ) مش صارت وما صار إشي لسيدنا ابراهيم ؟!
- صحيح يا علي بس أنا خايفه !!
- ليش يا فاطمه ؟
- هظاك سيدنا ابراهيم !!
- ول يا ولية استغفري ربك ، هو ألله بيفرق بين عباده ؟
- أنا عارفه يا علي حسبي ألله على الظالمين !!
ومدت يدها .. تحسست رؤوس الأطفال وجاشت عيناها ببعض الدموع !

(3) مليحة أبو الجدايل!

أخ يا اولاد عمي ويا قرايبي ، قلت لحالي علي الخطيب فحل ولا كل الفحول يا مليحة ، كل سنة والثانية مرته بتجيب ولد.. عندي زوج آخ يا كشلي ما هوه للسده ولا للهده، من ما صار ضابط مع فرسان الدولة كل ثلث شهور لشوفه مرة ، بيجيني يمطمط في حاله ويرطرط بيظاته،معنكر تاجه فوق حاجبة ! بنام عندي زي القتيل .. يوم يومين وبيجي رايح عالضفة الشرقية .. ما شاطر غير يحكيلي عن المرة البدوية إلي ركبها قدامه على كربوس الفرس!
قلت مالي غير علي الخطيب .. كان يحصد لحاله في المارس. رحت له بعد العصرية ..حملت معي ابريق شاي شفته بيهجم على الزرع هجوم وبيحدي (منجلي يا بو الشراشف - طاح في الزرع يطاحش- منجلي يا بو رزة ونا -شريتك من غزه-
يعطيك العافية يا علي! ( ألله يزيدك عافية يا مليحة كيف سويتها ) ( يا روحي يا علي جيت في بالي، قلت روح علي بيحصد لحاله في المارس من الصبح بدي أوخذ له كاسة شاي يبل زوره ). (يسلم إيديك على هالشايات يا مليحة ) ( ويديك يا روحي)
إطلعت حوالي.. عالجبال عالوديان.. ما فيه ريحة البشر.. قمت مشيت بين الزرع، قطفت سبلة شعير وحطيتها تحت بزي.. إطلعت عليه.. أبصر فيش كان يفكر .. حطيت إيدي على بزي وصرخت ..إلحقني ياعلي ( ما لك يا بنت ؟)( إشي بنخز في صدري يا علي)( وين ؟) (هان )( أخ يا علي )( تتحركيش استني لشوف وين !)(هان يا علي هان ) ! فتحت طوقي .. فكيت زرار القميص.. بان بزي مثل زغلول الحمام ( ما نيش شايف إشي يا بنت )
( تحت بزي يا علي يا حبيبي)( سبله سبله ، لا تخافيش هيها سبلة شعير )!( سبله يا روحي يا حبيبي، جمدت من الخوف ، قلت أبصر شو إلي في صدري )
تراخيت .. بركت فوق الزرع .. بزي قافز لقدام ومتحفز للقم !! راح علي .. قام السبلة ورجع يشرب الشاي!!
آخ يا كشلي روحت بحسرتي ولوعتي !!
قلت يا بنت جربي حظك ثاني مرة .. بعد أكم من يوم ، كان ينقل الزرع من المارس للبيدر . شفته جاي مع الطريق .. رحت على البيدر . كانت شحمة ذاني تشر عرق من الشوب .. حطيت سبلة شعير في سروالي المرة هاذي ! يا كرايبي لما حطيتها فوق الشعر لزكت قلت عمرها ما تنشال ! أمسكت الشعوب وصرت أنفش في القش. حسيت السبلة طيرت ظبان مخي وهيه بتسبح... !! وصل علي الخطيب ( يعطيك العافية يا مليحة شو بتسوي )( ألله يزيدك عافية يا روحي ، والله شفت حالي من غير شغل قلت أروح أنفش شوية زرع عالبيدر خلي الشمس تشوفه أحسن يعطبن )
طرح الكادم عن ظهر البغلة وفسخه .. حطيت إيدي على قاع بطني وصرخت ( الحقني يا علي ) ( ما لك يا ولية ؟) انطرحت فوق القش ( افزع لي يا روحي إشي في....)( وين يا بنت ؟) (تحت أواعي يا روحي تحتهن ) ( حسبي ألله ونعم الوكيل .. لا تخافيش بيجوز سبله ) !!( لا يا روحي إشي بسبح الحقني من شان ألله )
رفع ثوبي إشوي ، قلت له فوق يا علي ، رفع كمان لما بين سروالي.. حطيت إيدي على السبله ..هان يا ويلي يا علي هان !!شديت السبله لفوق ورفعتها ( هيه في إيدي يا روحي ، إشي كبير بيجوز عقرب يا ويلي، أنزع سروالي يا علي ) !! ( أستغفرك يا ربي وأتوب إليك ) !!
صار ينزع سروالي ونا ما سك السبلة من فوقه .. نزعه .. قال( افتحي إيدك لشوف شو هاظ ) أرخيت أصابعي شوي ( علي يا روحي أوعة ينط امسك شوف شو هوه ) فتحت أصابعي وهوه ماسك إيدي بيديه الثنتين ( سبله مش قلت لك سبله !! )( آخ يا روحي يا حبيبي طنيبه على ولاياك أنا ، يلعن أبو هالسبل يا روحي ، بسبح بسبح مثل الحية ، هاذي المرة الثانية إلي بموتني فيها من الرعب .. آخ يا روحي ) !!
إحمر وجهه وصار عرقه ينقط من راس خشمه . إطلع علي .. إطلع .. !! إعرفت إنه بده يلجم الحصان الهايج في قاع بطنه .. ولجمه يا قرايبي يا اولاد عمي .. والله لجمه وقام .. على هيك ارجال أنا ما شفت .قلت له( طنيبة على ولاياك يا علي لا تخليني أموت عالقش عطشانه يا علي عطشانه وميته من الظما ، بل ريقي، نقط في روحي )!!
قلي (أنا وراي اولاد .. ) وقال حكي كثير يومها .. هاني وذلني يا قرايبي .. قلت أخ والله لأنتقم منك يا علي الخطيب !!
رحت لعند الحجة صفية قلتلها( يا حجة مهرة جامحة عندك إشي تشبيه عليها ؟! ) فهمت علي . قالت ( صقر أبو الجدايل ابن عمك وابن عمك جوزك ناتع صاري بتحطي شبرك وبزيد اصبع !! ) قولي وغيري ؟ قالت ( هاظ إلي أجاك ) رجعت عالدار مثل الطير الطاير وكلمات الحجة بترن في ذاني.. بتحطي شبرك وبزيد... تفيت في عبي وهزيت طوقي .. هيه الحجة قايسته ؟!تذكرت إن الحجة كانت تسري عالقدس من صيحة الديك ، تحط إشليف الخبيزة على ظهرها وتمشي لحالها ، وعلى ذمة بياعات الخبيزة والبابونج والحويرة والزعتر والحلزون ، إنهن لما كانن يمرين من ظهرة ام العصافير قبل ما يطلع الفجر كانن يسمعن غنج فظيع في البطين !! ما عرفت أنسى يا كرايبي.. ظلت كلمات الحجة ترن في ذاني . لما ماتت حماتي العمر لولادها ، غيطنت بنتها ثريا فوق جثتها ، شقيت ثوبي لعند الحزام ، صارن بزازي يتمرجحن مثل زغاليل الحمام . طلعت من غرفة الجنازات
سويت حالي بدور على رزق بين القبور من شان أقله إن أخته غيطنت ! رزق بندوق ابن بندوق ، لما شافني عرف ، قلي باللغة الفحصى ( اذهبي يا لعينة وارتقي ثوبك وإلا ألحقتك بأمي ) !!وسمعته يتمتم ( تبا لك ولزوجك الذي لا يروي شبقك ) شبقك شبقك ! أنا عارفه شو الشبق هاظ ؟
ونا راجعة للغرفة اتطلعت بين القبور .. الناس مكدسين زي يوم الحشر .. شفت صقر .. ( كيف حالك يا بنت عمي ) ؟ ( الله يسلم شبابك ليش ما بتزورنا يا روح بنت عمك ؟!) ( الليلة إن شاء الله ) ( أنا مستنيتك يا عين بنت عمك ) ودخلت غرفة الجنازات عند النسوان .
لما صاح الديك هذيك الليلة سمعت نقر عالشباك . فزيت ( مين ، صقر ؟ يا روحي يا ابن عمي فوت ) فات .. لفني ولفيته .. وتد يا قرايبي . قلت في سري يا سعدك يا حجة صفية !صال فيه وقلي( لوحي يا مرة ابن عمي )
لوحت (اجمحي ) جمحت ( صولي ) صلت يمين صلت شمال لورا ولقدام ! ( آخ يا مرة ابن عمي ) ( يا روح مرة ابن عمك وعينها يا بن عمي وابن عم جوزي ) ( وطي صوتك ) ! ( أخ يا بن عمي ريقي ناشف ، ارويني ارويني يا روح بنت عمك ) أخ يا قرايبي يا اولاد عمي العافية على قلوبكم !!
بعد أكم من يوم سمعت طرق على الباب قبل صيحة الديك .. قلت صقر بالعادة ينقر على الشباك ، مين هلي بيطرق في هالليل ؟ فتحت (مين عمي ) ( عما يعمي عيونك ! أيوه الحقيني ) ( على وين يا عمي ) ( بنتظرك في الواد عند زرعاتنا ! ) يا قشلك يا مليحة ، شاف صقر بيجي لعندي ولا سمع عن عملتي مع علي الخطيب ، ولا بده يدك فيه ؟ زي إلي شفته حامل معه حبل وحامل عصاته، يا ربي شو بده في الحبل بعد نص الليل ، وشو بده مني ؟ الحقيه يا جاك غراب البين يا مليحة !
الحقته يا قرايبي.. الدنيا ليل لحط اصبعي في عيني ما شفته .. مشيت اشوي تعودت عالعتمه ، وصرت أشوف الطريق وزوالة عمي قدامي .. انزلت وراه عالواد .. بطحني جنب الزرعات بين نبتات الحندكوك من غير ما يحكي ولا كلمة ، هبت ريحة الحندكوك في خشمي ، تنهدت . رفع ثوبي ، ظليت ساكته ، شلحني سروالي –بعيد عنكم –ظليت ساكته، عراني مثل ما جابتني إمي، ظليت ساكته ، طوى رجلي لما اركبي لامسن كتافي ن ولف ايدي ورا فخاذي وربطهن بالحبل ، ما ظلش عندي صبر ! قلت ( طنيبة على ولاياك يا عمي يا بو جوزي انت أبو الرجال يا روح مرة ابنك وبنت أخوك !) ظل ساكت يا كرايبي ! ربطني لما صرت مثل الجاجة المشوية !
مسك عصاته ، عرفت لحظتها إن عمي بده يعذبني . قلت في سري(آخ أكون ماني مليحة بنت أخوك عياش أبو الجدايل إذا ما خليتك يا عمي أحمد أبو الجدايل تورد مهرك عحوظي الليلة هاذي !!)
لاح العصاة لاحها .. فتحت شفافي وستلذيت ( شو سويتي مع علي الخطيب ) ؟( ما سويت إشي وحياة روح عمي ) سفك العصاة مع طول فخذي .. شهكت ( إحكي شو سويتي ؟) ( ظميانه يا عمي وميته من الظما ، قلت له منشان ألله يا علي تبل ريقي ، دشرني بظماي وراح يا روح مرة ابنك وعينها ) ( هيك يعني ؟) هاز العصاة هازها وعدلها ، وطعني فيها ، ، حسيت الوجع بطلع من كركيم مخي ، تحملت ، غنجت ‘ تأوهت ، قلي ( صوتك يا بنت الكلب تفظحنيش) قلت ( أفظح كل العشيرة ولا أفظحك يا عمي يا حبيبي ) وفغرت مثل الثعلب ، وعويت مثل الذيب ، ومويت مثل البساس في شباط .. داخ عمي يا قرايبي ، ذبلن عينيه وارتخين شفايفه ، وصار يروم عند فخاذي روم !! رمى العصاة ورفع ثوبه ، يا حسرتي يا كرايبي على هيك ما شفت ،!! ، قطع اللجام وصار يغب من الحوظ غب !!!

(4) أحمد أبو الجدايل .
ملعونة الوالدين.. قمت عنها وخليتها مربطة ورحت وهيه بتنوح نوح الذيب .. رجعت إلها مع طلوع الفجر القيتها بترجف من البرد . قلت لها ( عرفت أن الله حق !!) قالت ( فكني يا عمي حرام عليك ) (بتوبي ) (بتوب ) ( بديش أسمع إشي عنك بعد اليوم ) ( خلص يا عمي توبه بعد هالنوبه )
فكيتها .. قعدت ساعة حتى عرفت توقف حيلها . قلت إلها ( عجلي قبل النهار يطلع يا بنت الكلب ، ألله يجعلني أسمع إشي عنك بعد هاليوم )
روحت عالبيت .. شهر ما شفتها طلعت منه .. راحت الأيام .. ما سمعنا إلا صراخها بعد نص الليل .. فزعنا ..
شفنا زلمة هارب زي المارد .. أعوذ بالله من الشيطان ، عاري وراسه ملفوف بالكوفية ورافع في إيده بلطه !!
اختفى مثل لمح البصر في هالظلام .. جيت عالبيت .. القيت الثور جوزها واصل توه من الوظيفة ( شو يا مليحة)
( علي الخطيب اعتدى عليه ) القصة ما دخلت مخي .. اتجمعوا الناس في هالليل وصارت فظيحة .. أجت الحمولة تشاورني ثاني يوم ( عرضنا يا عم أبو علي شو بدنا انسوي ) قلت إلهم ( لا تحكوا ولا مع واحد من حمولة العبيدات ) ( مش هيك عوايدنا يا عم ما بنرضى غير بدم علي الخطيب ) !!قلت ( ما تعملوا إشي ، أنا بتصرف )
أجوا وجوه حمولة الشقيرات ، يوخذوا عطوه عن حمولة العبيدات . وافقت بخمسين دينار على عطوة لمدة شهر كامل ، ومن غير شروط ثانية .. واتفقنا إنا نلتقي مع العبيدات في بيت الشيخ داود مختار العويسات ، ويكون القاضي الشيخ عايد مختار حمولة الزعاترة .
أجاني الثور ابني قلي ( يا والدي أنا رايح عالوظيفة دير بالك على مليحة !) إطلعت عليه إطلعت ، شفته ثور بقرنين كبار ! قلت في سري والله ما انت من صلبي يا ثور ( روح يا خالد يا بني روح يا خسارة التعب والشكا والخبز فيك يا بني ، بتوصيني على مليحة ، ليش ما توصيها هيه علي ، روح.. روح )
جيت عليها في الليل ..قلتلها( امشي قدامي يا بنت الكلب ) أخذتها لبير في الخلا .. عريتها من ملابسها وربطتها بالحبل على وسطها . قلتلها ( احكي لي الصحيح ، مين كان عندك لما صرختي ؟) ( والله علي الخطيب يا عمي )
دليتها في البير ، تشبثت بالحبل وصارت تصرخ قبل ما تصل المي . ( آه بتحكيلي ؟) ( والله علي يا عمي وحياة أبوي وجوزي ) دليتها .. وصلت المي .. غطستها لعند رقبتها -هيك توقعت ونا برخي في الحبل –صارت تصرخ في البير والصدى يتردد .ما فهمت شو بتقول . غطستها وطلعتها ، وغطستها وطلعتها . . سحبتها لفوق اشوي منشان أسمع شو بتقول . قتلتني ملعونة الوالدين ما أثقلها !( دخيلك يا عمي طلعني ) طلعتها .. اسنانها بطرقن على بعض . دشرتها اشوية . ( آه مين ؟) ( ابن عمي صقر يا عمي ) ( يا ملعونة الوالدين ، صقر أبو الجدايل ؟
ابن أخوي ؟ ابن عمك وابن عم جوزك ؟يا ملعونة الوالدين ولا روح الشاهدين !!آه آه ! واتهمتي لمسخم علي الخطيب ؟ بعدك مش ناسيتيه ؟ آه منك آه ، انتي مش عارفه شو إلي سويتيه ؟ عشاير وحمايل بدها تذبح بعظها من وراك ، ولا مش عارفه هالحكي ؟ أذبحك ؟ أموتك ؟)
نزلت فيها بالحبل لما صبغت جلدها صبغ .. لبستها أواعيها وسقتها قدامي . ظليت على ظهرها بالحبل حتى قربنا عالقرية ..
( شو بدي أعمل شو بدي أسوي ، لاو الناس ما شافوا ملعون الوالدين شارد وحصانه مقطع اللجامات ,، كان خلينا علي الخطيب يحلف يمين ويزكيه خمسة من قرايبه ، إنه ما دخل دار مرة ابني ، وتظيع هالطنجرة بين هالطناجر !لكن شو بدي أعمل بعد الناس ما شافوا زلمة مشلح شارد من بيت ابني ؟ معقول أقبل من علي الخطيب يمين ويزكيه كل قرايبه وفي الكعبة المشرفة بزاتها .. وبعدين الناس يصيروا يعيروني في الزلمة لمزلط إلي ما عرفنا مين هوه .. ؟ آخ آخ .. )
وديت أربع خرفان للمختار عايد . قلت له ( يا شيخ عايد أنا ما بدي غير تقضي بينا وبين العبيدات بالحق والعدل ) فهمها عالطاير ! قال ( والله ما يجيكم غير الحق يا زلمه ، مش بدك أخلي علي الخطيب يبشع حتى يظهر المخفي )؟! قلت له ( والله إنك قاضي عريك يا مختار ، بدي اتخلي الجمرة تهري لسانه هري ‘ حتى يعرف إنه بنات الناس مش داشرات !! بعدين يا مختار ما فيه خلاف بينا الميت دينار غرامة خشة البيت من الشباك إلك ، وميت دينار الخروج إلي ) ( ولو يا بو علي ، هاظ الحكي بينا ؟ الله يسامحك يا شيخ ، إي والله ألله يسامحك !! )

(5) الراوي .
فرشت البسط في الساحة أمام بيت المختار عايد .. أخذ وجوه الحمايل يتوافدون . أقبل وجوه حمولة الشقيرات يتقدمهم الشيخ ابراهيم ، فأجلسهم المختار عايد في ناحية .تبعهم وجوه حمولة العويسات يتقدمهم الشيخ داود فأجلسهم في الناحية المقابلة .وأقبل معظم افراد حمولة السحايقة يتقدمهم أحمد ابو الجدايل فأخذوا أماكنهم في ناحية ثالثة .. وأخيرا أقبل رجال حمولة العبيدات عن بكرة أبيهم بعصيهم المسمرة وخناجرهم البراقة ، يتقدمهم المختار مهنا وبعض وجوه الحمولة ، أما علي الخطيب فقد سار في المؤخرة مع بعض المقربين إليه ، أجلسهم المختار عايد في الناحية الرابعة ، ووزع بعض وجوه حمولته وأفرادها ليأخذوا أماكنهم بين مختلف الحمائل –كونهم الحمولة المضيفة –واختار مجلسه إلى جانب حمولة العويسات كونها حمولة محايدة . وما أن دارت القهوة حتى أمر المختار عايد بإحضار الكانون والفحم .. أضرمت النار .. صعد الدخان عاليا ، فعرف كل من في القرية أن ساعة علي الخطيب قد آنت .
قالت عائشة العلان وهي تقف على النول و ترقب سحب الدخان ( يا ربي تقف مع علي الخطيب يا ألله )
وقالت عيشه المسلم ( يا ربي تستر على مرته واولاده وتخلي النار باردة على لسانه مثل الأسكيمو) وقالت الطرمزية ( يا ربي ما تواخذنا بذنب المذنبين ) أما الحاجة صفية فقد قالت ( يا رب أنت جميل وبتحب العشق والجمال ، استر على العشاق يا الله !! )
جلست زوجة علي الخطيب أمام الخشة والأطفال يلعبون من حولها ( يا ربي تنتقم من الظالمين )
احتضن راعي أحمد أبو الجدايل العنزة الصبحاء –التي كان يتركها بلا حلب ليشرب علي الخطيب حليبها مع فطوره في الحقل –وخاطبها وهو يرنو إلى الدخان من الجبل المقابل ( والله إذا سلم علي من النار لحني ضرعك بالحنا وأعلق في رقبتك ظبابيح وأطعمك كل يوم كيلو شعير )
شد بائع الكعيكبان رسن الحماروأعلن للأطفال أنه توقف عن البيع ..
اختفى صقر أبو الجدايل من القرية منذ الصباح !!
توقدت النار . أخذ الدخان يتلاشى شيئا فشيئا .. وبدأت حبات الفحم تحمر . جلس علي الخطيب ثابت الجأش (يا رب إني وكلت أمري إلك يا الله ، أنت أعلم في الحقيقة وأدرى ، وحكمتك فوق الكل )
أغلقت مليحة باب الغرفة على نفسها ، انطرحت على الفراش وأخذت ترتجف من قمة رأسها إلى أخمصي قدميها وقد لف الشحوب وجهها ، متخوفة أن لا تحرق النار لسان علي الخطيب فينكشف كذبها !
لم يهدأ أحمد أبو الجدايل في مكانه فمع كل دقيقة تمر كان يصلح من وضع جلسته ويضغط على نفسه حتى لا تظهر هذه الرجفة التي اجتاحت يديه !
قال المختار عايد وهو يجاهد لتبدو أسارير وجهه طبيعية ( طول بالك يا بو علي ، رايح الحق يظهر وكل واحد يوخذ نصيبه ) !!
تحلق الأطفال بأسمالهم البالية من حول الجالسين ، ووقفت النساء أمام البيوت وعلى سطوحها .. احتضن رزق أبو الجدايل رأسه براحتي يديه وأطلق نظره إلى ما لا نهاية .
جلس المجنون حسن حمدان على حجر وأمسك بيده حجرا أخذ يضربه بحجر آخر أمامه !
تلاشى الدخان نهائيا .. توهج الجمر .. نهض المختار عايد .. اقترب من الكانون .. أمسك الملقط وأخذ يقلب الجمر .. أشار إلى المخاتير أن يأتوه بعلي الخطيب .
وقف علي بقامته الفارعة ، ثابت الجأش ، رافع الرأس ، لم يرف له طرف . أمسك المختار داود بذراعه الأيمن وأمسك المختار ابراهيم بذراعه الأيسر وتقدما به إلى النار .
قال حمدان أبو رطة في سره ( أراهن على مائة نعجة من غنمي إنك يا علي الخطيب بريء ) !!
وقال يوسف دخيل –وفي سره أيضا –( أراهن على مائتي دونم أرض )
عبث المختار عايد بالجمرات .. التقط بملقطه الطويل جمرة كحبة البقلاوه . قالت امرأة – اقتربت من بعيد ومدت رأسها من فوق رؤوس الأطفال –قالت وهي ترقب الجمرة المتوهجة في ملقط المختار ( ول يلي ما تخاف ألله )
ضرب المختار الملقط بحافة الكانون حتى تتساقط بعض ذرات السكن عن الجمرة المتوهجة !! ونهض مستويا أمام علي الخطيب ( مد السانك ) !
أخرج علي الخطيب لسانه قدر المستطاع .. أطبق صمت ثقيل . جف اللعاب في الأفواه ..ارتجفت يد المختار عايد وبات أبو الجدايل كريشة في مهب الريح ، أخذت مليحة تصرخ من داخل غرفتها !! شد بائع الكعيكبان رسن الحمار من أسفل فكية وتوقف المجنون حسن حمدان عن ضرب الحجر بالحجر .. خرجت زوجة المختار عايد من البيت وبقايا العجين بين أصابعها .. أرهف العشرات اسماعهم وركزوا النظر وابتلعوا بقايا اللعاب الجاف ، وظهرت اللاجئة المجنونة فجأة وهي تجتاز القرية بشعرها الأشعث المنفوش ، تدق صدرها بحجرين وترتدي كيسا من الخيش وتندب بصوتها المفجع ( يا حسرتي حملوا وشالوا وخلوني وحيدة ) أهوى المختار عايد بالجمرة على لسان علي الخطيب . طش اللحم .. تآكل تحت النار. احترق اللسان . قفز علي الخطيب في الهواء وصرخ صرخة هائلة وسقط على الأرض وهو يتلوى ويرفس بقدميه ويطبق بقبضتيه على رأسه ...
عادت السكينة إلى أحمد ابي الجدايل ، وتنفست مليحة الصعداء ، وشوهد صقر أبو الجدايل يخرج من كهف في أحد الأودية ، وأعلن المختار مهنا تبري حمولته من علي الخطيب ، وتعهد أمام كافة الحمائل بأن تحصل حمولة السحايقة على كامل حقوقها .. ونزع عقاله عن رأسه وانهال به على رأس علي الخطيب الذي دنس شرف الحمولة !!!!!!
انطلق صوت عبده موسى من مذياع قريب ( شمس الأردن بتلالي من فوق السما العالي ) !!!!!!

*******








(6)
النهر المقدس*

قالت وردة العودة لعمتها وهي تضم طفلها إلى صدرها وصورة زوجها الذي داهمته الحرب وهو في عمان تمثل في مخيلتها:
- هل سننزح إذا سقطت الضفة يا عمتي أم لا؟
أصلحت عايشة العلان من وضع جلستها فوق النول الذي طوته وأحضرته معها إلى الكهف ريثما تنتهي الحرب:
! لا يا عمتي لن ننزح واليهود لنا ولهم الله -
- ومحمد يا عمتي؟
له رب يرعاه يابنتي -
- وإذا بقي في عمان ولم يعد؟
- سنرسلك إليه يا إبنتي !
أعلن راديو العدو سقوط الضفة بكاملها. لم يصدق الناس النبأ. خر المئات سجوداً في كنيسة القيامة..قال المطران إيليا متضرعاً وهو يجثو أمام تمثال الرب، وعلامات الحزن والرعب ترتسم على وجهه:
< ربنا أنزل علينا رحمتك الطاهرة، وانقذنا من شر الأعداء، واحم ربنا ديارك الغالية>
ردد الناس من خلفه (آمين)
بسط الآلاف أذرعهم داخل المسجد الأقصى وشخصوا إلى السماء .. قال الشيخ عبد الحميد متوسلاً:
" ربنا اجعل من أمامهم سداً ومن خلفهم سداً، واجعل اللهم على أعينهم غشاوة علهم لا يبصرون "
ارتفعت أصوات تستغيث وتتوسل بخشوع: (آمين)
دوت طلقات الرشاشات في سا حة الأقصى، ومرت بعض الطائرات المعادية على ارتفاع منخفض فألفت قنابلها وفتحت نيران رشاشاتها بشكل عشوائي .. تناثرت أشلاء من أجساد بشرية. جمد طفل من الرعب لحظة ثم هرب تاركاً عند قدميه بركة صغيرة.. خرج آلاف البشر من الملاجئ والمنازل وأخذوا يعدون في اتجاه الشرق.. ذاك حمل أخفّ الأشياء، وذاك أضاع حماره، وذاك فقد محفظة نقوده.. ارتفع الصراخ والضجيج.. ذاك يسأل عن إبنه، وتلك تصرخ وتولول، وهذه تمزق وجهها بأظافرها، وذاك رجل فقد صوابه وانهال على زوجته ضرباً بعصا، لأنها لم تحضر ما خف حمله كما أمرها، لاعتقادها أن الضفة لن تسقط.. وتلك امرأة كانت قد رتبت كل حاجياتها، فها هي تضع الدجاجات في لقن العجين وتحمله على رأسها، بينما الطفل يصرخ في الحذل المتدلي على ظهرها، وزوجها يحزم بعض الأمتعة ويحملها ويسوق الأطفال أمامه..وتلك امرأة تنزلق قدمها فترسو بين صخرتين وتصرخ جاهدة لإخراج رجلها دون جدوى.
تنبه الراعي محمد عودة إلى الضجيج القادم من الغرب.. ترك القطيع وصعد سفح الجبل ليتبيّن الأمر.. ذاك شاب يعدو، وذاك راع يسوق قطيعه هارباً، لكن من أين كل هذا الصراخ؟وما لبث محمد عودة أن تبين الأمر إذ ظهرآلاف من البشر يركضون في الأودية وعلى قمم الجبال ومع السفوح ..انثنى إلى القطيع..
أخذ بيده صفيحة وشرع يضرب عليها فأجفل القطيع .. وما أن بلغ قمة الجبل وأحكم النظر حتى نزع كوفيته عن رأسه وأخذ يلوح بها وينادي بصوت عال:
"يا ناس يا هيه، الضفة سقطت في أيدي اليهود، والناس هربوا .ها هم يهرعون من الغرب . يا ناس يا هيه"
وركض على قمة الجبل، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وكرر النداء وههو يلوّح بكوفيته وعقاله ويقفز عالياً، ثم يهوي على الأرض ويرفس بقدميه ويدحرج الحجارة الكبيرة من القمة.
سمع الناس نداء محمد عودة فخرجوا من الكهوف التي أووا إليها منذ إندلاع الحرب، وقد ارتجفت قلوبهم من الرعب والهلع، ودبّت بينهم الفوضى شأن القادمين من الغرب..
وقفت وردة العودة ترقب شقيقها الذي كان يقفز عالياً ، وشاهدته وهو يتوقف عن القفز والنداء وينحدر مع الجبل جريا. ويدحرج الصفيحة خلف القطيع فتخرج قرقعة هائلة فتهرب الأغنام أمامه..ارتفعت أصوات تدعو إلى النزوح وأصوات إلى التريث لتبين الأمر، لكن محمد عوده بلغ الوادي فقطع الشك باليقين:
< يا ناس اسمعوا >
أنصت الكل وقد تحلقوا من حوله وهو يعتلي صخرة عالية:
الدول العربية انهزمت، واليهود احتلوا الضفة والقطاع وسيناء والجولان، أنا لا أقول لكم إلا الصحيح، شاهدت النازحين من القدس والطور والعيزرية وأبو ديس بعيني هذه، ها هم يأتون من الغرب، يحملون عفشهم وأولادهم على ظهورهم ويهربون شرقا. إذا لم تصدقوا اصعدوا إلى الجبل وشاهدوا، ها هم يهرعون من الغرب كأفواج النمل.
زاد محمد عودة من الطين بلّة، فعلا الصراخ ودبّ الضجيج:
(هل سيفعلون بنا ما فعلوه عام (48)؟ هل يحدث كما حدث في دير ياسين وكفر قاسم؟ سيحدث أكثر من ذلك.. النزوح يا ناس.. اكسبوا حياتكم وحياة أطفالكم.. انهم يبقرون بطون النساء الحوامل، ويقطعون رؤوس الأطفال.. ألا تذكرون دير ياسين؟ آه، لو لدينا سلاح..)
هرع الناس إلى ملابسهم وحاجياتهم يحملونها.. تعثروا ببعض ..
تلقت الطرمزية صدمة قوية من رأس أحدهم فنزلت الدماء من أنفها. وأفرغت جميلة الحمدان كمية من الطحين على قطعة قماش بالية وصرّت عليه... وأخذت فاطمة زوجة المجنون الأخرس علي الخطيب – الذي انخرس وجنّ بعد أن أحرق لسانه بنار البشعه – تضرب كفا بكف ،ونظرت إلى عايشة العلان لتجدها جالسة في ذهول.. خطت نحوها:
- ما رأيك يا حجة هل ننزح أم لا؟
- لا والله يا بنتي ما دام النزوح موت وفي الحياة هنا موت، لا والله، نموت في بلادنا أحسن لنا.
ولم تجادل فاطمة في ذلك واعتبرت قول (عايشة العلان) القول الفصل.. وكان كل ما يقلق عايشة العلان ابنها محمد الذي قد لا يترك عمله في عمان ويبقى هناك، وتبقى زوجته وطفله هنا.
.آلاف من البشر يتجهون إلى الشرق.. قوى واهنة، خطى ثقيلة.. ألسن جافة من الظمأ، أطفال يصرخون ...كلاب تبحث عن نقطة ماء.. شمس حزيران تلقي بحرارتها على الرؤوس.. عرق يتصبب من الجباه.. شفاه تتقصف في ذبول.. عجوز يتدحرج من سفح جبل فيستقر على حصباء الوادي، يشهق ويشهق وينام نومته الأبدية.. أم تسأل عن طفلها المفقود فلا يجيبها أحد... طائرة تفتح نيران رشاشاتها ، تتهاوى جثث وتنهض أخرى متمايلة من ألم الجراح! ! غراب ينعب في السماء.. بيدر قمح تحرقه قنبلة معادية.. جندي يغيّر ملابسه بملابس مدنية، وآخر يتخلى عن بندقيته، وآخر يبادلها بمطرة ماء.تنزل دموع وردة العودة . تنتحب بصمت... تنبعث اللاجئة المجنونة فجأة قادمة من أسفل الوادي ومتجهة إلى الغرب بعكس معظم البشر، ترتدي كيس الخيش إياه! ! وبشعرها الأشعث المنفوش، تدق صدرها بحجرين، وتغني بصوت مفجوع وقد نضبت الدموع من عينيها.. تقول عايشة العلاّن ومن قلب حزين: آه أيّتها الأم البائسة إلى أين تتجهين، بينما الناس يولون الأدبار؟
تنظر الحاجة ذوابا إلى زوجها الهرم عوده، ثم إلى ابنها محمد وهو يقف إلى جانب القطيع.. يتجهم وجهها ومخيلتها تبحث عن مصير ابنتها بينما صراخ ينبعث من المغارة التي لجأت إليها عائلة (أحمد أبو الجدايل)
خيوط مبعثرة تمتد ما بين الضفتين.. امرأة تحمل طفلاً بيديها وطفلين على ظهرها.. شيخ يتضرع إلى الله.. سرب حمام يفر مذعوراً من أحد السدود .. تنعق بومة معلنة عن أبدية الحزن ! ! ! يرقص جنود الاحتلال في حرم الأقصى ..يغتصب آخرون عذراء في كنيسة القيامة.. تتلون السماء بلون قاتم.. أطفال مدرسة الأيتام ينظرون بعيون حزينة حائرة .. حبال تمتد بين ضفتي النهر.. تهاجر طيور القطا في أسراب عن أرض الوطن.. يعبر الناس النهر متشبثين بالحبال.. تصرخ امرأة وقعت في دوّامة. جثة طفل تطفوا فوق ماء النهر.. يمتطي راع ظهر كبشه ويخترق به الماء خلف القطيع.. تسبح الأغنام، تجاهد وتصعد إلى الضفة الأخرى . حماريكتشف أنه يجيد السباحة.. قس يقف بعينين دامعتين.. دجاجات تسقط عن رأس امرأة فتطفو فوق مياه النهر وهي تستغيث! ! يتبادل عارف ابن الشيخ على الأنخاب مع جنود الاحتلال.. يقذف النهر الدجاجات إلى البحر الميت.. يصعد كلب إلى الضفة الأخرى.. يوزع جنود العدو البسكويت على الأطفال النازحين! ! يسقط كيس طحين عن رأس امرأة في الماء فيستقر في قاع النهر...يعزف محمد عوده على نايه لحن النزوح، تتسلل النغمات عبر الجبال والشعاب.. تئن... تدمع عينا عائشة العلاّن، وتبكي وردة العودة زوجها في صمت..ترفع الحاجة صفية راية الاستسلام فوق مدخل المغارة..وتعلن الحاجة ذواباً عن الصمود حتى الموت... ويذرف العجوز عودة من قلب حطمته عذابات الحياة .
(2)
تمر الأيام قاسية مريرة ولا يُسمع أي خبر عن محمد، وتظهر تجارة تهريب الناس إلى الضفة الشرقية.. كان الدليل يأخذ خمسة دنانير على الفرد في البداية ، ومع مرور الأيام، ارتفع السعر إلى عشرة، ثم خمسة عشر وأخيرا ً إلى ثلاثين ، من أين لعائشة العلان هذا المبلغ لتدفعه إلى مهرّب يصحب زوجة ابنها وطفلها إلى الضفة الشرقية؟
ينطلق لحن النزوح كئيباً مبكياً من ناي محمد عودة.. فتحمله الريح.. تتكسر ألحانه عبر التلال فيبلغ مسامع عائشة العلان .. تمر صور عشرات المآسي في مخيلتها ثم تستقر عند صورة محمد ، فتأخذ بالغناء والبكاء وهي تنسج على النول
فختلط أغاني السفر بأغاني الغياب وأغاني المساجين بأغاني الندب :

يا ريتكم تروحوا وأعيد حنايا تروحوا سالمين وأعيد أنا منايايا
يا ريتكم تروحوا وأعيد ملبوسي تروحوا سالمين تايقوى ناموسي
ونتو غايبيــن محرمـــة الغيّــة لما تروحـــــوا يا نور عينيّــه
ونتو غايبين محـــرم اللبــس لما تروحـــوا وتلفوا عالقـــدس
ونتوا غايبين محرم الملبوس لما تروحوا وتطلعوا من لحبوس
************
بعيدين عني وأنا في العين ما ريهم وأنا اشتاق قلبي تني أحاكيهم

طارت الطيارة والهوا يوحـــي تيجوا بالسلامة يا بعـــد روحـي
***********
يتسرب صوت عائشة العلان إلى مختلف البيوت... تذرف النساء الدموع ووردة تنتحب بصمت كعادتها وتحضن طفلها وتضمه إلى صدرها.. تنهض وتجلس صامتة بالقرب من عمتها ثم تأتي الحاجة ذوابا وتنضم إليهما... لقد بعثها غناء عايشة العلان . تنهض وردة لتجلسها مكانها:
- ابق جالسة يا بنتي، الله يجمعك بزوجك بالسلامة! -الله يسلمك يا أمي-
تجلس الحاجة ذوابا إلى جوار ابنتها:
- كيف حالك يا عايشة؟
. -الله يسلمك يا حجة
- يا وليّة إلى متى الندب والنعي، الغائب علمه معه، إن شاء الله ما يصير إلا الخير، لماذا تعمي عينيك من البكاء؟
أنا عارفة يا حجة، الله يرضى عنّه ويحن إليه ويسهل الصعاب في وجهه، لو أنه طمأنني بكلمتين عن حاله، ولو امرأته وابنه عنده، والله يا حجة لخفّت مصيبتي.. يا بني من يغسل له ملابسه، من يطبخ له، يا ترى كيف عيشته؟ جوعان، عريان، حي،ميت؟! الله أعلم .
- الموت لاعدائه.. طوّلي بالك، الله مع الصابرين!
- إلى متى نصبر يا حجة ، حرمنا من أولادنا واهلنا ، وتشتتنا وتفرقنا، وانهدّ حيلنا وحملنا، قلت له لما جاء آخر مرة قبل الحرب بثلاثة أشهر، يا بني خذ زوجتك وابنك معك، قال لي ريثما استأجر بيتاً مقبولاً يا أمي، ليرضى الله عنه ويحن اليه، كانت يده مجروحة من الأزميل .
.وانحنت عائشة على حجر مصقول كان محمد قد صقله بأزميله وشاقوشه لتستعمله أمه، فكانت تعمل منه مقعداً تارة، وتارة تضع عليه كؤوس الشاي والابريق .
انحنت عليه وأخذت تقبله وهي تقول لتسلم اليد التي دقّته ..
فكرت الحاجة ذوابا قليلاً وهي تحدق في وجه ابنتها ويبدو أنها وصلت إلى نتيجة ، فقد نظرت إلى عايشة العلان :
-عايشة؟
- نعم يا حجة.
- معي عشر ليرات وسأجعل محمد الله يسلّمه يجلب عنزة إلى السوق ويبيعها ، وحاولي أن تحصّلي باقي المبلغ، لنرسل البنت والولد إلى عنده ، حتى إذا طال الاحتلال كل واحد يكون عند أهله .
ارتسمت علامات العرفان على وجه عايشة العلان.
- الله يكثر خيركم يا حجة، لكن لماذا هي الحياة إذا طالت أيام الاحتلال وظل ظل أولادنا بعيدين ونحن هنا، الله يرضى عنّه، أنا قلت سيأتي ولن يظل هناك، وليحدث ما يحدث ..
-أتريدين من الشباب أن يأتوا ليذبحوا ذبح الغنم يا عايشة، انسيتي ما عمل اليهود في الثمانية وأربعين؟ لماذا نزح الناس؟ خوفاً من المذابح،وإلا ما كانوا نزحوا.
ووجمت عايشة العلان قليلاً وتوقفت عن النسيج .
ومن المهرّب الذي سنرسلها معه؟ -
-سنرسلها مع عارف العلي، منذ الحرب وهو يشتغل في التهريب، لقد أرسل وأحضر الكثير من الناس .
-ألم تجدي غيره يا حجة، أنسيت الأعمال التي عملها عمه فينا، أيام الانكليز، صفيحة الماء كان يبيعنا أياها بخمسة قروش؟
ماذا سنفعل يا عايشة، مع من سنرسلها إذن؟ -
. لا أعرف، الله يعيننا على الذين كانوا السبب-
(3)
اتكلي عليّ يا حجة، والله إنني سأضعها في عينيّ حتى أقطّعها نهرالشريعة... هل انقطعت الدنيا، باطل، مازال فيها خير يا حجة !
- كم تريد يا عارف؟ -
! والله يا حجة اسمعي لأقول لك-
قول يا بني؟-
! صلي على النبي –
! عليك ألف صلاة يا نبي-
والله فقط من أجلك يا حجة، ومن أجل عايشة العلان! -
الله يسلمك يا بني ، كم يلزمك؟-
- -أنا أقبض خمسين دينار على النفر، إنما لكنّ أقدّم عيني، ويكفي ثلاثين للبنت وعشرة للولد، أربعين دينار .. والله هالمبلغ لا أقبله من أحد غيركن أبداً؟
أخرجت عايشة العلان ثلاثين دينارا من صرّتها وقالت :
- والله وحياة ابني الذي لا يوجد أعز منه في الدنيا، إننا لم نقدر أن نجمع هذا المبلغ إلا بطلوع الروح، ماذا أقول لك، باع أهل الحجة ذوابا عنزة بعشر ليرات، وأخذت خمس ليرات سلفة من الحاج علي العطا، لأنسج له مفرشين، واستدنّا من هنا وهناك حتى جمعنا الثلاثين ليرة .
: امتعض عارف العلي قائلاً
- والله لا يكفي يا حجة، لما كان ناس كثير، كان ذلك يكفي، إنما أنت عارفة، اليوم على الواحد أن يتحمل المخاطر ويمشي على دمه من أجل خمسة أنفار على الأغلب ، وفي العودة لا يجد أحداً يحضره .
نظرت عايشة العلان إلى وجه الحاجة ذوابا ثم إلى وجه كنّتها:
والله يا أخي ما معنا غيرها ، والطفل ستحمله أمه، هل ستحمله أنت؟ -
-الله يسامحك يا شيخة، وهل أحمل غير نفسي، كل واحد يحمل نفسه والله يحمل الجميع، أنا أحاسب على النفر، على كل حال إذا كان هذا غير مناسب سلام عليكم...قد يرخص السوق، وأعاهدك يا حجة سأصحبها معي يومها، إنما الآن والله لا يناسبني هذا السعر!
وانثنى عارف العلي سائرا..
<الآن ستناديني الحجة وتقول إرجع يا عارف>
غير أن أيا من الحجتين لم تنده له .
"لكن كيف اترك هذا الغزال من بين يدي، غزال يا عارف غزال، لحم كالفستق المقشر، أرداف، آه، كيف تتركها؟ بشرفك ألا تقبل أن تصحبها، بلا أجر؟! آخ، سمكة يا عارف، ما فيها جنس العظام وأنت الصياد، لا أحد ينادي ارجع، إرجع هذا يكفي "
واستدار عارف العلي عائداً إلى الحاجة ذوابا وعايشة العلان .
- لعنة الله على الشيطان، والله يعز علي أن أذهب وأترك البنت، وهذا الطفل الذي حرم من مشاهدة والده، وشأنكن عندي غير قليل يا حجة !!
الله يسلم شأنك يا عارف، متى السفر يا أخي؟-
! غداً صباحاً بعونه تعالى-
! خذ يا أخي--
وأخذت عايشة العلان تعدّ النقود في يد عارف .
*********
أقبل عارف منفرداً، فارتابت عايشة العلاّن أن ترسل ورده معه لوحدها.
- صباح الخير يا حجة .
-الله يسعد صباحك يا عارف، شايفك وحدك؟
- أي والله
-ما حدا معك؟
-الله يسامحك، أمن المعقول أن أسافر مع بنت لوحدها؟ لن تناسبني السفرة أبداً، معي خمس نساء، إنما تركتهن على الطريق ريثما أحضر ورده .
اطمأنت عايشة العلاّن لكلام عارف.
متى تقطعون النهر بالسلامة إن شاء الله؟ -
. -الليلة، وغداً في مثل هذا الوقت ستكون عند زوجها إذا سهّل الله
-إن شاء الله لن يأتي إلا التسهيل، وداعتك ورده يا عارف يا بني ، أنا أضعها أمانة في رقبتك إلى أن تقطعها النهر وتركبها في تكسي، لا ترسلها لوحدها يا بني، وإذا وصّلتها لزوجها تكون عند الله فاعل خير.
! الوداعة على الله يا حجة، لا تهتمي للأمر، ورده أختي وأعز من عيني؟-
! إذا كان في الدنيا خير يا بني.. الله يسلم عينيك ويسهل دربك-
وانثنت إلى الخشّة وقد تناست كل الماضي الأسود لآل العلي.. وجاءت الحاجة ذوابا لتودع ابنتها...صرتّ عايشة العلاّن بعض ملابس ورده وملابس الطفل وبعض ملابس محمد في شرشف كبير، وربطته من طرفيه، بحبل لفّت عند منتصفه بعض الشرائط حتى لا يؤلم رأس ورده.. ووضعت صرّة صغيرة فيها قليل من الزيتون والبصل والخبز لتأكل ورده والطفل في الطريق ، ولتطعم محمد من زيتون البلاد وبصلها وخبزها الذي خبزته بيديها.. كما وضعت مطرة ملأتها بالماء... ونهضت إلى كنّتها تقبلها مودعة:
(الله يرضى عليك يا بنتي، سلمي على محمد وخذي بالك منه، إسهري على راحته يا بنتي ولا تناكديه. قبّليه عني يا بنتي، قول له أمك تقبلك، وما تنسي المحرمة التي وضعتها له يا بنتي.وضعت لك فيها ليرتين، لتصرفي على نفسك إذا احتجت لشيء في الطريق.. قولي له، هذه المحرمة من رائحة أمك، وضعتها لك في الملابس.. اعتنوا بأنفسكم يا بنتي، الله يسهل طريقك، ويعمي عيون العدا عنك ، ويجعل لك في كل طريق رفيق)
وأخذت تضم الطفل وتقبله بدموعها.. بينما وردة تودع أمها.
حملت وردة الصرّة على ظهرها وحملت الطفل بيديها وضمته إلى صدرها وانصرفت خلف عارف العلي وعبرات ساخنة تنحدر من مقلتيها..
لاحقتها كلمات والدتها وحماتها... قالت الحماة: لا تنسي عنوان محمد يا بنتي، الله يرضى عليك ويحن اليك ويجعل الخير ما بين يديك، سلمي على كل الأهل والأحباب يا بنتي، قولي لهم أن عقولنا سارحة معهم في الليل والنهار، وتنتظر قدومهم.
وقالت الأم: الله يجعل طريقك سهل ما فيها وعر يا بنتي ويوصلك بالسلامة .
وكانت وردة قد ابتعدت فتوقفت المرأتان عن الدعاء وظلتا ترقبانها حتى اختفت خلف تلة مرتفعة .
شاهد محمد عوده شقيقته تحمل طفلها وتسير خلف عارف العلي فترك القطيع الصغير وهرع إليها والدموع تترقرق في عينيه :
مع السلامة يا أختي – وضمها إلى صدره وقبّلها ثم قبل الطفل – سلّمي على محمد، قولي له أخي محمد يعزف على نايه طول اليوم، يتذكرك مع كل طلوع شمس . واليهود اللعنة عليهم.. قولي له إنا لن نخاف منهم ، وبعد وصولك أرسلوا لنا سلامكم بالإذاعة .
وعاد إلى القطيع بينما تابعت وردة سيرها خلف عارف العلي .
(4)
يقصر عارف العلي من خطواته.. يسير إلى جانب وردة يختلس النظرات إليها :
"عينان فم، خدود، عنق ، صدر، وردة إنها وردة فعلاً، من أسماها بهذا الاسم؟ تنزلق عيناه إلى أسفل، ينظر بعينين شبقتين إلى ردفين مكتنزين.. تجتاحه موجة من الشبق العارم.. تطرق أسنانه .. ترتخي شفتاه ما الذي يمنعك من رفع هذا الثوب عالياً، لتملس على هذين الردفين، تغرس أصابعك فيهما.. تفرك لحمهما حتى يقطر الدم منه.. تضجعها هنا على حصباء الوادي.. تقلبها بطناً وظهراً.. لا يوجد غير الشمس والجبال والأودية، علها تصرخ؟ قد لا تقبل؟ ما الذي سيحدث بعد ذلك، هل تهرب وتعود إلى القرية؟ ثم تفضحك بين الناس، وتخسر كل تجارتك بعد أن تخسر ثقة الناس.. أم تغتصبها وتقتلها إذا حاولت الهرب"
ويكبح عارف من جماح شبقه ويحاول أن يطرد سورة ردفيها من مخيلته.. ينظر إليها .. إنها تسير بصمت، وادعة، حزينة، بماذا تفكر؟ألا تفكر برجل يسير معها على انفراد بين هذه الجبال، ولم يشبع من النساء في حياته؟ سيما وأنها لم ترطب فخذيها منذ آخر مرة شاهدت فيها زوجها قبل ما يقرب ستة أشهر.
"يا حبيبي يا محمد، هل سأشاهد طلعتك الجميلة؟ هل ستضمني في الليلة القادمة بين ذراعيك؟ لن أخجل منك،سأقول لك أنني عطشى يا محمد ضاجعني حتى الصباح، أروني، دعني أنتشي..
ستقول لي: يا سافلة هذا يكفي ! وسأكتفي!! كيف ستستقبلني؟ أعرف أنك ستفرح كثيراً ..أنظر إلى فارس ما أجمله.. إنه صورة طبق الأصل عنك، نفس الأنف، نفس الذقن.. .أنظر إلى الغمازة في ذقنه.. لماذا لم تعد إلى الضفة بعد الحرب؟ فضّلت العمل في عمان. أما زلت تدق هذه الحجارة؟ هل تستطيع أن تقول لي كم حجرا صقلت في حياتك؟ إنك تضحك ..طيّب بلاش، كم صخرة انهلت عليها بمهدّتك لتقسمها من نصفها وتحولها إلى حجارة مصقولة جميلة فيما بعد؟ أما زلت تعمل مع فتح ؟ اطمئن لم أطلع أحداً على هذا السر، حتى أمي وأمك.. .لكن لماذا لم تأتِ؟ أليس النضال من هنا أفضل من النضال من عمان؟"!
تعبت يداها من حمل الطفل، رفعته إلى كتفها ونظرت إلى عارف علّه يساعدها في حمله.. تنبه عارف للأمر، مد يديه وتعمد أن يضع يده على كتف الأم قبل أن يأخذ الطفل من يديها.
"سأحمله عنك"

كانت وردة منهكة فلم تمانع في ذلك.. ولم تنتبه لليد التي ملست على كتفها، ثم انزلقت لتمسك الطفل من ذراعه
صخور صوانية وسدود تمتد على جانبي الوادي.. حرارة الشمس مرتفعة.. تسير ورده إلى محاذاة الوادي علّها تنعم بشيء من ظل الصخور..
، "تصوري يا ورده أن الانكليز قتلوا في هذا الوادي أكثر من مائة جندي تركي وعندما أمر منه في الليل، يا ساتر يا الله، شيء يجعل الرأس يشيب، يخرج مردة الجنود الأتراك ويأخذون بالرطن بالتركي بينما مردة الانكليز يردون عليهم بالانكليزي.ماذا أقول لك، أقرأ آية الكرسي، وأتعوّذ من الشيطان وأضع رأسي وأنام..ليلة من الليالي صحوت على واحد منهم، وجدته يجلس عند رأسي ويأكل من صرّة طعامي.. سمّيت بالله وتعوّذت من الشيطان.. انشقت الأرض وابتلعته .. لا تخافي طالما أنا معك، ولاتهتمي للأمر"
ونطقت ورده للمرة الأولى مع عارف وهي تجاهد لتبعد مردته من مخيلتها
؟ - أين النساء اللواتي تحدثت عنهن
"ما أجمل هالصوت، من زمان أنطق يا غزال، خليني أسمع صوتك"
"بعد قليل سنصل إلى مكان التجمع.. ستجلسين هناك وسأغيب عنك قدر ساعتين وأعود بالنساء، قلت لهن أن ينتظرنني في مكان قريب"
ضم الطفل إلى صدره وضغط عليه وهو يتمثل والدته بين ذراعيه! غير أن صورة الأم لم تمثل في مخيلته جيداً، ثم إن الطفل لم يملأ حضنه... صار ملتصقاً إلى جانب ورده...اختلس نظرات جانبية إلى ردفيها .. ترك فخذه تقترب شيئاً فشيئاً.. اصطدمت ركبته بفخذها..تنبهت ورده واعتبرت أن ذلك قد تم دون قصد.
! أنت تعبت يا عارف، أرى أنك تصطدم بي-
- لا، أعوذ بالله إنما نزل شعاع الشمس على عيني ولم أبصر أمامي.
؟ - وهذه المردة التي تتحدث عنها
- ماذا أقول لك يا وردة، الواحد منهم بسم الله الرحمن الرحيم طول عمود التلفون! -ألا يؤذون الناس؟
-لا يؤذون غير الذي يشتمهم أو يبغضهم ، لكنهم يخيفون.
دوت محركات طائرة هليوكوبتر قادمة من بعيد وكانت فرصة ثانية لعارف.
< اختفي يا وردة>
ومد يده إلى خصرها وضمها إليه، وهو يلتصق إلى جانب صخرة ناتئة إلى جانب الوادي .. .. ظهرت الطائرة على ارتفاع منخفض، ولم تنتبه وردة لليد التي استقرت فوق ردفها.
مرت الطائرة ولاذت خلف الجبال..تنبهت وردة ليد عارف تملس على ردفها صعوداً ونزولاً.. وأقنعت نفسها أن ذلك ليس مقصوداً‍، وأخذت الطفل من يدي عارف واندفعت سائرة مع الوادي.
لم تتكلم ، والله رضخت لك يا عارف.. أصبر يا رجل سنصل إلى مكان التجمع... ما أجمل التعري على رمل الوادي تحت ظل الصخور..سأختبرها مرة أخرى، إذا ظلت ساكتة انتهى الأمر.
! "من أحضرك يا وردة؟ جئت مع عارف العلي! مع عارف العلي؟ غير معقول ووصلتيني سالمة؟ لا يمكنني أن أصدق؟ لماذا ألست أنا التي أمامك؟ دعيني أرى ! أي إرفع يدك يا سافل ! كيف حال والدتي؟ تسلم عليك..خذ نسيت... ماذا؟ أرسلت لك محرمة من رائحتها.. يا سلام .. والزيتون، ألن تأكل منه. سآكل. والخبز ؟ لقد خبزته بيديها حتى يطيب لك أن تاكله! يا ألله ما أروع خبزك يا أمي . لا تبك أرجوك، لأنني بكيت طول الطريق . ألم تخافي؟ أكثر ما أخافني المردة التي حدثني عنها عارف العلي، وما عدا ذلك ما خفت.. مرده؟! جان يعني ؟ هكذا يقول. اوه، اتركينا من كل هذا الهراء، حدثيني عن القرية عن ناي شقيقك محمد، عن والدتك عن صبايا البلد، عن اليهود، عن الحرب...! !
اسمع يا سيدي أنا سامع.... لم تحدثيني عن صبايا البلد؟ لن أحدثك . أيتها الغيورة . أنت تغار أكثر مني . صحيح! . ضمني إليك . حبيبتي . حبيبي
***********
وصلا إلى مكان في الوادي حيث توجد بئر ماء.. ويبدو أن أغناماً كانت تقيل في ذلك
المكان، إذ ظهر بعض الزبل على مزبلة البئر و على صدره وإلى جانب الأحواض وفي المصفاة. وكانت الصخور العالية والسدود الصخرية تحيط بالمكان من كل جانب، وتلقي عليه ظلاً رطباً ساحرا.
قال عارف وهو يقف إلى جانب الحائط الصخري:
وصلنا، سنرتاح قليلاً وسأذهب لأحضر باقي النساء، لن أتأخر عليك.
وضعت ورده الطفل إلى جانب حجر، وطلبت من عارف أن يساعدها في إنزال الحمل عن ظهرها.. وكانت فرصة أخرى غير متوقّعة أمام عارف، فوقف خلفها ملتصقاً. أمسك بالحمل عن ظهرها وأخذ ينزله .. أحست وردة بشيء جعلها تجزم أن عارف يتعمد التحرش بها‍! ! ولم تنبس مفضلة التريث على فتح المعركة معه..
وضع عارف الحمل جانباً واستلقى على جنبه بينما جلست وردة خائرة القوى كوّعت على حجر قريب منها.. كان الاجهاد ينهك قواها فأسبلت جفنيها واسترخت ..
"ما أجبنك يا عارف لم يبق إلا أن تمد يدك وترفع هذا الثوب إلى أعلى، وبعدها ينتهي كل شيء... ماذا تتوقع من امرأة خائرة القوى أن تفعل معك؟ وليست خائرة القوى فحسب، ولم تشاهد زوجها منذ ستة أشهر.. لماذا لا تمد يدك يا حيوان، يا جبان، لماذا؟"
ومد عارف يدا مرتجفة.. استقرت على أعلى فخذ وردة المسبلة الجفنين.. فتحت وردة عينيها، نظرت إلى وجهه ، بدا الاحمرار وقد اندفع منه، وظهر الرعب مسيطراً عليه.. قالت بصوت لا يخلو من نفرة:
- ماذا تريد يا عارف؟
ارتعدت فرائصه..
! أنا ذاهب لإحضار النساء، خذي بالك من مردة الأتراك قد تخرج اليك
قالت بشيء من الاحتداد أيضاً!
! - لماذا لا تذهب، ومردة الأتراك لي ولهم الله
والحقيقة أن حكاية المردة قد أخذت كل تفكيرها!
أنا ذاهب لا تصرخي، أف ما هذه المرأة؟
أيقن عارف أن لافائدة ترجى من وردة، وأنها قد تكون على معرفة تامة بنواياه .
منذ أن لمس كتفها للمرة الأولى، وأنها كانت تكتم غيظها طوال الطريق.. ولم يفكر في أمر اغتصابها خوفاً على تجارته أن تبور وخوفاً على سمعته سيما وأنه من آل العلي الذين حملوا المشيخة أبا عن جد، ولهم مكانتهم بين العشيرة. كما أنه ليس بهذه الشجاعة؟؟ لكنه لم يقطع الأمل..
*******
"سأخبرك يا محمد.. ماذا؟ عارف وغد ابن وغد، اوه كنت أعتقد أنك ستخبريني عن صبايا البلد، ماذا فعل بك هذا الحقير؟ ألن تغار؟ اذا حدّثتيني عن صبايا البلد أولاً لن أغار... طيب سأحدثك.. زواهي ابنة حمدان أبو رطة خطفت!
خطفت؟ نعم.. خطفت؟ أعرف أنك كنت تحبها قبل أن تتزوجني.. خطفت راعي حامد دخيل .. كيف؟ طلب يدها فلم يقبلوا، فهربت إلى منزل حامد دخيل وأطنبت عليه، ورجته أن يزوجها من راعيه.. تدخلت الحمائل والعشائر وزوجوها له بالقوة‍! ! بالقوة؟ تقريباً لأن أهلها رفضوا أن يزوجوها من الراعي .. وماذا أيضاً؟ تلك زوجوها من رجل في السبعين، وتلك زوجوها على ضرة، وتلك انتحرت لأنهم لم يزوجوها من الشاب الذي تحب، وتلك وتلك.. تسألني عن أخبار البلد وبناتها وكأنك غبت عنها عشرات السنين... إنها كما هي لم يتغير فيها شيء .
- والرجال؟
- اعتقل اليهود الذين وجدوا في بيوتهم سلاح، والذين ينتمون إلى الثورة والحزب الشيوعي .. بربك من اعتقلوا؟ اعتقلوا رزق أبوالجدايل! ! ومحمود عايد، وعلي عبد ربه وعلي الخطيب..
- والآن خبريني عن عارف العلي، هل مازحك؟
- أكثر من ذلك..
- وردة تقولين أكثر من ذلك؟
-أكثر...
- قولي لي ماذا فعل هذا الجبان بربك ؟
- قلت له أن يساعدني في انزال الحمل عن ظهري و.....
-الحقير ابن الحقير! أقسم بشرفي أني سأعلقه في المكان الذي شنق محمد فضة نفسه فيه بسد العقاب، وأتركه معلقاً أبد الدهر.
. -اعتقدتها مجرد ممازحة في البداية أو شيء من هذا القبيل..
- الحقير ابن الحقير! أخ أخ !
- ألن تهدئ من روعك يا محمد؟
- كلا، لن يهدأ غضبي قبل أن أعلقه بالحبل لن يهدأ!
(5)
صعد عارف إلى التلال، مر بموقع لجنود العدو، تتمركز فيه كتيبة من حرس الحدود.. تناول الشاي وتحدث مع الكابتن شلومو قليلاً وانصرف ... كانت خمس نساء ينتظرن عارف في مكان وضعهن فيه.. .ثلاث منهن من قرية (أبو ديس) وواحدة من )الطور) والأخرى من )العيزرية) وجميعهن يرغبن في الالتحاق بأزواجهن الذين يعملون في عمان والكويت والسعودية.. باستثناء فتاة ديسية عذراء أرسلها أهلها إلى خطيبها الذي يعمل في الخليج.. وكانت إحدى النساء الديسيات، تصحب طفلها الذي لم يتجاوز العام بينما العيزراوية تصحب طفلة تقارب الأربعة أعوام، وأما الطورية فكانت تصحب طفلين، أحدهما في الثانية من عمره والآخر يقارب الخامسة... أما الديسية الأخرى فكانت عاقراً...سار عارف والنساء من خلفه، يحملن صررهن وأطفالهن، إلى أن بلغ وردة.. وقال لهن أن يأخذن قسطاً من الراحة قبل أن تغرب الشمس، إذ يتحتم
عليهن أن يسرن حتى بلوغ النهر.
أسبلت الفتاة العذراء جفنيها، بينما استلقت المرأة الطورية وتنهدت من قلب مفجوع وهي تضم طفليها.. عرّى عارف في مخيلته النساء الخمس والفتاة وأخذ يقلبهن بطناً وظهراً..
*********
جنحت الشمس إلى الغرب، فأخذت الظلال تغمر الوادي ..أفاقت طيور الحجل من قيلولتها فانتشرت بين الصخور.. وفّرت أسراب الحمام من السدود وأخذت تحلق في السماء وتحطّ على المروج .
قال عارف: انهضن يا بنات..
نهضت النساء. نفضن التراب عن أثوابهن وأخذن يطعمن الأطفال.
قالت وردة:
- كم يبعد النهر من هنا؟
قال عارف:
!ذا شددتن الهمة سنصل خلال ثلاث ساعات .
ونهض واقفاً.. حملت النساء صُررهن وأطفالهن وانطلقن خلف عارف بقوى واهنة ومئات الأفكار القلقة والهواجس تطرق مخيلاتهن..
**********
"ما أوحش الجبال في الليل‍ل ! والله إني لا أعرف لماذا هذا التعب والشقاء والتهريب ودفع النقود.. فلو قطعنا النهر في النهار أمام أعين اليهود ماذا سيفعلون بنا؟ ماذا يريدون غير أن نرحل عن بلادنا ونتركها لهم؟"
ونظرت المرأة الطورية حولها علّ إحدى النساء تجيبها..
قالت العيزراوية:
- يا وليّة ألم تسمعي عن البنت العذراء التي اغتصبها حرس الحدود بعدما قتلوا شقيقها وتركوها ملقاة إلى جانب الوادي إلى أن ماتت وهي تنزف؟
وقالت الديسية العاقر:
- ألم تسمعن عن العائلة التي سلبوها نقودها؟
وأخذت كل واحدة تردد ما سمعته من قصص عن الناس الذين ينزحون أمام أعين جنود العدو. ولم تتفوه وردة بشيء إذ كانت منهكة والطفل يلتصق بصدرها منكمشاً كالقط، وعيناه تتلصصان ما حوله وقد انهك ذراعيها..وحسدت المرأة الديسية التي كانت تضع طفلها في الحذل الذي يتدلى على ظهرها. وتحمل صرة الملابس بيديها، لكنها تراجعت عن ذلك بعد أن جزمت أن طفلها كبير ولا يستقر في الحذل إلا إذا نام.
كان طفل المرأة الطورية الكبير، يدرج إلى جانب أمه، بينما تضم شقيقه الصغير إلى حضنها، أما طفلة المرأة العيزراوية فكانت تدرج هي الأخرى، وتتعثر بين الفينة والأخرى وتقول لأمها:
-أين بابا يا ماما؟
تقول لها الأم إنه ينتظرهم على حافة النهر‍! وتكثر أسئلة الطفلة وتتكرر: متى نصل النهر؟ لماذا نسير في الليل؟ أين سننام؟ إذا صادفنا اليهود فهل يذبحوننا؟ تعبنا لو نستريح، أو تحمليني؟ عدا عشرات الأسئلة التي تدور حول اليهود والنساء اللواتي معها... فتحملها الأم وتطلب منها أن تسكت فتسكت! !
تعبت وردة وهي تنقل الطفل من كتف إلى كتف ومن يد إلى يد وتمنت لو أن عارف يدعهن يسترحن بعض الوقت، ونظرت إلى السماء فشاهدت القمر يطل من بين صخرتين عاليتين.
********
عرج عارف جانباً وأخذ يسير مع سفح جبل ..التفت إلى النساء قائلاً:
- عندما نطل على السهل سنرتاح..
وفر سرب من طيور الحجل من أمامه فأحدث اصطفاق أجنحته صوتاً مرعباً.. التصق الأطفال بأمهاتهم ، وقف شعر رأس عارف واستنجدت الطورية بيسوع المسيح.. أخذوا يصعدون مع السفح باتجاه الشرق، فانجلت لهم بعض التلال، وتمنت وردة أن يقرب الله من نهاية هذا الصعود إذ خارت قواها وباتت تشعر أن الطفل سيسقط من يديها.
ما أن أشرف عارف على التلال المنبسطة حتى أشار إلى النساء أن يلتقطن أنفاسهن ، إذ ستبدأ المرحلة النهائية كما قال. تنفست النساء الصعداء واستلقين إلى جانب أطفالهن الذين هدّهم النعاس.. أجسام منهكة، عطشى إلى الراحة، لكن من أين يا حسرة؟ يا ليت هذا الدليل يدعهن يأخذن غفوة، غفوة صغيرة يسترددن أنفاسهن خلالها.
*********
" خمس نساء وفتاة عذراء،وأنت والليل والسماء والأرض، ولا تستطيع أن تفعل شيئاً.. تبا لك،جبان، جبان، سيقتلك الظمأ ولن ترويه مدى حياتك.. قال لك شلومو ماذا لديك اليوم؟ فقلت له خمس نساء وفتاة عذراء . قال لك هذا صيد دسم"! ! فرفضت حرصاً على تجارتك وسمعة العائلة بينما صورة الفتاة العذراء التي ماتت من استمرار النزيف بعد أن قتل شقيقها واغتصبتماها وبعض الجنود تمثل في مخيلتك.. والآن ماذا ستفعل؟ ! ! اقترب من هذه العذراء ..أنظر كيف تضطجع على جنبها، إنها ممتلئة .. تمدد خلفها، حاول أن تتحرش بها، أملس بيدك على فخذها.. جبان لا تستطيع أن تفعل ذلك.. إذن عريهن في مخيلتك وضاجعهن في آن واحد أيها الجبان، دعهن يستلقين على بطونهن تحت ضوء القمر.. هكذا..يا سلام..، إنها ليست المرة الأولى التي تعرّى فيها النساء على ضوء القمر، أنظر إلى سحر الأجساد المستلقية أمامك.. بمن تبدأ؟ بالعذراء؟ والأخريات؟ فيما بعد، ليكن ! ما أجملك أيها القمر! ! وما أجمل الأجساد عندما تتعرى على نورك! "
تهرب الصور من مخيلته،يعود إلى وعيه.. لا يشعر بأنه أروى عطشه.. ينظر إلى النساء، يشعر بشبق كبير في داخله يدفعه إلى الحقد على النساء، ويندم لأنه لم يوافق شلومو على اغتصابهن .. تنتابه موجة من الغضب..يحتضن رأسه بيديه ويصرخ بالنساء:انهضن !
تنهض النساء وقد اعتراهن الذعر، ويصرخ الأطفال..
ينحدر عارف مع تلال منبسطة ..تحمل النساء أطفالهن وصررهن وينطلقن في اثره وهن يتساءلن في سريرتهن عن السبب الذي جعله يصرخ بهذا الشكل.. غير أن أيا منهن لم تكشف السبب في ذلك، وإن كانت وردة قد فكرت بأن لذلك علاقة بما حدث لها مع عارف قبل أن تحضر النساء..
تلال صغيرة وشعاب، ثم أرض منبسطة، السير هنا أفضل من صعود الجبال.. القمر أخذ يجنح إلى الغرب، قال عارف أنهن لن يعبرن النهر إلا بعد أن يغيب القمر.
(6)
يختفي القمر خلف الأفق الغربي، فتغمر الظلال المنطقة.. يخيم الظلام وتبدو أشباح أشجار الصفصاف والدفلى والعليق، تتحرك من بعيد يلتفت عارف ويهتف للنساء أن يتبعنه ببطء.. تتمنى كل واحدة منهن أن لا يصرخ إبنها في تلك اللحظات العصيبة.
<إنهم منا يا جماعة < !
كانت مجموعة من المتسللين العائدين تتجه إلى الغرب، وعندما شعروا بقدوم عارف والنساء كمنوا بين الأشجار.. وما أن عرفوا أنهم ليسوا من الجنود حتى قال أحدهم < إنهم منا يا جماعة> ونهض واقفاً من خلف شجرة عليق، فاهتز جسم عارف من هول الرعب ووقف رافعاً يديه! !
قال الرجل:من؟
فقال عارف:صاحب !
- أي صاحب في هذا الليل؟
- من النازحين.
فقال الرجل: نحن من العائدين!!
اقترب عارف منه فشاهد خلف الشجرة مجموعة من النساء والأطفال والرجال ..قال عارف مؤكدا:
- إذن أنتم من العائدين..
- أي والله لكننا لا نعرف الطريق! !
- ليست مشكلة سأدلكم!
وحتى لا يضيع عارف فرصة ثمينة، قد يقبض من ورئها مبلغاً محترماً، أعلن للنساء أن مهمته قد انتهت، وانثنى إليهن يهنئهن بسلامة الوصول.وبكل بساطة، أشار باتجاه النهر، وقال إنه ما عليهن إلا أن يقطعن هذه المسافة القصيرة بين الأشجار ليصلن إلى النهر، ويعبرنه بكل هدوء، إذ أن المياه قد لا تصل إلى ركبهن.
شعرت وردة أن حملاً ثقيلاً قد أرتفع عن كتفها، غير أن الشرط كان أن يجتاز النهر مع النساء، ويؤمنهن إلى عمان أو يدلهن إلى أقرب طريق للمواصلات على الأقل. ويبدو أن عارف قرأ ما يدور في رؤوس النساء..
- ألا تصدّقن؟ النهر على مرمى حجر وما أن تعبرنه حتى تجدن الفدائيين والجيش في طريقكن، لا تخفن أن تضعن..
أرغمت وردة نفسها على الاطمئنان لكلام عارف كما أرغمت نفسها مسبقاً على التصديق أن تحرشاته عفوية بريئة! ! واندفعت أمام النساء فتبعنها ،وسمعت صوت أحد العائدين يقول: انتبهن من الدوامات!.. فانبرى عارف قائلاً: لا تخفن لا توجد دوامات في هذه المنطقة .
وانثنى إلى العائدين يتفاوض معهم حول ثمن العودة التي لن تتم بدون معرفته للطرق الجبلية والأودية الملأى بمردة الأتراك والانكليز، ومختلف أنواع الوحوش ومصيبة المصائب كمائن قوات العدو التي لا يحصى عددها! ! وأكّد على الكمائن حتى يجد تبريراً للكمين الذي سيقع فيه العائدون والذي سيعيدهم بدوره إلى الضفة الشرقية أو يفتك بهم، وحتى لا يقال أنه كمين مدبر بمعرفة عارف.
صحيح أن النهر لم يكن بعيداً كما قال عارف، لكنه أبعد بكثير من مرمى الحجر اذ قطعت النساء عشرات المرامي ولم يبلغنه بعد.. تنهدت وردة من قلب مثقل بالآلام وشتمت في سرها اليوم الذي وجد فيه آل العلي ومشايخهم ومخاتيرهم، شيخ يقول لشيخ ومختار يقول لمختار وجدّ يقول لجدّ حتى الجد الألف! ! ! كما شتمت الظروف التي جعلتها راعية بنت راع ابن راع وحتى الجد الألف أيضاً..
كثرت أشجار الدفلى والصفصاف والعليق.. جزمت وردة أنهن يقتربن من النهر.. أخذت تزيل الأغصان المتشابكة من أمامها بيد، بينما اليد الأخرى تضم الطفل إلى صدرها .
إنه النهر يا بنات . وجلست جانباً مفسحة المجال للنساء، فمددن أطفالهن وجلسن يسترحن..كانت المياه تندفع هادئة ولا يبدو أنها عميقة... قالت الديسية العاقر:
- لماذا صوت الماء خفيف؟
فقالت الطورية:- باركها المسيح لما تعمّد فيها، قال لها: اهدأي يا مباركة .. فهدأت ومنذ ذلك اليوم وصوتها خفيف! !
أعجبت وردة لقدرة المسيح العظيمة، وبدا لها أنها كفرت بالله سبحانه وتعالى عندما قارنت بين المسيح وبين محمد – صلعم – عندما قال للصخرة المشرفة وكانت قد صعدت خلفه إلى السماء حينها : اهدئي يا مباركة ! فوقفت الصخرة منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا، وظلت معلقة بين السماء والأرض! ! ! وأخذت تستغفر الله في سرها...قالت المرأة الطورية:
- لننهض يا بنات، توكلن على الله..
نهضن وأخذن يتضرعن إلى الله في السر وفي العلانية.
لم يكن عرض النهر كبيراً، فقد قدّرته وردة وهي تتأمله بما يقارب ثلاث عشرة خطوة وقد يقل عن ذلك...قالت العيزراوية:
لو معنا حبل لجعلنا واحدة تقطع وتربطه في الجانب الثاني لنتمسك به ونعبر...فقالت الديسية أم الطفل:
-يا ولايا المياه خفيفة.. ولو توفر الحبل من التي تغامر منا وتقطع وحدها وتربطه؟
قالت وردة: لربطناه على وسطها وأمسكنا من طرفه وجعلناها تعبر، واذا ما غرقت فسنسحبها.
قالت الديسية العاقر:
- يا بنات قبل أن نغادر البلد فكرنا بالحبال، فقال الناس إن المياه خفيفة.
قالت الطورية: وإذا وقعنا في دوامه؟
ردت الديسية العاقر:
- إذن ابقين جالسات حتى يحضراليهود إلينا..
وبدت الفتاة العذراء وهي صامتة صمت من في القبور! نظرن إلى وجوه بعضهن..رعب، قلق، حزن، وأسئلة كثيرة تدور في الأذهان.. قالت وردة:
- توكلن على الله يا بنات، ولنقطع .
وتقدمت باتجاه الماء وهي تشكل ثوبها وتلفه على وسطها ، ثم ضمت الطفل إلى صدرها وأصلحت الصرّة على ظهرها.. وتشبثت بعرق صفصاف يمتد فوق النهر، غير أن المرأة العاقر، اقترحت أن تمسك كل امرأة بيد الأخرى.. وهكذا تركت وردة عرق الصفصاف ومدت يدها إلى العاقر فأمسكت بها.. ومدت المرأة العاقر يدها إلى ابنة قريتها أم الطفل الصغير فأمسكت بها ، تبعتها الفتاة العذراء، فالمرأة العيزراوية تحمل طفلتها .. وأخيراً المرأة الطورية وقد أجلست الطفل الكبير على كتفيها ، وضمت الآخر إلى صدرها ، بعد أن رفضا بإصرار أن تقوم المرأة العاقر أو الفتاة العذراء بحمل واحد منهما.
تقدمت وردة وقد غاص قدماها في مياه النهر.. سارت ببطء ، تمايلت قليلاً عندما انزلق قدمها عن حجر صغير، غير أنها استعادت توازنها وتقدمت ببطء.. خطت قليلاً .. أخذت المياه ترتفع حتى بلغت ركبتيها..
*********
جلست عايشة العلان على قطعة كيس من الخيش، وأخذت تبرم الغزلة وهي تتنهد بألم وحسرة..
شعرت وردة بالتيار يكاد أن يسحبها.
نظر محمد عودة إلى الناي بلهفة وشوق...
تقلبت الحاجة ذوابا في فراشها أرقة .....جلس الأب إيليا خاشعاً أمام أيقونة العذراء في كنيسة القيامة ..
سارت اللاجئة المجنونة عبر أزقة القدس، ترتدي كيس الخيش إياه! ! وبشعرها الأشعث المنفوش..
جلس الشيخ عبد الحميد خاشعاً متأملاً في فراشه..
ركزت وردة قدميها على أرض النهر وثبتتها جيداً حتى تكبح جماح التيار.. استغاثت الطورية بيسوع المسيح وتوسّلت الديسية بكل الأولياء.. ودعت العيزراوية أنبياء الله جيمعهم أن يقفوا معهن، وعرّت الفتاة العذراء رأسها ونظرت إلى السماء متوسلة.. وعلق اسم الله بلسان وردة ومدت قدمها فشعرت باندفاع التيار، فأعادتها إلى الأرض في ثبات .. حركتها ببطء وإلى الأمام دون أن ترفعها فنجحت في التقدم خطوة أخرى..ارتفع نحيب الأطفال..
رفع الشيخ فايز العلي كأسه عالياً فارتفع كأس الكابتن شلومو وكأس المختار فالح العلي وكؤوس كثيرة...
قطعت وردة ثلث المسافة.. ارتفع الماء إلى ما فوق ركبتيها... رددت اسم الله أكثر من ألف مرة... مدت قدمها إلى الأمام ببطء وشعرت أن قدمها تدور في فراغ، وأحست بالتيار يدفعها....
اختل توازنها.. لم تتمكن من استعادة قدمها التي حركتها أولاً أو من تثبيت قدمها الأخرى... وشعرت للحظة أن كل أمالها في لقاء زوجها قد تحطمت.. وأحست بساقها تذهب مع الماء.. كادت أن تهوي .. هوت.. ندت عنها صرخة هائلة وهي تسحب يدها من يد المرأة العاقر، وتدفع الطفل باتجاهها، وتتشبث بعود الصفصاف. ودون وعي من الأخرى، كانت تشبث بالطفل وتشده إليها وتتراجع إلى الوراء في اندفاع، وهي تجاهد حتى لا يطرحها التيار، بينما صراخ الطفل يعلو، ويختلط بصراخ الأطفال الآخرين. هوت وردة إلى قاع الدوامة بعد أن تقصف عرق الصفصاف في يدها..
وقفت النساء في رعب رهيب وهن يحدقن إلى الماء.. وبعد قليل شاهدن الدوامة تقذف بجثة وردة فتسحبها مياه النهر أمام عيونهن.. دون أن يتمكّن من عمل شيء... ومكثن يرقبن الجثة الطافية فوق الماء في ذهول مخيف، إلى أن حدّ الظلام من مشاهدتها.. فتراجعن إلى الشاطئ يلفهن الحزن والأسى، بينما صراخ الأطفال يعلو ويعلو في استغاثات مفجعة، ولم يعد جنود الاحتلال يخيفون أحداّ! ! !
ضمت المرأة العاقر الطفل فارس إلى صدرها وطوقته بذراعيها في حنان غامر بينما صراخه يعلو ماما، ماما...
دقت اللاجئة المجنونة صدرها بالحجرين وهي تمر من أمام كنيسة العذراء، وغنّت أغنيتها بصوت حزين:
يا حسرتي حملوا وشالوا، وخلوني وحيدة..
نزلت الدموع من عيني الأب إيليا وهو يجلس خاشعاً أمام أيقونة العذراء في كنيسة القيامة: ألا ترين ما حل بأبناء وطنك أيتها العذراء القديسة؟ إلى متى يا أم يسوع؟ إلى متى تحجبين عنا بركاتك ورحمتك؟؟
وقال الشيخ عبد الحميد وهو يجلس خاشعاً أيضاً: ربنا لا تُحمّلنا ما لا طاقة لنا به واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين...
أصلحت عايشة العلان من وضع جلستها فوق كيس الخيش وهي تبرم الغزلة...انحدرت دموع طفيفة من مقلتيها، وأخذت تندب بصوت بطئ حزين:
حمرا يا لهيبة وين رحتي بركابك في باب السرايا علقوا لجامك؟
حمرا ومن دبيب النمل حظيـــــتي على فراقهم ليش انتي ذليتي؟
مالك يا حمرا كبيتي في الســهــــل صايبك مسمـار ولا على الأهل؟
مالك يا حمرا كبيتي في المراح صايبك مسمار ولا محمد راح.
أثارت عايشة العلان الحزن في نفس الحاجة ذوابا ومحمد عودة. وكان محمد متشوقا للبكاء منذ لحظات.. لا مس فوهة الناي بشفتيه، وأخذ يعزف لحن النزوح.. انسابت الألحان بين ثنايا الليل.. تكسرت فوق الشعاب والتلال.. تسربت إلى بيوت القرية... فبكى كل من كان يقظاً...
1977
*************





(7)
أبناء إبليس!


إهداء :
إلى النساء اللواتي يرزحن تحت نير الإضطهاد الزوجي
وإلى الرجال الذين لم تجرفهم متاهات الخرافة !
وإلى كافة الشباب والفتيات الذين يطمحون في حياة اجتماعية
أفضل ، تحقق لهم الحد المقبول والممكن من حياة منفتحة
على المحبة وحق الإنسان في أن يحب ، بعيداً عن التعصب القطري والديني
والطائفي والقبلي والعشائري والطبقي والعائلي والمديني والريفي والقروي .
مع أطيب تحياتي وتمنياتي للجميع بحياة سعيدة تملؤها المحبة ويغمرها الحب !
محمود شاهين .
2-6- 2014





(1)

أركعها على ركبتيهاعلى حافة السرير وشمرلباس البيت الفضفاض الذي ترتديه على ظهرها وحسر سروالها قليلا أسفل رد فيها واستل (سوأته ) ! وواقعها بعنف في سرعة فائقة متأوهاً بصوت عال دون أن ينزع قطعة من ملابسه، ودون أن تفارق مؤخرة فتاة البكيني التي شاهدها على المسبح مخيلته . وفيما كان يستلقي ملتقطاً أنفاسه خطر له أنه ربما لم يعوذل ولم يبسمل كعادته قبل المواقعة حتى لا يتلبسه الشيطان ويواقع زوجته معه، مال على جنبه واستند متكئاً على مرفقه متسائلا:
- ذؤابه ! هل سمعتني أعوذل وأبسمل قبل أن ... ؟
- لا يا حكيم لم أسمعك ، هجمت علي كالوحش ودفعتني بقوة إلى غرفة النوم ، وأركعتني على طرف السرير . دخلت إلى البيت متهيجاً ، ماذا جرى معك في الخارج ؟
- أستغفر الله العظيم ، أستغفر الله العظيم ، اتركيني من ماذا جرى معي الآن ، وأنت هل تعوذلت وبسملت ؟
- وهل جعلتني بهجومك الشرس أتذكر العوذلة والبسملة ؟
" لا حول ولا قوة إلا بالله ،لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله "
********************
ولد حكيم وعاش في أسرة متدينة في المدينة . ومنذ طفولته الأولى غُرِس في دماغه أمران : الشيطان وجهنم ، إذ يتوجب عليه أن يتجنب غواية الشيطان حتى يتجنب عذاب جهنم في الآخرة ويدخل الجنة ليتنعم بالحوريات ورغد العيش. وحرص منذ طفولته أن يذكر اسم الله بسملة أو استعانة ( يا ألله ) قبل أن يقدم على أشياء كثيرة ،كالطعام والشراب والنوم والنهوض والإستحمام والوضوء والصعود والنزول والركوب في الحافلات ودخول البيوت والمساجد والكنائس والكنس ، فقد عاش في ضواحي المدينة التي يتجاور فيها المسلم مع المسيحي واليهودي . ونظراً لأن الأخيرين من أهل الكتاب فكان يتعامل معهم كأخوة في الإيمان ، مخالفاً بذلك آراء الكثيرين من الشيوخ الذين يعتبرونهم كفاراً. ومن هنا زرع في نفسه كره معظم الشيوخ وخاصة الذين يخالفونه الرأي ، فلم يكن يطلق ذقنه حتى لا يبدو شيخاً، وحرص على أن يكون له شاربان رفيعان مشذبان بعناية ، وأن يرتدي زيا عصرياً ويضع ربطة عنق كأي شاب متحضر في المدينة. وكان يحرص على دخول المعابد والبيوت بقدمه اليمنى ، والمراحيض بقدمه اليسرى ، ويتعوذ من الشيطان عند التبول والتبرز ، وحين تزوج فيما بعد راح يعوذل ويبسمل قبل مواقعة زوجته .
أنهى دراسته الثانوية ومن ثم الجامعية متخصصاً في الشريعة ، وعين مدرساً للديانة في مدرسة إعدادية .
ثمة مسألة لم يكن قادراً على مقاومتها وهي مؤخرات الفتيات ، حتى مؤخرات اللواتي كن يرتدين حجاباً، فهن يحشرن مؤخراتهن في بناطيل ضيقة تبرز مفاتن الردفين . كان ما أن يشاهد مؤخرة استفزازية حتى يحاول غض الطرف مستغفراً الله لاعناً الشيطان . وكان يحرص على آداء الصلاة في أوقاتها ونادراً ما فاتته صلاة ، وإذا ما فاتته فإنه كان يقضيها فيما بعد .
تعرف إلى ذؤابة التي كانت معلمة لغة عربية ، وتسكن على مقربة من بيت أهله . وكثيراً ما صادفها صباحا على موقف الحافلة وحياها . وفي إحدى المرات جلس إلى جانبها في الحافلة ، ورغم أنها كانت محتشمة وترتدي الحجاب ، إلا أنه شعر باضطراب يجتاح جسده ، وهي بدورها شعرت بالأمر نفسه إنما بدرجة أقل .
وحرص قدر الإمكان أن لا يلامس فخذه فخذها . في ذلك اليوم تعمق تعارفهما . جذبه جمالها الهادىء المنطوي على جاذبية أخاذة ، أشعره أنه أمام جمال عذراوي يندر وجوده ،وهي جذبتها وسامته وتدينه وأدبه . فما أن تمالك نفسه ونظر نحوها معلنا أنه منذ أن عرفها وهو يرغب في الحديث معها للتعرف إليها أكثر ، حتى نمّت شفتاها عن ابتسامة ساحرة معلنة أنها رغبتها أيضا .
لم يمر وقت طويل حتى خطبا إلى بعضهما وتزوجا .
****************
تذكره الدائم للنقيضين الله والشيطان جعلهما يمثلان دائما في مخيلته الأول ليتقرب من محبته وينعم بجنانه وحور عينه ، والثاني مخافة الوقوع في غواياته وضلاله ، فحين يكون مع الأول يشعر بطمأنينه تجتاح نفسه وخاصة حين يؤدي الصلاة أو وهو يقرأ القرآن ، أو وهو يتأمل بخشوع متخيلا الجنة وحور العين يسامرنه على شاطىء الكوثر ! وحين يكون مع الثاني يشعر باضطراب وقلق وصورة الشيطان بشكل وحشي مرعب تمثل في مخيلته . كان يتخيله بجسم ضخم وقرنين هائلين وعينين مكعبتين وأنف ضخم وفم واسع جداً ، وأسنان كأنياب الفيل ويدين بأظافر كمخالب نسر هائل ، وشعر كث ينتصب كشوك القنافذ يغطي كافة أنحاء جسده ويطول كثيرا فوق رأسه وحول أذنيه الكبيرتين ، ولم يكن يرتدي شيئا على الإطلاق فيما سوأته الضخمة تتدلى حتى ركبتيه.
كان يحاول الهروب من الصورة بأن يعوذل ويبسمل و يلجأ إلى كتاب الله إذا كان في البيت ، أما إذا كان في الطريق أو في السوق فكان يهرع إلى أقرب معبد حتى لو كان كنيساً يهودياً ، يطرح نفسه في زاوية من زواياة وهو ينقبض متلويا على نفسه شابكاً أصابع يديه ببعضهما تارة ، محتضنا رأسه تارة أخرى .. وإذا ما شاهده أحد كان يظن أن نوبة صرع قد دهمته ، فيسارع إلى مساعدته ووضع الكتاب المقدس بين يديه .
نادرا ماكانت تنتابه هذه الحالة قبل الزواج . لكن بعد أن تزوج ، بل وفي الأيام الأولى من زواجه وقع تحت يديه كتاب عن الجن والشياطين حين كان يبحث عن كتب عنها تحديدا ليتلافى أذاها وخاصة في سرير الزوجية وخلال المضاجعة . عثر على كتاب بعنوان ( حوار صحفي مع جني مسلم ) هاله ما قرأه في الكتاب عن الجن والشياطين وقدراتها الخارقة للغاية بحيث بدت وكأنها تكاد تضاهي قدرة الله . وهاله الكم الهائل لأعدادها وممالكها الكائنة في الكون وتحت مياه المحيطات . كان دائما يظن أن الشيطان كائن وحيد ، لكن وبعد قراءة الكتاب وجد أن العالم يضج بالشياطين .وبدلاً من أن يتخيل شيطاناً واحداً خلال نوباته راح يتخيل أحياناً جيشاً من الشياطين يهاجمه .
أكثر ما أرعبه ونغص حياته إمكانية أن يتلبس شيطان سوأته خلال المواقعة ويضاجع معه زوجته ،ويستقر في فرجها ويظل يضاجعها مدى الحياة ، فتصاب بالشبق ولا تعود تشعر بإشباع وتحتاج إلى الممارسات الكثيرة المتنوعة والمتعددة ،ثم إنها قد تحمل وتنجب أولاداً شياطين وبناتِ شيطانات ! نزلت المعلومه على دماغه كالصاعقة ، والأسوأ أنه وجد أن ثمة إمكانية لأن يتلبس سوأته أكثر من شيطان ، وإذا ما استقر هؤلاء في فرج امرأته وضاجعوها معاً ، ستكون الطامة الكبرى ! ونظراً لأنه يدرك أن معظم الرجال لا يبسملون ويتعوذلون قبل المضاجعات ، راح ينظر إلى الناس كأبناء وبنات شياطين . وراح يسأل زوجته بعد كل مواقعة عما إذا استمتعت كثيرا وعما إذا شعرت أن ذروتها أكثر من المعتاد أو مضاعفة ، فكان يطمئن حين تقول له " بل أقل من عادية " ويطمئن أكثر حين تقول له " أي ذروة هذه التي تتحدث عنها وأنت تهجم علي كالثور وتنتهي في أسرع وقت دون أن تفكر في " ورغم أن هذه الإجابة كانت تطمئنه إلا أنها نبهته إلى أمر مهم ، فعدم تلبية رغبات زوجته أمر قد يدفعها إلى الخيانة الزوجية والاسوأ أن يدفعها إلى تجاهل البسملة والعوذلة مما يمهد السبيل أمام الشيطان .وهذان أمران لا يمكنه بأي حال مجرد تصورهما . ووجد نفسه يروض نفسه شيئاً فشيئاً
على المداعبة والتقبيل وحتى اللعق ، والإطالة قدر الإمكان في بلوغ الذروة لتبلغ هي معه أو قبله ، والحق إنه بذلك اكتشف ما كان يجهله في زوجته حين وجد أنها تبلغ الذروة مرتين أحياناً ، مرة باللعق ومرة بالإيلاج .
وكان يقطع الشك في الشيطان بقدر ما من اليقين حين يجعلها تردد البسملة والعوذلة قبل المواقعة ، إلى أن جاء ذلك اليوم اللعين الذي دعاه فيه أخوه الأصغر لتناول طعام الغداء على شرفة مطلة على مسبح الفندق الذي يعمل مسؤولا فيه ، ليرى ما لم يره في حياته من قبل ، وليعود إلى البيت محتقنا هائجاً مسرعاً ناسياً ليس البسملة والعوذلة فحسب ، بل الله والشياطين كلها ، ليواقع زوجته تلك المواقعة التي قلبت حياته رأسا على عقب .
**************




(2)
كان أخوه حاتم على النقيض منه تماماً رغم وجوده في أسرة متدينة ، واهتدى إلى ممارسة العادة السرية في طفولته حين بدأ يشعر بمتعة عند ملامسة حمامته ، وحين التهبت ، راح يرطبها بلعابه غير أن اللعاب كان ينشف بسرعة فراح يسرق قطرات من الزيت في فنجان ويدخل إلى المرحاض ، أو يدخل إلى الحمام بحجة الإستحمام .. وحين تنبهت أمه لتأخره في المرحاض رصدته عند الخروج منه فأمسكته متلبساً بفنجان القهوة وآثار الزيت فيه . نهرته بلطف وهي تأخذ الفنجان :
" لا تلعب بحمامتك كثيراً ولا تسطو على تنكة الزيت ، استخدم الصابون وحين ينشف أعد ترطيبه بالماء حتى لا تلتهب حمامتك "!!
فاجأته أمه بأنها تعرف كل شيء راح يبكي متوسلا إليها ألا تخبر والده .
المشكلة الأكبر في طفولة حاتم قبل سن التاسعة حين فاجأته الجارة مع ابنتها عاريين تحت السرير . هتفت بقليل من الإنفعال :
" الله يغضب عليكم بعدكم صغار على الحب .. اطلعوا اطلعوا وما تعيدوها " !!
ارتدى حاتم ملابسه وهو في غاية الخجل.. قادته الجارة إلى أمه التي كانت صديقتها ، وأخبرتها عما كان يفعله .
" الله يغضب عليك غضب قلبي وغضب ربي "
وأخذت يده وضربتها على ظهرها بيدها، فيما قلب هو شفته السفلى وشرع في البكاء .
دفعته إلى كنبة وهي تهتف :
" الله يجعلني أسمع أنك فعلتها مرة ثانية "
والحق إن حاتم لم يفعلها مرة ثانية مع "طفلات ". فقد راح يعرف الحلال من الحرام . غير أن الحلال والحرام لم يردعاه عن ممارسة العادة السرية ليبتدع طرقا كثيرة لممارستها عند بلوغه سن المراهقه ، بل وابتكر ممارسات مختلفة كان أشهرها أن يثقب دائرة في بطيخة بحجم عضوه ويفرغها من اللب ويضاجعها !! وكان حريصا على أن لا يكتشف أحد هذه المتعة .
حين أنهى الثانوية وسافر إلى بيروت ليدرس في الجامعة الأمريكية ،عاش الحياة بطولها وعرضها حين وجد هناك بشراً مختلفين وحياة مختلفة ونادراً ما صادف أحد المتدينين غير المتزمتين . عرف خلال سني دراسته لإدارة الأعمال بعض الفتيات ومارس معهن الحب ، ومنهن من أحبها لتترك أثراً عميقا في نفسه حين تزوجت من مليونير خليجي . ويمكن القول إن حاتم لم يعد يطبق من شرائع الدين إلا نطق الشهادتين في بعض الأحيان ، بل وأحياناً يكتفي بالنصف الأول ! ويذكر أن آخر صلاة قام بها هي في المدرسة الإعدادية حين كان المعلمون يرغمون الطلاب على تأدية صلاة العصر في ساحة المدرسة . ويذكر تماما أنه سمع الطفل الذي إلى جانبه يسأل جاره خلال السجود ماذا تغدى ، فأجابه الآخر " مرقة عدس " فشرع حاتم في الضحك الذي راح يكبته في دخيلته بصعوبة إلى أن انتهت الصلاة .
*******
على العكس كان حكيم الذي عاش طفولة متزمتة . ونادراً ما اعترف بينه وبين نفسه بممارسة العادة السرية التي كان يجد نفسه مضطراً إلى التحايل عليها خلال الإستحمام حين يغسل سوأته " التي اعتبرها أسوأ ما فيه لذلك أسماها " سوأه " . فحين كان يدلك سوأته بالصابون كانت تنتصب فلا يجد بداً من استمرار التدليك حتى يبلغ النشوة . لم يكن يعتبر أنه يمارس العادة السرية بهذا التدليك ، رغم أنه كان يتخيل أفخاذ وأرداف ونهود وفروج فتيات خلال التدليك ، وواظب على ذلك حتى سن المراهقة وما بعده ،ويمكن القول حتى أن تزوج .
حين دعاه حاتم لتناول طعام الغداء في الفندق معه . لم يتوقع أنه سيجلسه على شرفة مطلة على المسبح .
وهما يجلسان إلى المائدة اعتذر له حاتم عن عدم الجلوس إلى جانب المسبح لأنه لا يسمح إلا بملابس السباحة ، مدركاً أنه لن يقبل بذلك .
" حتى الجلوس هنا مصيبة فما بالك بالجلوس على المسبح مع هؤلاء الكفرة العراة "
هتف حكيم .
" هؤلاء يريدون أن يعيشوا الحياة يا أخي لأن بعضهم يدركون أن الله غفور رحيم ، ولن يحاسبهم لأنهم سبحوا بملابس غير محتشمة ، وبعضهم يتركون ما لله لله وما للحياة للحياة ، وحين تقوم الساعة يفرج الله ما لاتعلمون "
قال حاتم . ولم يجب حكيم لأنه كان يستغفر الله وهو ينظر إلى فتاة أسفل الشرفة تنحني على حافة المسبح لتبرز مؤخرتها بشكل مثير قبل أن تقفز إلى المسبح . نظر حاتم إلى ما كان ينظر حكيم إليه ، فشاهد الفتاة .
" إنها سارة ، هي صديقة جميلة جدا ومثقفة وتعشق السباحة "
" الله يهديك يا أخي ألله يهديك ، ويعيدك إلى الإيمان القويم "
راح حاتم يبتسم فيما كان حكيم يجوب بنظراته كافة أنحاء المسبح مستغفرا الله أينما نظر :
ثمة فتاة مستلقية على بطنها لتأخذ حماماً شمسياً،وتلك تستلقي على ظهرها للأمر نفسه ،وتلك ترفع رجليها على كرسي ، وتلك تقوم بتمارين رياضية فظيعة ، وتلك تجري حول المسبح ، وتلك تقفز من علو شاهق ، وتلك يقوم شاب بعمل مساج لها وهي مستلقية على بطنها . " أستغفر الله العظيم ،أستغفر الله العظيم " ووجد حكيم نفسه يستغفر الله دون توقف . وعبثاً حاول أن يمنع نفسه من النظر ، مقتنعاً أن الله لن يحمله ذنوباً مكتفياً باستغفاره له !
*********
كان الطعام شهياً .. وكان الوضع سينتهي إلى ما هو مقبول ويمكن تحمله ولو على مضض من قبل حكيم ، إلى أن جرى ما هو ليس في الحسبان . فقد خرجت سارة من المسبح ونظرت إلى الشرفة لتشاهد حاتم ، فرفعت يدها محيية :
" هاي حيتم "
رفع حاتم يده ملوحا بها :
" هاي سوسوتفضلي حبيبتي "
" جييه جييه " هتفت سارة بلبنانية قح معلنة أنها جايه ( أي قادمة ) وشرعت في الصعود إليهما .
ما أن أقبلت حتى نهض حاتم لمصافحتها مشرعاً يديه على وسعهما لاحتضانها فيما كانت هي تشرع يديها بدورها وتطبق بهما على جسده وتشرع في تقبيله وهي تردد " اشتئت إلّك حبيب ألبي " فيما كان هو يطوق خصرها بيديه ويقبلها وهو يردد " وأنا اشتئت إلك حبيبتي ،كيفك ؟ "
" مشتاءة مشتاءة "
والتفتت نحو حكيم مطلقة يدها اليمنى عن جسد حاتم لتصافحه ، مرددة :
" مين هيدا الشب الكربوج يلي معك "
" هذا أخي حكيم أكبر مني "
" ياي شو حلو .. مرحبا "
ومد حكيم يداً مرتعشة وهو يردد على مضض:
" أهلاً "
تصافحا .. بالكاد أطبق حكيم يده على يدها ، وهو يستشعر حرارتها تجتاح كيانه .
"اجلسي حبيبتي " هتف حاتم وهو يحرر خصرها من يده اليمنى التي كانت ما تزال تطوقه .
" شكرا بس ما بدي أقاطع جلستكم "
" لا لا ما فيه شي ، عادي"
وسحب حاتم لها الكرسي الذي على رأس المائدة لتجلس عليه بينه وبين حكيم ،فيما كان حكيم يغسلها بنظراته من رأسها حتى أخمصي قدميها ، ليجد أن كل ما فيها حتى أصابع قدميها قطع حلوى قابلة للإلتهام بشهية ، فيما راحت شهوة طاغية تجتاح جسده حين ألقى نظرة نحو شكل فرجها مرتسماً خلف شريحة البكيني التي تسترة ، وحين انحنت للجلوس منحرفة بمؤخرتها إلى ناحيته لتجلس على الكرسي بشكل جانبي لتبقي جسدها في مواجهة حاتم ، تجلت له مؤخرتها وشريحة البكيني تنحصر بين ردفيها لتبدو مؤخرتها وكأنها عارية ، راح جسده ينتفض من أعلاه إلى أدناه ،وأسنانه تطرق على بعضها ، وسوأته تتحفز بشكل فظيع ،ولم يعد قادراً لا على استغفار الله ولا على التعوذ من الشيطان ، ولا على الحوقلة ، ولا على أي شيء يمت بصلة ما لله وللشيطان ، وكأنه لم يكن لهما وجود في حياته . وجاهد قدر الإمكان لأن يبدو طبيعيا .
" أطلب لك غدا حبيبتي "
" لأ سبئتكم حبيب ألبي بس ممكن أوخد كأس بيرة "
وألقى حاتم نظرة نحو حكيم وهو يهتف :
" بعد إذنك أخي ممكن نشرب بيرة " ؟!
أومأ حكيم برأسه أن " ممكن " لأنه لم يعد قادراً على الكلام لشدة تهيجه . غير أنه فوجىء بما لم ولن يفهمه على الإطلاق ، حين هتفت سارة :
" ياي متدين !؟ بهنيك من ألبي !! لا حيتم مستحيل ، ما تطلب ، ليزم نحترم مشيعره وتدينه لحكيم، اطلب لي كيزوزه "
وعبثا حاول حاتم أن يقنعها بالعدول عن رأيها وعبثاً حاول أن يقنع حكيم بالبقاء معهما وعدم الإنصراف ، بعد أن أغصب الأخير نفسه على قمع سوأته حتى لا يبدو تخيمها في بنطاله ، ونهض مستأذنا الإنصراف .
نهضا . صافحاه . انصرف على غير هدى دون أن تفارق حرارة يد سارة أو جسدها عقله .عاد بسرعة إلى البيت دون أن يكون للشيطان والله وجود في خياله ، ليواقع زوجته بعنف.
***************
(3)
لم تكن أسرة ذؤابة متقيدة بشرائع الدين وإن كانت تعتبر متدينة وتحافظ أمام المجتمع على بعض الطقوس الدينية والشرائع ، كصيام شهر رمضان وتأدية الصلاة خلاله فقط ، وكأن باقي أيام السنة لا تستوجب الصلاة . كما كانت الأم ترتدي حجاباً عادياً حين الخروج من البيت . ضمن هذا الجو الوسطي دينياً عاشت ذؤابة . تلمست متعة الغريزة الجنسية دون وعي منذ أن كانت في سن الرابعة ، حين كانت أمها تحممها ، وحين كانت تمد يدها عفوياً إلى ( دحنونها كما أسمته أمها) فتشعر بما هو لذيذ ، إلى أن وجدت نفسها تتلمس دحنونها بأطراف أصابعها بين فترة وأخرى ، إلى أن تنبهت لها أمها فحذرتها من فعل ذلك لأنه عيب . وحين تجاوزت الخامسة بدأت المحظورات تكثر ككشف الفخذين الذي يودي بها إلى النار ، والجلوس باحتشام ..وألبستها أمها الحجاب عند دخول المدرسة . ويمكن القول إن ذؤابة كانت تلتزم السلوك الطبيعي ، وإذا ما صادف أن مدت يدها دون وعي إلى دحنونها قبل النوم ، كانت تتذكر بعد لحظات أنه حرام وقد يذهب بها إلى النار، فتعيدها بسرعة إلى صدرها .غير أن الأمر لم يبق كذلك حين أصبحت في العاشرة وما بعدها ، وأخذت تستحم وحدها . فملامسة الدحنون لغسله وتنظيفه مسألة لا بد منها . حاولت في أول استحمام لها أن تتجاهل الأمر ونجحت ، وفي الإستحمام الثاني نجحت بصعوبة ، وفي الثالث اضطرت لمداعبة دحنونها قليلا وشعرت بالقليل من المتعة . وراحت فيما بعد تفعل الأمر حسب مزاجها ، فإذا كانت رائقة ، كانت تداعبه لتستشعر بعض المتعة ، وإذا لم تكن ، كانت تتجاهل الأمر، إلى أن اختلف كل شيء بعد أن جاءها الطمث في سن الثالثة عشرة ، وأخبرت أمها بالدم الذي نزل منها ، فطمأنتها إلى أنها أصبحت أنثى ، وأن عليها من الآن فصاعداً ، أن تلتزم أكثر أمام الناس ، بحسن السلوك ، والاحتشام ، وعدم التلفظ بكلمات نابية ووو !!
والحق إن كل هذا التحذير لم يجد مع ما راح يتأجج في دخيلة ذؤابة ، فما أن دخلت الحمام بعد توقف الدم ، حتى راحت تدلك دحنونها ( الذي لم يعد دحنوناً ) لتكتشف ماذا تعني الأنوثة ؟ لم تطل المداعبة حتى اجتاحت جسدها نشوة عارمة لم تستشعرها من قبل . ولتدرك تماماً ماذا تعني الأنوثة . واظبت على ممارسة االأمرفي الحمام وفي السرير لكن ليس بإفراط . ودام معها الأمر بعد دخول الجامعة ودراسة علم الإجتماع ، وحتى بعد أن تزوجت ، وخاصة بعد أن يشن حكيم هجوما مباغتاً عليها ويبلغ ذروته في سرعة فائقة ، ليتركها في حالة رغبة متأججة لم تكتمل ، فتدخل إلى الحمام وتنهي الأمر بممارسة في خيالها . وكانت خلال سني الجامعة وما بعدها قد شاهدت بمعية صديقة لها بعض الأفلام الإباحية في بيت الصديقة ، ما منحها خبرة مقبولة في الممارسات الجنسية ، كانت توظفها خلال الممارسة المنفردة .
لم تكن ذؤابة أيضاً تطيق العوذلة والبسملة اللتين فرضهما عليها حكيم قبل المواقعة ، وحاولت عبثاً أن تقنعه أن عوذلته وبسملته تكفيان لكف أذى الشيطان ، غير أنه لم يقتنع زيادة في الحذر ، وإن وافق على أن تبسمل ووتتعوذ في سرها أو بصمت !! فكانت في معظم الأحيان لا تفعل ، والحق أنها في قرارة نفسها لم تكن تقتنع بوجود الشيطان أصلا إلا في مخيلة حكيم . فقد شغلتها قصة الخلق والوجود من المرحلة الثانوية ،وثابرت على قراءة الكتب التي تبحث في العقائد والأساطير البشرية إلى أن وصلت إلى قناعة أن الحقيقة المطلقة للوجود والقائم به لم يتوصل إليها العقل البشري بعد . غير أنها كانت مضطرة إلى مسايرة زوجها ومسايرة المجتمع ، لضعفها في مجتمع ذكوري يضطهدها ويغلق عقله على مفاهيمه الذكورية .
*************
كانت مستلقية على السرير إلى جانب حكيم الذي أدرك أنهما لم يتعوذا من الشيطان ولم يبسملا حين باغتها بهذا الهجوم وأركعها على السرير وشرع في مواقعتها فيما مؤخرة سارة تمثل في مخيلته . فبلغ الذروة في حوالي تسعين ثانية لا غير !
توقف عن الحوقلة والعوذلة وهتف :
" اسمعي ! سأواقعك من جديد لعلنا نطرد الشيطان إذا تلبسنا "
تجاهلت طلبه وسألته :
" لم تقل لي ماذا حدث معك خارج البيت حتى هاجمتني بهذه الطريقة الوحشية "؟!
تنبه حكيم لسوء فعله وأدرك أن ذلك قد يجر عليه عواقب وخيمة فتلجأ زوجته إلى الخيانة الزوجية إن لم يتلبسها الشيطان ويشبعها :
" آىسف حبيبتي ! لن أعدك أنني لن أكررها ، لكني سأحاول ، دعاني حاتم إلى الغداء على المسبح ، لم أحتمل مشاهدة معظم الفتيات بالبكيني "
" هكذا إذن " ؟
" هذا ما حدث صدقيني "
" وهل ستغتصبني اغتصاباً الآن ؟ "
" أبدا ، سأعمل جهدي كي أمتعك بقدر ما أستطيع ،وأطيل الممارسة إلى أن تنتشي وتشعري بالإشباع "
" ليتك تنفذ هذا الكلام دائماً "
وشرع في نزع ملابسه ، ثم دخل إلى الحمام ليغسل سوأته ( حسب تعبيره )
وكذلك فعلت ذؤابة .
تعوذ وبسمل عدة مرات قبل أن يشرع في المواقعة ، وكذلك فعلت ذؤابة جهراً لإرضائه .
شرع في تقبيلها في أنحاء مختلفة من جسدها كأي رجل متحضر . وبادلها قبلات عميقة ، دافعه أمران : عدم التفكير في خيانته مع آخرين ، والحذر بالبسملة والعوذلة حتى لا يتلبسها الشيطان .
بادلته قبلاً أكثر حرارة . وصممت على أن تمتعه بأقصى ما تستطيع دافعها أمر واحد ، أن تجعله يشعر بالإشباع ويكف عن اختلاس النظرات إلى النساء، وكانت مستعده لأن تجعله يواقعها أينما شاء !!!
وحين استند على بطنها مقرباً باهه من عنقها ،احتوته بقبضتيها ،ثم أخذته ملء فيها ، وأطبقت عليه بشدقيها .
تأوه حكيم من أعماقه وذؤابة تقبل عليه تقديماً وتأخيراً. وجاهد قدر الإمكان أن لا يمثل فم سارة في مخيلته ، غير أنه لم يفلح .صرخ بعد لحظات .مخافة أن ينتشي في فيها ! " خلص توقفي " غير أنها لم تتوقف !!!!
ما أدهشه أن ذؤابة راحت تنتشي أيضا مطلقة الرعشات الرعشة تلو الرعشة . لم يصدق ماذا يجري . وحاول قدر الإمكان أن لا يفكر في أن الشيطان تلبسها وهو الآن يواقعها معه ، فكيف تنتشي وهو لم يقترب من فرجها بعد ! وبهذا القدر ؟!
لم يبح لها بما يراوده . وصمم على تحدي الشيطان إن كان قد تلبسها . تركها إلى أن هدأت ، وشرع في تقبيل فرجها ثم شرع في التهامه دون أن تفارق ارتسامة فرج سارة خلف شريحة البكيني خياله . راحت ذؤابة تنتشي ، أولج باهه وهي تنتشي ،وانتشى هو وهي تنتشي . و قبلها وانطرح إلى جنبها وهي تنتشي ، كان ينظر إليها بذهول ، كل جسدها يرتعش من قمة رأسها حتى أخمصي قدميها .. ولم يتنبه لنفسه إلا وهو يصرخ باكيا من أعماقه ويلطم بيديه على جانبي رأسه " لا ،لا ، لا لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله "
هدأت ذؤابة وراحت تحدق إليه بدهشة متسائلة :
" ما بك شو صار لك "
" الشيطان لقد تلبسك الشيطان "
" يا حبيبي أي شيطان ألم تر أنك متعتني كما لم تمتعني من قبل ؟ "
ومدت يديها واحتضنت رأسه في محاولة لاحتضانه وتهدئته ، غير أنه أبعد يديها بعنف وصرخ :
" ابعدي عني ، لا تلمسيني ، الشيطان يسكنك الآن ، أنت قذرة ، وسخة "
راحت تصرخ باكية متوسلة :
" حبيبي . أنت تتوهم . الشيطان في دماغك ، في دماغك فقط أنت من يحتويه ويستحضره "
" لا ! عاهرة ! عاهرة ! اخرجي من حياتي ، انصرفي ، لن أحيا مع امرأة عاهرة تسكنها الشياطين "
************************
(4)
احتملت ذؤابة صراخ حكيم وشتائمه مدركة أن النوبة الشيطانية قد جاءته :
" طيب حبيبي هدىء نفسك ، لا تغضب ، هل أحضر لك القرآن " ؟
غير أن وجهه وعنقه احتقنا بالدماء وبدت أوردة عنقه وقد انتفخت فبدا شكله مرعباً . صرخ بأعلى صوته :
" قلت اخرجي .. انصرفي من بيتي يا قحبة "
ارتعبت ذؤابة ونزلت عن السرير وهي تردد :
" خلص خلص سأخرج سأخرج لكن إهدأ .. دعني أرتدي ملابسي هل سأخرج عارية في وضح النهار ؟ "
ونهض حكيم مشرعاً يدين كالمخالب وصرخ وهو يهم بالنزول عن السرير:
" أخرجي قبل أن أمزق جسدك "
تراجعت ذؤابة تقهقراً دون أن تستدير . نزل حكيم عن السريروجسده كله يحتقن وينتفخ ليبدو كائنا آخر لا يشبه حكيم في شيء.
خرجت ذؤابة من غرفة النوم إلى الصالون . تبعها مشرعاً أصابع كالمخالب ، هربت نحو مدخل البيت . توقفت خلف الباب وهي تمسك بمقبضه حتى تفتح وتهرب إذا لم يتوقف .. لم يتوقف وكر نحوها مشرعاً مخالبه صارخا. فتحت الباب وخرجت ، وبدلا من أن تخرج إلى الشارع هرعت نحو الطوابق العلوية ، وهي تصرخ بأعلى صوتها . فوجئت به يخرج خلفها ويصرخ " أين تهربين يا عاهرة " صعدت ذؤابة ثلاثة طوابق وهي تصرخ . فتح الجيران أبواب بيوتهم ليتبينوا الأمر . هرع شاب بعباءة خلف ذؤابة . توقفت حين التفتت وشاهدت الشاب يتبعها على المصعد حاملاًعباءة . لف الشاب العباءة على جسدها فيما فتحت فتاة باب بيتها وهتفت " ذؤابة حبيبتي " ! وهرعت نحوها واحتضنتها وأدخلتها إلى داخل البيت وأجلستها على كنبة . كانت ترتجف بشدة والدموع تغطي وجهها .
( جيبوا لي كاسة مي ) وضمت رأس ذؤابة إلى حضنها وراحت تربت على ظهرها مهدئه ، فيما ذؤابة تنشغ وتنشج باكية .
حين بلغ حكيم الطابق الثاني صارخاً " أين ذهبت يا قحبه " اعترضه الشاب الذي ستر جسد ذؤابة بالعباءة ، طرحه حكيم أرضا بضربة واحده بعرض يده . شاهد بعض الشباب الذين تجمهروا على الدرج أن حكيم يتمتع بقوة خارقة وأنهم قد لا يتمكنون من إيقافه ، انقض عليه ثلاثة معاً فطرحهم أرضا خلال ثوان . ولم يتمكنوا من إيقافه ، إلا بعد أن اعترضه شاب موجهاً نحوه مسدسا وهو يهتف " إن لم تتوقف سأخردق جسدك " توقف حكيم لاهثاً . " أقل حركة سأطلق النار عليك " هتف الشاب وأشار إلى الآخرين أن يأتوا بحبال لتقييد يديه ورجليه .
هرعوا بقطع حبال وأحزمة جلدية وشرعوا في تقييد حكيم من يديه ورجليه فيما الشاب يصوب المسدس إلى رأسه مهدداً بإطلاق النار على رأسه إن أتى بأقل حركة .
قيدوا يديه خلف ظهره ، وضموا رجليه إلى جانب بعضهما وقيدوهما . ثم طرحوه أرضاً . خابروا أهله .
هرع حاتم وأبوه على الفور .فوجىء حاتم بالحال التي وصل إليها أخوه والزبد يخرج من شدقية ليسيل على ذقنه ، ولم يعرف كيف وجد نفسه يهتف بلوعة " آه من أمة جننها الدين " !!
طلبوا سيارة اسعاف ونقلوه إلى مستشفى الأمراض العقلية .
**********
كانت الجلسة الأولى مع الطبيب بعد أن حقن حكيم بمهدئات ، وفك القيد عن رجليه ووضع قيد طبي في يديه دون أن يكونا خلف ظهره ، وبحضور حاتم سأله الطبيب فيما إذا كان يدرك أنه مريض . لم يفاجأ الطبيب حين أجاب حكيم بقليل من الإنفعال :
" أنتم المرضى ، أنتم زنادقة وكفرة وأبناء شياطين "
" حكيم إن لم تقر وتعترف أنك مريض وتمتثل للعلاج سيكون علاجك صعباً ومؤلماً لك "
لم يفاجأ الطبيب حين رفع حكيم رجله ودفع بها الطبيب من صدره .
نهض الطبيب فيما حاتم يهجم على رجلي أخيه ليحد من حركتهما .
أمر الطبيب بتقييد رجليه . وحقنه بمخدر .
هجم ممرضون على حكيم وقيدوا رجليه .. وحقنوه بمخدر قوي ..
" حالته صعبة جداً، والأمل في شفائه ضئيل للغاية ، سنجرب معه كافة أنواع العلاج التي وصل إليها الطب الحديث ، ونأمل أن تتحسن حاله .. أمر مؤسف جداً أن يصاب شاب في عمره بهذا المرض الخطيرجداً " هتف الطبيب مخاطباً حاتم .
" آه يا دكتور ! أرجوا أن تعتنوا به قدر الإمكان ، وسنتحمل تكاليف العلاج مهما كانت "
هتف حاتم ، وغادر المستشفى حزيناً كئيباً للحال التي بلغها أخوه .
****************
(5)
احتار الأطباء في تشخيص حالة حكيم ، فلم ينطبق عليها أي حالة من حالات الأمراض النفسانية والعصبية المعروفة ، فلم تكن شوزفرينيا بالضبط ولم تكن عصاباً ، ولم تكن اكتئاباً ، ولا تخلفاً عقلياً ،ولا ذهانأً ،ولا هذاءً ،ولا إنهاكاً عصبياً ، وإن كانت تحمل بعض عوارض هذه الأمراض ،وبشكل خاص الشيزوفرينيا والذهان والهذاء !
أخضع حكيم لمعالجات كثيرة لمدة ستة أشهر ، كان أكثرها تأثيراً عليه العلاج بالصدمات الكهربائية للتخفيف من حدة القلق الذي ينتابه ، ولمحاولة كبح دماغه عما يتخيله من أوهام شيطانية تسيطرعليه ، وجعله أكثر عقلانية في التعامل مع الواقع المحيط به .
حين زار حاتم الطبيب للمرة الأخيرة . أبدى الطبيب حيرته في حالة حكيم . قال له :
" صدقني يا حاتم أننا عجزنا عن تشخيص نوع مرضه ، هو في الغالب مرض عقلي وليس عصبياً ، وإن كان حكيم يواجه حالات عصبية أحياناً . ما يحيرني هو أن ما يمثل في خياله هو شيطان مؤمن ، ويبدو أنه مؤمن بالديانات السماوية كلها .وهنا قاطع حاتم الطبيب قائلا:
" أجل يا دكتور هو كذلك فعلا وكان يكره الشيوخ الذين يعادون اليهود والمسيحيين "
" المفارقة يا حاتم أن سلوكه في الواقع هو عكس ما يتمثله خياله ، فهو ينظر إلى البشر جميعا كأبناء شياطين وكفرة وملحدين ، لا يفرق بين مسلم ومسيحي ويهودي وملحد وكافروعلماني ، فالجميع عنده سواسية ، ويدعو إلى الدين القويم ،والدين القويم عنده ، هو التطرف الإسلامي ، فكثيراً ما كان يهذي بعبارات " مولاي ابن لادن ، مولاي الظواهري ، الجهاد ، الجهاد ، لإقامة امبراطورية الإسلام على العالم !! "
ومد الطبيب يده إلى قرص مضغوط يحتوي على بعض هذيانات حكيم لعله يعرضه على المزيد من الأطباء لمحاولة تشخيص حالته بدقه .
تنهد حاتم بعمق " إذن هذا هو الدين القويم الذي كان يدعو الله لأن يهديني إليه "!؟
" هذه المسألة مؤكدة ويمكنك أن تسمعها من الشريط "
" وكيف حاله الآن ؟"
" هادىء إلى حد ما لكنه لا يخلد إلى النوم دون حبوب منومة وقوية المفعول ،ودائماً نسجل ما يهذي به خلال نومه ، نادراً ما يهذي خلال صحوه "
" هل اعترف أنه مريض يا دكتور ؟ "
" ليس اعترافاً كاملاً قال ثمة احتمال أنه يعاني من مرض ما وأنه الآن في مستشفى "
" وهل هذا تحسن " ؟
" بالتأكيد ،أفضل من قبل "
"وهل في الإمكان زيارته " ؟
"أكيد ممكن . "
" وماذا عن إمكانية إخراجه من المستشفى ؟ "
" ممكن شريطة مراقبته باستمرار وإعطاؤه الأدوية في أوقاتها ،وعدم السماح له بالخروج وحده "
" لماذا ؟"
" قد تعود له الحالة فجأة ، وقد يحاول الإلتحاق بجماعات جهادية كأن يتسلل إلى سوريا ، وقد يحاول إقامة تنظيم جهادي يقوم بعمليات تخريبية في البلد "
" يا إلهي ! هل هذا يعني أن شفاءه التام شبه مستحيل يا دكتور " ؟
" بل مستحيل يا حاتم "
" آه ! آه ! هل بإمكاني مشاهدته "
" بالتأكيد " ونادى الطبيب ممرضة لتصحب حاتم إلى غرفة حكيم .
ألقى حكيم من الباب نظرة عليه . كان يجلس منكساً رأسه ويحتضنه بيديه مطرقاً نحوالأسفل ،دون أن يتنبه للباب الذي فتح . هتف حاتم بصوت خفيض " حكيم " رفع حكيم رأسه ببطء دون أن يحرر يديه من احتضان رأسه . هتف بلهفة حين تبين له حاتم " حاتم " ونهض عن السرير مشرعاً يديه . اقترب حاتم مشرعاً يديه بدوره ..تحاضنا وتعانقا .
"اشتقت لك يا أخي كيف حالك " هتف حاتم .
" أنا بخير يا أخي ،مشتاق لكم جميعا "
شعر حاتم أن حكيم قد شفي تماماً . لولا أن الطبيب أكد له أن شفاءه التام مستحيل .
" سأخبر الأهل ليزوروك ،وقد نخرجك من المستشفى قريباً "
" يا ليتكم تفعلون ذلك يا أخي لقد مللت من المستشفى "
" سنفعل يأ أخي "
********
كانت ذؤابة تقرفص منزوية على أريكة في صالون بيت أهلها ،ودمعتان تنزلقان على وجنتيها . دخلت أمها فرأتها تبكي . سألتها بما يشبه العتاب :
" هل تبكين على هذا المجنون ؟ "
همست ذؤابة وهي تحاول مسح دموعها والتوقف عن البكاء :
" إنه زوجي وحبيبي ، أحببته قبل أن أتزوجه ، فإذا لم أحزن لحاله وأبكي عليه على من سأبكي ؟ إنه قدري يا أمي ولن أهرب منه "
" أصيلة يا بنتي أصيلة ، الله يشفيه ويعيده إليك بكل عنفوان شبابه ووسامته "
قرع الباب . فتحت الأم . كان حاتم .
هتف قبل أن تنهض ذؤابة مرحبة به :
" تهاني ذؤابة حكيم تحسن ويمكنك زيارته "
" أشكرك من كل قلبي حاتم إنه أجمل خبر سمعته بعد خبر خطبة حكيم لي "!!
"حضري حالك غدا سأذهب معك ، فضلت أن تزوريه أنت أولا قبل أمي وأبي .لكن اسمعي ، هل بإمكانك أن ترتدي نقاباً ، أشعر أن هذا قد يرضيه ، رغم أنه لم يفرض عليك النقاب من قبل "
" من أجل أن يشفى حكيم مستعدة لأن أرتدي النقاب مدى الحياة يا حاتم "
" تشكري عزيزتي ، أعرف مدى طيبتك ومدى محبتك له "
******
حين فتح الباب على حكيم كان متكئا على سرير المستشفى . استند حكيم في جلسته ليرى حاتم واقفاً وبيده باقة ورد . خاطبه حاتم وهو يقف بالباب :
" معي زائر عزيز عليك ومشتاق لك كثيراً "
"أين هو " ؟
أشارحاتم إلى ذؤابة أن تتقدم وتقف بالباب دون أن ترفع النقاب .
نظر حكيم ليرى امرأة تتشح بالسواد من رأسها إلى قدميها وتلبس قفازات سوداً في يديها . هتف :
" من هذه ؟ "
قال حاتم :
"من تحب أن ترى أولا "
قال : " وهل هناك من هي غير ذؤابة يمكن أن أفكر في رؤيتها "
رفعت ذؤابة نقابها ليتجلى عن وجه ملائكي تنزلق دمعتان على وجنتيه . نهض حكيم مشرعاً يديه متقدماً نحوها هاتفا " ذؤابة حبيبتي " فيما كانت هي تهرع بدورها مشرعة يديها لتحتضنه ضامة رأسه إلى صدرها وهي تقبله والدموع تنزلق مدراراً من عينيها . رفع رأسه عن صدرها ليضم رأسها بدوره إلى صدره ويشرع في تقبيل رأسها . أجلسها على السرير . وجلس على ركبتيه أرضاً أمامها وشرع في تقبيل يديها من فوق القفاز ، ثم نزع القفازين وثابر على تقبيل يديها بطناً وظهراً وهو يردد حبيبتي ،فيما كانت هي تقبل رأسه وتردد حبيبي .
*******************
( 6)
" فاخرج منها فإنك رجيم " "فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " أخرج يا شيطان أخرج يا شيطان من جسد ابن الإنسان عليك لعنة الرحمن " وكان الشيخ يكررعباراته وينوع بآيات مختلفة من القرآن ،ويده تهوي ضرباً بخيزرانة على مؤخرة حكيم المعراة وهو يركع في وضع سجودي كاشفا مؤخرته ، وقد فصد ابهامه الأيسر بجرح صغير ليتسنى للشيطان الخروج منه ، فيما كان شيخ آخر يطلب إلى حكيم أن يرفع رأسه بين فترة وأخرى ليبخ وجهه بماء مزج بمنقوع آيات قرآنية ، فهذا المنقوع يساعد على ضيق تنفس الشيطان فيبحث عن مخرج من الجسد ، شريطة أن يكتم حكيم نفسه بعد البخ ، وقد فضل الشيخ أن يستخدم طريقتين معا ليضمن خروج الشيطان من جسد حكيم في أسرع جلسات ، ولا يدفعه إلى إخضاع حكيم لسبع جلسات ضرب وبخ على مدى سبعة أسابيع ، وإن لم تنجح ، فسيضطر إلى سبع جلسات أخرى ، لأن الشيطان الذي يحتل جسد حكيم ، يتحكم به ملاك شيطاني يسكن خلف سبعة بحور في السماء السابعة على مقربة من سبعة بحور من العرش الإلهي !! أربعة عشر بحراً بالتمام والكمال عدا السماوات تفصل بين الشيخ وبين ذاك الملاك الشيطاني ، فكيف سيستطيع التحكم به إن لم يعنه الله جلت قدرته على التصدي له ليتمكن من إخراج الشيطان الذي يسكن جسد حكيم .هذا ما صرح به الشيخ لأب حكيم الذي كانت تربطه به صداقة قديمة ويثق الآخر به ثقة عمياء ، مؤكدا له أن حكيم ممسوس بجن شيطاني وأنه بإذن الله لقدير على إخراجه من جسده ،ولو اضطر أن يقوم بذلك على حسابه ! وكان والد حكيم حاضراً في الجلسة وينزوي صامتا في غرفة خفيفة الإضاءة تجلل جدرانها ستائر سود .
****************************
كان حكيم قد أخرج من المستشفى بناء على طلب ذويه ، رغم أن الطبيب نبههم إلى أن الحالة قد تنتابه في أي وقت ، وما الأدوية إلا مسكنات ومهدئات لا تشفي من المرض ، ربما في حال واحدة ، الإلتزام بها لفترة طويلة جدا ، مع الإرشاد والنصح لحكيم أن الشياطين لا تسكن أجساد البشر، وهنا قاطع حاتم الطبيب متسائلا" وكيف يمكن لعقل حكيم المنغلق على مفاهيم دينية أن يستوعب هذا الأمر "
" للأسف لا يمكن مواجهة الغيبيات إلا بمنطق العلم حتى لو اصطدم معها "
مرت الأيام الأولى بسلام . وحرصت ذؤابة على أن تعطيه الأدوية في أوقاتها ،وتلاطفه دائماً ، وتكون طوع يدية وأوامره ، وكانت تخرج معه منقبة لتنزهه في الحدائق ، وتدعه يختلس النظرات إلى المؤخرات وغير المؤخرات من سيقان وفتيات جميلات ، وراعت رغباته الجنسية كلها وكانت تلبيها له متى شاء ،وأينما شاء وكيفما شاء ، ولو على حساب متعتها ، وتتلفظ في السرير بكل الألفاظ النابية والخليعة والمهيجة والمذله لها التي لقنها إياها لترددها. وحين وجدته يتلمس دبرها مستذكراً في خياله آية قرآنية مجتزئاً منها ما يريد ، لم تمانع ، رغم الألم الذي أحست به ، وقطرات الدم التي نزلت منها نتيجة جرحها، فهو لم يراع أصول هذه المواقعة لأول مرة ، بأن يلين ويمهد للإيلاج بهدوء وتأن . تحملت ذؤابة كل ذلك من أجله ومن أجل محبتها له ، ومن أجل الحفاظ على عش الزوجية ، مضحية بمتعتها ، كابتة نشوتها فيما لو حدثت . وراح يكرر هذه الممارسة حين اكتشف متعتها ، بل وطلب إلى ذؤابة أن تجمل دبرها بمواد تجميلية ، فلبت له كل رغباته ، وربما لم يبق شكل من أشكال المواقعة إلا وجربه معها . وهي تلبي ذلك له وإن كان على حساب متعتها . والحق إن ذؤابة كانت سيدة في غاية الجمال ،وتكاد هيلين الطروادية أن تكون أمامها لا شيء . لقد حازت من الجمال واللطف والكمال والنبل ما يتمناه إلا العظماء . وخانها الحظ في مجتمع لا يفتح أمامها إلى أقل الفرص ، وأضيق هوامش الحرية .وهذا ما كانت تدركه تماما ، ولو لم تكن في حال لا تحسد عليها مع زوجها ، لمارست ما كانت تحلم بممارسته ، من نشاطات ثقافية وإجتماعية ،ونضالية لتحسين أوضاع المرأة وحقوقها في المجتمع .وكم تمنت في سرها لو كان حظها قد هداها إلى حاتم وليس إلى حكيم ، لما عرفته عن حاتم من ثقافة منفتحة وعقل ناضج .
عادت إليه الحالة فجأة . كانت تجلس هي وإياه ليلا أمام التلفازوهو يقلب المحطات . توقف فجأة أمام محطة تبث أغنية بدلع وغنج لهيفاء وهبي .. وفيما كان فخذا هيفاء يتألقان بلقطة مقربة على الشاشة ، أخذ حكيم زجاجة كولا كانت أمامه وضرب بها الشاشة وهو يهتف "يلعن أبوك على أبو إلي جابك ، كفرة ملحدين " انكسرت الشاشة وتوقف البث . فوجئت ذؤابة بالأمر واعترتها الدهشة . سارعت إلى احتضانه في محاولة لتهدئته ، لكن انفعاله زاد ، أفلت نفسه بأن دفعها ، وراح يصدر أوامره :
" اسمعي ، من الآن فصاعداً ، لا تلفزيون ، لا راديو ، لا موسيقى ،لا انترنت ، لا كتب ومجلات خلاعية ، احرقيها كلها ، ابق على القرآن والكتاب المقدس والسيرة النبوية وصحيح البخاري وحوار صحفي مع جني مسلم وكل الكتب الدينية ، لا أريد ان أرى أي كتاب غير ديني "
" أمرك حبيبي أمرك ، بس هدىء أعصابك "
وسارعت إلى القرآن وأحضرته له .
قبله ورفعه إلى جبينه . فتحه وشرع يقرأ بصمت .
دخلت إلى المطبخ وأرسلت رسالة إلى حاتم على الهاتف المحمول اتفقت معه عليها " احضر بسرعة "
*******************
جاء حاتم بعد حوالي نصف ساعة . صافح حكيم محيياً وجلس . دون أن يتكلم وهو ينظر إلى شاشة التلفاز المكسورة . هتف بعد برهة .:
- شو القصة ؟ كيف انكسرت الشاشة ؟
- أنا كسرتها ! أبناء العاهرات يسوقون لنا الخلاعة والفسق والكفر والإلحاد !
- وهل ستظلون دون تلفاز ؟
- سنظل دون شيء . لا أريد شيئا في بيتي .
- ألله يعينك على قد عقلك يا أخي .
- عقلي ما به شيء عقولكم هي الخطأ !
وكي لا يدخل حاتم معه في حوار يؤجج حالته . آثر الصمت .وهتف :
- شو ما بدكم تشربونا شي ؟
- على عيني .
هتفت ذؤابة ونهضت لإعداد الشاي .
لحق بها حاتم إلى المطبخ . وأخبرها أن تضع في كأس الشاي له جرعة إضافية حسب ما أخبره الطبيب حين تاتيه النوبة .
وحرصت على أن تخبره أن حكيم سيواقعها بعنف إن لم يكن بوحشية في تلك الليلة وعليه أن ينام عندهما حتى إذا حدث ما لا تحمد عقباه يتدبر الأمر .ستتحمل كل ما سيفعله حكيم إلا إذا تجاوز قدرتها على الإحتمال ، حينها ستصرخ باسمه وعليه أن يهرع لنجدتها فوراً . بل وطلبت إليه أن يظل قريبا من باب غرفة النوم ليسمع استغاثتها.وستحاول أن ترفع صوتها ليعرف ما يجري .
***************
كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل حين نهض حكيم إلى النوم مستأذناً أخاه . أجاب حاتم بأنه نعسان وسينام في الصالون .
نهضت ذؤابة لتتجمل لحكيم كما يرغب . مستأذنة حاتم .
لم تمر سوى دقائق حين تناهى إلى حاتم صوت ذؤابة رافضاً الوضع الذي فرضه عليها حكيم .. اقترب من الباب ليتأكد . كانت تخاطب حكيم بما يشبه الصراخ " قد لا يحتمل عنقي ثقل جسدي يا حكيم ، هل تريد أن تكسرعنقي ؟ " " موتي يا قحبة موتي سأقتلك " " حكيم أنت تخنقني " " دعيه يخنقك متعيه " صمت. سعال ما يشبه التقيوء من ذؤابة . صمت . صوت حكيم يصرخ بعنف مهددا بقتل ذؤابة . ذؤابة تردد عبارات الطاعة المفروضة عليها لترددها " أمرك .. أمر .... أنا فدا .... كلي .. له ... .... .... موتني .. أيوه .. كمان "
احتضن حاتم رأسه بيده ولم يعد قادراً على التنصت . وأدرك أنه سيسمع صرخة ذؤابة من الصالون إذا ما صرخت . فعاد إلى سابق جلسته وأشعل سيجارة .
******
(7)
مرت الليلة بالحد الأدنى من الأضرار التي وقع معظمها على ذؤابة في السرير. لكن في الصباح حطم حكيم الراديو والمسجلة والفيديو وكومبيوتر ذؤابة ، وأخرج كل الكتب غير الدينية والمجلات الشهرية والأسبوعية من المكتبة ووضعها في حاوية القمامة وأضاف إليها نفطًاً وأشعل فيها النار .
حدث كل هذا دون أن يحرك حاتم ساكناً خوفاً من تفاقم الحالة ‘ فيما ارتدت ذؤابة ملابسها واستأذنت للذهاب لزيارة أهلها . رافقها حاتم إلى خارج البيت وهو يدرك أنها لن تعود طالما حكيم على هذه الحال . وأخبرها أنه سيطلعها على كل جديد .
حضر الأب لمعاينة الحالة على الواقع ، بعد أن خابره حاتم . هاله ما رأى . كان حكيم مستلقياً في غرفة النوم يقرأ القرآن وقد نحل جسمه . نهض لمصافحة أبيه وعاد إلى استلقائه دون أن يتفوه بكلمة .
- ما العمل يا أبي ( تساءل حاتم )
- لا بد من أخذه إلى شيخ ليخرج الشيطان من جسده .
هز حاتم رأسه ساخراً :
- الشيطان هو عقل حكيم يا أبي ولن يستطيع الشيخ أن يطهر له دماغة من الشيطنة ليفكرويتصرف بعقل سليم ..
- اتركنا من ثقافتك وآرائك ودعنا نجرب لعل وعسى .
- يا أبي إذا كان الطب عجزعن معالجة حالة حكيم فهل ستنجح الشعوذة ؟
- ومع ذلك سنجرب سمعت عن كثيرين تعافوا . هناك كاهن وعرّاف مسيحي أخبروني أنه يشخص الحالات ويعرف أسبابها ويتنبأ بمستقبل المريض . سأذهب إليه مع حكيم قبل أن أستشير صديقاً لي يمارس العلاج بالقرآن.
- على أية حال هو ابنك ولن أكون حريصا عليه أكثر منك . أنا سأذهب لاستشارة طبيب نفساني . هذه أدوية حكيم . أعطيناه جرعة الصباح . قد أتأخر أنا .
كان حكيم يحترم أباه فلم يمانع في الذهاب معه .
****************
تمكنا من مقابلة الكاهن بعد أن حجز صديق لهم دوراً. كان الكاهن يجلس على كنبة وثيرة وقد تدلى صليب كبيرعلى صدره ،أظهره فوق شعر ذقنه الأبيض المنسدل إلى أسفل سرته فيما تهدل شعر رأسه على كتفية ، واعتمر قبعة صغيرة على مؤخرة رأسه . أجلس حكيم القرفصاء أمامه وتأمل وجهه للحظات دون أن ينبس بكلمة . أخذ الكتاب المقدس ووضعه مطبقاً على رأس حكيم للحظات وهو يتلو كلمات غير مفهومة بلغة غير عربية . وما لبث أن أخذ الكتاب ووضعه على ركبتيه واضعا يده فوقه ، ليدخل في صمت مطبق قرابة عشر دقائق مغمضاً عينيه، ثم يهتف بريبة " يا يسوع يا يسوع يا يسوع رحمتك يا يسوع "
ثم ألقى نظرة نحو الأب وهتف " الرب يكون في عونكم . حكيم مسكون بجني شيطان مسلم ، يتحكم به جني شيطان مسيحي ، وهذا الآخر يتحكم به جني شيطان يهودي كان ملكاً على بعض طوائف الجن الشياطين ، حبسه الملك سليمان في قمقم لأنه أغوى بعض نسائه ، وخرج من القمقم صدفة حين عثر عليه بعض منقبي الآثار وفتحوه . الوصول إلى هذا الجني شبه مستحيل ما لم يجتمع حاخام يهودي وكاهن مسيحي وشيخ مسلم بحضور ابنك حكيم ، ويقرأون عليه آيات خاصة من القرآن والتوراة والإنجيل ، وإن لم يحدث ذلك فإن ابنك سيواجه المقدر المكتوب .. والمقدر رهيب . مكتوب أن ابنك حكيم سيقتل أباه ، وبعض الناس ثم يقتل .. قلت قولي هذا، وآمنت بيسوع ربي ، فلكم أن تأخذوا به ،ولكم أن تهملوه "
نزل كلام الكاهن على رأس الأب وحكيم كالصاعقة ..
وجد أب حكيم نفسه ضائعا في متاهة . إنسان ذو ثقافة تقليدية .. لم يجد إلا أن يذهب إلى صديقه الشيخ ويخبره ليقدم له تشخيصا مختلفا عما قدمه الكاهن .وليحدد معه موعدا في اليوم التالي لإخضاع حكيم إلى أول جلسة علاجية . كما أن الشيخ أشار إلى أن ذؤابة في حاجة إلى جلسات علاجية لأن الشيطان قد مسها من زوجها ،واستقر في جسدها . وهذا ما أيده حكيم !!!!
**************
حاتم ذهب مع سارة إلى طبيب نفساني صديق لسارة . استقبلهما الطبيب في بيته . استمع الطبيب إلى القرص المضغوط الذي أحضره حاتم . جلس في مواجهتهما وراح يتحدث :
" مشكلة أخيك يا عزيزي هي هوس ذهاني ديني، يتصارع في شخصيته الجنس والدين ، الأول يدفعه إلى الحياة بجمالها والثاني إلى التدين ، ودائما ينتصر الدين عنده على رغبات الحياة .وهي الحالات الأخطر في الهوس الحاد ، مبعثها كبت جنسي وتربية دينية واجتماعية خاطئة بتخويف الأجيال منذ طفولتهم من عذاب النار ومن عقاب الله ومن غواية الشيطان ، وكبت وقتل الشعور الجنسي عند الأطفال بحيث يعيشون طفولة غير سوية تؤدي إلى قتل الغريزة الجنسية لديهم في أحيان كثيرة . وفي أحيان أخرى يحدث العكس ، تبحث الغريزة المكبوتة عن متنفس لها فتقع في أخطر المحظورات كأن يواقع الأخ أخته ، أو الأب ابنته ، أو أحد الأقارب كالعم والخال وحتى الجد وابن العم ، هذا عدا اغتصاب الأطفال والقاصرين ، وغير ذلك من ممارسات غير أخلاقية ، هل تصدق أن شابا مثلا اغتصب اخوته وأخواته الأصغر منه جميعاً، وهم طفلان وثلاث فتيات . معظم رواد عيادتي هم من الشباب والشابات مدمني العادة السرية، ومنهم ومنهن بعض المتزوجين والمتزوجات الذين لا يشعرون بإشباع مع زوجاتهم أو مع أزواجهن . هؤلاء ليسوا مرضى على الإطلاق ،إنهم يمارسون الغريزة التي وجدت معهم وفي تكوينهم ،وكل مشكلتهم أنهم يعتقدون أن العادة السرية حرام وإثم قد يدخلهم النار ، فأطمئنهم إلى أنهم يمارسون حقهم في إعطاء غرائزهم حقها ، وأن لأجسادهم عليهم حق كما لله عليهم حق ، وأن الله رحمن رحيم ، ولا يحاسب إنسان لأنه مارس الغريزة التي أوجدها فيه .المجتمعات الشرقية كلها تعاني من الكبت الجنسي . صدق أو لا تصدق ثمة نساء يتزوجن وينجبن ويمتن دون أن يعرفن ما هي النشوة الجنسية ،هن مجرد جسد شبه وعاء وظيفته أن يمتع الزوج ويتقبل إفراغ طاقته فيه ليحمل وينجب ، ويخدم الزوج .
المجتمعات تعيش انفصاماً بين ظاهرها وباطنها . ما يجري في الظاهر شيء وما يجري في الباطن شيء مختلف تماما . هناك مئات الآلاف بل ملايين من النساء والرجال الذين يعانون من أمراض نفسية ، ولا يزورون عيادة طبيب ، لترافقهم أمراضهم مدى حياتهم ، بعضهم يتعايش مع حالته ،وبعضهم يعيش الأوهام والكوابيس طوال عمره .
النفس الإنسانية تواقة دائما إلى الجمال والمتعة والتنعم بالحياة وقتل هذه الرغبات هو قتل لإنسانية الإنسان .
مشكلة حكيم صعبة لأنها مستفحلة به منذ الطفولة ، وزاد التعمق في الدين بفهم خاطىء من حدتها . الحل أن يوضع في مستشفى . وأن تجري جلسات تثقيفية له تركز على الجوانب الرحمانية في الدين ، والرحمانية فقط ، وهناك مئات الآيات وآلاف الأحاديث النبوية التي تشير إلى أن الله غفور رحيم وأنه سيغفر لعباده وللبشرية كلها في نهاية الأمر . إضافة إلى الإنتظام في تناول الأدوية ."
" أبي يريد أن يعالجه بالقرآن عند الشيوخ "
" إنه الإجرام عينه .. قد يؤثر العلاج إيجابيا عليه لبعض الوقت ، لإيهامه بأن الشيطان خرج منه ، لكن المشكلة ستعود لأن الحالة ماتزال قائمة ، وما جرى هو مجرد وهم ، كالوهم نفسه الذي يعيشه حكيم ويرى أن الشيطان يتلبسه ويتلبس زوجته "
*******************
حين وصل عد ضربات الخيزران على مؤخرة حكيم إلى تسعة وتسعين . هتف شيخ شاب كان يحضر جلسة العلاج " تسعة وتسعين " يا شيخ . توقف الشيخ عن جلد مؤخرة حكيم التي تقاطعت عليها عشرات الخطوط الحمر. وأشار إلى الشاب أن يرى ما إذا خرج الشيطان من الفصد في ابهام رجل حكيم الأيسر . استند حكيم ومد رجله اليسرى . هتف الشاب :
" لم يخرج من الفصد دم أسود يا شيخ "
" لا حول ولا قوة إلا بالله ، هذا يعني أن الشيطان اللعين لم يخرج .ارتاح اسبوعاً يا حكيم وعد إلي لجلسة ثانية "
هتف الشيخ .
رفع حكيم ملابسه وهو يشعر باحتقان يجتاح جسده ويصعد إلى رأسه، وخرج من وكر العلاج يتبعه أبوه . وحين أصبح في الخارج ،راح يتنفس بعمق فيما جسده يحتقن وينتفخ ويتضخم ،فيما الشيطان يمثل في مخيلته كما كان يتراءى له ، جسد ضخم لا يكسوه هذه المرة شوك قنافذ بل شوك نيص طويل جداً وصلب كالحراب ، ولم تمر سوى لحظات والأب ينظر إليه بدهشة مرعبة ، ليراه يتحول إلى وحش تكسو جسده حراب شوكية فتاكة ، راح ينتفض ويطلقها يمينا وشمالا وخلفاً وأماماً لتصرع أو تجرح عشرات الناس ، وكان أول الصرعى أبوه الذي اخترقت جسده سبع حراب . راح الوحش يجري صارخاً في الشارع " كفرة ملحدين " ويطلق حرابه في كل الإتجاهات ليصرع العشرات .وكلما انطلقت منه بعض الحراب نبت مكانها .. فدب الرعب والهلع بين الناس وراحوا يصرخون ويهربون في كل الإتجاهات ، والوحش يلاحقهم ، هرع بعض رجال الأمن وراحوا يطلقون النار عليه من مسدساتهم ، لكنه لم يسقط ، إلا بعد أن أتى أحدهم برشاش وأفرغ طلقاته في جسده .
أخذ الشرطة والناس يقتربون منه وهو يلفظ أنفاسه فيما شكله الوحشي يتلاشى شيئاً فشيئاً. وحين وصلوا إليه لم يروا إلا إنساناًعادياً هو حكيم .
*********
نهاية قصة أبناء ابليس يتلوها ملحق خاتمه .
***********

خاتمة .
بعد قرابة ثلاثة أشهر من مقتل حكيم وأبيه .
تزوج حاتم من ذؤابة في حفل مهيب دام فيه الرقص حتى الصباح
ودعي إليه الكاتب محمود شاهين . الذي كان فرحاً لحاتم وذؤابة
وحزينا لمقتل حكيم وأبيه .
عاشت ذؤابة مع حاتم حياة سعيدة ، وذهبا في رحلات نزهة مع سارة
وأصدقاء آخرين إلى الجبال وإلى المسابح ، والبحار ،
والمدن الأثرية في فلسطين والأردن .
ومكثوا في مدينة البتراء وجبالها لمدة أسبوع .
ولم يمر عام على زواجها إلا وقد نشرت عشرات المقالات
في علم الإجتماع والعقائد والأساطير .
وأسست اول جمعية نسائية تهتم بحقوق المراة .
انتهت الخاتمة .
إلى اللقاء في قصة قادمة من واقع الحياة .
محمود شاهين











(8)
موتي وقط لوسيان .

في الوقت الذي كنت فيه أفكر في الموت ، في محاولة يائسة لإبعاد شبحه عني ، جاءني هاتف من لوسيان ،تخبرني أن محمود مات ، وتطلب مساعدتي لدفنه في مقبرة.

أطرقت قليلا إلى أن أدركت من هو محمود ، ولحظتئذ لم اعرف ماذا أفعل، هل أضحك أم ابكي أم أغضب؟! قلت للوسيان دون اكتراث أن تلقي بهذا المحمود في القمامة وتحاول أن تنساه وتفكر في ما هو أهم.
راحت تصرخ على الطرف الآخر من الخط بعربية تخالجها اللكنة الفرنسية :
( في القمامة أيها المجرم الشرير، في القمامة؟ إنه روح يا من تدعي أنك تكتب عن الروح والحياة ، على اية حال لا أريد مساعدتك ، ولن احضر إليك هذا المساء
، لا أريد دعوتك)
وأقفلت الخط ليظل صدى كلماتها يتردد في مخيلتي ، يضغط على صدري ، يعتصر قلبي ويثقل نفسي ، ومع ذلك لم أحاول الإتصال بها على أمل أن تأتي في المساء - رغم ما قالته - وأوضح لها الأمر.
كنت قد استيقظت هذا الصباح والرعب يجتاح جسدي من رأسي حتى قدمي. فقد رأيت في نومي لحاما يحمل على كتفيه رجلين مذبوحين و مسلوخين ! ويدخل بهما إلى الملحمة. كان رأسا الرجلين يتدليان على ظهر اللحام وقد بدا تماما أنهما ذبحا من الوريد إلى الوريد ، أظن انني صرخت حينئذ واستيقظت على أثر ذلك . ألقيت نظرة خاطفة على ما حولي لأتأكد من أنني في غرفتي ، وأنني كنت في كابوس لا أكثر . كابوس ككل الكوابيس التي أراها دائما. زفرت عدة أنفاس عميقة متلاحقة في محاولة لتهدئة أعصابي وطرد الذبيحتين من مخيلتي . ألقيت نظرة على الساعة ، كانت حوالي السادسة ، إنه الوقت الذي أنهض فيه عادة لأكتب . أخرجت السدادات من أذني لأبدأ اتصالي المباشر بالعالم الخارجي المحيط من حولي ، طرقت أذني مجموعة أصوات متناثرة من هنا وهناك ، لم أكترث للمسألة ، ونهضت لإعداد الشاي. وضعت الماء على الناروعدت لأفتح المذياع متفقدا اخبار الموت الفلسطيني ، أو لأقل أخبار القتل. فالقتل ثاني شيء يعيد ربطي بالعالم الخارجي ، بعد الضوضاء والصخب والضجيج ، إذ يتوجب علي معرفة كم قتل منا هذا اليوم ؟

أخذت أخبار القتل تتوالى عبر المذياع . رباه كم كان هناك من القتلى : قتلى في جامعة بير زيت ، قتلى في غزة ، جرحى في أماكن اخرى من الأرض المحتلة ، عشرات القتلى في مخيمات : عين الحلوة ، الرشيدية ، برج البراجنة، شاتيلا، ولم تتطرق الأنباء إلى مخيم صبرا، فقد سحق مخيمها بالمدافع الأخوية منذ زمن قريب، وردمت كل أبنيته، لينسى تماما إلا من الذاكرة الفلسطينية وحدها. تأففت قهرا وغضبا وقذفت( في نفسي ) مجموعة من الشتائم على الكون والعالم ! وقد غابت من مخيلتي كل مؤشرات البقاء ، ليحل القتل بكل فظاعته .
حضرت الشاي ورحت أحتسيه . أغلقت المذياع وشرعت في قراءة آخر مشهد في الرواية . الرواية التي بدأت كتابتها أواخر عام 80 ، ولم أفرغ منها حتى الآن ، وبت أشعر وكأنني بدأتها منذ سبعين عاما وليس سبعة أعوام ، لكثرة ما قتلتني واعتصرت دمائي قطرة قطرة ، ، أرهقت أعصابي وسلبت مخيلتي . كتبت فيها حتى الآن قرابة ألف و مائتي صفحة ، ولا أعرف كم سأكتب بعد ، ولا أعرف متى سأنتهي ، ولو كنت أعرف أنني سأكرهها إلى هذا الحد ، لما شرعت في كتابتها ، أو لأجلت ذلك ، . لا أظن أن هناك ما هو مرهق في الحياة أكثر من كتابة الرواية .
لم يرق المشهد لي ، أحسست أنه مكتوب بلغة جافة ميتة ليس فيها أي أثر لحياة ، رغم أنني كتبته ثلاث مرات . ثم إن ما يحيرني هو مصير أبطالي، الذين لا أجد مفرا من جعلهم يواجهون قدرهم ، وهو هنا قدر كل الأبطال الفلسطينيين عبر التاريخ . بدءا من جليات الذي تقول الأسطورة التوراتية أن داود قتله بحجر من مقلاعه ، مرورا بيسوع المسيح ، وانتهاء بعبد القادر الحسيني ، وأبو علي إياد ، وغسان كنفاني ، وماجد ابو شرار . كم احاول أن أجد لهؤلاء الأبطال منفذا ، فأعود إلى جليات في محاولة يائسة للبحث عن أمل ما ! فأجد ما لا يصدق ، أجد أن داود الصغير قد صرعه رغم العملقة التي تصوره فيها التوراة ( فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جليات من جت ، طوله ستة أذرع وشبر ، وعلى رأسه خوذة من نحاس ، وكان لابسا درعا حرشفيا ، ووزن الدرع خمسة آلاف شاقل نحاس ، وجرموقا نحاس على رجليه ، ومزراق نحاس بين كتفيه ، وقناة رمحه كنول النساجين ، وسنان رمحه ستمائة شاقل حديد )
رباه ( أقول لنفسي ) ورغم كل هذا صرعه داود بالمقلاع؟! اللعنة ! هل يكمن قدرنا في انه كتب علينا القتال مدى الحياة دون تحقيق النصر ؟! وبالتالي لا يمكن لحياتنا أن تتجدد إلا بالموت ، طالما أن اليهود لم يفنونا رغم طول هذا الصراع عبر التاريخ ؟!
هذا ممكن ( أقول لنفسي ) وأنهض لقضاء حاجتي الصباحية ، وقد داخلني شيء من الطمأنينة لما أظنه صواب أفكاري !
قضيت حاجتي وأنا اتصفح كتابا عن المجازر االإسرائيلية ضد الفلسطينيين ، تناولته من مكتبة المرحاض !! عثرت على مجازر لا يكاد يسمع بها أحد ، ارتكبت في قطاع غزة عام 1956. وفظاعتها تفوق كثيرا العديد من المجازر النازية ، حتى تلك التي استخدمت فيها الأفران لحرق الأسرى . فمن يصدق مثلا أن الجيش الإسرائيلي دفن في الصحراء 1800 شاب في يوم واحد ، وقد دفن معظمهم وهم أحياء .؟!
تنبهت إلى أن الكتاب أخذني بحيث جعلني أمضي في الحمام أضعاف الوقت المطلوب ! لقد أضعت الوقت ! ينبغي ان أغسل وجهي وأحتسي القهوة . سأحتسيها وأنا أكتب .
سارعت إلى التنفيذ .. جلست على طاولة الكتابة لأقود بطلي إلى نهايته ! أنا في العادة اكتب في السرير ، لكن وجود طاولة في هذا البيت الصغير الذي استأجرته منذ فترة ، شجعني على استخدام الطاولة .
كيف سأميت هذا البطل ؟ ابطال كثيرون في روايتي وينبغي علي أن أبحث عن ميته تليق بكل واحد. هذا في مواجهة مع المحتلين . وذاك في السجن ، وذاك وذاك .. رباه كم أحتاج إلى أشكال من الموت ؟ ثم إنني نسيت أن أغلق أذني قبل أن تضج الحارة بابواق باعة النفط ، فانا لا استطيع الكتابة وحتى النوم والقراءة ، دون ان أغلق اذني ، لتلافي هذا الصخب المدمر للأعصاب ، وخاصة ذاك المنبعث من أبواق باعة النفط ، أو المازوت كما يسمونه في دمشق . فظيعون باعة المازوت هؤلاء ، فهم يقتلونني بطريقة عجيبة ، لا يشرعون سيوفا لجز الرؤوس ، ولا ينصبون مشانق ، أو يرمون بالرصاص ، لا لا ، إنهم لا يفعلون هذا أوذاك ، إنما يجننونني بأبواقهم الفظيعة ، فما أن يقبل أحدهم على الحي من بعيد وفي الصباح الباكر ، ممتطيا عربة حصانه المشرشب ، المزين بالشرافات والظبابيح والضفائر الملونه ، التي غالبا ما تكون حمراء ، حتى يسبقه صوت البوق المخيف ، مخترقا النوافذ والشرفات ، الحوائط والجدران ، الرؤوس والجماجم ، موقظا الناس من عز النوم ، فابادر حينئذ إلى وضع السدادات في اذني لأستانف النوم ، اما إذا كنت أكتب فإن الأمر يتطلب ان اسارع إلى دفع السدادات عميقا داخل أذني في أتعس محاولة للتخفيف من حدة الصوت الذي يخترق تلافيف دماغي ، يشل تفكيري ، يجمده تماما ، فتغدو الكتابة أمرا محالا ، بل مستحيلا ، لذا أتوقف في أحيان كثيرة ، فهذه السدادات تفيد قليلا لكنها لا تحل المشكلة ، أنتم قطعا لم تسمعوا أبواق باعة المازوت هؤلاء طالما لم تسكنوا الأحياء الشعبية في دمشق ، كيف أصفها لكم ؟ فهي ليست كأبواق سيارات النجدة أو الإسعاف ، وليست كأبواق إنذارات الخطر كلها ، حتى تلك الأبواق المرعبة التي تسبق عادة مواكب الزعماء . بل إن هذه تبدو جميلة إذا ما قورنت بها . أما بوق بائع المازوت فهو عجيب ، صوته حاد جدا ، وهو بوق عجيب حقا ، ينتهي بكرة مطاطية ممتلئة بالهواء ، يضغط البائع عليها فتخرج صوتا يأخذ طريقه على الفور إلى تلافيف الأدمغة ، فيشل حركة الأعصاب !! وكل بائع مازوت يضغط على الكرة بطريقة تميزه عن الآخرين ، فقد تسمع واحدا يضغط ضغطة طويلة جدا في البداية ، يتبعها بضغطة أقصر قليلا ، ثم أخرى قصيرة تماما ، وآخر يضغط ضغطتين طويلتين ثم واحدة قصيرة فواحدة طويلة جدا ! فالجميع يحاولون تأليف ألحان موسيقية فظيعة بضغطاتهم . ويكررون هذه الألحان مرة كل دقيقة ، مع ان الحارة تكون قد استيقظت أبشع استيقاظ يمكن أن يستيقظه بشر .
كم مرة اطلقت النار على باعة الزفت هؤلاء . اطلقتها في خيالي طبعا ، إذ لا أتصور أن أقتل أحدا من هؤلاء التعسين حقيقة . بالتاكيد لن افعلها . صحيح انه لدي مسدس في درج طاولتي ، أحتفظ به كاي فلسطيني ، حتى أدافع به عن نفسي إذا ما حان قدري ، لكني لن استخدمه ضد باعة المازوت ، رغم أن كل واحد من هؤلاء يغشنا في السعر والمكيال والما زوت المخلوط بالماء ، فقد أخذ احدهم 85 ليرة بينما أخذ آخر 75 ، وآخر 65 ، مع ان الكمية التي ابتاعها ثابتة لا تتغير . وإذا ما حاولت إقناع البائع بان أوعيتي لا تتمدد ولا تنتفخ ، ولا تتسع لأكثر مما تتسع ، وأن سعر ملئها لا يتجاوز 54 ليرة حسب تسعيرة الدولة ، فإنه يحرمني من المازوت في عز الشتاء . لذا بت أسلم بالغش وأتعامل معه كامر واقع . حتى انني أخذت أشكر جاري عندما يبيعني كيلو السكر بعشرين ليرة مع أنه يبتاعه بليرة ونصف !
ما يزعجني أن نسبة الغش غير ثابتة ، وتختلف من بائع لآخر ، وفيما يتعلق بالمازوت ، لا أذكر أن بائعا اخذ مني نفس المبلغ ، وإذا ما أخذنا بالإعتبار نسبة الماء غير الثابتة أيضا التي تضاف إلى النفط ، فإن الغش يكون فظيعا جدا .
وأعجب ما في بائع المازوت هذا أنه يظن نفسه اهم من ملك او رئيس جمهورية ، وفي أسوأ الأحوال يظن نفسه أهم من رئيس حزب أو زعيم منظمة فلسطينية ، وقد يكون محقا في ذلك ، وخاصة حين يقترب من الحارة أو يعلن حضوره فيها ، مطلقا الف صرخة من بوقه الفظيع ، فتطل الرؤوس منفوشة الشعر من النوافذ والشرفات وشقوق الأبواب ، وتجحظ العيون المعمصة التي أرهقها السهاد أو أكسلها طول الرقاد ، وهي تحدج البائع بنظرات بلهاء . ويهرع البااحثون عن المازوت لتشغيل مدافئهم وحماماتهم ، فيزهو بائع المازوت بنفسه ويدور حول الحصان المشرشب متبخترا ، والناس يحدقون إليه وهو يحدق إليهم ، راميا نظراته هنا وهناك ، نحو الطوابق العلوية والسفلية ، ويده لا تكل ولا تمل من الضغط على هذا البوق العجيب ، وهنا بالذات يشعر أنه يؤكد حضوره أمام كل الناس ، وأن الجميع في حاجة إليه ، وأنه بالتالي أهم من ملك أو رئيس جمهورية !وهؤلاء حسب زعم جارتي الشامية يستوطنون التلفزيون ، ويمكن للمرء أن يغلق التلفزيون إذا لا يريد أن يراهم ، أما باعة المازوت هؤلاء فمن يستطيع أن يمنع نفسه من رؤيتهم .؟ من يستطيع أن يغلق اذنيه دائما حتى لا يسمع صخب أبواقهم .

لقد تآلفت مع كل الأصوات الأخرى في الحارة منذ أن سكنتها ، تآلفت مع أبواق السيارات ومفرقعات الأطفال ، تآلفت مع أصوات الدراجات النارية التي يركبها المراهقون وغير المراهقين ، مع نداءات باعة الخضار والفواكه ، ونداءات تجار الأحذية المهترئة والملابس المستعملة ، ونداءات تجار الخبز الجاف والألمنيوم والقناني الفارغة ، تآلفت مع نداءات هؤلاء التي لم أكن أطيقها ولم اكن افهم منها شيئا ، وإذا فهمت ماذا ينادي البائع وتريد ان تشتري ، ستجد ان البائع يبيع شيئا مختلفا عما ينادي عليه ، فإذا سمعته ينادي قائلا ( حلاوة يا حلقوم ) وأطليت برأسك من النافذة لتنده عليه رغبة منك بالحلقوم ، ستجد انه يبيع بطيخا !
المهم ، وكي أتلافى طرق باب بيتي من قبل المشترين ، علقت عليه لافتة تقول أنه ليس لدي ما يمكن شراؤه ، وأنني ألقي بفضلات الخبز في القمامة ، فأدركوا أو ظنوا أنني ملحد ، إذ كيف أرمي فضل الله في القمامة ؟ فلم يعودوا يطرقون باب
بيتي في الصباح الباكر ، إلا إذا كانوا أميين . ولم يبق غير هؤلاء التعسين ، أي باعة النفط العظام ، الذين يؤكدون حضورهم في مخيلتي أكثر من الأعجف ( وهذا زعيم فلسطيني مهول ، كسر الدنيا ، في روايتي ! ) وأكثر من عامر الليثي ( وهذا الفدائي الفلسطيني الذي يصارع قدره في الرواية ذاتها ، ) وأكثر من الموت المحدق بالفلسطينيين ، وأكثر من النساء اللواتي قتلنني وما زلن ، حتى أنني كتبت إلى وزيرة الثقافة أناشدها المساعدة في الخلاص من أبواق باعة النفط هذه ، بعد ان أخفقت كل محاولاتي في جعل الباعة يبيعون نفطهم دون استخدامها ، كما أخبرت صديقي الروائي بما أقدمت عليه ، لعله يساعد في الأمر ، أعرف أن هذا ليس من شأن الوزيرة والروائي ، لكن ماذا أفعل بالله عليكم ؟!
لقد مر شهر على كتابي ذاك ولم يحدث شيء ، ولن يحدث شيء كما يبدو ، وهذا البوق يصرخ في رأسي ، والرواية تنتظر بين يدي ، والزمن يطوي سني عمري ، والأعجف يطل من بين السطور ، يحدجني بنظراته ، يقهقه ، يسخر مني ! ، أما أم عامر ( وهذه الأم الفلسطينية في روايتي ) تحدجني بنظرات الوجد وتقول لي ( متى ستنتهي من مأساتي ، ألا يكفي أنك جعلت اليهود ينسفون بيتي مرتين ؟ وقد تجعلهم ينسفونه مرة ثالثة ، ألا يكفي أنك جعلتهم يقتلون عمر وفداء وعمرو ، وجعلتهم يأسرون محارب وعمران وأبو عامر ، ألا يكفي كل هذا ؟ فإلى أين تقودني ؟ كفاك مآس !)
آه كم أنا متعب يا أم عامر ، وكم تؤرقني هذه المآسي التي وضعتك فيها ، كم تقتلني ؟
سمعت مجموعة أبواق لباعة المازوت تنطلق دفعة واحدة ، قادمة إلى الحي ، سارعت إلى فتح علبة السدادات لأغلق أذني ، غير أنني شعرت بانقباض شديد في صدري ، انقباض شل حركتي ، وجعلني غير قادر على وضع السدادات في أذني ، رحت أتنفس بعمق وأنا أضع يدي على صدري في محاولة لمقاومة هذا الإنقبا ض المفاجىء . تخيلت نفسي ميتا على الأريكة وليس خلف طاولة الكتابة ، لا أعرف لماذا ؟ !
رن جرس الهاتف . حاولت القيام غير أنني لم أتمكن . وظل الجرس يرن ويرن إلى أن يئس طالب المكالمة وأقفل الخط من طرفه . بعد قرابة ربع ساعة ، أحسست انني استعدت شيئا من قواي ، حاولت النهوض لأتأكد من انني قادر على الوقوف والسير . تمكنت من الوقوف وسرت ببطء إلى الأريكة لأجلس عليها ، أتكيء بظهري على مسندها وامد رجلي إلى الأمام ، شعرت بشيء من الراحة وأنا أمد رجلي إلى الأمام واسترخي دون أن يفارق شبح الموت مخيلتي ، آه ( هتفت لنفسي ) ( سميرة ( الزوجة الأولى( هجرتها وبيرجت ( الزوجة الثانية ) في ألمانيا ـ إيريس في أمريكا ، وليليا في المكسيك ، جينيا في موسكو ، ونجوى في القاهرة ، كلير في لندن ، وحياة في القدس ، بسمة تزوجت ولم تعد تتحملها ! غادة ربما لم تعد تطيقك ، ولوسيان ، حتى لوسيان التي في دمشق ، منشغلة بعالمها العجيب ، ولا تزورك إلا نادرا ، وأولادك وبناتك الذين تظن أنهم كثيرون ليسوا من حولك ، كل هذا الكم من النساء ( الزوجات والحبيبات والصديقات ) والأولاد ، عدا الأخوة والأخوات ، وتموت وحيدا ، وحيدا ، يا محمود أبو الجدايل ! وحيدا بائسا متعبا مرهقا ،مدمرا ، لا أحد يقدم لك حتى كأس ماء . آه يا امي لو انك إلى جانبي لتواسيني بكلمة منك ، لتغدقي علي حنانك ، لتضمي رأسي إلى صدرك المترع بالأمومة والحنان ، وتملسي بيدك البلسمية على صلعتي ، أنا حزين ووحيد ومتعب يا أمي .
رن جرس الهاتف ثانية . مددت يدي هذه المرة ، إذ كان الهاتف قريبا مني .
كانت لوسيان . لوسيان التي مات أحد قطيها ( محمود ) وتطلب إلي المساعدة في دفنه ! جرى بيننا على الهاتف ما جرى ، وانتهت المكالمة بنعتي بالمجرم الشرير القاسي ـ وإلغاء دعوة العشاء التي كان مقررا أن تحضر إليها عندي .
لوسيان سيدة فرنسية ، وهي أرق امرأة عرفتها في حياتي ، وأكرم امرأة بعد ( عائشة العلان ) وهذه الأخيرة كانت أرملة فلسطينية معدمة ، جاءت أبي تستدين منه ذبيحة حين طرق بيتها عابرو سبيل بحثا عن طعام !!!
ولوسيان امرأة ناعمة كحرير الشام ، وشفافة كماء زمزم ، يمكن أن تخدشها نسمة هواء في غير أوانها .. ولا أعرف أية حماقة دفعتني لأن أتعامل معها بهذه القسوة ، وأطلب إليها أن تلقي القط في القمامة !
تعرفت إليها بعد حضور عرض مسرحية ( كاليجولا ) في دمشق ، وأصبحنا صديقين حميمين بعد قرابة اسبوعين . حدثتني عن مسيرة آلامها ، وحدثتها عن مسيرة آلامي ، لولا احتلال بلدي لكانت آلامها لا تقل فظاعة عن آلامي ، فقد عاشت حياة قاسية ، لم يرد مثلها حتى في الأساطير ، ربما في أسطورة لوط فقط ! ومع ذلك فهي تحاول نسيان كل المآسي التي مرت في حياتها ( كما أحاول نسيان مقتل أخي بيد أبي ) فتبدو وكأنها لا تعاني منها ، وربما لاتعاني ..
ولوسيان كمعظم الأوروبيين تحب الحيوانات ، وتفضل القطط على الكلاب . عندما تعرفت إليها كان لديها قط بحجم كلب صغير اسمه فرانسيس ، ( وهذا اسم صديق فرنسي لها ) وحين تعمقت صداقتنا ، اقتنت قطا آخر وأسمته ( محمود ) على اسمي .
كا ن قطا صغيرا وقميئا، وكم كنت أكرهه، فهو بليد وخامل وغير مرح وبشع ، عكس معظم القطط التي أراها جميلة ، وكثيرا ما كانت تداعبه أمامي ، وتسالني وهي تضمه إلى عنقها وتقبله فأقول لها لا بل أكرهه ، أبعديه عن وجهي > وكنت أميل إلى القط الآخر فرنسيس، رغم أنه كان شرسا ، فلم أداعبه يوما عن قرب إلا وترك آثار جراح على يدي ، غير أننا اكتشفنا أسلوبا مشتركا للتفاهم والمداعبة دون اللمس المباشر ، فقد اعتاد أن يتسلق دالية في حديقة البيت ، ويتوغل بين أغصانها إلى أن يضل طريقه ، فلا يعرف كيف يعود ، ولا يستطيع القفز لعلو الشجرة ، فيشرع في المواء ، وحينئذ كنت أبادر إلى إحضار سلة كبيرة من القصب ، وأرفعها نحوه ، فيقفز فيها ، وبهذا اكتشفت لعبة مسلية معه ، وهو بدوره اكتشف لعبة راقت له ، فأخذ يكررها معي كثيرا ، حتى بعد ان تدرب على الصعود إلى الدالية والنزول عنها بسهولة . أرفع له السلة فيقفز فيها ومن ثم أدور به من حولي إلى ان أشعر ان الأرض تدور معي ، فاتوقف قليلا لأتخلص من الدوخة ، أمرجحه في الهواء إلى أن يمل . ذات مرة حدث أمر طريف ، فقد هاجمه كلب ، وفي غمرة رعبه تسلق شجرة عالية جدا ، لم يتوقف إلا أعلاها، كان من المستحيل مساعدته ، حاول النزول عدة مرات فلم يتمكن ، لم تكن مخالبة قادرة على أن تقوم بفعلها كما في التسلق ، حاولنا بالسلة ، تعذر عليه القفز فيها من هذا العلو الشاهق . أخذت لوسيان تفكر في الإتصال برجال الإطفاء ، فيما راح صديق يبحث عن سلم من الجيران . كان الصديق طويلا صعد إلى أعلى السلم ورفع السلة بيدية . تردد فرنسيس في القفز ، فالسلة تبعد عنه قرابة ثلاثة أمتار . رحنا نحمسه كي يقفز كور جسمه وتحفز ، وحقا قفز . كانت القفزة موفقة بحيث جاء في السلة تماما ، غير أنه كاد أن يوقع صديقنا عن السلم .
حاولت لوسيان ذات يوم التخلص منه بعد أن خيرها صديق أن تختار بين القط وبينه، فاختارت الصديق ، ووضعت فرنسيس في كيس وأقفلت عليه ، ثم أخذت سيارة إلى بلدة تبعد حوالي 15 كيلو مترا عن دمشق وأطلقته هناك وعادت . فوجئت بعد حوالي أسبوع وهو يدخل عليها من النافذة ، فقررت التخلي عن الصديق والإحتفاظ بالقط .
ذاك الخمول البشع محمود لم تقم بيني وبينه أية علاقة ، وذات يوم اتصلت بي لوسيان في الصباح الباكر لتقول لي أنها حزينة جدا ، لأنها فتحت الباب في الصباح لتجد محمود ملقى خلفه والدماء تنزف من فمه وفكيه ورأسه ، لقد ضربته سيارة أمام الباب كما يبدو ، وكم كانت حزينة لأنها لم تترك الباب مفتوحا خلال الليل ليدخل محمود عندما يعود من تسكعه في الأحياء ، ثم إنها تجاهلت خرمشاته على الباب أثناء الليل معتقدة أنها خرمشات قطط متحرشة، فلم تفتح له. ثم كيف تسمح لنفسها أن تنام وهو خارج البيت ، كان يجب ان تنتظره إلى أن يعود ، وكان في مقدورها أن تسعفه فورا ، أما الآن ؟ فأنا حزينة ومتأسفة ومسؤولة عما جعل حاله تسوء أكثر ، لقد نزف كثيرا من الدم ، وظل يتألم طوال الليل . هكذا قالت لي على الهاتف ، ولم يبق إلا أن تقول عن نفسها أنها مجرمة لإهمالها القط إلى هذا الحد . سألتني عن طبيب بيطري فأجبتها بأنني لا أعرف . تأسفت لإزعاجي معتقدة أنه كان بإمكاني أن أساعدها وإلا لما اتصلت.
عثرت على طبيب بيطري وراح يعالج محمود ويعايده باستمرار بأجر باهظ ! لم يتماثل للشفاء ، وساءت صحته ، وغدا بشعا إلى حد يثير القرف ، كان فكاه مائلين وبوزه معوجا من جراء الصدمة . وعندما تأملته بدالي وكأنه مصاب بالجعام ، أخبرت لوسيان أنه قد يموت قريبا ، وها هو يموت بعد بضعة أيام .

أمر مؤسف جدا أن أكون قاسيا ولا مباليا على الإطلاق إزاء مشاعر امرأة رقيقة وعاطفية ، ثم إنها صديقة وكانت تأمل مساعدتي ، لماذا لم أعتذر لها وأقول أنني متعب ومرهق وحزين ومشغول أيضا ، وكان في مقدوري إغصاب نفسي على إبداء أسفي لموت القط الذي يحمل اسمي والذي اقتنته من أجلي . كانت ستتقبل مني أي عذر مهما كان ، انا واثق من ذلك ، اللعنة علي وعلى أبي الذي يدعي أنه أنجبني ، لماذا لا أستطيع أن أكذب على نفسي ولو مرة واحدة ؟ لماذا أكره المجاملة ، حتى وأنا أعيش وحدة قاتلة وأصارع قدري ، وأرى حتفي أمام عيني ، وفي أمس الحاجة إلى انسان ما ، أي انسان يكون إلى جانبي ، يعطف علي بكلمة ، يواسيني بابتسامة ، يقدم لي كأس ماء . آه آه ! هل أتصل بلوسيان لأعتذر لها ، لأقول لها لو أنه في مقدوري القدوم إليها لقدمت ودفنت محمود معها ، لعلها تقتنع أنني لست شريرا ، ولست مجرما ، ولست قاسيا أيضا ! رباه ! لعلني أصبحت شريرا دون أن أدري ، لكن هل يكفي اتخاذ موقف كهذا الذي اتخذته إزاء قط لأصنف في عداد الشريرين ؟! غير ممكن ! رباه ! لكنني كنت وأنا فدائي أطلق النار على الأرانب والثعالب والغزلان والوعول والطيور ، بل لقد حدث وأن أطلق فدائي النار على القط الوحيد الذي كان لدينا في القاعدة ، القط الذي كنت أحبه كثيرا وأدعه ينام بين أحضاني ، ولا أذكر أنني فعلت شيئا للفدائي ، مع أنه لم يطلق النار على القط لفعلة شنيعة ارتكبها ، بل لأنه لم يجد هدفا يطلق النار عليه إلا هو ، فأطلقها . وكل ما هنالك أنني أبديت انزعاجي الشديد من سلوك الفدائي وطالبت بمعاقبته ، دون أن يذعن أحد لكلامي .
وعندما أطلق فدائي آخر النار على البغلة التي كانت لدينا في القاعدة ، لم نفعل له شيئا ، صحيح أننا لم نتمكن من القاء القبض على البغلة حين قطعت قيدها وراحت تعدو في الهضاب جامحة ، غير أن هذا لا يعني أن نتهاون مع من أطلق النار عليها بعد نفاد صبره . وكان في مقدورنا أن نترك البغلة إلى أن تتعب من العدو وتجوع ، لتعود وحدها ، وكان يجب معاقبة الفاعل ، ليس لعدم انسانية ما فعله فحسب ، بل لأهمية البغلة لنا في رحيلنا وترحالنا ونقل سلاحنا وذخيرتنا وسفدها من قبل بعضنا أحيانا .
حقا نحن أشرار ! أنا بالذات شرير ! ولا ينبغي أن أتذرع بالموت المحيط بي والمحدق بي لأبرر شرانيتي ، وإلا لبرننا لليهود كل ما فعلوه بنا ، وبالتالي سنبرر لأنفسنا كل ما قد نفعله بهم في المستقبل.
اللعنة ومع ذلك فانا لا أستطيع أن أدعي انني كنت أحب هذا المحمود وأنه ينبغي علي أن أشارك في جنازته ودفنه !(طيب يا أخي لا تحبه بل اكرهه كما كنت تكرهه
ولا تشارك في دفنه ، لكن لا تطلب إلى صاحبته أن تلقيه في الزبالة . احترم مشاعرها إزاء قطها يا أخي !(
صحيح كان يجب ألا أفعل هذا ، وليس من حقي أن أشير به عليها ، إذن يجب أن أعتذر لها وأبدي أسفي لموت هذا القط التعس .
أحسست أنه بإمكاني أن أتصل بها .. مددت يدي . أدرت القرص ضاربا أرقام هاتفها . ظل الهاتف يرن دون أن يرد أحد. لا شك أنها ذهبت لدفن القط .
عاد هذا الإختناق يضغط على صدري ثانية ، واليوم ما يزال طويلا طويلا ، وإذا لم تأت لوسيان في المساء سأكون حزينا أكثر من أي يوم آخر في حياتي ، وإذا لم أعتذر إليها سيزداد حزني .
لم اكن قادرا على فعل شيء ، وكلما حاولت الهروب من لوسيان وقط لوسيان وشرانيتي وموتي رحت أغرق أكثر. أغلقت أذني بسدادتي أذن لأهرب من الضجيج والأبواق الصاخبة في الخارج ، واسترخيت في الأريكة جاهدا قدر الإمكان لأن اريح نفسي ولا أفكر في شيء ، لكن عبثا ...
ذات يوم قبل احتلال عام 67 ، كان لدينا كلب جميل اسود ، وبعدما هربت من البيت ومن رعي الأغنام ، على أثر ضربة سددها لي أبي بهراوة فأس كسرت كتفي ، أخذت أحضر من القدس بين الفينة والفينة لزيارة أمي ، ورغم أنني كنت أغيب عن البيت بضعة أشهر بعد كل زيارة ، إلا أن الكلب كان يعرفني بمجرد مشاهدتي أطل من قمم الجبال ، فيهرع لاستقبالي ، كان ينبح في البداية وكانه لم يكن جازما بأن القادم أنا ، لكن ما أن أقترب حتى يتأكد تماما من هويتي ، فيهرع إلي عدوا .أجلس لأستقبله بأحضاني وكأنني أستقبل طفلا عزيزا ، أضمه أعانقه أداعبه ، أملس على رأسه ، أطعمه مما أحضرته له. أسأله عن أحواله وعما إذا كان أبي ما يزال يضربه لأي سبب. فقد كان أبي يضرب كل شيء : نحن وأمي يوميا لأتفه سبب. البغل إذا أحرن أو سطا على أكياس الشعير ، الكلب إذا غفل عن القطيع أو نام في غير المكان الذي حدده له ، الدجاج إذا دخل حقول الحنطة أو الشعير أو التبغ ، القط إذا اختلس قطعة جبن أو لم يفلح في اصطياد الفئران التي كانت تعج في عزبة أبي . الأغنام إذا لم تدر الحليب المطلوب ، الكبش إذا لم يكن فحلا كما يريده ، والزرع إذا لم يحمل جيدا ، واخيرا الأرض إذا لم تخصب !!
وكنت أشعر بالكلب يشكو لي همومه ويلومني لأنني هربت وتركتهم يقاسون الحياة في كنف أبي ،وحين كنت أنهض لنكمل الطريق إلى العزبة ، كان يملأ
الوادي فرحا ومرحا وصخبا ، يعدو هنا وهناك ويعود إلي ، يسبقني إلى البيت ليخبر أمي ويعود .
وذات مرة قدمت لزيارة أمي ، لم يفعل كما في كل مرة ، بل لم اشاهده على الإطلاق ، قلت لعله نائم . رحت أنادي سمور سمور دون جدوى . وعندما أصبحت على مسافة أمتار من العزبة ولم أره ، أدركت ان أمرا ما قد جرى له . وحين دخلت من باب الجدار الخارجي المحيط بالعزبة ، شاهدته مطروحا على مقربة من مربط البغل . هرعت نحوه ، كان يحتضر وفي الرمق الأخير . جلست إلى جانبه ورحت أملس بيدي على رأسه برفق إلى أن لفظ أنفاسه بين يدي .. فرحت أبكي . عرفت ان أبي ضربه في اليوم السابق .
لم يخطر ببالي أن أدفنه يا لوسي مع أنني كنت أحبه وأحب الحيوانات كلها وربما أكثر منك ، ولا أعرف ما الذي غيرني ، كلنا نتغير يا لوسي ، أنت أيضا قد تتغيرين ! ذات مرة أرغمنا أبي أنا وأخي أن نجهز على كلب بعد أن أطلق عليه النار . كم كان بشعا أن نجهز على كلب اخترقت عنقه رصاصة ولم يمت . لقد اتهم ذاك الكلب بأنه ابن ذئب ، فقد ادعى أحد الرعاة أنه سطا على قطيعه ليلا واختطف شاة ، غير أن أبي لم يصدق ، ونحن أيضا لم نصدق ولا سيما أنه ليس في الإمكان تمييز الذئب من الكلب خلال الليل ، وذات يوم شاهدنا الكلب يهاجم قطيعنا في عز الظهيرة ، غير أنه لم يكن يعض الأغنام ، كان ينقض عليها ويحاول طرحها أو سوقها أمامه كما يفعل الذئب ، وهي تهرب منه دون أن يؤذيها . لم يكن الأمر في رأيي أكثر من مداعبة لم نعتدها من الكلاب وخاصة مع الأغنام التي لا تحتمل مداعبات كهذه.
شك أبي في أمره وصمم على قتله . أطلق النار عليه مساء اليوم ذاته . أصابه في عنقه . كبا الكلب على وجهه وأطلق عواء مفجعا جعل كل كلاب المنطقة تنبح عواء له . وحين حاول أبي الإقتراب لإسكات نواحه والإجهاز عليه ، فز ولاذ بالفرار وهو يطلق نواحه وعواصه المفجع . وحينئذ طلب أبي إلينا أن نلحق به ونجهز عليه . لم نقدر على مخالفته، رغم أن الدنيا ظلام وليس بإمكان المرء مشاهدة اصبعه ، وقد أطلق ابي النار على الكلب في مكان مضاء.
أخذ اخي مصباح البيت وعدونا خلف الكلب متتبعين نواحه فيما أبي يعدو خلفنا ، ابتعد قرابة نصف كيلو متر وانقطع صوته. تبعنا على ضوء المصباح آثار دمه .
وجدناه مختبئا في كهف ، صرخ ابي من خلفنا ( بالحجار عليه بالحجار ) ورحنا نلتقط الحجارة ونرجم الكلب من باب الكهف دون أن نصيبه بحجارتنا ، فقد راح يثب مذعورا من حائط إلى حائط مما دفع أبي إلى توجيه سيل من الشتائم البذيئة لنا (يا اولاد ... اضربوا يكسر ايديكم ، يا خسارة الخبز فيكم )! وحين انطلق الكلب بشكل وحشي في اتجاهنا واندفع من بيننا كلمح البرق إلى خارج الكهف. جن ابي ولم يترك شتيمة في جعبته إلا وكالها لنا .
راح الكلب يعدو عبر واد سحيق ونحن نتبع أثره إلى أن نزف دمه وسقط أرضا . لحقنا به . كان يحتضر . ومع ذلك أصر أبي أن نجهز عليه بالحجارة . لم أذعن له .
انهالا عليه هو وأخي إلى أن عملا فوقه رجما !!
آه يا لوسي حزنت على ذاك الكلب ، فهو أقوى كلب شاهدته في حياتي . كان بحجم جحش ، ويصرع عشرة كلاب إذا ما تشاجر معها ، ولم تنجح الذئاب في اختطاف شاة من قطيعنا خلال وجوده ، ومداعبته للقطيع لم تكن كافية لإثبات التهمة التي أطلقها الراعي ، ثم ألم تكن هناك طريقة لإعدامه غير هذه الطريقة التي أعدم بها؟
لوسي !ستأتين في المساء أليس كذلك ؟ ستاتين حتى لو اقتنعت انني شرير ومجرم وسأقص عليك عشرات القصص عن الحيوانات ! يا إلهي كم لدي منها !
سأحدثك عن الأغنام وعلاقتي بالأغنام وكم كنت أحبها . أصحو من نومي عليها
وأسرح طوال اليوم معها ، ولا أغفو إلا إذا نامت الحملان بين أحضاني وأحاطت الأغنام بفراشي .وسأحدثك عن كلب حيدر حيدر وكيف طبقته وساحدثك عن قطة البناء التي عشقتني وسأحدثك عن قطيع خالد الذي مات بالسم وقطيع حسن الذي فتكت به الذئاب، وقطنا الذي عبر النهر وعاد إلى الضفة الغربية ، أما اهم القصصالتي سأرويها لك فهي قصة الكبش مرداس الذي ربيته على يدي ليكون فحل الفحول ويسفد عشرات النعاج في اليوم !
رغم أنني كنت طفلا إلا أنني كنت راعيا ماهرا يا لوسي . تعلمت العزف على الآلات الشعبية بسرعة قياسية حتى أروق في عيون الأغنام ! فرحت أعزف لها في المرعى إما على الناي أو على الأ رغول والمجوز ، أشنف آذانها فتمرح وتنتشر على السفوح وبين الأخاديد لترعى ، وكلما ابتعدت عن صوت الموسيقى راحت تعود إليه ثانية ، كنت أطوعها على انغام الموسيقى ، فتمنحني حليبا لذيذا
من ضروعها مباشرة ، كنت أرضع الحليب رضعا مع طعام غدائي ، أستلقي تحت الشاة وأمسك ضرعها ثم أتلقمه بفمي وأرضع جرعة تبلل لقمة الخبز التي في فمي ، وتظل الشاة واقفة دون حراك إلى أن انهي غدائي وأنهض شبعا ! كانت الأغنام بمثابة أمهاتي بالرضاعة ، ولا أظن انني اصبحت عازفا على الآلات الشعبية إلا من أجلها ، ربما لأفيها شيئا من حق أمومتها لي ! انا ابن الأغنام يا لوسي ، ابن الجبال والبوادي والشقاء ، ولست الآن إلا ابن النكبات ، ابن الثورات المهزومة ،الثورات المجوفة ، ثورات الخيبة .
لا تغضبي مني يا لوسي وإذا ما أتيت مساء سأقص عليك قصصي لعلك ترضين علي ! ذات يوم ولدت نعجة يا لوسي . صحيح انني كنت طفلا دون الخامسة عشرة ،إلا أنني تعلمت ذلك من نعومة أظفاري ، كنت أتولى توليد اكثر من مائة نعجة وماعز في العام . ولم يكن لدي غرفة عمليات بيطرية أو أي مكان للتوليد ، فالمخاض يدهم الشاة وهي في المرعى ، أو وهي في المهجع ، تحت المطر او في الصحو ، في الليل أو في النهار ، وينبغي علي أن اظل يقظا دائما . أسوأ أيامي يا لوسي هي التي يلد فيها الكثير من الأغنام بعيدا عن البيت ، ويكون الطقس فيها عاصفا ، إذ علي أن أنتقل من شاة إلى أخرى ، وما أن تلد واحدة حتى أنقلها إلى مكان يقيها المطر والبرد . وإذا ما تعسرت ولادة شاة ، فإن يومي سيتحول إلى جحيم لا يطاق . ينبغي علي أن أجزم أن الولادة الطبيعية مستحيلة ، والعملية لن تكون سهلة ، فأي خطأ قد يؤدي إلى نزيف يتسبب في موت الشاة ،ولا بد من استعدادات مهمة لإجراء العملية ، كأن استنجد بأحد الرعاة ليرعى قطيعي خلال العملية ، وان ابحث عن صابون وزيت لغسل يدي ودهنهما ، إذ يتوجب علي أن اولج اليمنى في رحم الشاة لإخراج الحمل ، والمهمة الأعسر عندما تكون يدي داخل الرحم ، فإذا ما أخطات في تحسس جسم الحمل وتلمس جدران الرحم فإنني لن اتمكن من إخراج المولود بسهولة . وحالات تعسر الولادة هذه تحدث كثيرا
إذا ما كانت الشاة حاملا بتوأم أو أكثر ، أو إذا كان وضع الحمل مقلوبا أو معكوسا .
ذات مرة ولدت نعجة أنجبت اربع توائم يا لوسي ، مات واحد وعاش ثلاثة ، وهذه حالة نادرة بين الأغنام ، وفي المساء علي أن احمل المواليد جميعها ، على ظهري ، تحت ابطي ، على عنقي ، وعلى كتفي ، وبيدي ، وامهاتها تعدو خلفي وثغاؤها ورغاؤها يصم الآذان .
المهم يا لوسي أنني ذات مرة ولدت نعجة تدعى الغراء . أنجبت توأما . كانت النعجة ضعيفة وهزيلة لكبر سنها ، نفقت بعد الولادة بعدة أيام ، فاضطررت إلى تربية التوأم الذي كان عبورة ( أنثى (وخروفا ( ذكر (.
أطلقت على العبورة اسم ندى وعلى الخروف اسم مرداس . كنت دائما أطلق أسماء بنات البلدة على الأغنام يا لوسي ، وكنت أحب هذه الأسماء بقدر ما احب الأغنام والفتيات ، الفتيات اللواتي كانت مشاهدة سيقانهن تطير عقلي ، عكس الفتيات شبه العاريات اللواتي أشاهدهن اليوم على المسابح .
اطلقت على الاغنام أسماء كثيرة يا لوسي ، مثل : وردة ، طرفه ، سارة ، حنة ، ثريا ، ذوابا ، تخلة ، عيدة ، فضة ، مريم ، نوارة ، ندرة ، والعديد من الأسماء التي يعتبر اليهود معظمها عبرية يا لوسي ، أجل عبرية يا لوسي ، تصوري ؟!
المهم يا لوسي . أحببت ندى ومرداس وربيتهما على يدي . كنت أجعلهما يرضعان
حليب اربع نعاج يوميا ( خلسة عن ابي طبعا ) وعندما فطمنا الحملان والسخال لم افطمهما ، وظللت ارضعهما الحليب إلى ان باتا عملاقين ، كنت بالنسبة إليهما بمثابة الأم ، فكانا يتبعانني دوما ، وكنت دائما أداعبهما واقبلهما ، وعندما رأى أبي مرداس عملاقا ، قال هذا الخروف يصلح مرياعا للقطيع ، ويجب ان نخصيه ، فنحن لسنا في حاجة إلى كبش طالما لدينا كبش جبار ! جننت يا لوسي . سيخصي أبي العجيب هذا مرداس الذي غدا جزءا مني ، ليحوله إلى كبش ذليل ويرغمني على ترويضه ليغدو تابعا لي ونائبا في قيادة القطيع ، < لا > صرخت في وجه ابي
) ليس في وجهه تماما وليس بصوت عال ) ومع ذلك زجرني قائلا ( انت بتصرخ في يا ولد ؟! ) فقلت بعد ان خفضت صوتي أكثر ( مرداس سيكون كبش القطيع ، وسيحل محل ابيه دهمان ، الا ترى بوادر الفحولة تلوح بين عينيه ؟! ) وامعن ابي النظر وراح يتأمل مرداس ويتفحصه ، فوافقني الرأي للمرة الأولى والأخيرة ! وبهذا أعفيت مرداس من الخصي !غير ان ابي أصر على بيع دهمان لأننا لن نعود في حاجة إليه . ودهمان كبش عظيم يا لوسي ومن سلالة عريقة ، ولي معه ذكريات كثيرة ، بعضها مؤلم وبعضها جميل ، ولا أحبذ بيعه ، رغم انه كبر وشاخ .احسست انه من العار ان نبيعه بعد ان امضى مع القطيع هذا العمر . لم افلح يا لوسي ، فما ان تاكد ابي من فحولة مرداس بعد بضعة اشهر ، حتى باع دهمان .
باعه لينضم إلى قطيع لا يعرفه ، وأهل لم يألفهم . لن انسى حزنه وغضبه حين كتفه الرعاة واقتادوه عنوة ، فرحين بفحولته الفذة ، فيما أبي يغتبط بالمبلغ الكبير الذي قبضه ثمنا له .
في الإخصاب المقبل كان مرداس قد بلغ ، وغدا حجمه هائلا . في بعض الاحيان كنت أخاله قطعة من جبل تنتصب على أربعة قوائم رخامية . وكان له قرنان حلزونيان غليظان يفلقان الصخر . وحين اقبل موعد الإخصاب راح يدور بين النعاج ويتشمم رائحتها لتقبل عليه وتمتثل له ، غير ان وقت الإخصاب لم يكن قد حل تماما بعد ، مما اثر على طباعه وسلوكه ، فراح يطارد النعاج لسفدها عنوة ،
وإذا لم تمتثل نعجة له ، كان يهاجمها بضراوة ، فأهرع لإنقاذ ها وانا اصرخ به :
(مرداس مرداس ارتدع يا مرداس ) كان يهابني فيتوقف عن لكز النعجة بقرنية ، وحين اصل امسك النعجة من راسها واداعبها . اقول لها ( ولك ارضخي له ، إذا لم ترضخي سيقتلك يا مجنونه ، ثم اين تجدين فحلا مثله ؟ كفاك حماقة ) وكان يستغل اللحظة التي أمسك فيها رأس النعجة فيشب عليها شامرا إليتها بذراعه مطبقا على حقويها . ولم تكن ثمة قوة في الأرض قادرة على إفلاتها من بين قائمتيه ، ثم يندفع إلى الخلف ويطعنها بشدة مطلقا سبيلها وهو ينتشي بكامل الذروة ، تترنح بضع خطوات وقد تقوس ظهرها وراح يتكور مستشعرة متعة طاغية ، وهي تفقد توازنها وتكبو على وجهها .وحين كان يفعلها في مكان منحدر كانت النعجة تتدحرج لبضعة أمتار !
حل الإخصاب في قطيعنا قبل أي قطيع آخر يا لوسي وحين اشتمت كباش الرعاة رائحة الخصوبة تعبق من قطيعنا تركت قطعانها وتمردت على رعاتها وجاءت تسعى إليه املا في تحقيق رغباتها وغرائزها ، وهنا كانت المذبحة المروعة يا لوسي ، المذبحة التي تكهنت بها منذ أن شاهدت بعض الكباش تترك قطعانها وتتسلل إلى قطيعنا . انذرت الرعاة غير انهم لم يذعنوا لي ، ثم إنهم لم يتمكنوا من ردع كباشهم .
كان مرداس محاطا بعشرات النعاج التي راحت تتحرش به وتتملس منه وتتمرغ عند أظلافه أو تدور من حوله ، أو تصطف امامه مديرة إلياتها له ، منتظرة دورها ليسفدها . وكان ما أن ينزل عن نعجة حتى يشب على أخرى ، فلم يتنبه لثلاثة كباش تسللت إلى القطيع وأخذت تطارد النعاج . تنبه للأمر بعد لحظات ، فقد كانت النعاج المخصبة تهرب من الكباش الأخرى إلى ناحيته آملة ان ينكحها ، فلم يتنبه إلا وكبش يتودد على نعجة على مسافة اقدام منه ، توقف للحظة يستطلع ما يجري وكأنه غير مصدق ما تراه عيناه . سمع جلبة في ناحية اخرى من القطيع ، فأشاح نظراته ليشاهد كبشين آخرين ، وقبل أن يقرر ماذا سيفعل شاهد كباشا أخرى تهرع من نواح مختلفة ، وهنا ادرك ان قطيعه أصبح عرضة للإنتهاك من الكباش الغريبة . صرخت به مستحثا نخوة الشرف العشائري يا لوسي ( عرضك يا مرداس ينتهك أمام عينيك ، حريمك وطأ مخادعها الغرباء ! باطل عليك باطل ! ) انتفض مرتين او ثلاث مرات .. شاهدت جسده يهتز ، وحين كان أقرب الكباش إليه يعتلي ظهر نعجة تراجع بضعة اقدام إلى الوراء وانطلق نحوه ، نطحه ليقذف به بضعة اقدام من فوق ظهر النعجة . ، لم يثن عليه ، تركه مطروحا على الأرض وانطلق نحو كبش آخر ، جندله بنطحة واحدة وراح يعدو نحو كبش ثالث ، غير أن الآخر شاهده يهرع نحوه فتحفز لمواجهته ، كان ثمة شبه كبير بينه وبين مرداس ، فايقنت أنه جاء من ظهر دهمان . صرخت بمرداس ( هذا أخوك ابن ابيك دهمان ، لا تؤذه لكن احذر منه ) . غير أن مرداس لم يذعن لي وانقض على أخيه . احدث التقاء قرونهما واصطفاقهما انفجارا اجفل الأ غنام ، فراحت تخلي الساحة لهما لتشكل ما يشبه الحلقة من حولهما . لم يتاثر أي من الكبشين من جراء النطحة الأولى ، تعاركا في مكانهما . كل واحد يحاول ان يدور حول الآخر ليسدد له نطحات جانبية . افلح مرداس في تسديد بعض النطحات الجانبية لأخيه ، غير أنها لم تكن فعالة ، فقد واظب الأ خ على الدوران من حول مرداس محاولا ان يفرض عليه المواجهة من الأمام لتمرسه على النطاح وجها لوجه . فهو اكبر من مرداس بعامين على الأقل ، كما بدا من حجم قرنيه الهائلين . ولا شك انه تمرس كثيرا على النطاح بعكس مرداس الذي لم يتمرس عليه إلا قليلا لصغر سنه . وكنت قد دربته بضرب قرنيه من الأمام بحجر كبير ، وبمصارعته دائما ، وكان دائما يتغلب علي ، فلم اتمكن يوما من لوي عنقه ، رغم انني كنت أتمسك بقرنيه بكل قوتي . ، وحين جربنا انا وأخي أخفقنا ، وكذلك أخفقنا حين حاولت وثلاثة رعاة ، أمسك كل اثنين بقرن ، إذ لم نزحزحه من مكانه قيد أنملة . ولم يمل عنقه ولو بقدر شعره .
كان يثبت في الأرض وكأننا نصارع صخرة هائلة ، كان مرداس يفرح ويزهو بنشوة النصر علينا نحن معشر البشر ، فلا أجد إلا أن احضن رأسه واقبله .
ولم يكن ابوه دهمان أقل قوة منه .
هرع الرعاة وراحوا يتفرجون على الصراع بين الأخوين ، فيما كانت كباشهم تتسلل إلى القطيع وتتعارك بدورها أو تشب على النعاج مستغلة انهماك مرداس في المعركة .
صرخت بالرعاة ( إن حدث سوء لمرداس سألعن آباءكم ، وإن حدث شيء لكباشكم ستتحملون المسؤولية وحدكم ) والحق انه لم يكن في مقدور أحد أن يفض النزاع بسهولة ، ثم إنهم لم يكونوا متخوفين مثلي أنا ، الذي اعرف ماذا فعل جد مرداس ذات يوم ، فقد شق رأس كبش من منتصفه كما تشق البطيخة !
ورغم كل ثقتي بمرداس وقوته إلا أنني كنت خائفا عليه ايضا بقدر ما أنا متخوف
منه يا لوسي .
ظل مرداس يراوغ محاولا الإبتعاد عن مواجهة اخيه ، غير ان اخاه وبخبرته الطويلة فرض عليه المواجهة ، حين ابتعد بضعة امتار وأقبل عليه كالسهم . صرخت به ( مرداس سيقتلك اخوك إن لم تتحفز للنطاح ( ولم يجد مرداس مفرا من الصدام ، شاهدته يثبت قوائمه في الأرض ويتحفز ، وحين وثب اخوه في الفضاء لينقض عليه ، وثب بدوره ليلتقيا على ارتفاع يقارب المتر عن الأرض . صرخت) الله معك يا مرداس ، أفديك بدمي يا مرداس ) رغم انني أعرف ان الكبش الآخر اخوه .
فرقعت قرونهما عند اصطدامها واحدثت صوتا مرعبا ، وحين سقطا على الأرض
ترنح مرداس وكبا على وجهه في حين ظل أخوه منتصبا . احسست أن أمعائي تتمزق . صرخت بالرعاة ( ابعدوا كباشكم قبل أن تقتل الكبش ) وحاولوا قدر استطاعتهم ، غير أنهم لم يفلحوا في الفصل بين الكبشين ، وانا حاولت بدوري حين رفعت عصاي وهرعت نحو اخ مرداس لطرده ، غير أن مرداس الذي نهض من كبوته ، مر من جانبي كالريح وهجم على أخيه بضراوة . صرخت ( مرداس كفى ) فلم يذعن لي . شاهدته يثب في الفضاء ويندفع ، ولم يكن أخوه قد تحفز ثانية للمواجهة ، نتيجة لتدخل الرعاة وتدخلي . ، فطرحه أرضا . وحين شاهدنا أنه لا مناص من حسم المعركة بينهما تركناهما ونحن نراوح بين الرفض والقبول ، والعجز عن الفعل .
نهض اخو مرداس من كبوته وتقهقر قرابة عشرة أمتار إلى الوراء ، في حين تقهقر مرداس قرابة ثلاثين مترا ، وضعت يدي على قلبي ، إنها النطحة الحاسمة ، وإذا ما نجح فيها مرداس لن يهزمه كبش أبدا ، توقف الكبشان وراحا يحدقان واحدهما إلى الآخر ، وما لبثا ان انطلقا معا كجلمودين من الصخر . احسست بقلبي يتوقف عن النبض يا لوسي ، ظلا يعدوان إلى ان ضاقت المسافة بينهما بما لا يزيد عن أربعة امتار ، ووثبا كل في اتجاه الآخر ، وقد ضما قوائمهما إلى بطنيهما ، التقى رأساهما في الفضاء ، محدثان دويا هائلا من جراء تصادم قرونهما . وحين سقطا على الأرض اخفيت وجهي بيدي كي اتلافى مشاهدة مرداس مطروحا . ورحت انظر من بين اصابعي خلسة . ولم ارفع يدي إلا حين شاهدته ينزل ارضا وهو ثابت كالطود ، بينما كان أخوه مطروحا .
تراجع مرداس بضعة اقدام إلى الوراء وهم للإنقضاض على أخيه ليجهز عليه . صرخت به ( مرداس كن شهما ولا تهاجم خصما طريح الأرض ) وتلكأ قليلا ، لا أعرف فيما إذا ادرك ما قلته أم انه تخوف مني . وحينئذ حدث ما لم يتوقعه أحد من الرعاة يا لوسي ، فالكباش الأخرى التي كنا نظن انها منشغلة بالنزو على النعاج والتعارك فيما بينها ولاهية عن المعركة ، اقبلت من كل صوب لتصرع مرداس ، فأطبقت عليه من كل جانب . لقد غدت هزيمته مطلبا لكل الكباش ، ليخلو لها القطيع . يبدو انها كانت تامل من أخيه أن يهزمه ، وحين أدركت انه قد يخفق قررت مهاجمته بشكل جماعي . صرخت بالرعاة ( لا غير معقول أن يهزم كبشي إثني عشر كبشا ، ابعدوا كباشكم ، افعلوا شيئا ) ولم يحاول أحد جادا أن يردع كبشه . ثم إن الكباش بدت في ذروة هياجها وغضبها ،وراحت تنقض على مرداس من كل ناحية ، فيما هو يتلقى النطحات ويصدها ، وقد دبت فيه قوة خارقة ، لم تكن الكباش تناطحه وجها لوجه لتخوفها من مواجهته. كانت تنقض عليه من الجانبين والخلف ، وبنظرة خاطفة منه كان يعرف الكبش القوي المتمرس على العراك ، من الكبش الهزيل الجبان ، فيهمل هذا ويتصدى لذاك ، ايقنت اكثر من اية مرة سابقة أنه يجيد العراك الأرضي إلى حد مدهش يذكرني بخبرة أبيه دهمان الفائقة . لم ادربه على هذا النوع من العراك ، غير انه كان يصارع خرافا من عمره ، وعندما شب ، تعلم بعض الشيء من ابيه دهمان قبل ان يبيعه ابي . ولم افكر يوما ان هذا التمرس المحدود كاف لأن يخوض معارك طاحنة كهذه ! ولم اجد نفسي إلا وانا ازغرد مطلقا الزغرود تلو الزغرود لأشجع مرداس واثير حماسه ، راح يكيل النطحات بسرعة وخفة هائلتين ، يسدد طعنة بإحدى قرنيه إلى خاصرة الكبش فيجندله ، ومن ثم يميل على جنبه ليواجه الكباش التي تهاجمه من الطرف الآخر .
صرخت والكباش تطبق عليه ( مرداس ستصرعك الكباش ، أفديك بعيوني يا مرداس ، شد الهمة يا مرداس ) ولا اعرف كيف شاهدت الكباش تتجندل على جانبيه يمنة ويسرة ، فيما بعضها يولي الأدبار ، وصوت الرعاة يصرخ بي ( كبشك هزم الكباش يا ابن ابو الجدايل وتخاف عليه ؟! ) لم اذعن لهم .
وكان للمعركة أن تنتهي عند هذا الحد يا لوسي لو لم ينهض أخوه من كبوته التي دامت لبضع دقائق ، ويعود ثانية للصراع ، وهنا لم اعد قادرا على البقاء متفرجا ، فأشرعت عصاي وانقضضت على أخيه لإبعاده ، غير انني فوجئت بمرداس يهاجم بضراوة كما في السابق ، صرخت به ( مرداس كفى ، ستهزم هذه المرة ، لقد تعبت ) فلم يذعن لي ، وراح يكيل النطحات الجانبية لأخيه ، فيما أخوه يراوغ ويبتعد ليفرض عليه المواجهة . كم هو عنيد اخوه يا لوسي ، يبدو أن ثقته بنفسه كبيرة ، فقد أطاح به ارضا ورآه يهزم أحد عشر كبشا ومع ذلك يصر على حسم المعركة حتى النهاية . وقبل مرداس التحدي وراح يبتعد إلى الوراء . كانت القطعان تنتشر على قمة هضبة فسيحة بعض الشيء . ابتعدا ( أحدهما عن الآخر) قرابة مائة متر وانطلقا . أحسست أن هذه قد تكون النطحة الحاسمة فعلا . لم اعد قادرا على مشاهدة قوائم مرداس نظرا للسرعة التي انطلق بها ، بينما كنت اشاهد قوائم اخيه تماما وهو ينطلق ، وحين وثبا في اتجاه بعضهما والتقت قرونهما في الفضاء ، وجدت نفسي والرعاة نخر أرضا من جراء الصوت الذي أحدثاه .
سقط الكبشان ارضا . عدونا نحوهما . سبقت كل الرعاة لأطمئن على مرداس ، وحين اقتربت منه ، بدا لي أنه في غيبوبة ، لكني لم ار أي دماء او جراح تنزف من رأسه ، فأشحت نظري إلى أخيه لأرى الهول ، فقد انفلق رأسه من النصف كما تنفلق البطيخة . صرخت ( لقد قتلت اخاك يا مرداس ، قتلت اخاك يا قابيل ) !!
أطبق الوجوم على وجوه الرعاة ، فيما كان مرداس ينهض ويتابع بحثه عن الكباش التي هرب بعضها ، فيما ظلت الأخرى تشب على الأغنام مستغلة الفرصة .
وحين رأته مقبلا راحت تهرب من أمامه مخلية ساحة القطيع . كنت أظن ان مرداس سيتركها إلى حال سبيلها طالما أنها هربت ، غير أنه لم يفعل ، لقد دبت فيه شراسة مخيفة ، وراح يلاحقها عبر السفوح والأخاديد ، إلى أن أثخنها بالجراح ، وألحق بها هزيمة منكرة !
كنت أرقبه من بعيد تخوفا من سطوته وخوفا عليه ، فقد يقذفه راع بحجر ، وقد يتدربأ عن سد صخري ، أو مكان وعر فيقضي نحبه . سأموت حزنا عليه ، إذا لم يقتلني أبي .
كنت منزعجا وحزينا بعض الشيء لمقتل أخيه . شاهدته يعود بعد ان شتت الكباش في الجبال والأودية . أدركت انه ظمىء ، أخذت مطرة مائي وأسرعت للقائه . كان يلهث بسرعة والعرق يتصبب من كافة انحاء جسده ، نزعت الكوفية ورحت أجفف بها عرقه ، متفقدا جسده ، كان مصابا بجراح خفيفة ، وثمة كدمات بين قرنيه وفي وجهه ، وما أن استراح قليلا حتى رحت اسقيه الماء من يدي .
كنت فرحا بنصره وآسفا لمقتل أخيه . همست له ( أخوك يا مرداس ، كيف تقتله يا كلب !! ) لم يذعن لي ، كان ما يزال يلهث من جراء التعب .
انصرف الرعاة خلف قطعانهم حاملين الكبش القتيل على حمار . كانوا جميعا آسفين ونادمين لمقتل كبش من افضل كباش البلدة ، وليس في إمكان أي راع الإستغناء عنه . بل إن جميع القطعان في حاجة إليه . وكان في مقدورهم أن يفضوا النزاع بأي شكل، لو أنهم ادركوا عواقبه .
لم أنم تلك الليلة يا لوسي ، فقد امضيتها قلقا على مرداس تخوفا من إصابته بآلام داخلية ، فنمت إلى جانبه ، وكنت أستيقظ بين لحظة وأخرى لأطمئن عليه ، ومما زاد من مخاوفي أنه لم يشب على النعاج منذ أن حدثت المعركة ، وظل طوال الليل هاجعا مستكينا منهكا . وكنت قد سرقت في المساء قرابة رطل من الشعير – خلسة عن ابي – وقدمته له . لم اطمئن عليه إلا عند الفجر ، فقد استيقظت ولم اجده إلى جانبي ، درت بنظراتي بين القطيع . شاهدته يعتلي ظهر نعجة . وحينئذ فقط دبت الطمأنينة في قلبي . همست له ( آه منك يا عكروت ) ونمت بعمق ، مع أنه الوقت الذي ينبغي علي أن استيقظ فيه . والحق أنني كنت أحسد مرداس يا لوسي ، فهو لديه ما يسفده وينزو عليه ، أما انا فلم يكن لدي شيء . لا شيء على الإطلاق . فأنا شبه خصي دون ان اخصى ! لقد خصونا ونحن في عز شبابنا ، وليس ثمة امل في استعادة فحولتنا ! قولي لي يا لوسي ( هل يخصى الرجال عندكم كما يخصون عندنا ؟! )
آه يا لوسي / لم تنته قصة مرداس هنا ، فقد جرى صراع فيما بعد لا يقل ضراوة عن هذا الصراع .

مرت عدة أيام وكباش الرعاة تتنشق عبق الخصوبة في قطيعنا دون أن تجرؤعلى الإقتراب منه . إلى ان جاء يوم مهول خاض فيه مرداس صراعا مريرا ، فقد ظهر كبش جديد لا يهاب المنايا ، واقتحم ساحة القطيع دون أن تهتز في جسدة خصلة صوف ! كبش تمرس العراك وخبر الطحان وذاق مر الكر والفر ، ترضخ له القطعان وتتحاشاه الكباش في الميدان .
كان الوقت صباحا ولم ترتفع حرارة الشمس بعد ، وقد انتشر الرعاة بقطعانهم على السفوح والجبال عازفين على آلاتهم الشعبية أو مرددين الأهازيج ، وفيما كنت أجوب السفوح بعيني ، ناظرا نحو مآذن القدس تارة ونحو هضاب جبل المنطار تارة أخرى ، شاهدت كبشا يرمح من بعيد ، بالكاد حتى لمحته ، فقد كان يعدو بسرعة هائلة ، أيقنت أن وجهته ليست إلا قطيعي . أطرقت للحظات ، وما لبثت أن عرفته من سرعته وحجمه . فليس هناك من هو بهذا الحجم ويعدو بهذه السرعة إلا هو . بدا كفارس يعدو على جواده لمواجهة خصمه . لقد هرب من قطيعة دون أن يتنبه له الراعي أو لم يتمكن من صده . ( ماذا جاء به ؟ الخصب ؟ أم الحنين إلى القطيع والديار؟ ) وضعت يدي على صدري تخوفا وتحسبا لما سيحدث . القيت نظرة نحو مرداس ، كان يشب على النعاج واحدة تلو الأخرى ، صرخت به وأنا أهرع نحوه ( مرداس توقف عن النكاح وتهيأ للنطاح ، فقد غزاك فارس مهول له في العراك باع طويل ، قرناه يهدمان الجدران ، وخلفه ثمانية أعوام من خوض المعارك ، من صلبه أتيت ، وبمعيته تدربت وشببت ، إنه ابوك دهمان فارس الفرسان ، فحل البوادي والبطاح وسيد القطعان والمراح )
كان دهمان مقبلا من سفح هضبة ، وغدا وقع قوائمه على الأرض مسموعا . ألقى مرداس نظرات خاطفة وهو يميل بأذنيه إلى الأمام ليحدد مصدر الوقع . رأى اباه يهرع من بعيد . يبدو انه لم يعرفه . توسلت إلى الله ان يمنع نشوب معركة بينهما ، ليس لأنني أحبهما وحسب ، بل لأنهما اب وابنه ، ولي ذكريات مع دهمان
لا يمكن أن انساها ، فقد عشنا طفولتنا معا ، وكنت أحبه كثيرا رغم انه كسر أسناني ذات يوم ، غير أن الحق كان علي يا لوسي ، فقد تقنعت بكيس خيش وجئته من خلفه حبوا مقلدا الذئب حاملا بيدي قضيب حديد فيما كان هو يرعى الربيع ، مددت القضيب من بين رجليه ووخزته في خصيتيه ! آه يا لوسي ، لا أراك الله ما أراني ، فقد استدار دهمان وسدد إلى وجهي نطحة مرعبة ، أطارت اربعا من أسناني وخلخلة البقية . ولولا هروع الراعي على صراخي لقتلني . نزفت الكثير من الدم ، وظل وجهي متورما قرابة عشرة أيام . كنا صغيرين ، لكنه كان اقوى مني بكثير . أحجمت عن اللعب معه بعد ذلك اليوم ، إلى ان شب وبلغ قبلي . وراح ينط على الأغنام امام عيني ، بينما أنا لم اعرف طريقي إلى المرج بعد !!!
تحرك مرداس بلا مبالاة لمواجهته على مسافة من القطيع . تبعته . أمسكت قرنيه . قلت له ( ولك يا جحش اسمعني ! إنه أبوك وربما جاء مشتاقا إليك ، ولا شك انك تحتاج إلى مساعدته في هذا الزمن الغادر ، فلا تضمه إلى أعدائك ، لو كان معك في معركة الأمس القريب ، لما كلفك النصر كل هذا الجهد . ولا تظن ان مواجهته ستكون سهلة ، قد يقضي عليك ، والله يعلم كم ميلا قطع كي يشفي غليله ، رجائي ألا تعترض طريقه ، وأنا واثق أنه لن يتعرض لك بسوء . (
الكلب ! حدجني بنظرات لم افهم معناها ، غير أنني أحسست بأنانيته وغيرته القاتلة . صرخت به ( ولك النعاج كثيرة وتكفي لك وله ) لا أعرف فيما إذا فهم !
كان دهمان قد اقترب إلى مسافة قد لا تزيد عن المائة متر . أخذ مرداس يتفلت مني ، وحين ادرك انني لا أريد إفلاته تلافيا للمعركة ، نتر نفسه من بين يدي واندفع كالسيل . كان قد طرحني ارضا وكاد أن يدوس على بطني . صرخت ( أه يا قابيل يا كلب ، أتمنى أن تهزم شر هزيمة ايها العاق . ) ونهضت اعدو خلفه وأرقب ما سيجري .
أقبل كل منهما في اتجاه الآخر وكأنه صخرة قذفها بركان ، وحين ضاقت بينهما المسافة جمحا وقد ضما قوائمهما إلى جسميهما ثم اندفعا كرمحين ، وقبل أن تلتقي قرونهما في الفضاء ، عرف واحدهما الآخر ، فقد حاول كل بدوره تشتيت النطحة وإضاعتها ، غير أن محاولة الأب كانت ناجحة أكثر من محاولة الإبن ، الذي لم يتمرس الكر والفر كأبيه . فقد مال بكل جسمه إلى اليسار ، ومن المفترض أن يميل هذا العاق بجسمه إلى اليمين ، وهو ما أقدم عليه ، غير أن زاوية انحرافه كانت ضيقة جدا ، مما جعله يصطدم بإلية أبيه . ولو لم تكن زاوية انحراف الأب كبيرة بعض الشيء ، لجاءت النطحة على بطنه أو حقوه ، مما قد يعرضه لإصابة بالغة . وتبين لي بعد قليل ، أن مرداس لم يكن جادا في تشتيت نطحته ، مما جعل فرحتي تذهب هباء .
وقع دهمان على جنبه ( نتيجة لقوة النطحة والإجهاد الذي ألم به من جراء المسافة التي قطعها عدوا ) فيما حط مرداس على الأرض منتصبا .
صرخت ( آه يا لئيم ) وحين شاهد اباه مطروحا دنا منه ، غير أن الآخر نهض على الفور . قاربا رأسيهما وأخذا يتشممان واحدهما الآخر ، وحينئذ فقط أدركت ما جرى ، فرحت أشكر الله .
دنوت منهما . هتفت لمرداس ( ولك يا جحش ، ألم أقل لك أنه أبوك ، ألم تفهم ؟ أم أنك لم تسمع ؟ ) وانصرفت عنه إلى دهمان الذي عرفني وراح يتمسح بي . عانقته ورحبت به بين أهله وفي دياره . كان متعبا ويلهث بشدة واستمرار وعيناه ترقبان القطيع بنهم ، وقد تاججت في دخيلته فحولة طاغية ، انتحيت من امامه فاسحا له الطريق ، ممسكا بقرني مرداس . هجم على القطيع كذئب وراح يزأر كالأسد . شب على أول نعجة واجهها في طريقه . وحين أدركت الأغنام وجوده عرفته وهرعت نحوه . أخذت تتشمم رائحته وتدور من حوله .
كان مرداس يرقب ما يجري بعينين تقدحان غيرة . هتفت له ( ولك إنه أبوك الذي أنجبك من صلبه ، ولولاه لم تكن قد جئت إلى الوجود ) العاق تاججت الغيرة في رأسه ، خاصة وأن النعاج هرعت نحو دهمان وأحاطت به حين فاحت رائحة خصوبته لتعم المكان. ونظرا لأنه يمارس السفاد لأول مرة ذالك العام ، فإنه كان ينزو على النعاج دون توقف ، ويقذف بغزارة فائقة ، على النقيض من مرداس
الذي بدا موسمه منذ قرابة اسبوعين ، وهدر الكثير من طاقته .
تاججت الغيرة في دخيلة مرداس إلى حد جنوني وهو يرى إناثه تستلب منه . لكزني لكزة خفيفة بقرنيه ليفلت نفسه ويندفع نحو دهمان . صرخت به ( لئيم ! سيحطم أنفك إذا تحرشت به ونغصت عليه يومه )
وللأمانه أنه ابطأ من عدوه ليتيح لأبيه النزول عن النعجة التي ينزو عليها . وما ان نزل حتى باغته من الخلف بنطحة خفيفة في إليته ، تنم عن تحرش متعمد أكثر مما تبيت نية الغدر .
( يا عيني عالفرسان يا لوسي ) فقد التفت دهمان بطرف رأسه دون ان يدير جسمه ، وكأنه يقول لمرداس ( عيب عليك ) غير ان اللئيم راح يزيد من تحرشه
واضعا الشر نصب عينيه .

ابتعد إلى الوراء قرابة مترين وهجم مسددا نطحة إلى حقو أبيه . لم يتحرك دهمان من وقفته وثبت قوائمة ليشتت تأثير النطحة . تراجع اللئيم قرابة ثلاثة امتار هذه المرة ليسدد نطحة أقوى ، وحينئذ استدار دهمان وزجره بعينيه . أحسست به يقول له ( كفى ، اخجل من نفسك وابحث لك عن نعجة تعاشرها واتركني قبل أن تثير غضبي ) صرخت به ( دهمان خذ حذرك من هذا الإبن العاق ‘ إنه قابيل ، لقد قتل اخاه وهزم اثني عشر كبشا منذ أيام ، خذ حذرك منه ومرغ لي أنفه في التراب ) !!
واستعد دهمان للدفاع وكان بودي أن يبادر للهجوم . سمر أظلافه في الأرض وهيأ قرنيه لصد النطحة المرداسية . تلقاها وشتتها دون أن يتزحزح قيد انملة من مكانه . ( يا عيني عليك يا دهمان ) وراح هذا العاق يبتعد أكثر فأكثر ويشن الكرة تلو الكرة ، ودهمان يصد الهجمات دون أن يتحرك ، ودون أن تؤثر فيه شيئا . انفضت الأغنام من حولهما مخلية لهما الساحة . صرخت بهذا العاق ( كفى يا كلب لقد ارهقت نفسك يا جحش ) ! وأدركت انني أنصحه دون ادري ، بتغيير طريقته في الهجوم . وغيرها حقا . فقد أرهقه ابوه حين تركه يكر ويفر وهو ثابت في مكانه . يتصدى للهجمات بقرنين هائلين وخبرة فائقة ليبطل تأثيرها .
تخلى مرداس عن الكر من بعيد ، بل وتخلى عن مواجهة قرني أبيه ، وأخذ يسدد النطحات الجانبية ، غير أن دهمان وبخبرته الطويلة كان يدور معه قدر الإمكان كي لا يتيح له أن يظفر به ، واضعا نفسه في مركز دائرة ، تاركا مرداس يدور من حوله ، وكلما انقض عليه وجد قرنيه في مواجهته . وبدا واضحا حتى حينه ، أن دهمان يكتفي بالدفاع ويتلافى الهجوم . صرخت به ( ألم يستفزك بعد هذا العاق يا دهمان ، ألن تمرغ أنفه في التراب ؟! ) ولم يستفز دهمان إلا نجاح مرداس في توجيه نطحة جانبية له ، كادت أن تطيح به أرضا ، غير أنه لم يعط المعركة الجدية الكافية ، وكأنه ما زال يتعامل مع مرداس كإبن وفتى لم يتمرس العراك في الوقت نفسه . فقد تخلى عن التشبث بالأرض وتثبيت القوائم إلى الليونة والرشاقة ، ومن الإكتفاء بالصد إلى المبادرة بالرد ،فارضا على مرداس النطاح المباشر ، لكنه تجنب الدخول في مرحلة الردع التي لن يحسم الصراع غيرها كما بدالي من هذا الإبن العاق .
راح دهمان يصد النطحات بقوة ، وأجاز لنفسه ان يتقهقر بضعة أقدام إلى الوراء ‘ في حين كان مرداس يتقهقر بضعة أمتار ، وهذا يعني أن قوة النطحة المرداسية الناجمة عن بعد المسافة ، أقوى من نطحته ، غير أن ثقته بنفسه وبقوته ، لم تجز له أن يتراجع أكثر من ذلك .
قلت لنفسي ( سيبدأ الجد ، هيا يا دهمان مرغ أنفه ) مرت النطحة الأولى فالثانية فالثالثة ، دون ان يبدو على أي منهما تفوق يذكر . أخذ دهمان يبتعد أكثر ، غير أن مرداس كان يبتعد اكثر بدوره . هتفت لدهمان ( هيا يا دهمان ، واحدة دهمانية وينقضي الأمر ، لكن إياك ان تقتله ، سأزعل منك مدى حياتي( !
أللعنة ! لقد عاد هذا العاق إلى الأرض ثابتا . أعادا الكرة خمس نطحات متتالية ، لم تحسم شيئا . ولم يبد على أي منهما أي تراجع . وأحسست بدهمان يدرك أن ابنه ليس كما كان يتوقع ، بل إنه أمام خصم عنيد وقوي ، وإن كانت تنقصه الخبرة الكافية ، فصمم على أن يناطح بجدية أكثر . تقهقر قرابة عشرة امتار ، فيما تقهقر مرداس قرابة عشرين مترا . انطلقا . وضعت يدي على قلبي . وثبا في الفضاء . التقيا . عادا إلى الأرض ثابتين . أللعنة ! تراجعا . أكثر من عشرين مترا تراجع دهمان هذه المرة . ( رباه لقد دخل دهمان مرحلة الردع . لا بد من حسم المعركة مع هذا الإبن العاق ! هيا يا دهمان ! ) ولم أستطع إلا أن احذر قابيل الكلب ، فصرخت به : ( واحذر أنت يا لئيم فقد يشق رأسك نصفين هذا اليوم . )
انطلقا ومن ثم طارا ليلتقيا (طاخ ) ووضعت يدي على وجهي . وحين أدركت أنهما عادا إلى الأرض ثابتين ، رفعت يدي ورحت أرقب تراجعهما . جن دهمان حقيقة وقد ادرك أنه امام كبش شرس لم يصارع مثيلا له في حياته . تقهقر قرابة خمسين مترا ، فيما تراجع مرداس قرابة ثمانين . صرخت ( يا ألله كن معهما ! اللعنة عليهما ! سيقتلان بعضهما !) كرا (واحدهما في اتجاه الأخر ) الغبار يتطاير من خلفهما ، والحصى يتناثر من تحت أظلافهما ، خلتهما كصخرتين تتدحرجان من قمة جبل . قذفا نفسيهما في الفضاء . صرخت ( ألطف يا لطيف ) ( ط.... ا ... خ ) وعادا إلى الأرض ثابتين كجبلين . رفعت عصاي وهرعت نحوهما ( دهمان، مرداس، كفى ) لم يذعنا لي . تراجعا وتراجعا .. لما يقارب المئتي متر تراجعا . ( اللعنة عليكما ! يا رب السماوات الطف بهما ، وكن معهما ، ولا تدع أحدهما يقتل الآخر . وإذا كان لا بد من ذلك ، فليقتل دهمان ، فقد شاخ وكبر ، وعاش حياته ، ثم إنني لم أشق في تربيته ، وهذا العاق ربيته على يدي ، وإذا ما قتل ، سأقتل نفسي قبل أن يقتلني أبي) !
انطلقا كرمحين ، بل كسهمين ، لم أكن قادرا على مشاهدتهما بوضوح لسرعة انطلاقهما ، توسلت لكل الأنبياء والآلهة أن يحرسوهما . شاهدتهما يقذفان جسديهما في الفضاء ليصطدما كجبلين ويرتدا إلى الوراء ويسقطا .. يا ألله لقد وقع الإثنان أرضا . هرعت نحوهما . وما أن اقتربت منهما حتى نهضا وراحا يتراجعان ، هشت عليهما بعصاي وأنا اصرخ ( كفاكما جنونا ، اللعنة عليكما وعلى اليوم الذي ولدتما فيه ! ) لم يذعنا لي ، ولم اتنبه لنفسي إلا وأنا اقف في نقطة التقائهما . رباه قد اقطع إلى نصفين إذا ما بقيت واقفا هنا . رحت اصرخ وانادي الرعاة في السفوح والجبال ، غير انهم كانوا بعيدين يا لوسي . أخليت الساحة لهما ، وأسلمت امري إلى الله ربي .
لا أعرف كم ابتعدا هذه المرة ، ابتعدا كثيرا كثيرا ، بحيث لم يتح لهما المكان الإبتعاد أكثر ، ليظل واحدهما في مواجهة الآخر . وحين انطلقا كانت أعصابي
قد انهارت تماما ، وتملكني الخوف ، وجف اللعاب في فمي فانطرحت أرضا .
شاهدتهما يصطدمان في الفضاء ويرتدان إلى الوراء من شدة الصدمة ، ليقعا على ركبهما وينطرحا . وحين أدركت أنهما لن ينهضا كما في المرة السابقة ، تحاملت على نفسي وهرعت نحوهما . لقد قذفتهما الصدمة بعيدا ، بحيث فصل بينهما قرابة خمسة أمتار . هرعت إلى مرداس أولا . كانت الدماء تغطي وجهه وقائمتيه الأماميتين ، والعرق يتصبب من جسده ، واللهاث يندفع بتواصل من فمه ومنخريه ، فيما جسده ينتفض بين لحظة وأخرى . رحت اصرخ وأبكي وأشتمه ايضا وأنا أجفف دماءه (ولك يا حيوان يا كلب ، يا لئيم يا حقير ، قلت لك سيقتلك ، رغم أنه عجوز !)
كنت أجفف دماءه وأنظر إلى أبيه كي لا يغار مني وينقض علي وعليه معا . رشقت قليلا من الماء على رأسه وهرعت لأطمئن على أبيه . كان مطروحا وقوائمه ممدة على الأرض ، وحين شاهدني أقترب منه ، انتفض ونهض ، غير أنه ظل واقفا في مكانه ، كانت الدماء تغطي وجهه هو الآخر ، رحت أجففها له دون أن أدري ماذا أقول له . لم اكن غاضبا منه ، ولم أعتبر ولو للحظة هروعه إلى قطيعه الأصلي غزوا ، بل شوقا وحنينا . انتفض وتحفز وأنا أجفف دماءه . وحين نظرت خلفي شاهدت< قابيل > ينهض ويحدجنا بنظرات ما زال الشر يقدح منها . سحبت غنجري من غمده وأشهرته وعصاي في وجهه ( أقسم انني سأخوض المعركة مع أبيك ضدك هذه المرة ، إذا ما تماديت في عدوانيتك أيها الوغد ، ولتذهب إلى الجحيم ) وكي أقنعه بصدق نواياي ، أخذت حجرا وقذفته نحوه . تقصدت إصابته ، غير أنه زاغ عنه ! وحين ادرك مدى صدقي ، جانبنا وانصرف على مهل نحو القطيع .
أحسست بدهمان يتحفز . طوقت عنقه بيدي اليسرى ، ورحت أرش الماء على وجهه بيدي اليمنى ، قلت له ( يكفي ، لقد ارتكبتما من الحماقة ما فيه الكفاية ، يجب أن تترك قابيل اللئيم هذا ، فهو قوي وملعون رغم صغره ) بدا لي أنه فهم علي فتركته .
استدار وتوقف للحظات ينظر نحو مرداس دون أن يحرك بصره عنه ، ومن ثم راح ينظر نحو القطيع بتمعن ، ويتأمله نعجة نعجة ، وتأمل المعز للحظات أيضا .
بدا حزينا وكئيبا ، فهو مضطر وللمرة الثانية لأن يغادر القطيع الذي عاش معه سنين طويلة ، وكان يتمنى أن يكمل حياته معه ، لو لم يبعه أبي في المرة الأولى ، ويتنكر له ابنه ويتصدى له في المرة الثانية .
إذن لا بد من العودة إلى القطيع الآخر . القطيع الغريب الذي لم يألف الحياة معه
، ولم يألف راعيه ، ولم يألفه الراعي بدوره . احنى رأسه واستدار إلى الناحية التي جاء منها ، وسار بخطوات بطيئة متعبة . رافقته لبضعة أمتار واضعا يدي على ظهره . أوقفته لأعانقه . عانقته . همست له ( لا تحزن يا دهمان وتحمل . تحمل أيها الفارس الشيخ ، إنها الحياة هكذا ، قاسية لعينة ، ملعون ابوها ، ملعون أبوها يا دهمان ، حتى ابنك الذي أنجبته من صلبك ، يقف ضدك فيها ) ولحظتئذ سمعت صاحبه يناديني من قمة جبل مواجه يسألني عنه ، أجبته بأعلى صوتي ( ها هو إنه عائد إليك ) وأطلقت عنق دهمان ليتابع سيره . ظللت أرقبه إلى إلى أن مال خلف هضبة .

عدت إلى القطيع . نظرت إلى هذا الكلب مرداس ، بل قابيل. قلت له : ( لا تتكلم معي ، ولا تنظر إلي ، لن اطعمك شيئا بعد اليوم ، لتذهب إلى الجحيم ! هكذا تفعل بأبيك ايها اللعين ؟!) والحق إنني لم أخاصمه إلا لبضعة أيام !
ظل مرداس يعاني من جراحه طوال اسبوع ، وقد نجحت في إخفاء ما جرى عن أبي. وحين شفي عادت له قوته ، ودب الإخصاب في جميع قطعان البلدة . راح الرعاة يقتربون باغنامهم من قطيعي كي يشب عليها مرداس ، ولا سيما ذاك الراعي الذي قتل كبشه . قال لي ( كبشك يا ابن ابو الجدايل قتل الكبش وعليه ان <يظرب > القطيع كله ( قلت له ( حقك على راسي وعيني وعلى مرداس ) راح مرداس يصول ويجول بين النعاج كالأسد الجسور ، فتقبل الأغنام عليه وتلتف حوله ، لتختلط القطعان وتشكل قطيعا واحدا من آلاف النعاج . كان مرداس يشب في اليوم الواحد على عشرات النعاج ، وفي كل مرة يشب على نعجة جديدة . وحدث امر مهم يا لوسي . امر لا يصدق أبدا ، فلم يعد مرداس يغار كما في السابق ، أو لنقل كما في بداية الإخصاب ، فالنعاج غدت من حوله بالمئات ، بل بالآلاف ، وقد اطفا ظمأه ، وخمدت الغيرة في دخيلته ، غير أن الكباش لم تكن تجرؤ على الإقتراب منه ، وتظل تمارس حقها في السفاد مبتعدة عنه قدر الإمكان . وكان هو ينظر إليها بين فترة وأخرى دون مبالاة ، وكان يشاهد اباه بينها ، غير انهما كانا يتلافيان المواجهة .
اما ندى يا لوسي . شقيقة مرداس التوأم ، فقد حيرتني ، حيرتني تماما ، غدت نعجة بحجم نعجتين ، وأخصب القطيع كله دونها ، وكم حاول مرداس إرضاخها دون جدوى . صرخت بها ذات مرة ( سيقتلك إن لم تذعني له ، لن يهمه ان تكوني أخته ) لم ترد علي ! وفيما كان يطاردها ذات يوم ، هرعت وأمسكت بها ، قلت له ( هيا اغتصبها يا مرداس ، اغتصبها هذه اللعينه ، أولجه فيها ، لعلها تذق طعم الحياة وتعرف قيمتها ) اللعنة عليه ، لم أعرف انه سيفضها بهذه الوحشية ، فما أن شب عليها رافعا إليتها حتى شدها إليه بكل قوة وراح يطعنها دون أي تمهيد ، أطلقت رأسها حين تاكدت أنه تمكن منها . وما ان بلغ أوج الذروة حتى دفعها واطلقها بالقوة التي شدها بها إليه ، لتكبو على رأسها وقد تكور جسمها لشدة الذروة التي كانت تستشعرها ، وما لبثت ان تدحرجت بضعة أقدام لشدة الدفعة المرداسية . صرخت ( اللعنة قتلها ) اطمأنيت حين شاهدتها تنهض وانا أقترب منها . وحين تبعها مرداس ثانية ، رضخت له راضية ، بل متوسلة ، حتى أنه لم يعد قادرا على اشباعها !
آه يا لوسي . إذا ما حضرت في المساء لن احدثك عن النهاية التي آلت إليها ( ندى ) لأنني قتلتها ! نعم قتلتها . غضبت ذات ليلة عندما سرحت الأغنام ليلا بحثا عن الكلأ على نور القمر ، وهذا امر ممنوع على الأغنام إذا ما كان الراعي نائما ، فإذا ما هاجمها ذئب أو قطيع من الذئاب ، سيفتك بها قبل أن يصحو الراعي ويبحث عنها ، ليجد جثثها ! وهذا ما حدث لقطيع ( حسن ) الذي كان يغط في نوم عميق ،وحين استيقظ لم يجد ولا شاة حوله . كان الفجر لم يبزغ بعد ، ولم يستطع العثور على القطيع إلا بعد طلوع النهار ، ليجد جثثه متناثرة في واد على مسافة تقارب ثلاثة كيلو مترات . لن أنسى صبيحة ذلك اليوم حين هرعنا على صراخ النساء وهن يندبن القطيع في حين كان بعض الرجال يحملون الأغنام على الحمير ويعودون بها إلى العزبة لبيعها لحما ، لاعتقادهم أن عضة الذئب حلال !! فالذئب يعض الشاة من حنجرتها يا لوسي ، وهو لا يفتك ليشبع كمعظم الحيوانات ، بل ليقضي على القطيع كله إذا ما أتيح له ذلك .
ثمة تخوف آخر على القطعان من الرعي دون يقظة الراعي ، وهو وجود حقول
وبساتين مرشوشة بمواد سامة حتى لا يقترب منها أحد ! وهذا ما حدث لقطيع خالد وفي عز الظهيرة ، فقد كان خالد يرعى قطيع معزه على مقربة من حقل ذرة .دهمه النعاس وغفا حين كان مستلقيا إلى جانب القطيع . وحين استيقظ من غفوته وجد الأغنام ترعى في حقل الذرة . هرع وأخرجها ، لكن ما ان مرت بضع دقائق حتى بدأت الأغنام تتلوى وتثغو وتقع أرضا وهي ترفس بقوائمها في لحظات احتضار .
راح خالد يصرخ ، كنت أرعى قطيعي في سفح مواجه ، رحت أصرخ بدوري وانادي الرعاة و الناس ليمدونا بالحليب والمحاقين . كان يوما رهيبا يا لوسي .
هرع ابي ورحنا نحلب من أغنامنا ونهرع نحو قطيع خالد . وكان رعاة كثر يحلبون أغنامهم ويهرعون . الحليب يقاوم التسمم . كنا نحقن الحليب حقنا في أفواه الماعز ،وهناك من كانوا يدلقونه في فم المعز دون محقن . لم أتمالك دموعي وأنا أرى إلى صراخ النسوة وندبهن وهن يلجن الوادي الذي كانت تتناثر فيه الأغنام . كانت أم خالد تشق ثوبها عن صدرها وتطلق شعرها وتشرع في نتفه أو تلطم بيديها على صدرها ورأسها وهي تردد نادبة ذاكرة المعز ، كل عنزة باسمها ( ويلي عليك يا العطراء ، يا حسرتي عليك يا الصبحاء ، ألله يكون معك يا الدرعاء ، وحنا بعدكن ما لنا حياة يا عيوني)
أفلحنا في إنقاذ بعض الأغنام ، لكن أغلبها نفق .
في يوم مقتل ندى ، كنت متعبا يا لوسي ، وقد أحجمت الأغنام عن الرعي خلال النهار نتيجة للحر ، وعندما برد الطقس ليلا ، نهضت من مهجعها وانتشرت تبحث عن الكلأ . كنت أغط في نوم عميق . استيقظت على صوت الأجراس المعلقة في رقابها عندما انقلبت على جنبي بعد فترة من انتشارها . كانت قد ابتعدت عني . نهضت مذعورا ورحت أعدو في اتجاه صوت الأجراس وأنا أنعق بأعلى صوتي طالبا إلى الأغنام العودة حالا ! راحت الأغنام تهرع عائدة وهي متخوفة من غضبي الذي ليس له حدود أحيانا . وما ان اقبلت علي حتى واجهتها بوابل من الحجارة والصراخ ، راحت تعدو أمامي عائدة إلى المهجع ، وأنا اضربها بكل حجر تطاله يدي ، ولم أعرف وانا في ذروة غضبي أنني التقطت حجرا كبيرا وقذفته بكل قوتي نحو مجموعة من النعاج لأصيب نعجة في جمجمتها ، شاهدتها تقع ارضا وتهمد في مكانها . هرعت إليها . لم تكن إلا ندى يا لوسي ، وقد اصاب حجري اللعين مقتلا منها . صرخت مستنجدا بالله دون جدوى . وحين رأيتها تحتضر أيقنت أنه لم يعد ثمة امل في حياتها . سللت خنجري وذبحتها كي لا تنفق فطيسا .
آه يا لوسي . كانت قد أنجبت توأمين كأمها . وكانت أكبر نعجة في القطيع من حيث حجمها . وتحلب اكثر من ثلاث نعاج . رحت أندب حظي العاثر . ضربني أبي ضربا مبرحا ، وطردني من البيت . مكثت عشرة أيام أتسكع في شوارع القدس ، وأعمل في اعمال لم أعتدها يوما . عدت بعد أن أرسلت من يصالحني مع ابي . لقد قدر لي أن أربي التوأمين اللذين تركتهما ، وكانا أنثيين ، فأسميتهما ( وردة ) و( رسمية ) . وهذه بداية قصة أخرى يا لوسي .
****************
حين تركت القطيع إلى الأبد هربا من سطوة أبي ، كان مرداس في أوج قوته ، و< وردة > و< رسمية > شبا وكبرا . وحين عدت إلى القدس فدائيا عام 1970 ، زرت أهلي ليلا ، وكنت متشوقا للقاء مرداس وخلفته ، والأغنام الأخرى ، بقدر ما أنا متشوق للقاء امي . كان بعضها قد تغير ، غير أن مرداس كان كما هو، وإن شاخ قليلا . رحت أعانقه ( ولك قابيل ، ألم تعرفني ) ؟!اللعنة عليه ، لم يعرفني في البداية ، قرابة سبعة اعوام مرت على ترك القطيع ، كبر وربما ضعفت ذاكرته ، فركت أذنيه وضممته وتحدثت إليه بالكلمات التي أعتدت أن أخاطبه بها . عرفني ، فقد راح يلتصق بي ويتشمم وجهي . طال عناقنا . تركته ورحت أبحث عن وردة ورسمية لأعانقهما . افتقدتني أمي فخرجت تبحث عني . فرحت حين شاهدتني أعانق الأغنام . هتفت ( بعدك كما عرفتك يا بني ، حنون وتحب الغنم .) وقال أبي الذي جاء هو الآخر ، مداريا حسرة في قلبه(من ما تركت الغنم لم نر التوائم ، وعددها يتناقص كل عام)
آه يا لوسي ! خرجت من الأرض المحتلة للمرة الثانية أواخر عام 1970 ، وباع أبي القطيع ومات بعد اربعة أعوام . عاشت أمي بعده أكثر من عشرة أعوام وماتت . وإذا ما عدت يوما يا لوسي لن أجد امامي إلا القبور ، ولن أجد مرداس ، ولن أجد القطيع ، ولن يستقبلني صدر أمي كما كان . عزائي الوحيد أنني سأجد البطاح والسفوح في مكانها . البطاح التي شهدت مئات الأ حداث ، وتخبىء في أخاديدها مئات القصص.
لوسي ؟ أين أنت؟ كم الساعة الآن . أنا لم آكل شيئا هذا اليوم يا لوسي ، ولم أكتب شيئا . أكان على محمود التعس أن يموت هذا اليوم ؟
يجب أن أتصل بك ثانية يا لوسي . سأفتح اذني . آه ، أنت لست موجودة .
آه يا لوسي . ربما أصبحت شريرا ، إذ ليس من المعقول أن لا تترك الأحداث التي مررت بها خلال أربعين عاما أية آثار سلبية على نفسيتي ، فهي أحداث مهولة يا لوسي ، عشت فيها عشرات المجازر ، وشاهدت مئات الجثث ، ولا أظن أنني قادر على التأثر لموت قط حتى لو لم أكن أكرهه . مع أنني كنت أحب القطط أيضا يا لوسي ، أجل كنت أحبها كثيرا في صغري ، لكن نحن لم نكن نقتني القطط والكلاب كي نلهو معها ، وتؤانسنا في حياتنا ، لا لا يا لوسي ، فحياتنا مليئة بالشقاء وليس فيها هذا المتسع للهو والمؤانسة ، كنا نقتني القطط لتصطاد الفئران ، لا لتهرب منها مثل قططك ! وكذلك لاصطياد الأفاعي ، والكلاب لتحرس القطعان والبيوت من اللصوص والذئاب ، ولم نكن نطعمها إلا الخبز الحاف ، ولم تذق اللحم يوما ، فما بالك بالفليه التي تطعمينها لقططك ؟ وإذا ما قدمنا لها بعض العظام مرة أو مرتين في العام فإن ذلك اليوم يكون عيدا عندها . ربما لذلك كانت القطط تنشط في قتل الفئران والأفاعي كي تأكل اللحم الذي حرمت منه. أما الكلاب البائسة ، فلم يكن أمامها غير فطائس الحمير والبغال والأغنام . أجل يا لوسي ، ومع ذلك فإن قططنا كانت تؤدي واجباتها على اكمل وجه ، أذكر أنه كان لدينا قط يصرع اكبر أفعى . ولا أظن أنني سأشاهد قطا أشجع منه . وذات يوم أجدبت الدنيا يا لوسي فارتحلنا بالقطيع إلى شمال القدس . لم نجد القط عند رحيلنا فبقي في العزبة .
عدنا بعد مضي ثلاثة أشهر . استقبلنا القط من فوق جدار العزبة وراح يموء مرحبا بعودتنا .
وفي مرة أخرى ارتحلنا بالأغنام إلى الضفة الشرقية ، اصطحبنا القط معنا هذه المرة ، غير أننا أضعناه عند عودتنا ، فقدت الأمل في عودته لوجود نهر وبحر يفصلان بيننا وبينه . ورحت أسأل أبي عما إذا كان القط قادرا على اجتياز البحر أو النهر ، فأكد لي أنه يجيد السباحة ويمكن له أن يجتاز النهر ، واستبعد أن يجتاز البحر . ثم إنه قد يهتدي إلى جسر على النهر ويعبره سيرا . وفي الوقت الذي كنت فيه فاقدا الأمل بعودته جاء يا لوسي . كنت أداعب حملا في مهجع الأغنام ، حين سمعت مواء خلفي ، التفت فإذا به يقف على الجدار . هتفت فرحا ( بسبوس ) وهرعت إليه . مددت يدي وأنزلته عن الجدار ، ورحت أحتضنه وأملس على رأسه وظهره ، كان فرحي بقدومه عظيما يا لوسي .
ومنذ بضعة أعوام يا لوسي ، عشقتني قطة دمشقية ، كان يقتنيها بواب البناء الذي أسكنه . شاهدتها صدفة فيما كنت جالسا على مدخل البناء مع اللجنة المكلفة
بشؤون البناء . كانت قطة جميلة جدا ، سوداء وموشاة بالبياض عند صدرها .
جاءت إلي ما أن ناديتها . رحت أداعبها بكل نعومة وحنان ، استرخت في حضني
وهي تستسلم للمسات أصابعي التي كانت تحك تحت أذنيها وأسفل فكيها وعنقها .
وحين فرغت من اجتماع اللجنة أصرت القطة على أن تتبعني . تبعتني حتى الطابق الثالث حيث أقيم ، لم أكن راغبا في أن أدخلها البيت . اضطررت إلى مداعبتها أمام الباب . ألقيتها على ظهرها ورحت اداعب وأحك معظم أنحاء جسدها . استسلمت وارتخت حتى شعرت أنها داخت من المتعة.
نهضت ودخلت بسرعة طالبا إليها أن تبقى في الخارج ، وأقفلت الباب . وظلت تموء قرابة ساعة ، ثم انصرفت .
في الصباح وجدتها تنتظر نزولي من البناء . تبعتني . هتفت لها ( ولك يا كلبه وين بدك لاحقتيني ) ؟ لم تذعن لي ، راحت تعدو من تحت السيارات الواقفة على جانبي الشارع لتلحق بي . وحين رأتني أستقل سيارة توقفت ، وظلت ترقب ابتعاد السيارة . طال عشقنا يا لوسي لأشهر ، لم يعد في استطاعتي دخول بيتي إلا بعد مداعبة القطة ، لا أعرف كيف كانت تترصد قدومي ، كانت تظهر لي فجأة . وراح الأطفال يتندرون بالصداقة القائمة بيننا ، بل وهناك من اعتبرها عشقا ، والحق أنني كنت حين أزجر القطة بعد فروغي من مداعبتها وإصرارها على الدخول معي إلى المنزل ، أخاطبها قائلا:
(بدك تفوتي معي جوا ؟ ولك يا كلبه بدك تفظحينا ، ما بكفي إنهم بيقولو إني عشقانك ؟(
وكانت تموء متوسلة ، غير أني كنت أغلق الباب في وجهها .
وجاء يوم لم أر فيه القطة . تجاهلت الأمر . ومر يوم ثان ، ثم ثالث ، كانت حامل ، ربما ولدت . سألت البواب عنها ، فقال أن سيارة دهستها !
اللعنة يا لوسي . حزنت عليها كثيرأ .
أرأيت يا لوسي ؟ كنت أحب الحيوانات أنا الآخر ، لكني ، ربما تغيرت ،لا لا أظن انني تغيرت ، لا تغيرت ، لماذا عاملتك بهذه القسوة إذن إذا لم أتغير ؟ لا أعرف يا لوسي ، صدقي أن الحيوانات ما أن تراني حتى تحبني ، منذ بضعة أشهر ، تحديت صديقي الروائي ( حيدر حيدر ) ، وقلت له أنني سأذهب إلى بيته وأصطحب كلبه معي ! قال لي سيأكلك ! قلت سترى ! وإذا ما جئت يا لوسي سأ روي لك كيف أكلت الكلب بدلا من أن يأكلني ! مع أنه كلب من النوع الذئبي المرعب .

***********
كنت وزوجتي نتنزه على شاطىء طرطوس ، وكان حيدر يقيم في كوخ بالقرب من الشاطىء. قلت لبيرجت ، لنذهب لزيارة حيدر ونعلمه أننا هنا.
سرنا إلى جانب الشاطىء لعلنا نرى حيدر في البحر يصطاد سمكا كعادته. لم نره . سالنا صيادا كان يخيط شبكته إلى جانب البحر. أخبرنا أن حيدر خرج من البحر وهو الآن في المتنزه القريب. ذهبنا إلى المنتزه ، كان حيدر يجلس مع بعض أصدقائه ، وكان المنتزه يعج بالمتنزهين. ما أن صافحنا حيدر وضيوفه حتى سألت عن الكلب . قال حيدر أنه يحرس الكوخ . قلت سأذهب لأحضره . قال: سيأكلك !
قلت لست ممن تأكلهم الكلاب ، وسترى . وحين انصرفت راحت زوجتي تصرخ بعربية مشوبة بلكنة أوروبية ( محمود لا تجن ) لم اذعن لها ، وخرجت من المنتزه ميمما وجهي شطر كوخ حيدر ، سالكا طريقا شجرية .
لم أر الكلب من قبل إلا مرة واحدة ، قبل أكثر من عام ، حين زرنا حيدر ليلا مع بعض الأصدقاء . ولا أظن أن الكلب تنبه لي ليتذكرني . ولا أعرف على ماذا اعتمدت حتى بت مقتنعا أنني سأتمكن من إحضاره . أظن أنها واحدة من الحماقات التي ارتكبتها في حياتي . ماذا سأفعل ؟ كيف سأحضر الكلب ؟ في البلدة كنت أحمل معي بعض الخبز لكلاب الفلاحين ، وما أن تهرع الكلاب نحوي حتى أشرع في إلقامها الخبز . لكن ماذا سألقم كلب حيدر وأنا لا أحمل شيئا ، ولا أظن أن الخبز سيجدي معه لو توفر .
لم أكن خائفا على الإطلاق ، وحتى حينه لا أعرف لماذا كنت واثقا من قدرتي على تطبيق الكلب ، دون أن أعرف كنه هذه القدرة . ولا أعرف كيف وجدت نفسي أنادي من بين الأشجار بصوت عال ( فيدل فيدل فيدل ) وهذا اسم الكلب .
لم أكن قد رأيت الكوخ بعد ، وبالتأكيد لم يكن الكلب قد عرف بقدومي قبل المناداه .
هو بالتأكيد سمعني الآن ويصيخ السمع لمنادتي ، كلما اقتربت من الكوخ بخطوات متئدة .
شاهدت أعلى الكوخ يطل من بين الأشجار. أبطأت من سيري وأنا أنادي الكلب .
غير أنني لم اسمع أي نباح ولم ار الكلب أبدا. عجيب! ماذا أفعل ، أنا لا أريد الكوخ ،فلماذا أتقدم أكثر ؟ وبالتأكيد سمعني الكلب وربما تجاهلني .
أصبح قرابة نصف جدار الكوخ في مواجهتي . توقفت ورحت أنادي الكلب دون أن أتحرك . كان الكوخ يبعد عني قرابة أربعين مترا على الأكثر.
رحت أنظر تحت الأشجار لعلي أرى الكلب . لم أر شيئا . رحت أعيد النظر وأدقق تحت الأغصان الممددة فوق الأرض . شاهدت رأس الكلب ، كان يكمن بين الأغصان ملقيا رأسه على أماميتيه ويحدق نحوي بكل حدة بصره . لم أتوان على الإطلاق ، فما أن التقت عيوننا حتى هتفت بفرح شديد وأنا اوميء بيدي ( لك فيدل تع ! ) غير أن الكلب لم يحرك ساكنا ، ولم ينبس بأي صوت . كررت النداء والإيماء !دون جدوى . لا شك أن الكلب متوجس مني . خاطبته بندم ( ايه ! ما بدك ؟ باي ، أنا راجع لعند حيدر . خليك هون (واستدرت وقفلت عائدا . سرت قرابة ثلاث خطوات والتفت لأنادي الكلب ثانية . لكن دون جدوى أيضا !
سرت خطوتين أخريين والتفت لأناديه ثالثة . وما أن ناديته بنفاد صبر مؤكدا له أنني لن أصحبه إذا لم يأت حالا ، حتى فز وانطلق نحوي كالسهم ، استدرت بكامل
جسدي وثبت قدمي في الأرض وأشرعت صدري له فاتحا يدي على وسعهما .
وثب نحوي من مسافة تقارب الأمتار الثلاثه ، لتطوق أماميتيه كتفي فيما خلفيتيه تنشبان بحزامي ، الكلب وكأنه مصارع متمرس أي حركة تضمر سوءا مني ستجعل رأسي أو عنقي بين فكيه ! راح يتشمم وجهي يمينا ويسارا وكأنه سيقبل خدي فيما يداي تملسان على رأسه بكل حنو وأنا اميل برأسي أيضا لأعطيه خدي الآخر ! استمر الوضع قرابة دقيقة ، لا أعرف فيما إذا شم رائحة حيدر تنبعث مني ، أو أنه اطمأن لي . نزل عني وراح يتشمم الأرض وما لبث أن سلك الطريق الذي سلكه حيدر كما يبدو ، وهو الطريق الذي جئت منه . وحينها جزم أكثر أنني ساصحبه إلى صاحبه ، هكذا بدالي حين راح يذرع الأرض مرحا أمامي ويعود نحوي مبديا فرحة هائلة ! وما أن انهى استقباله لي حتى راح يعدو أمامي في الطريق الترابي متتبعا رائحة خطو حيدر .
حتى حينه يا لوسي لم أكن أعرف أن الكلب يستطيع أن يميز رائحة خطو صاحبه حتى لو خالطها آلاف الخطوات ، وكنت من حماقتي وأنا فدائي في الأرض المحتلة أرد الآبار ليلا وأدور حول البئر عدة دورات ليختلط وقع أقدامي بأقدام الناس فلا تستطيع كلاب الأثر متابعة ملاحقتي . ليتبين لي الآن وأنا أتبع كلب حيدر أنني كنت جاهلا تماما ، فقد سبقني الكلب إلى المنتزه ودخل إليه وذهب في خط شبه مستقيم إلى مائدة حيدر ، رغم وجود متنزهين على جميع موائد المنتزه .أية قدرة رائحية هذه التي عند الكلب ، ثم هل تترك الخطوات في الصيف رائحة ما ؟ وكيف يستطيع الكلب تمييزها من مئات الروائح الخطواتية ؟
كان حيدر وضيوفه وزوجتي يحدقون إلي غير مصدقين ، فيما أنا أقف ضاحكا مزهوا بنصري ،رافعا يدي مشهرا ابهامي الأيمن دون باقي أصابعي . هاتفا لحيدر ( آه كيف أنا وياك ؟) وما لبث حيدر أن هتف ( يلعن أبوك راعي إبن راعي ( !!
أخذت طبقا من اللحم المشوي ورحت أطعم ضيفي فيدل !
آه يا لوسي آه ! يبدو أنك لن تأتي فعلا ، إنها السابعة مساء ، وكم بودي أن أتخلص من أفكاري الحمقاء وأنسى قطك ، بل وأنساك ايضا ، ولأكن شريرا ، ولأكن مجرما ، فلست الشرير أو المجرم الوحيد في هذا العالم المليء بالأشرار ، بدءا بي إذا شئت ، مرورا بالملايين ، وانتهاء بمغتصبي وطني وكل أصحاب السيادة ! لم يبق أحد كما ترين ، فالجميع أشرار . العالم كله أشرار يا لوسي ، ومصيبة إنسان مثلك أنه قيض له أن يعيش في هذا العالم ، وفي هذا العصر البذيء بالذات !
سأتصل بك للمرة الأخيرة يا لوسي. وإذا لم أجدك لن أتصل ابدا ، سأشمع أذني تماما وأبتلع كمية من الحبوب المنومة ، وأطرح نفسي في السرير إلى صباح الغد .
فتحت أذني . وفيما كنت أدير القرص ، قرع جرس الباب . أقفلت الهاتف ونهضت متناسيا كل متاعبي وآلامي . فتحت الباب . كانت لوسيان بشحمها ولحمها . هتفت ( لوسي ) لم تتكلم . زمت شفتيها بحركة اشمئزازية ونظرت خلفها قائلة ( معي هاريش ) وهذا صحفي هندي ، وهو صديق مشترك لنا ( أهلا تفضلا) دخلا . صافحت هاريش . مرحبا به بالإنكليزية . جلسا .
***********
لم استطع إخفاء ما كان يعتمل في نفسي طوال النهار . نظرت نحو لوسيان وهتفت:
< لو لم تات لجننت !>
قالت : < أف هل أنت منزعج من أجل محمود ؟ >
قلت : < لا أظن ، لكن أشعر أنني قسوت عليك كثيرا. أنا آسف جدا لما بدر مني . ماذا فعلت ؟ >؟
< اتصلت بهاريش وجاء . ذهبنا معا ودفناه >
< أين ؟ في مقبره ؟>
< لا لا ، لم يسمحوا لنا أن ندفنه في مقبرة > !
< لماذا > ؟
< لأنه قط >!
< أين إذن دفنتماه ؟>
< في صيدنايا >
< أف في صيدنايا ؟ ألم تجدا مكانا في دمشق ؟>
< لا لم نجد >
< في جبل قاسيون مثلا ، أو في وادي بردى ، أو في الغوطة >
< لا لا لم يخطر ببالي غير صيدنايا ، ربما لأنها بلدة مسيحية >
< لكن القط ليس مسيحيا > !!!!!
< في الحقيقة احترت ، القط يحمل اسما اسلاميا ، وأنا مسيحية ، فاقترح هاريش أن نحرقه على الطريقة الهندوسية ! فصرخت لا لا ، هذا غير ممكن ! >
< لو كنت مكانك لقبلت ، ففي هذه الحال تحتفظين برفاته أو تنثرينه في نهر بردى >!
< لا لا ! أنت مجنون ! >
< لا لست مجنونا ! فالقط يحمل اسمي ، وأرى أن الطريقة تليق بي >
< لا لا ، لا أحتمل أن أراه يحترق أمام عيني ، ولا أحتمل أن احتفظ برفاته في بيتي .<
< تنثرينه في النهر إذن >
< لا لا ، ثم إن نهر بردى غير مقدس >
< أوهو ! نقدسه طالما أن رفات محمود سيذر فيه ! >
< لا لا ! لاأستطيع ، ثم إننا دفناه وانتهى الأمر .>
< على أي طريقة دفنتماه ؟ <
< رسمت على قبره شارة الصليب>
< الصليب ؟! >
< ماذا أفعل ؟ >
< أكان من الضروري أن تدفنيه على دين ما > ؟
< في الحقيقة لم أعرف ، ولم يسبق لي أن دفنت قطا أو غير ذلك >
< طيب ، كيف دفنتماه ؟ هل حفرتما له قبرا ؟ >
< طبعا ، لكن الأرض كانت قاسية ، وأنا لم أحضر معي سوى ملعقة ! انكسرت على الفور ! >
< ملعقة يا لوسي ؟ تحفرين قبرا بملعقة ؟ >
< كنت أظن أن الأرض لينه >
< ماذا فعلتما بعد أن انكسرت الملعقة ؟>
< أحضر هاريش من سيارته أداة حديدية حادة ، وحفر بها القبر >
< حفر قبرا عميقا وواسعا ؟ >
< لا ليس كثيرا >
ولم أجرؤ أن أقول لها أن الثعالب ستنبش القبر وتفترس محمود . سألتها :
< وبماذا كفنتما المرحوم ؟ >
< بقميص أبيض ، ووضعنا البلوفر فوقه >
< البلوفر ؟ كنزتك الصوفية الجميلة ؟ >
< نعم وأهلنا التراب عليه ، وأقمنا فوقه رجما صغيرا من الحجارة >
< وكم استغرقت العملية ؟ >
< كثيرا ، ذهبنا منذ الصباح ، ولم نعد إلا الآن ، تناولنا طعام الغداء هناك >
< هززت رأسي فيما ابتسامة لا تخلو من سخرية ترتسم على شفتي ، ويبدو أن لوسيان لمست السخرية في ابتسامتي وهزة رأسي . >
تساءلت:
< لماذا تضحك ؟>
قلت:
< أتساءل من منا المجنون ، أنا أم أنت ؟>
ويا ليتني لم أتفوه بهذه الكلمات . فقد غضبت لوسي ، وأنا لا أريد لها أن تغضب ، وراحت تتحدث بلهجة غلب عليها الإنفعال :
< مجنونة ؟! أنت قاس ! قاس جدا ! ولا تعرف أهمية محمود وزميله فرنسيس عندي . لا تعرف ولن تعرف ! عندما مرضت ، بقيت يومين طريحة الفراش ، لم اكن قادرة على النهوض ، ولا يوجد من يقدم لي شيئا . ولم يكن عندي هاتف في البيت . لم يحضر إلي أحد . ولم يسأل عني أحد . ولا اظن أن أحدا فكر في ، أو سأل نفسه ماذا جرى لي ، لا من الأصدقاء ولا من الصديقات . كلكم هكذا . لا تتعرفون على الإنسان إلا وهو قوي ويسير على قدميه ، وعندما تحتاجون إليه . أما عندما يحتاج إلى أحد ، فإنه لا يجد . فرنسيس ومحمود ظلا إلى جانبي ولم يفارقاني ، مع أنهما اعتادا التجوال كثيرا خارج البيت . ظلا إلى جانبي على السرير ، يموءان حزنا عندما أتألم ، ويمرحان معي عندما تخف موجات الألم . يقبلان عنقي ، ويعضان أصابع يدي مداعبة ، وعند النوم ينامان إلى جانبي . لم يبتعدا عني للحظة .ونفدت لحمتهما ولم يسألاني عن الطعام . وفي اليوم الثاني شاهدا حالي تسوء كثيرا ، خرجا من النافذة وراحا يموءان ويصرخان أمام باب البيت من الخارج ، كنت أستمع إلى موائهما من الداخل . ظلا يموءان ويخرمشان على الباب لأكثر من نصف ساعة .
أدرك الجيران أن في الأمر شيئا فهرعوا وخلعوا الباب ، وجدوني في حال سيئة ، فسارعوا إلى إحضار الطبيب .
عندما مرض محمود في الفترة الأخيرة ، أهملته قليلا ، وكان يجب أن آخذ إذنا من عملي لأعتني به أكثر . لم أدرك أنه مريض جدا إلا بعد ان قال الطبيب أنه لم يعد ثمة أمل في شفائه . كم لمت نفسي ، فلو اهتممت به منذ البداية لما مات . توقفت عن العمل لأظل إلى جانبه لعله يشفى . كان يتألم بشدة . عرفت ذلك من موائه والألم الذي كان باديا على وجهه . كم كان حزينا يا حرام . لم يكن يأكل أو يشرب ، وأنا أتوسل إليه دون فائدة ترجى . أحضرت له حليبا وعصيرا طازجا . بالكاد حتى كان يبل ريقه . أحيانا كان يزحف من مكانه بضعة أقدام فأستبشر خيرا .
صباح اليوم ، كنت جالسة إلى جانبه وأملس على رأسه وظهره ، وفجأة تنشط وبدأ يزحف ، لا أعرف ماذا كان ينوي أن يفعل وإلى أين سيذهب ، كي أحمله إلى المكان الذي يريد. تركته يزحف وأنا أحبو إلى جانبه . خرج من غرفة النوم إلى الصالون . أدركت أنه ربما يريد الذهاب إلى التواليت . حملته ، فأخذ يموء بعصبية وألم . وما أن أعدته إلى الأرض حتى توقف عن المواء وتابع زحفه . ظللت أحبو إلى جانبه وأشجعه . عبر الصالون واتجه نحو التواليت . ظل يزحف إلى أن وصل . فتحت له الباب . دخل حبوا . نظر إلي وماء عدة مرات . أحسست انه خجل مني ، ولا يريد ان يتبول أمامي . أغلقت الباب عليه وعدت أنتظره في الصالون إلى أن يموء لي كي أفتح له .
انتظرته قرابة عشر دقائق . لم اسمع صوته. قلت لعله لم يقدر على المواء أو لم ينته بعد. نهضت لأطمئن عليه . هتفت له من خلف الباب < محمود ، محمودتي > لم يمؤ ، وحين فتحت الباب وجدته مضطجعا على جنبه ، دون ان تبدو منه أية حركة . تنبهت للبول على مقربة منه . انحنيت عليه وأنا أهتف < محمود ،محمود ، محمودتي > لم يتحرك فيه شيء. تحسست جسده . أدركت أنه ميت. حملته إلى الصالون ، أجلسته في حضني ورحت أبكي >
وراحت لوسيان تبكي فيما هاريش صامت ، ولم أتنبه لنفسي أنا الآخر إلا وأنا أبكي .. لا أعرف ما إذا كنت أبكي القط ، أم أبكي لوسيان ، أم أبكي نفسي ، أم أبكي الحياة برمتها ...
كانون أول 1986
آذار 1988
**********







( 9)
أم محمود أم الشهداء!


حصار. حصار.. حصار..
ثلاثة أشهر من الحصار المميت ، وأم محمود تتقلب في مخيم الدهيشة على نار . نار حقيقية . ف عقبة وابنه وزوجته محاصرون هناك مع المحاصرين في مخيمات لبنان . لم تعد قادرة على النوم ، حتى أن جفنيها استحالا على الإغلاق .
من أين سيأتيها النوم ؟ وكيف يأتيها "قال نام لاذبحك ، قال شيء يطير النعاس من العينين " وتسمع أن المحاصرين أكلوا لحم الحمير والبغال والقطط والجرذان ،
وشربوا البول والماء الآسن . عشرات الأطفال ومئات الرجال والنساء ماتوا جوعا أو قنصا . البيوت تهدمت والناس يتكدسون في الملاجىء دون نور
دون هواء / دون ماء ، دون أي شيء على الإطلاق ! يا ربي !وتلطم أم محمود صفحتي رأسها براحتي يديها ، ثم تزم قبضتيها وتدق صدرها ، وصورة عقبة وزوجته وابنه لا تفارق مخيلتها .
يمه يا حبيبي يا نور عيني يا فلذة كبدي يا حشيشة قلبي ، يا مقلتي يا مهجتي يا بسمتي ، أنا أجوع عنكم يمه ، أنا أحفى انا أعرى ، أنا أبرد ، أنا أموت عنكم يمه ، بس الله ما يحرمني من شوفة عيونك وعيون ابنك ورفاقك ، يمه أنا اللقمة ما عادت تنزل روحي يا حبيبي ، وكيف تنزل يمه وانتوا بالجوع والعطش وتحت القصف ، ألله يقف معكم ويحرسكم ويحميكم وينصركم ويكسر عدوينكم يمه ، الله يخلي ليلهم ليل ونهارهم ليل يمه "

وتطول أيام الحصار . تطول ليطول معها عذاب أم محمود ، ويعجز العالم كله عن إدخال مؤونة ومساعدات إلى المحاصرين . تفقد أم محمود كل مقدرتها وجبروتها على الإحتمال ، فتقرر الذهاب إلى لبنان مصطحبة صفيحتي زيت وزيتون ، وعلبتي حليب وبضعة ارطال من الطحين.

أيقظت ابنتها قبيل الفجر، وخا طبتها بلهجة حاسمة:
خلص يا بنتي ما قادر أصبر ، لازم اروح ، إما أحيا معهم وإما أموت معهم " "
هبت فاطمة على غير هدى :
يا ويلي يا حسرتي كم مرة قطعت هذا الطريق من الدهيشة إلى مخيمات الشتات "> غير أن أم محمود لم تجادل ونهضت من فورها قاصدة بيت المختار ليخرج لها تصريح زيارة.
قبلت فاطمة واولادها عشرات القبل ، وراحت توصيها قبل أن تسلم نفسها لسيارة الأجرة التي ستقلها إلى الجسر:
"يمه يا حبيبتي الدنيا فيها حياة وموت ، ديري بالك على اولادك ، مش كل ما أجت دورية لليهود عالمخيم يطلعولها بلحجار ، الكف ما بيلاطم مخرز يمه ، الأولاد بيرجموا اليهود بلحجار واليهود برموهم بالرصاص ! الله يكسرهم ويهد حيلهم ، ويضيق الدنيا في وجوههم ، يكفي راح فيها جهاد يا بنتي ، بلاش يروح نصر وسرحان . برا وبعيد الموت لعدوينهم إن شاالله "
أسلمت أم محمود جسدها إلى السيارة . انطرحت في المقعد الخلفي وشردت ، شردت ، شردت:
"ألله يرحمك يا بو محمود ويجمعني معك في الجنة ! ألله ما ينسيني اليوم إلي أجو فيه بجثتك محمولة على الكفوف بعد معركة القسطل عام ثمانية واربعين ، قالوا لي إنك استشهدت جنب القائد عبد القادر الحسيني ، اعتزيت فيك يا بو محمود ، ورفعت راسي وزغردت ، مثل ما رفعت راسك لما استشهد أبوك عام ستة وثلاثين . شمخت يا بو محمود شمخت ، وأقسمت أمام جسدك بأن يسير الأولاد على دربك لما تتحرر البلاد .
بعد كم سنة صار محمود رجل مثل الجبل يا بو محمود ، اندلعت الثورة في غزة ، أطلعت بارودتك من المخبأ وقلت له :
"يله يا ابني على درب أبوك ، تأخرت كثير ! إن استشهدت ابنك بيكمل طريقك ، الله يحرسك ويوقف معك"
وبوسته وودعته ، وراح يا بو محمود . راح . غاب غاب وما رجع . سنة سنتين وما رجع ، صارت حرب الستة وخمسين وخلصت الحرب وما رجع ، وانسحب اليهود من غزة وما رجع ، قلت راح فيها يا بو محمود ، وبتعرف قلب الأم يا بو محمود ،
قلت اروح أدور عليه ، سافرت لمصر ومن مصر لغزة يا بو محمود ، شو بدي أحكيلك لحكيلك يا بو محمود ، دورت ، سألت ، استفسرت ، دلوني على شاب كان رفيقه ، رحب فيه وصار يبكي يا بو محمود ، قلت له :
"لا تبك يا بني ألله يرضى عليك ، أنا حاسة أنه محمود بسلامته استشهد بس بدي أطمئن يا ابني ، إن كان محمود رجل ، إن كان بطل ، إن كان جبل مثل الجبل يا ابني ، ولا كان نذل وطى راس أمه "
ومد الشاب إيده إليه وصرخ فيه :
"كان محمود أسد ابن أسد ، بزنده يشيل جمل ، وبصدره ينطح بلد ، ابسمته يطل الفجر ، ابضحكته يزخ الفرح ، وبخطوته يهز الأرض ، بجلسته يحل الأنس ، بغيبته يعم الحزن وبطلته يقبل مدد يقبل مدد"
وزغردت يا بو محمود ، وزغردت يا بو محمود، وزغردت يا بو محمود . قلت للشب وين استشهد يا ابني ؟
أخذني للصحرا يا بو محمود . وقف جنبي وأشار لرجوم كثيرة فيها . قال لي
- شايفة هذي الرجوم يا خالتي
قلت:
. - شايفها يا بني
- هذي كلها قبور دفن فيها اليهود آلاف الشباب !
: وسكتت يا بو محمود وراح الشاب يحكي
"كان اليهود يجمعوا كل يوم مئات الشباب ، ويوخذوهم إلى أماكن مجهولة يا خالتي ، وفي يوم واحد أخذوا ألف وثمانمية شاب ، كان محمود بينهم ، محمود ما يستسلم ، لكنه كان مصاب بجروح خطيرة ، أخذوه من البيت إلي وجدوه فيه ، ومرت شهور وما عاد حدا من الشباب ، وما عاد حدا من إلي اخذوهم قبلهم وبعدهم . وبعد انسحاب اليهود من القطاع ، عثر أحد الناس على ساق اصطناعية تبرز من رمال الصحراء . كانت مياه الأمطار قد أزاحت الرمل عنها . كان صاحب هذه الساق واحد من الألف وثمانمية يا خالتي . هرع الناس وحفروا ، لقيوا مئات الجثث ، وراحوا يبحثون إلى أن عثروا على كافة القبور الجماعية المطمورة على آلاف الجثث المتآكلة . بنوا عليها هذه الرجوم وتركوها . في هذه الصحراء يرقد آلاف الشهداء يا خالتي ، وابنك محمود من بينهم"
آه يا بو محمود ! بتعرف قلب الأم يا بو محمود ، ما اعرفت إلا أبكي . قلت للشب خذني لواحد من هالرجوم يا بني . أخذني يا بو محمود . ذرفت عليه دمعتين . وزرعت جنبه شتلة برية ، وسقيته مي ، وحطيت عليه مصحف صغير . ورحت .. ورجعت يا بو محمود .. رجعت عالضفة يا بو محمود .
. أه يا بو محمود ، شو بدي أحكيلك لحكيلك يا بو محمود ، لو تعرف كديش أم محمود تعبت وشقيت وعانت بعدك يا بو محمود ، لو تعرف كديش كان الثمن غالي ، كديش كان الثأر .. كديش كان الوطن يا بو محمود ..
تنبهت أم محمود إلى صوت السائق ينبهها إلى انهم وصلوا الجسر . ألقى جنود الإحتلال نظرات متفحصة على صفيحتي الزيت والزيتون وعلبتي الحليب . مر كل شيء بسلام . استقلت أم محمود سيارة أخرى إلى عمان . القت نفسها في المقعد وشردت ، شردت كما في السابق :
: ايه يا بو محمود. لما رجعت ، قلت لأحمد تعال ! أجا يا بو محمود . قال لي
عارف شو بدك تقولي لي يمه . قلت له :
"طيب يمه ألله يرضى عليك وينصرك ، دبر لحالك بارودة ، واتبع درب أبوك وأخوك
" إن استشهدت ، ابنك بيكمل طريقك
وراح يا بو محمود . غاب غاب غاب ورجع .
ورد غاب غاب غاب ورجع . ورد غاب غاب غاب وما رجع يا بو محمود . رحت دورت سألت ، بحثت . اتقصيت . إعرفت إنه واحد من إلي أسسوا الثورة الجديدة يا بو محمود ، وعرفت يا بو محمود ، إنه أول بسمه ، أول شمعة ، أول نقطة دم ، أول دمعة ، أول حصاد ، أول شهيد للثورة يا بو محمود . وزغردت وزغردت وزغردت ورقصت وغنيت ودبكت يا بو محمود . يو على قلبك يا بو محمود ، ليش بتبكي يا بو محمود ، ليش بتبكي يا بو محمود ؟! ابتسم اضحك افرح غني يا بو محمود ، رفاق أحمد بنوا له صرح كبير وخطوا عليه بدم قلوبهم " هذا ضريح البطل الشديد ، هذا ضريح القمر ، هذا ضريح النهر ، هذا ضريح أول شهيد للثورة الفلسطينية المعاصرة"
.. وتنبهت أم محمود إلى السائق والركاب يسألونها " لماذا تبكين يا خالة ، لماذا تبكين "؟
همست ببضع كلمات وهي تمسح دموعها " ما فيه شي يمه مافيه شي سلامتكم"
وصلت السيارة محطة السفر في عمان . أسلمت أم محمود نفسها لأول سيارة واجهتها قاصدة الشام . وما أن انطلقت حتى عادت إلى شرودها
ايه يا بو محمود ، الأيام مرت والسنين مرت والعمر كله مر ، مر حامل الموت المغمس بالدم ، الدم يا بو محمود ، الدم !!
لما رجعت ، جئت لعلي ، قلت له:
روح اتبع درب أبوك واخوتك يمه ، إن استشهدت ابنك بيكمل طريقك ! راح مسرور يا بو محمود . قلت له : روح يا بني الله يسهلها في وجهك ، ويجعل لك في كل طريق رفيق.
.. وراح يا بو محمود . غاب غاب ورجع . وبعدين غاب غاب وصارت حرب السبعة وستين ورجع . وبعدين غاب غاب وصارت معركة الكرامة وما رجع يا بو محمود . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود ، بتعرف قلب الأم يا بومحمود. . قلت لازم أروح . رحت يا بو محمود . رحت للكرامة يا بو محمود .
وبس عرفوا الشباب إني أم رفيقهم علي ، حطوني بعيونهم يا بو محمود ، وأخذوني لعند أبو عمار . قال لي : ارفعي راسك يا أم محمود ! قلت له " راسي بعون الله وعون اولادي مرفوع يا بو عمار " قال : علي كان الشهامة ، كان النخوة والكرامة ، علي كان بطل معركة الكرامة ، بزنده دمر خمس دبابات ، وأعطب ست مصفحات ، ويومن شحت الذخيرة ، عمل من جسمه لغم ، وقفز من فوق رجم ، في برج دبابة"
وزغردت يا بو محمود ، ورقصت يا بو محمود ، ليش بتبكي يا بو محمود ، عيب عليك يا زلمه ، زعلتني منك والله ، أيوه ابتسم ، افرح يا بو محمود ، لأن الحزن ما رايح يخلي للفرح مطرح يا بو محمود ، لأن الحزن ما رايح يخلي للفرح مطرح يا بو محمود.
< لماذا تبكين يا خاله ؟ لماذا تبكين ؟ >
< ما فيه شي يا خاله ما فيه شي>
< إلى أين تذهبين يا خاله ؟ >
< إلى بيروت يا خالتي >
< لك أقارب في بيروت ؟>
< ابني يا خالتي >
< ألله يخلي لك إياه . شو بشتغل ؟>
< فدائي مع الثورة يا خالتي >

< آه فدائي يا خالتي >
< لعله مع المحاصرين في المخيمات ؟>
< آه يا خالتي مع المحاصرين >
< الله يكون في عونك يا خالتي >
< وعونك يا ابني >
**********
اجتازت السيارة الحدود الأردنية السورية . انزوت أم محمود إلى جانب النافذة اليسرى في المقعد الخلفي . النافذة التي اعتادت دائما أن تنزوي إلى جانبها في رحلات البحث الطويلة المضنية عن أبنائها . صالبت يديها على صدرها ، وغرقت في شرودها .
أيه يا بو محمود . لما رجعت ، جئت لحسن . قال لي: قديمة يمه ، أنا التحقت بالثورة قبل ما تطلبي مني . لكن إذا استشهدت ، قولي لابني يتبع طريقي . قلت له روح يا بني ، عين الله تحرسك في كل خطوة تمشيها ، روح..
وراح يا بو محمود ، غاب غاب وما رجع . وصار أيلول الأسود وما رجع . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود ، بتعرف قلب الأم يا بو محمود . دورت . سألت . لقيته بطلع مع رفاقه من عمان . الفدائيين في الشاحنات يا بو محمود بيلوحوا ابواريدهم ، والنسوان على جناب الشوارع ، يودعنهم بالزغاريد والدموع . ، ونثر الرز على روسهم يا بو محمود . شفته في شا حنة. شافني يمه على جنب الشارع.
صرخ للشفير يوقف . وقف . نزل يا حبيبي . بوسته وبوسته يا بو محمود . قال
يمه يمه ، انت بدك تمضي عمرك تدوري علينا . إحنا رجال يمه ، ونذرنا حالنا للبلاد. قلت له : قلب الأم ما هو حجر يمه . قال : ما عليك ، سلمي على مرتي وبوسي لي اولادي . وما تنسي الأهل والأحباب وما تظلي تدوري علي ـ أنا بخير يمه.
حسيت بالخوف يا بو محمود لما ما شفت في عيون النسوان إلا الحزن والدموع . قلت له : على وين رايحين يمه ؟ قال لي : على الأحراش! قلت له : قلبي ناخزني وقلب الأم ما بيكذب يا بني . قال : ما تخافي يمه ، الله معنا!
قلت له : في حفظ الله ياولدي . عيوني ترعاك ، والنبي يثبت خطاك ، ونجوم السما ترجم عداك!
ورجعت يا بو محمود . رجعت للضفة يا بو محمود . ونقطعت أخباره يا بو محمود وصارت معارك الأحراش وخباره مقطوعة يا بو محمود . ولي خفت منه صار يا بو محمود . وظلت أخباره مقطوعة يا بو محمود . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود ، بتعرف قلب الأم . رحت أدور يا بو محمود ، كديش بدي أدور لدور يا بو محمود ، وكديش قلبي بده يتحمل يا بو محمود ، هوه قلبي صخر ولا بحر ولا محيط يا بو
محمود ، كديش بده يتحمل يا بو محمود ؟ وتحمل يا بو محمود. كان قلبي صخر كان
بحر كان محيط يا بو محمود ، وتحمل يا بو محمود ، لكن يا ترى بده يتحمل هالمرة ، إذا لا سمح الله رحلت عيون عقبة يا بو محمود ، عيون عقبة ما تفارق عيوني يا بو محمود ، والبسمة إلي كانت دايما تهفهف على ثمه ما تغيب عن بالي يا بو محمود .
رحت لعمان يا بو محمود . دورت ، سألت ، بحثت ، لقيت رفيق إله يا بو محمود . قال لي : حسن كان بطل يا أم محمود ، وظل يدافع عن جثمان القائد أبو علي إياد حتى استشهد جنبه!
وزغردت يا بو محمود . والله زغردت ، لكن بس مرة وحدة يا بو محمود . ما قدرت أزغرد غيرها يا بو محمود . قلت له:
خذني يا بني على الحراش حتى أشم ريحة الأرض إلي استشهد عليها حسن . قال لي على راسي وعيني يا خالتي.
ورحنا يا بو محمود . قادني الشب لبعض الصخور يا بو محمود . قال لي : بين هذه الصخور استشهد حسن وعشرات الفدائيين يا خالتي .
كانت عظام كثيرة وجماجم تتناثر بين الصخور . رحت أحدق فيها يا بو محمود . لمحت ساق حسن يا بو محمود .
كان حسن يحمل ندبا في ساقه من جراء سقوطه عن السقيفة وهو صغير . عرفت الندب يا بو محمود . رفعت عظم الساق وحضنته وبوسته يا بو محمود
يو ليش بتبكي يا بو محمود ؟ حسبي الله على الي كان السبب في حرب الاخوة يا بو محمود.
< وصلنا الشام يا خاله ، الحمد لله على السلامه >
< الله يسلمك يا خالتي >
*****************
لحقت أم محمود آخر سيارة متجهة إلى بيروت . ألقت نفسها في زاويتها المفضلة ، وغرقت في شرودها كما في كل مرة.
"أيه يا بو محمود . رجعت للضفة . جيت لشاهين . قلت له ما قلته لإخوته يا بو محمود . حمل حاله وراح . وغاب غاب غاب ونقطعت أخباره يا بو محمود . صارت حرب رمضان وخباره مقطوعة يا بو محمود . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود . قلت لفاطمة ، لازم أروح أشوف أخوك يمه . رحت يا بو محمود . ليش بتبكي يا بو محمود .؟! تظن أنني وجدته شهيد ؟ لا لم يستشهد شاهين في حرب رمضان يا بو محمود . ابتسم بالله عليك وما تبكي . ول يا زلمه ! قعدت عنده شهر ورجعت يا بو محمود . ونقطعت أخباره مرة ثانية يا بو محمود . وصارت حرب لبنان ، وصار حصار تل الزعتر ، وخباره مقطوعة يا بو محمود . وطلعوا الناس من تل الزعتر بعد حصار دام شهرين ، لكن أخباره ظلت مقطوعة يا بو محمود.
وبتعرف قلب الأم يا بو محمود! ثلاثة آلاف شهيد كانوا ضحايا تل الزعتر يا بو محمود . ست آلاف عين انطفت يا بو محمود ، وست آلاف ايد انقطعت يا بو محمود ، وست آلاف رجل انبترت يا بو محمود . وكل نقطة مي دفع الفلسطينيين ثمنها نقطة دم يا بو محمود . يو يا بو محمود ، قوي قلبك يا بو محمود ، عيب تبكي وانته شهيد شويا بو محمود ؟ . < أم محمود أم محمود أم محمود >
!!قلت لك قوي قلبك يا بو محمود ! < استشهد شاهين يا أم محمود >
وليش بتسأل يا بو محمود ؟ ما هياتني بحكيلك يا بو محمود ، خليك ساكت يا بو محمود!
رحت يا بو محمود . ونا داخله بيروت بالتاكسي . شفت صورة شب على الحيطان . عيونه مثل عيون شاهين . لكن كان إله لحية . شاهين ما كان إله لحيه يا بو محمود .
حسيت إنه بيطلع فيه . ما قدرت أشيل نظراتي عنه . وكل ما عبرت السيارة شارع جديد ، رحت أدور بعيوني على صاحب الصورة الملزقة على الحيطان. .
كنت بدي أقول لشفير التاكسي يوقف وينزلني . لكن قلت أكيد رايحة أشوف صوره مطرح ما بينزلني التاكسي.
وصلنا . نزلت . كانت صور الشاب املية الحيطان يا بو محمود . قربت لصورة منها . بحلقت في عينين الشب ، وبحلق هوه في عينيه . قلت هذا شاهين ! إذا ما كانت هذي صورة شاهين ما أكون أنا أمه إلي رضعته من حليبي ، لكن يا ابني يا حبيبي ليش ملزقين صوره على الحيطان ؟ ومنشان أتأكد يا بو محمود ، وقفت بنت كانت تلبس لبس فدائية وتحمل باروده وتمر من جنبي . سألتها : صورة مين هذي يا بنتي وليش ملزقينها على الحيطان ؟
اندهشت البنت وتطلعت فيه باستغراب وسألتني : ما بتعرفي مين صاحب هاي الصورة يا خاله ؟! قلت لها : حاسة إني بعرفها بس بدي أتأكد . قالت : هذي صورة الشهيد شاهين بطل تل الزعتر!
! آه آه آه يا بو محمود ، آه يا بو محمود
حسيت حالي بدي أسقط ، لكني تمالكت حالي على بين ما زغردت ، وزغرودتي تختنق بالحزن والبكا ، وبعدين وقعت عالأرض يا بو محمود من غير ما أدري . لما صحيت لقيت حالي في المستشفى ، والشباب من حوالي يحملوا صور شاهين.
حكوا لي عن بطولة شاهين . وحكوا لي عن تل الزعتر ما يشيب روس الأطفال يا بو محمود ،
**************
توقفت السيارة لبعض الوقت على الحدود السورية اللبنانية . وما أن تجاوزتها حتى استأنفت أم محمود شرودها:
أيه يا بو محمود . عد معي ! محمود بسلامته استشهد . أحمد ؟ استشهد
! علي ؟ استشهد . حسن ؟ استشهد . شاهين ؟ استشهد . مين ظل ؟ اسحق وعقبة ! أيوه يا بو محمود ، اسحق وعقبه ! رايحة أظل معك حتى أسلمك أمانتك يا بو محمود ! < أم محمود ، لا غير معقول أن يسشتشهد اسحق أيضا غير معقول !>
ألم تكن هذه رغبتك يا بو محمود ، ألم توصيني بأن يسير الأولاد على دربك حتى تتحرر البلاد ؟! هل نسيت يا بو محمود ؟! قوي قلبك ، خليه مثل الصخر ، مثل الحديد ، مثل الفولاذ يا بو محمود.
لما رجعت . قلت لإسحق ما قلته لإخوته يا بو محمود . وراح يا بو محمود . غاب غاب غاب ونقطعت أخباره . صارت حرب الثمانية وسبعين مع اليهود وما أجا شي
من اخباره ، وصارت حرب الثمانين وما أجا شي من اخباره . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود . قلت أروح ادور عليه . رحت . لقيته صار زابط كبير يا بو محمود . يا ابني يا حبيبي . قال لي أنا لن استشهد مثل اخوتي وأبي يا امي ـ أنا سأحقق النصر !>
! يا ابني يا حبيبي ي روح أمك وعينها ، انشا الله يا حبيبي
"طبعا ولم يستشهد فيما بعد يا أم محمود" ؟
يو يا بو محمود ليش بتقاطعني ؟ وليش بتقاطعني يا بو محمود ؟
< كم حرب صارت بعدي يا أم محمود؟ >
" " كثير يا بو محمود

" وما تقاطعني ! ألله يهنيك في الجنة يا بو محمود"
ورجعت للضفة يا بو محمود.
. "وانقطعت أخباره كمان سنتين يا بو محمود . وصارت أكبر حرب مع اليهود في الثنين وثمانين يا بو محمود . وتحاصرت بيروت . ثلث شهور وبيروت تحت الحصار يا بو محمود . الطيارات ترميها من السما ، والبوارج من البحر ، والمدافع من الأرض يا بو محمود . قطعوا المي ، قطعوا النور . سمموا الهوا ، قطعوا الغذا ، منعوا الدوا من الدخول لبيروت يا بو محمود . آه يا بو محمود . عيونا صارت عبيروت ، وقلوبنا صارت مع بيروت ، ودموعنا كل دموعنا صارت لبيروت ، قلت راح فيها الولد السادس يا بو محمود ، وقلت من كل قلبي : فدوى فدوى فدوى ، اسحق فدوى عيونك يا بيروت!
وانخذلنا يا بو محمود ، انخذلنا يا بو محمود ، وطلعوا الفدائية من بيروت مثل ما طلعوا من عمان قبل اطنعشر سنة يا بو محمود . تودعوا بالدموع الحارة والزغاريد وحفنات الرز والرصاص كمان يا بو محمود . حملهم البحر عظهره يا حبة عيني
، او وداهم البحر لبعيد لبعيد لبعيد ، ، نخزني قلبي ، دعيت عالبحر يا بو محمود ! قلت : ربي يجفف ميتك إذا غدرت فيهم!
! < وغدر فيهم يا أم محمود >
" لا يا بو محمود ، البحر ما غدر فيهم ، هم غدروا بحالهم يا بو محمود"
"كيف غدروا بحالهم ؟ ما تعلموا من غدرة الحراش يا أم محمود"
" لأ ما تعلموا يا بو محمود. غدرتهم قياداتهم ، وخذلوهم العرب ، العرب يا بو محمود ! لكن ليش بتقاطعني يا بو محمود ، ليش بتقاطعني يا بو محمود . اسمع اسمع يا بو محمود!
< طيب قولي لي ، اسحق راح معهم ؟ >
لأ يا بو محود ، اسحق مثل أخوته ومثلك ، ما بيعرف إلا النصرأو
الشهادة .
< ألله يرضى عليه وينصره ، أين راح إذن ؟ >
ظل في صبرا وشاتيلا يابو محمود" "
< يعني ما استشهد في الحرب ؟>

لأ يا بو محمود ، ما استشهد في الحرب ، لكن
< لكن ماذا يا أم محمود ؟ >
صارت مجزرة يا بو محمود ، قام فيها اليهود وزلامهم بعد ما خلت المخيمات من المدافعين عنها.
< الجبناء ، الهمج ، الأوغاد !! > انجنيت لما سمعت الخبر يا بو محمود
وبتعرف قلب الأم يا بو محمود !! قلت أروح أتطمن عالولد، أشوف وين صارت أخباره . جيت لبيروت . كم مرة جيت لبيروت يا بو محمود ، وكم مرة بدي أيجي ؟ آه يا بو محمود ، ناس قالوا ، ضحايا المجزرة أربعة آلاف . وناس قالوا لي سبعة .وناس قالوا لي عشرة . أوصال قطعت ، بطون حوامل بقرت . ، عيون فقئت ، قلوب طعنت . أكباد طحنت ، ورؤوس يا بو محمود ، رؤوس بترت ، قوي قلبك يا بو محمود ، قوي قلبك . رحت أسأل عن اسحق يا بو محمود . لقيت كل الناس بيعرفوه يا بو محمود . قالوا لي :
"يا مرحبا بأم البطل يوم عزوا علينا الرجال . اسحق وحده قاد الدفاع عن
المخيمات ، وظل يتلقى الرصاص بصدره ، حتى استشهد يا خاله . صورته محفورة في قلوبنا ، موشومة على زنودنا ، منقوشة في عقول جيالنا ، اسحق كان ابنا ، واستشهد ابنا ، ورايح يظل ابنا ، إبنا "
حاولت أزغرد ، لكني ما قدرت يا بو محمود . خنقني النحيب ، وغبت عن الوعي يا بو محمود . ابك معلش ، البكا يخفف الهم يا بو محمود.
سحبت حالي ورجعت للضفة.
لقيت عقبة واقف بستنا فيه . إطلعت فيه يا بو محمود ، اطلعت فيه يا بو محمود ، وطفرت الدموع من عيني ، ما قدرت أحكي ولا كلمة يا بو محمود . قل لي هوه الموت قدرنا يا بو محمود ؟ ليش ما ترد يا بو محمود ؟ طيب يا بو محمود !!! مسك عقبة ذرعاني بيديه ، وحدق في عيني ، ما قدرت أحكي يا بو محمود ، لا من ثمي ولا من كمي . هزني هزني هزني ، وما قدرت إلا أبكي وأبكي يا بو محمود . سألني : اسحق استشهد؟ ما رديت . صرخ فيه كمان مرة .
. < ردي عليه > ما رديت ! ما قدرت أرد يا بو محمود
صرخ . قال:
< "أنا رايح أستشهد ، خلي ابني لما يكبر يستشهد مثلي ، خليه يدمر ، خليه ينسف ، خليه يحرق ، ما بدي يكون في قلبه ولا مقدار ذرة من الرحمة والشفقة ، خليه ما يوري اليهود إلا الموت ، الدم الأحمر!
ما قلت لك إن الموت صار قدرنا يا بو محمود . كنت بدي أصرخ وأصرخ يا بو محمود
لكن لساني انخرس ، صرت عاجزة عن النطق يا بو محمود.
< وخليتيه يروح يا أم محمود ؟ >
خليته يروح يا بو محمود ، منشان العدا ما يقولوا ، إن محمود هربت من قدرها ، ومنشان ما يقولوا ، إن أم محمود انهزمت وإرادتها تحطمت ، وتراجعت عن قرارها إلي حفرته عظهر قلبها من يوم ما استشهد جوزها ، وخليته يروح منشان أنفذ وصيتك يا بو محمود! !
"تسلمي تسلمي يا أم محمود ، ويظل راسك مرفوع ، وتظل قامتك شامخة شامخة ، لتصير أكبر من كل الدنيا يا أم محمود"
وراح يا بو محمود ، وغاب يابو محمود ، وما سمعت عن اخباره ، وصار الحصار الأول لصبرا وشاتيلا يا بو محمود ، دمروا مخيم صبرا ومسحوه عن الأرض يا بو محمود ، وبتعرف قلب الأم يا بو محمود ، قلب الأم ينزف دم يا بو محمود، ، وقلب الأم يشيل الهم يا بو محمود ، وقلب الأم امتلى غم يا بو محمود ، ، كديش بده يكبر قلب الأم تايكبر يا بو محمود ، وكديش بده يحمل هم ليحمل يا بو محمود..
كنت بدي أروح لولا إنه أجاني منه خبر ، يسلم علي ويبوس ايدي ، ويذكرني بالأمانه إنه بده إياها من المي للمي ، وطلب إلي ولح علي ، إني أودي له ابنه وزوجته يا بو محمود.
< الحمد لله الحمد لله ، ما استشهد يا أم محمود >
لا في الحصار الأول ما استشهد يا بو محمود ، وفي الحصار الثاني ما استشهد يا بو محمود ، والحصار الثالث طالت ايامه يا بو محمود . خمس شهور يا بو محمود ، إن شاء الله إنه ما استشهد فيهن يا بو محمود . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود .. قلت روحي شوفي يا أم محمود ، وهييتني رايحة يا بو محمود.
< وما بتعرفي شو صار له يا أم محمود ؟ >
إمنين بدي أعرف وكيف بدي أعرف يا بو محمود ، وكل مرة بيكون همي بشب ، المرة همي بعيلة يا بو محمود.
< آه يا أم محمود ، كرمى لله يا أم محمود ، إذا لا سمح الله استشهد عقبة ولا مرته ولا ابنه ما تخبريني يا أم محمود ، ما عاد عندي قلب يتحمل يا أم محمود ، وخايف إذا خبرتيني أستشهد كمان مرة يا أم محمود!
باطل يا بو محمود ، مخيم صبرا بحاله ، بنسوانه ورجاله ، بأطفاله وعياله ، استشهد مرتين يا بو محمود ، ومخيم شاتيلا هيه بيستشهد للمرة الثانية ، وانته أبو الشهداء ما فيك تستشهد إلا مرة وحدة يا بو محمود؟!! وين النشاما يا بو محمود ؟
********* ***********
< يا خاله ؟ انت يا خاله ! ألن تتوقفي عن البكاء والشرود ؟ ما بك ؟ >
" ما فيه شي يا خالتي ما فيه شي "
- إلى أين تذهبين ؟
إلى بيروت يا بني -
- أعرف إلى بيروت إلى أين ؟
إلى مخيم شاتيلا يا بني-
- المخيمات محاصرة يا خاله ، عصفور ما فيه يدخل عليها . والمساعدات التي جاءت من الضفة ومن كافة أنحاء العالم ما تزال عند الصليب الأحمر ، ولم يسمحوا لها بالدخول.
أعرف يا بني -
إذا تعرفين كيف ستدخلين إليه ؟
يا بني أنا امرأة مسنة شو بدهم فيه ؟
! - يا خاله هؤلاء لا يرحمون أحدا هنا ، والدنيا ليل ، والقصف قد ينهمر في أية لحظة لو تبقين في عاليه حتى الصباح ، فقد تجدين منفذا للدخول.
. - ما بعرف حدا في عاليه يا بني
- ولا واحد ؟
ولا واحد يا ابني -
صمت السائق للحظات ثم تساءل -
- أنت من اين قادمة يا خاله ؟
. من الضفة الغربية يا بني -
- ومن لك في المخيم ؟
. ابني يا بني ، ابني وزوجته وابنه -
-ابنك مع الفدائية ؟
صمتت أم محمود مخافة ان يكون الرجل معاديا أو لا يحب الفدائية. -
أدرك السائق معنى صمتها . هتف:
نا درزي ومع الشيوعية ، وحنا مع الفلسطينيين ، ولحد الآن ايدينا نظيفة من دمهم ، وإن شاء الله تظل نظيفة ونظل رفاق درب.
- إن شاء الله يا بني إن شاء الله.
- أنا مثل ابنك يا خالتي ، أين ستذهبين في هذا الليل ، سأصحبك إلى بيتي ، تنامين مع زوجتي وأولادي.
. يكثر خيرك وأمثالك يا بني ، ويستر على عيالك ربنا العالي -
كان جميع الركاب من عاليه . أوصلهم السائق إلى بيوتهم ، ثم قصد بيته مصطحبا أم محمود معه . تساءل وهو يدخل أحد المنعطفات على مهل:
- يبدو أن هذا ابنك الوحيد حتى جئت من الضفة من أجله ؟
. نعم يا بني إنه ابني الوحيد المتبقي لي من اخوته . هو أصغر واحد -
- وأين ذهب اخوته ؟
. استشهدوا يا بني -
- استشهدوا كلهم ؟
- كلهم يا بني.
- ليش كديش عددهم ؟
. ستة يا بني -
ضغط السائق على فرامل السيارة وتوقف. -
- تقولين ستة يا خالتي ؟
. نعم ستة يا بني ، عدا أبوهم ، وعدا ابن بنتي إلي قتلوه اليهود في مظاهرة -
- رباه !
منذ أن شاهدتك شاردة الذهن طوال الطريق ، والدموع تنزلق من عينيك
بين لحظة وأخرى ، قلت لا بد أن وراءك قصة طويلة . ها أنا أعرف أنك أم عظيمة . أنا سعيد لأنني تعرفت إليك يا خاله.
. ألله يسعدك ويسلمك يا بني -
. إذا فتحوا غدا منفذا للمخيمات سأصطحبك بنفسي يا خاله -
. يكثر أمثالك يا بني -
***********
لم يفتح أي منفذ طوال الأيام الثلاثة التالية . وازداد القصف وحدة الإشتباكات ، لتطول أيام الحصار . وكم بحثت أم محمود عن وسيلة تدخل بها صفيحتي الزيت والزيتون وعلبتي الحليب وأرطال الطحين لأبناء المخيمات ، فلم تجد . قالوا لها إن في الأمر مخاطرة كبيرة . والنساء اللواتي يتسللن إلى خارج المخيمات لإحضار شيء من التموين ، يحصدهن رصاص القنص في أغلب الأحيان . أكثر من سبعين امرأة قتلن بهذه الطريقة . وهي ليس في مقدورها أن تتسلل بهذا الحمل الذي معها ، ثم إنها لا تعرف الطرق المؤدية إلى المخيمات.
في اليوم الرابع ، جاءها ابن السائق فرحا مستبشرا . هتف:
سيسمحمون إلى قافلتين من الصليب الأحمر بالدخول إلى المخيمين . هيا يا خاله لعلنا نرسلك مع قافلة شاتيلا
وهل سيفكون الحصار يا بني ؟
. يقولون أنهم سيفكونه يا خاله -
لحقا بقافلة الصليب الأحمر قبل أن تدخل . توسلت هي والشاب إليها ، فاصطحبوها دون الشاب.
استقبلتها أطلال المخيم وكأنها غيلان فتحت أفواهها . دما ر دمار، دمار في كل مكان
. أنقاض في كل مكان . دمار فوق الأرض ، دمار تحت الأرض . لم تر جدارا سليما . أكوام حطام ، نفايات ، روائح كريهة . ولم يكن هناك أي أثر لحياة ، أي أثر على الإطلاق . لا حيوان ، لا طير ، لا بشر ، لا ماء ، وربما لا يوجد هواء ! ( لكن أين المدافعين عن المخيم يا أم محمود ؟ وأين المحاصرين ؟ يا كشلك يا حسرتك يا أم محمود، يا ويل راسك يا أم محمود ، يا حسرة قلبك يا أم محمود ، معقول تشوفي عيون عقبة يا أم محمود ؟ يا ابني يا حبيبي ، ، يا آخر بسمة عشفافي ، يا آخر شمعة في حلكة ظلامي ،يأ آخر أمل ليه ، يا آخر دمعة فيه ، معقول بعد عيونك عيوني تناغي النوم يمه ، معقول بعد بسمتك شفافي تفتر للفرح مرة ؟

توقفت القافلة ، وقد اطلقت إحدى سيارات الإسعاف بوقها عاليا . لم تصدق أم محمود ما رأته عيناها . فقد أخذت الأنقاض ترتفع من كل مكان وتنهض . أبواب . جدران
صفائح ، نوافذ ، كتل حيطانية ، ألواح خشبية شبيهة بالأبواب ، ألواح صفيح ، هياكل شجرية ـ بقايا أغصان ، دواليب سيارات ، نفايات . هياكل عظمية لحيوانات ، وأخرى تندفع قليلا إلى أعلى وتنهض !دمار ينهض ! أرض تنهض ! هياكل ما شبيهة بالبشر تنهض . تقوم ، تحاول أن تستقيم وتتحرك.
رباه ! فركت أم محمود عينيها . الأنقاض تدنو من كل اتجاه . هرعت نحوها . توقفت هلعة أمام أول هيكل واجهها . لم تعرف فيما إذا كان هيكلا بشريا أم أنه بقايا أنقاض
تتحرك . هربت منه.. .. ابتعدت.. عدت شمالا.. عدت جنوب.. شرقا .. غربا .. أنقاض..
أينما هرعت لا ترى غير أنقاض شبيهة بالبشر. تجاهد لأن تتحرك ببطء شديد ، يكاد أن يكون كدبيب النمل.
قوى واهنة متهالكة ، عيون غائرة خائرة . لا ترى ولا ترى ! شفاه ذابلة متقصفة . وجوه ميتة تغطيها طبقات كثيفة من التراب والرمل والطين . جلود جافة كالحطب . تستر عريها بقايا ملابس مهترئة ممزقة ومعفرة بكميات هائلة من التراب والحمأ.
أفراد الصليب الأحمر يعدون هنا وهناك . يخرجون جثثا من تحت الأنقاض ، وجثثا من بين الأنقاض ، وجثثا من بين النفايات . ينزلون تحت الأرض ، يعودون بجثث وجرحى ، ثمة أنين هنا . ثمة آهة ملتاعة هناك.
وشيئا فشيئا ، أخذت أم محمود ترى في الأنقاض هياكل بشرية حقة . وحين أخذت هذه الهياكل تذرف الدموع فرحا بالحياة ، أدركت أم محمود انها حقا أمام سكان المخيم ، فدقت صدرها بقبضتيها ، وهتفت بلوعة : يا حسرتي عليكم ! وفي غمرة دهشتها وذهولها . نسيت أن تسأل عن عقبة ، وعيون عقبة ، وابن عقبة ، وزوجة عقبة ، لكنها تذكرت ذلك عندما هرعت بعد لحظات إلى حملها وراحت توزع زيتون البلاد وزيتها وطحينها على الناس . ومع ذلك سيطر عليها إحساس غامض ، بأن تتريث في السؤال إلى أن يأكل الناس ويشربوا قليلا . وإلى أن تدب الحياة في أجسادهم ، بحيث يصبحون قادرين على الإنتباه إليها والإجابة عن تساؤلاتها.
********

حانت الفرصة عندما شاهدت ابتسامات ذابلة تشق طريقها عبر الوجوه الحزينة الكئيبة المتسخة الجافة ، وترتسم على الشفاه . أخذت تتأمل عشرات الوجوه المحيطة بها . ترددت في السؤال . لم تعرف لماذا ترددت في السؤال ، لأول مرة تجد لسانها وقلبها لا يطاوعانها ، والكلمات تخونها ، ألأنها لا تريد لعقبة أن يستشهد ، وتامل من الله أن يبقيه لها ، أم لأنها لا تريد أن تسمع نبأ استشهاده . لالا ! ربما لأنها لا تريد أن تمن على أحد باستشهاده . ، وربما لأنها لا تريد للناس أن يتذكروا الموت الذي عاشوه لفترة طويلة ، ثانية . وربما تخاف أن يكون عقبة قد خذلها ( لا سمح الله ) ولم يكن بطلا مقداما كإخوته.
تنبه الناس إليها . أدركوا أنها تريد أن تسأل عن انسان ما ، ولا سيما أنهم عرفوا أنها قادمة من الضفة ، ولا يعقل أن تكون جاءت من الضفة لتحضر للمحاصرين زيتونا وزيتا . تساءل شاب من المحيطين بها:
- ما بك يا أمي ؟
ألقت نحوه نظرات حائرة ، وما لبثت أن هتفت بصوت خفيض:
! ولدي يا ولدي -
- ولدك كان معنا في الحصار يا خاله ؟
. أيه يا بني -
- ما اسمه يا أمي ؟
-عقبة يا بني.
وتساءل الشاب ثانية بدهشة وانفعال:
- من يا أمي ؟
! عقبة يا بني -
سقط الإسم على الحضور كما الصاعقة . أطبقت الأفواه على ما فيها من طعام ، وتوقفت عن الحركة . والأيدي التي كانت تحمل بعض اللقيمات إلى الأفواه ، توقفت
قبل أن تصل إليها وكأنها تجمدت . أطبق صمت مخيف . كتمت الأنفاس . تسمرت الأقدام في الأرض ، فيما العيون ، كل العيون تحدق إلى وجه أم محمود الذي حفرت عليه السنون آلامها . تأملت أم محمود الصمت الذي أطبق من حولها والحركة التي توقفت تماما ، والعيون المحدقة إليها . تمنت ألف مرة لو أنها لم تسأل عن عقبة . هتفت وكأنها تعتذر من أعماقها ( ليش وقفتوا يمه ليش ؟ كلوا يمه ، كلوا يا حبيبيني ، كلوا يا عيوني ، زيتون البلاد يمة!
وأوقفها صوت الشاب بعد أن أعطى ما في يديه من خبز وزيتون إلى امرأة تقف إلى جانبه!
! - أماه
! ولدي -
كان عقبة بطل الحصار! -
( كبتت أم محمود في دخيلتها صرخة كالبركان )
ولولاه يا أماه لما كان صمودنا أسطوريا إلى هذا الحد
( وكبتت أم محمود صرخة ثانية كالزلزال )
وبدا الشاب مترددا في إكمال ما يريد قوله ، غير أنه استأنف بصوت متهدج متقطع
خالجته نشجات بكاء لم ينفجر:
قبل أن يستشهد يا أماه .. أوصانا أن .. أوصانا أن .. نأكل ..لحمه! ..
أوصانا أن ناكل لحمه ، كي لا نموت جوعا !!! وكي نصمد في وجه الحصار!
وكبتت أم محمود صرخة ثالثة بحجم الكون ، فيما الشاب يتابع:
.. نحن أولادك يا أماه ، فخذينا إن شئت ، وإلى حيث تشائين
وحين أدركت أم محمود أن الشاب فرغ من كلامه . هرعت نحوه وهي تجاهد بكل ما بقي في جسدها الواهن من قوة روح ، لتنتصر على آلامها:
"العمر إلكم يمه ، تعيشوا وتناضلوا وتنتصروا على كل من يعاديكم ، وعداكم يموتوا بذلهم وحسرتهم يمه ، كلوا يمه ، كلوا يا حبيبيني ، هاظ الزيتون من زيتون البلاد يمه ، صحة وعافية"
وراحت تحث النساء والرجال ، الشباب والفتيات ، الصبية والأطفال ، على تذوق زيتون البلاد وزيتها ، دون أن تفارق الإبتسامة شفتيها . راحت الأفواه تلوك الطعام في محاولة لإرضائها .. ازدادت ابتسامتها اتساعا وهي تجوب بنظراتها الوجوه ، مطمئنة إلى الناس يأكلون . وفجأة ، وفجأة ، وفجأة ، تهاوت كالسماء ، كالسماء ، تهاوت كالسماء .. وأسلمت الروح.
***

















(10)
صلاة الفذاذة العظمى
في ذلك اليوم الذي صلى فيه فذاذة الرئيس الأعظم ، قيل أن أكثر من أربعمائة إنسان قد قتلوا ، منهم من مات برصاص الإبتهاج الذي كان يتساقط من السماء كالمطر ، ومنهم من مات من الرعب ، أجل من الرعب ! الباقون قيل أنهم ماتوا من الفرح ، وهذه مسألة لم تؤكد من قبل أحد .
كان يوما مهولا لم تشهد الجمهورية الفذاذية مثيلا له منذ ألف عام وعام ... قبل مرور الموكب الفذاذي بساعتين على الأقل ، أخليت الشوارع من الحافلات ، أما تلك التي كانت قادمة إلى وسط المدينة ، فقد اوقفت على شارات المرور ، وأمرت بأن تظل واقفة إلى اشعار آخر ، وقام رجال الشرطة الفذاذية بطرد باعة العلكة والسجائر والفول البلدي والسندويتشات والكتب الصفراء والعرق سوس من على الأرصفة . باعة أشرطة ( هزلي لأهزلك ) و( نغنغني لأنغنغك ) أمروا بأن يضعوا في آلات التسجيل أشرطة تتغنى بفروسية فذاذته الخارقة، وأن يرفعوا الصوت إلى أعلى درجة ممكنة ، فراحت المسجلات تصدح بأغان تمجد بطل الشعب وابن الأمة المحبوب :
باني البنا وحامي الحمى وزارع الشوك في حلوق العدا ))
رشت الشوارع المؤدية إلى المسجد بماء الورد وزينت بالأقواس الإحتفالية والشرائط الملونة وعشرات الآلاف من صور فذاذته ، التي الصقت على الجدران وواجهات الحوانيت أو علقت على المباني الضخمة ، أو شدت إلى حبال وأقواس امتدت فوق عرض الشارع . واصطف الآلاف من افراد جنود الفذاذة بلباسهم الميداني الكامل ورشاشاتهم الآلية على جانبي الشارع المؤدي إلى المسجد. وقد اصطف خلفهم عشرات الآلاف من فتية وفتيات الفذاذة الذين ارتدوا زيا مبهجا
وبدوا مبتهجين للغاية ، بعضهم يرفعون يافطات كبيرة تمجد بطولة فذاذته الخارقة ، وبعضهم يرفعون صورا لفذاذته في أوضاع مختلفة : وهو يبتسم ابتسامة فذاذية لم يبتسم مثلها بشر قط !! وهو يلوح بيده لجماهير الأمة ، وهو يضم طفلا رضيعا ، وهو باللباس الميد اني ، وهو بالزي الشعبي ، وهو يتسربل بحلة الفذاذة ويتبوأ كرسي الرئاسة ،، وهو يطوف حول الحجر الأسود ! وهو يعدو بين الصفا والمروة ، وهو يرتدي زي الجامعة بصفته المثقف الأكبر ، وهو باللباس القضائي بصفته راعي العدالة ، وهو يكرم الرياضيين بصفته الرياضي الفذ .
خلف هؤلاء اصطف عشرات الآلاف من مواطني الأمة وقد تمادوا في تمثل الفرح ورسم الإبتسامات العريضة على شفاههم ، فبدوا في غاية الإبتهاج لهذه اللحظات التاريخية العظيمة التي سيشاهدون فيها فذاذة الرئيس الأعظم شخصيا وبالعين المجردة .
رجال الأمن ا لفذاذي احتلوا أسطح البنايات ومعظم البيوت المطلة على الشوارع التي سيسلكها الموكب الفذاذي ، واندسوا بين صفوف المواطنين مطلقين نظراتهم في كل الإتجاهات ، مسترقين السمع إلى الهمسات وضربات الأنفاس ، كي لا يتيحوا لأي مارق أو مدسوس أو عميل أو مشبوه أن يتفوه بكلمة تعكر صفو الإبتهاج !

***** ******
أم محمد اليافاوية ، دهمها المخاض في هذا اليوم المهول . أوقفت السيارة التي تقلها إلى المستشفى على شارة المرور . جدتها بلغت سن الثمانين وهي تنجب ! وأمها بلغت التسعين وهي تنجب ، وهي نفسها تجاوزت الخمسين وما زالت تنجب ، وتنبأت لنفسها بأنها ستظل تنجب حتى سن المائة ، وأن يافا حينئذ ستكون محررة بالتأكيد ، وهذا كلام مفروغ منه ولا تقبل أن يجادلها أحد فيه .
. أنجبت حتى هذه السن ثلاثين بطنا . بطن ينطح بطنا ! كانت حصيلتها أكثر من أربعين ذكرا وأنثى ، تزوج عشرة منهم ، واستشهد خمسة قبل الزواج ، وانتحر إثنان وقتل إثنان ، وما زال الباقون أحياء تتوزعهم التنظيمات الفلسطينية القائمة في الساحة الفلسطينية ، ما عدا واحدا انضم إلى مجاهدي أفغانستان العرب لتحريرها من الملحدين السوفييت !!
ما أثار حفيظة أم محمد وكاد أن يصيبها بالجنون قبل حملها الأخير ، هذا الصراع المرير الذي يحتدم بين أولادها حين يجتمعون عندها في البيت ، فبعضهم ينتمون إلى الفصائل الرافضة لكل الحلول ويريدون تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ، والآخرون ينتمون إلى الفصائل التي تسعى لاستعادة الضفة والقطاع ، حتى لو اضطرت إلى الإعتراف بإسرائيل والتصالح معها . فما أن يلتقوا حتى يشرعوا في الحوارات الصاخبة التي ما تلبث أن تتطور إلى شتائم ، تطرق فيها كلمات مثل :
منحرف ، عميل ، منشق ، كافر ، ملحد ، مهادن ، استسلامي ، مراوغ ، يميني ، رجعي .. وغير ذلك..
ما قبل الحمل الأخير بمدة ليست وجيزة ، وصل الحوار بينهم إلى الصفع ، واللكم ، والضرب بالكؤوس والزجاجات ، ومن ثم سحب المسدسات ! جنت أم محمد وهرعت لتقتحم قلب المشاجرة وتصرخ ؛
"يا ريت بطني ما حملكم ، يا ريت صدري ما رضعكم ، يا خسارة الحليب إلي اعتصرته ونقطته في اثمامكم ، ايديكم عن بعض يقطع ايديكم يا قليلين الأصل ! خبوا اسلاحكم وما تخلوني اشوفه يا نجسين ، اسحبوه عاليهود وعلى الكلاب إلي
تنهش في لحمكم ، مش على بعضكم يا أنذال "
ونجحت أم محمد في فض المشاجرة .
غير أن المشاجرات تتابعت فيما بعد إلى أن توجت بمقتل اثنين ،( يسار وأيمن أحدهما وحسب بعض التسميات القائمة في الساحة الفلسطينية – رافض ! والآخر منحرف !
قبل مقتلهما بأشهر ، وعلى أثر مشاجرة أدت إلى إصابة ثلاثة بجراح ، أعلنت أم محمد غضبتها العارمة الأولى ، واكدت لجميع أولادها أنها ستتخلى عنهم ، ولن تسمح لأي منهم بدخول بيتها ، إذا لم يوقفوا المشاجرات ويتحدوا ، ليحرروا فلسطين كاملة دون التنازل عن شبر منها ، غير أنهم لم يذعنوا لها ، ولم يأخذوا كلامها على محمل الجد ، إلى أن دوى ذات ليلة صوت إطلاق النار داخل البيت . هرعت . وجدت أيمن ويسار يتخبطان بدمائهما . صرخت وصرخت وراحت تلطم رأسها وتدق صدرها بقبضتيها.
باغتتهم عشية يوم العزاء الأخير . دخلت عليهم البيت فجأة ووجهها يقدح بغضب السنين وآلامها . انتصبت كجذع زيتون ، وراحت تخاطبهم من صميم فؤادها المثلوم :
أكثر من ثلاثين سنة وأنا أحمل وانجب فيكم ، حمل ينطح حمل ! يا ما بخلق ثوبي قمطتكم ، لفيتكم !
عصرت دمي قبل ما أعصر في اثمامكم نقطة من غامق حليب صدري ، واسيتكم ، مسحت الدمع من عينكم قبل ما يلمس طرف وجناتكم ، ناغيتكم
داريتكم مثل ظبية تداري ولدها / حويتكم
ضميتكم ععاري لحم صدري ، هديتكم
يا ما اعريت أنا وانتوا ما عريتوا ، مزعت من ذيال ثوبي لركع كد لاح بطرف ردنكم ، كسيتكم
يا ما حفيت أنا وانتوا ما حفيتوا ، حطيت قدامكم على كفوف ايدي ، داديتكم ، مشيتكم
يا ما نمت ليلي على كردوس خوف أشوف جوعان ينده من بينكم ـ وينكم
يا ما بليلة مطر، ليلة ثلج ، ليلة ريح ، بردت أنا وانتوا ما بردتوا ، ارتجفت أنا وانتوا ما ارتجفتوا / شديت حبال الخيمة ودقيت الوتاد ، وبهدم ثيابي غطيتكم ! وسهرت الليالي الظليمة أرعى راحة صافي نومكم ، دفيتكم لما شببتوا وشبيتوا وشبتوا ، ربيتكم يا حيفكم !
ريتكم كنتوا حلم ، كنتوا طيف ، كنتوا وهم ، كنتوا ثلم في بر ولا كنتوا عدم
عشرين سنة وأزود وبارودكم مالي الفنا وسيطكم عالي السما ، وشبر واحد ، فتر ، قيراط ، ما رجعتوا ، ما حررتوا ، ما رديتوا من الحما ، يا خيبكم ، يا خيبكم !
لو عزت النخوة ، لو انشدت الهمة ، لو كانوا رجال غيركم ، كان قادوا هالأمة من البحر للبحر ، يا ضيركم !
طلعتوا انذال وقل أصلكم ، وصار إلي يسوى ولي ما يسوى من العرب وغير العرب يذلكم ، ويمسخكم ، وينفث سمه في صدوركم ، ويجرجركم وراه مثل كلاب الفلا . ويقل قيمتكم ويهينكم !
وآخرتها ما ظل غير تقتلوا بعض يا خيبكم ، يا خيبتي فيكم يا حيفكم
ما بدي إياكم ! ريت بطني ما نهض فيكم ، ريتني ما بزرتكم ، انتوا مش اولادي ، انتوا مش اولادي ، انتوا مش اولادي ! اطلعوا من داري ولا توروني وجوهكم !!
وحين شاهدت أم محمد أبناءها يطرقون باهتين ، انقضت عليهم وراحت تدفعهم واحدا واحدا إلى خارج البيت . وطردتهم ، حقا طردتهم ! .
بعد أيام جاءت إلى ( أبو محمد ) الذي حرصت طوال عمرها على أن تبقيه حيا كي يحبلها ! هزته من كتفيه :
شد حيلك يا بو محمد ، بدنا نخلف نسل جديد ، يقوم بثورة جديدة ، اولادنا خذلوا أهلنا إلي ظلوا صامدين في البلاد ، اعتمدوا - يا حسرتي عليهم – علينا تانحررهم ونحررها ! لكن اولادنا خذلوهم ، وكمان نزلوا ابعظهم ، ولي تحت الضرب مش مثل إلي بعد في العصي ، وإذا بدك الصراحة يا بو محمد ، إلي تحت سيف اليهود مش مثل إلي نايم في اوتيلات تونس ‍‍!!
- يا ام محمد أنا شخت وعجزت وما عاد فيه حيل، وانت معقول تخلفي بعد هالعمر؟
باطل عليك يا بو محمد ، بيك ظل رجل لسن الثمانين ، وجدك ظل للتسعين ، وقالوا عنه في هذه السن أنه قلب تسع نسوان في ليلة وحده ! شد حيلك يا زلمه وما تخيب رجاي الله لا يخيب لك رجا ! ومن ناحيتي ما عليك ، أنا شفت هاجس في المنام ، قلي بدك تخلفي لسن المية !! وعدد اولادك بده يزيد على المية وخمسين
وفي الصباح التالي سقت أبا محمد حليبا ممزوجا بالعسل والبيض وماء الزنجبيل ! ابتسم ابو محمد وقد أدرك نواياها . عند المساء وجد نفسه يناطح الجدران
وحملت أم محمد . حقا حملت . أيقظت أبا محمد لتطلعه على الأمر .
< خير إن شاء الله يا أم محمد >
- ما قلت لك يا بو محمد إنه زارني هاجس في المنام وقلي إني بدي أخلف لسن المية ؟
< يا لطيف يا أم محمد ، إذا كان زايرك صادق ، اقرأي على اليهود السلام >
اليهود يا بو محمد ، الله يسامحك ، والله عمره ما دخل عقلي شك إنهم رايحين يظلوا في يافا ، باطل عليك يا بو محمد ، والله إني شايفها محررة مثل ما أنأ شايفة ظهر كفي . بتذكر يا بو محمد ونت تغازلني تحت الزيتونه ، من وين كنت تطلع يا زلمه ، كنت تدفن حالك في تراب البستان لما آجي ؟
< ييه يا ام محمد لا تذكريني بأيام زمان >
************
عندما طال وقوف التاكسي على شارة المرور . نزل السائق وراح يستطلع الأمر.
. عاد بعد لحظات دون أن يبدو على وجهه أي أثر لتعبير ما . هتفت حماة أم محمد ، فيما أم محمد تداري حملها الكبير جدا بيديها ، وتقاوم موجات الطلق ، هتفت مخاطبة السائق :
< خير يا بني هية الإشارة ما بدها تفتح ؟ >
التفت السائق من خلف المقود وقال بلهجة لا تنم عن أي انفعال
< الإشارات معطلة يا حجة والسير واقف ، فذاذة الرئيس الأعظم نازل للصلاة >
هتفت الحاجة دون أن يبدو عليها أي انفعال هي الأخرى:
< ورايحين يفتحوا الطريق بعد ما يمر يا بني ؟>
< لا والله يا حجة ، بيقولوا إنه السير رايح يظل مقطوع على بين ما يصلي فذاذته ويرجع !
وهنا لم تستطع الحماة كبت إنفعالها
< مش معقول يا بني ، كنتي بتعاني من آلام الطلق وما بتقدر تحصر حالها >
< وأنا شو فيه أسوي يا حجة ، ما باليد حيلة >
< ما فيه طريق توصل للمستشفى غيرهاذي يا بني ؟ >
ورانا أكثر من ألفين سيارة يا حجة ، ولا يمكنها العودة إلى الوراء ، كان على شرطة السير أن تغير اتجاه السير من قبل حتى لا يحشر الناس ضمن مداخل المدينة "
< والعمل يا بني ؟ >
< ننتظر الفرج >
< الفرج ؟ من عام النكبة وحنا ننتظر الفرج وما أجا يا بني ! >
وتأوهت أم محمد من أعماقها مرفقة آهتها بأنة تذمر حادة تقطع نياط القلب ! هتفت الحماة :
< سلامتك يا ام محمد ، سلامتك يا مرة ابني ! اتحملي يا بنتي باطل عليك ! >
علت صفارات الإنذار مخترقة فضاء المدينة ، مبددة ما تبقى من سكون في كل أركانها ، مثيرة الرعب في نفوس ضعفاء القلوب!
نزل كثيرون من سياراتهم وهرعوا في محاولة للإقتراب من الشارع ، لعلهم يحظون بنظرة من فذاذة فذاذته !!
أحس السائق أنه من الأفضل له أن ينزل مع النازلين ويهرع مع الهارعين . فنزل وهرع ! استوقفه صوت الحماة:
< لا تتركنا لحالنا يا بني >
< ما رايح أتاخر يا حجة >
وراح يعدو نحو الشارع الرئيسي .
كان الموكب يجتاز شوارع المدينة باتئاد شديد للغاية ، تتقدمه أربع آليات مصفحة ، تصوب مدافعها في وضع تأهب قتالي ، تبعها اثنا عشر قردا من نوع الشمبانزي محمولة على اثنتي عشرة عربة ذات أ قفاص ، فقد كان فذاذته مغرما بالقرود إضافة إلى الكلاب ، وكان يصحب القرود والكلاب معه في جولات كثيرة . تلا القرود عربة مكشوفة تقل ستة كلاب ذئبية ! ! ثم أربعة وعشرون فارسا يمتطون الخيول ، ثم اربعة وعشرون من راكبي الإبل ، ثم ست آليات مصفحة ، ثم قرابة مائة من أفراد الحرس الفذاذي راكبي الدراجات النارية . كان هؤلاء قد شكلوا ثلاثة أطواق أحاطت المحفة الفذاذية المصفحة ضد الرصاص ، والمرصعة بالدر والياقوت والزمرد ! وبدا فذاذته جالسا في المقعد الخلفي متوسطا كلبين أسودين المانيين كبيرين جدا ! وقد ارتدى زيه العسكري المرصع بالنجوم والسيوف والتيجان التي كانت تثقل كتفيه ، فيما تدلت عشرات النياشين والأوسمة على جانبي صدر فذاذته حتى غطته تماما ! وكان فذاذته - أطال الله عمره - ! يمد يده بين الفينة والأخرى من خلف رأس الكلب أو من أمامه ليلوح بها لجماهير الأمة من خلف الزجاج المصفح . ولم يكن يرافق فذاذته سوى المرافق الخا ص الذي دأب على أن يتبع فذاذته حتى غدا كظله ، كان يجلس إلى جانب السائق وعيناه تحدقان إلى كل الإتجاهات نحو جماهير الأمة.
في مؤخرة الموكب وخلف راكبي الدراجات النارية مباشرة ، اندفعت ست آليات مصفحة أخرى ، سارت في ثلاثة أرتال ، أعقبها أربعة وعشرون فارسا أيضا ، شكلوا ثلاثة صفوف ، ثم رتل من راكبي الإبل كذاك الذي تقدم الموكب ، وقد سار على النسق ذاته . تبع هؤلاء إثنا عشر قردا غير شامبانزية ! فقد كانت من نوع الغوريلا ، وقد بدت وقحة للغاية وهي توجه من أماكنها في العربات ذات الأقفاص ، أعضاءها المنتصبة نحو جماهير الأمة ، وتمد السنتها في حركات ساخرة دون أن تكترث لأحد .
خلف هذه القردة لم يكن إلا أربع سيارات عسكرية مكشوفة تحمل رشاشات
متوسطة . تبعها سيارات رئيس وزراء الفذاذة والوزراء وأفراد الحاشية الفذاذية. كان هؤلاء يركبون سيارات أمريكية سود فارهة ، ويتبعون الموكب بمرافقات متواضعة ، مع أن سياراتهم ليست مصفحة ضد الرصاص . والحق أنهم لم يكونوا محتسبين ضمن الموكب الفذ ، حتى أن موكب حافلاتهم بدا شاذا وناشزا للغاية ، وأساء كثيرا إلى جمالية الموكب الفذاذي المهيب ، برسمه خطا طويلا بدا كذيل الجرذ .
كانت جماهير الأمة تضج بالهتاف والتصفيق كلما أقبل نحوها أول الموكب ، مفتدية فذاذته بأرواحها وفلذات أكبادها ، مما دفع أحد الحمقى إلى التساؤل في سريرته عما إذا كانت حياة فذاذته مهددة بالخطر حتى تفتديه الجماهير بكل شيء !
استطاع سائق التاكسي أن يشق له طريقا عبر الزحام ليصبح في مقدمة الحشود . اطمأن حين أيقن أن طوله الفارع سيتيح له مشاهدة الموكب بوضوح ، وإذا حالفه الحظ ، سيشاهد فذاذة الرئيس الأعظم شخصيا ، لأن مشاهدة فذاذته على شاشة التلفاز يوميا ولعدة ساعات لم تكن مرضية لنهمه ! غير ان الحظ لم يحالفه ، فقد كان القدر له بالمرصاد ، حين ساق له نملة ، نملة لا غير ، منعته من مشاهدة فذاذته، وحولت يومه ، بل حياته كلها إلى جحيم .

كانت النملة تسير في قافلة مع رفيقاتها حاملة حبة قمح حصلت عليها من مخزن مجاور بعد جهد مضن !وكي تتلافى القافلة موطىء أقدام الناس سلكت سفح جدار يمتد إلى جانب الرصيف ، وحين اشتد الزحام راح الناس يتراجعون شيئا فشيئا نحو الحائط إلى أن التصقت ظهورهم به ، دون أن يتنبهوا لقافلة النمل التي بوغتت بالعدوان الذي بدا لها كجند سليمان ! فقتل العديد من نمالها سحقا بالظهور أو سقط أرضا ليداس بالأقدام ، ولم ينج إلا من بلغ أعلى الجدار ، او حالفه الحظ في أن يلوذ بالفرار إلى ناحية لا يصل إليها بشر.
كان سائقنا من بين الناس الذين تراجعوا نحو الجدارليفتكوا بقافلة النمل . إحدى النمال ( وهي نملتنا التي ساقها القدر للسائق ) حالفها الحظ في أن تنجومن السحق ، فقد أفلتت حبة القمح ووقعت على قدم السائق . ظلت للحظات تجوب سطح الحذاء في محاولة يائسة للعثور على مسلك تنجو عبرة ، وكلما انحدرت قليلا أحست باقدام جند سليمان تحاصرها وتغلق عليها المنافذ ، فلم تجد إلا أن ترتدع وتصعد إلى أعلى لتتسلق سا ق السائق دون أن يحس بها ، وظلت تتسلق دون أن يحس بها ، واجتازت الركبة ثم الفخذ دون أن يحس بها ، وتسللت تحت سرواله دون أن يحس بها ، وحين أطل أول الموكب على المكان الذي يقف فيه السائق مع الحشود ، كانت تتوغل في غابة جبلية سوداء مظلمة ، وتضيع فيها دون أن يحس بها . بدت نباتات الغابة غريبة تماما على النملة ففي كل حياتها القصيرة لم تشاهد نباتات كهذه وبهذه الكثافة ، حتى في اسطورة جند سليمان التي توارثتها عن أجدادها!!
شرع السائق يصفق مع الجماهير ويهتف بملء حنجرته ، مع أن الذي كان يجتاز الشارع في مواجهته الآليات الأربع الأولى والقردة الشامبانزية التي لم تهدأ في مكانها ، فتدير مؤخراتها نحو الجماهير التي على يمين الشارع تارة ، ونحو الجماهير التي على يساره تارة أخرى
مرت القردة وكذلك الفرسان ثم الإبليون ...
حين أطلت المصفحات الأولى التي تسبق موكب فذاذته ، أخذت الأصوات تحتد فيما رجال الأمن الفذاذي المنزرعين بين الناس يحفزون كل حواسهم ويحصون على البشر حركاتهم وسكناتهم وما توحي به هتافاتهم وأيديهم على مسدساتهم . وكانت المصفحات توجه رشاشاتها يمينا وشمالا نحو الجماهير في محاولة للإيحاء بأن الجنود الأشاوس متيقظون لأية محاولة آثمة قد يقوم بها عميل ما للأعداء الصهاينة وغير الصهاينة من الإمبرياليين أو الملحدين أو المندسين . .
أخذ موكب فذاذته يقترب . أخذت الجماهير تتدافع و تشرئب بأعناقها لعلها تحظى برؤية فذاذته .
. رفع السائق قامته ليقف على رؤوس أصابعه ، مما أدى إلى انشداد الملابس وضغطها على النملة التي كانت ضائعة في أخاديد الخصيتين وغاباتهما الكثيفة ،

وفي اللحظة التي كانت فيها محفة فذاذته تقترب لتصبح في مواجهة السائق ، كان هذا يتطاول بقدر ما يستطيع لتضغط ملابسه بشدة على النملة التي لم تجد مناصا من الدفاع عن نفسها ، فغرست فكيها في جلد خصيتيه . كبت السائق صرخة ألم وهو يجاهد ليتقوقع على نفسه بدفع من بجانبه ليتيح ليده اليمنى النزول إلى ما بين فخذيه ، في محاولة يائسة للمقاومة . لكن وقبل أن تصل يده إلى هدفها أطبق الحذاق من رجال الأمن الفذاذي على ذراعيه ، وانهال آخرون بأعقاب مسدساتهم على رأسه ، ثم سحبوه بصمت شديد للغاية ودون إثارة أية ضوضاء ..
أفاق السائق من غيبوبته في غرفة تحقيق . لم يعرف أين هو وما جرى له . والأمر الذي يكاد يجننه هو العلاقة بين هذه الحشرة اللعينة التي لدغته ، والرجال الذين أطبقوا عليه وانهالوا على رأسه .
*******
اشتدت موجات الطلق على أم محمد . هتفت :
< ما فتحوا الطريق يا عمتي ؟>
< إن شاء الله رايحين يفتحوها يا عمتي ، مر الموكب >
< آه يا ربي وينك انته >
وأسلمتا أمرهما إلى الله
في سيارة الأجرة المجاورة لهما ، كان ثمة عاشق على موعد في المدينة مع أول فتاة تعشقه في حياته ، وعلى هذا الموعد سيتقرر مصير العشق كله . ظل في السيارة ولم ينزل لمشاهدة الموكب ، وكان يزفر متأففا بين الفينة والأخرى
في السيارة التي تقف خلفهما ، كان ثمة طبيب في سيارته الخاصة ، ورغم أن حياة مريض تتوقف على وصوله في الوقت المحدد لإجراء عملية عاجلة له ، إلا أنه بدا مسيطرا على أعصابه ، وإن كان يتململ خلف المقود وينظر إلى الساعة بين فينة وأخرى.
أمام المسجد اصطف الآلاف من جماهير الأمة ، وقد أحضر المئات منهم كباشا ليذبحوها وجمالا ليعقروها وأبقارا لينحروها كقرابين عند وصول موكب فذاذة الرئيس الأعظم ..
أقبل الموكب تسبقه صفارات الإنذار . تململت الجماهير في أماكنها فيما هيأ أصحاب القرابين سكاكينهم وسيوفهم وبلطاتهم للذبح والعقر والنحر ، وسط التصفيق الحاد والهتافات المدوية .
أخذت الأرتال المرافقة للموكب تجنح إلى جانبي الساحة وتتوقف وقد وجهت الآليات سبطانات مدافعها إلى كل الإتجاهات ، تبعها راكبو الدراجات من حرس الفذاذة الذين راحوا يجنحون يمينا وشمالا ، في حين توقفت محفة فذاذته لتفتح أبوابها على الفور من قبل الحراس ، ولينزل فذاذته باتئاد وتئن دون الكلبين اللذين أرغما على البقاء في المحفة الفذاذية .
علا ثغاء ورغاء وخوار الكباش والنوق والثيران التي انهالت على رقابها السكاكين والسيوف .
وقف فذاذته بكل مهابته وقفة رئاسية فذة على أرضية فرشت بالطيلسان والحرير وراح يلوح لجماهير الأمة بيديه الفذتين الطاهرتين ، فيما الرتب العسكرية والنياشين والأوسمة التي صكت من الذهب والألماس تبرق على كتفيه وصدره الملائكي ، وابتسامة فذة لم يبتسمها بشر قط تطفو على شفتيه ، فبدت وكأنها وردة من شقائق النعمان ، طعمت بأزهار الفل والنرجس .
هتفت الجماهير بملء حناجرها وهي تصفق بكل ما لديها من طاقة للتصفيق ، فيما كانت عمليات الذبح والنحر والبقر مستمرة لتخضب دماء القرابين محيط الساحة ، وفيما كانت القردة تصوت وتثب في عرباتها رعبا واستياء من مناظر الذبح ونوافير ومستنقعات الدم التي أعقبتها ، وقد كفت عن إخراج أعضائها ومد ألسنتها وإدارة مؤخراتها لجماهير الأمة .
سار فذاذة القائد الأعظم بخطى فذة مهيبة على بساط مذهب من السجاد العجمي ، ليعتلي المنصة ، حيث ستعزف له ثلة من حرس الشرف السلام الفذاذي الوطني !وما أن اعتلى المنصة حتى وقف في استقامة خارقة وثبات عظيم ، وأدى بيده اليمنى التحية الفذة ، فيما كانت الموسيقا تصدح بالسلام الفذاذي . وهنا علا صوت المذيع الفذي الذي كان ينقل وقائع ما قبل الصلاة االتاريخية العظيمة ، علا ( فض الله فاه ) ليصف الوقفة المهيبة قائلا:
( تأملوا يا أبناء الأمة ، تأملوا هذا الجلال المهيب ، هذه الأنفة ، هذا الشموخ ، هذه الكبرياء ، هذا الوقوف الطودي ، هل وقف مثله بشر من قبل ؟! ويل للأعداء
ويل للصهاينة !(الأحمق فض الله فاه وأطاح أسنانه كلها ، يقارن وقفة فذاذته بوقفة البشر ! تصوروا ، بشر ؟! )
والحق إن الملائكة بل وبعض الآلهة ، لم يقفوا مثل هذه الوقفة ، التي لا يستطيع أن يقفها إلا من هو في مقام زيوس وبعل وإيل وعشتار ومردوخ وإنكي ورع وإنليل والسابقين لهم ومعظم اللاحقين .
ما أن عزف السلام الفذاذي ، حتى نزل فذاذته وراح يستعرض حرس الشرف والمرافقين الخاصين يتبعانه على مسافة .
أمام المسجد وقف وزير الأديان وبعض الوزراء
وقادة الجيوش ، ممن كانوا يسيرون خلف الموكب وممن لم يكونوا . وما أن فرغ
فذاذته من استعراض حرس الشرف ، حتى توجه إليهم عبر شريطين حريريين مزينيين بصور فذاذته ، وباقات من الورود النادرة ، وشرائط من القماش الثمين الملون .
كان أول من حظي بتقبيل يدي فذاذته الطاهرتين وزير الأديان الفذاذي ، الذي يكن لفذاذته حبا وإخلاصا يعجز عنهما الوصف .
داخل المسجد احتشد الآلاف من أبناء الأمة الذين سمعوا أن الصلاة بمعية فذاذته تدخل الجنة ، حتى لو زنى المصلي ألف مرة ، وقتل ألف بريء ، واختلس أموال ألف يتيم ، ولاط ألف غلام ، وقاطع الصلاة والصوم ، وامتنع عن الحج والزكاة ، ولم ينطق بالشهادتين ، إلا ذلك اليوم . لذا احتشد المسجد بالآلاف ممن يطمحون في مسح الذنوب وتبييض الجيوب وتطهير الأنفس والقلوب ، ودخول الجنة عبر الصراط المستقيم ، ليتمتعوا بنعيمها ، ويتقلبوا على صدور الفاتنات من حور العين اللواتي لم يمسسهن من قبل لا إنس ولا جان ، ولا يتبولن ولا يتبرزن ، ويعدن عذراوات بعد كل افتضاض ، وليس لجمالهن نظير.
! وكذلك لينعموا بالولدان المخلدين وليترعوا كؤوسهم من أنهار الخمر وليشربوا من ماء معين ! جعلنا الله وإياهم من عباده الصالحين ، واغدق علينا ما سيغدقه عليهم أجمعين ، في يوم الدين ، آمين .

حين اطل فذاذته من باب المسجد هب الجميع وقوفا وظلوا صامتين ، ولم يعودوا إلى الجلوس إلا بعد ان أخذ فذاذته مكانه أمام اربعة صفوف تخللها العشرات من أفراد الأمن الفذاذي ، والذين كان جل همهم اليقظة والترقب مخافة أن يظهر مدسوس من بين المصلين ويقدم على مكروه قد يطال فذاذته بالسوء .
مراسلو ومصورو التلفزة والصحافة الذين ( قبحهم الله ) دخلوا بيت الله دون أن ينزعوا أحذيتهم ، بدوا منهمكين للغاية في نقل وقائع هذه اللحظات التاريخية العظيمة التي يجلس فيها فذاذته بين يدي الله ، وديعا أليفا بريئا مطمئنا مستكينا متسربلا بمسحة من الإيمان الفذ .
شرع إمام المسجد في إلقاء كلمة بدأها بالإشارة إلى أنه شاهد الله يرحب بفذاذته في بيته ، وأنهاها ( فض الله فاه هو الآخر لأنه أجحف بحق فذاذته ) بالتأكيد فقط على أن فذاذته أعظم زعيم عرفته البشرية منذ أن خلقت ! غير أن مذيع التلفزة والراديو ، أصلح الأمر بعد أن أدرك خطأه السابق وخطأ الإمام ، حين راح يضع فذاذته في مكانته الحقة بين الآلهة ، وراح يتحدث بانفعال شديد عن الهالة النورانية التي تشع من وجه فذاذته ، وهو يجلس بخشوع مهيب بين يدي الله ، ثم بانفعال منقطع النظير رافقه الصراخ والعويل إلى درجة بح فيها صوته ، حين راح يتحدث لمواطني الأمة عن ظهور الملائكة في فناء المسجد :
يا أبناء الأمة ، ، في هذعه اللحظات المهيبة ظهر الملائكة بأجنحتهم البيض وراحوا يحلقون في فناء المسجد ، إني أراهم بأم عيني ، شاهدوهم ، انظروا إليهم ، لقد أرسلهم الله ليباركوا فذاذة الرئيس الأعظم ، هاهم يحلقون وينزلون كسرب من اليمام ، ليشكلوا غيمة تظلل رأس فذاذته ، الذي انبثق من وجهه نور إلهي يبهر الأبصار ، هاهم أيها الأخوة يحطون أمام حبيبنا وحامينا فذاذة القائد الأعظم ، ويسجدون له ! نعم نعم ! الملائكة ، رسل الله في الأعالي ، بعث بهم الله نفسه ليتباركوا منه ويقدموا له الولاء ! يا يا يا يا يا أبناء أمتنا..الملائكة يركعون ويسجدون لأعظم العظماء طرا ، فذاذة الرئيس الجلالي الأعظم . افرحوا ، افرحوا يا أبناء أمتنا ، زغردوا ارقصوا ، اطلقوا النار ابتهاجا ، والمدافع اصطهاجا ، فإلى الجنة أنتم .. إلى أحضان حور العين ، بمعية حبيبكم الأعظم ، يا يا يا ، هيا هيا ....
وهنا ارتبك المصلون داخل المسجد ولم يعرفوا فيما إذا كان عليهم أن يفرحوا ويبتهجوا أم يسجدوا لفذاذته كما الملائكة ، أم يبدأوا الصلاة لله القدير ، ولم يخرجهم من هذا الإرتباك إلا إعلان إمام المسجد الإذعان للمشيئة الإلهية والسجود لفذاذة القائد الأعظم ـ فسجد الجميع إلا ابليس ( لعنه الله وفذاذة القائد ونحن) الذي كان متنكرا في زي الراوي الذي ينقل هذه الوقائع التاريخية العظيمة .
وفي اللحظة التي كان فيها الناس يستمعون إلى الراديو أو يرقبون التلفاز ، انطلقت المدافع والرشاشات احتفاء بالمناسبة العظيمة ، فراح الجميع ممن لديهم أسلحة ، يطلقون النار في الفضاء : في المدن والقرى ، في الشوارع والأحياء ، وفي كافة أنحاء الجمهورية الفذاذية الشاسعة متعددة الممالك والجمهوريات ، أخرجوا بنادقهم ومسدساتهم وراحوا يطلقون النار ، في حين كانت مدافع ورشاشات الجيوش الفذاذية ، وأفراد الأمن ، والشرطة ، تطلق قنابلها وطلقاتها ، لتلتهب السماء بالنار والرصاص والدخان ، ولتضج الأرض بهدير المدافع ، ولتهتز جدران البيوت ، ولتتساقط القذائف المرتدة في الشوارع والأحياء أ في الأودية والجبال ، على سطوح الأبنية والبيوت ، وعلى رؤوس بعض المواطنين ، فدب الذعر في قلوب ضعفاء النفوس ، وعم الصراخ والعويل ، وسادت الفوضى ، وسقط الآلاف تحت الأقدام ، أو خروا صرعى أو جرحى ، وضجت أبواق السيارات الواقفة على شارات المرور ، أما تلك التي كان مسموحا لها بالسير في شوارع العواصم والمدن ، فقد أطلقت عنان أبواقها وراحت تعبر الشوارع بجنون ، ورصاص طائش ينطلق من نوافذها . وفي الوقت نفسه ، قرعت الطبول ، ودقت نواقيس الكنائس ، وانطلق آذان خاص من المساجد ، وعلت صفارات الإنذار ، حتى تلك التي لا تطلق إلا في أيام الحرب ، مما جعل بعض الناس يعتقدون أن حربا مع الأعداء قد نشبت ، أو أن الساعة قامت .
في المسجد راح فذاذته يودع كبار المصلين بعد إنهاء الصلاة !! وقبل خروجه من المسجد وجه أوامره بالتوقف عن إطلاق النار والإكتفاء بالإبتهالات والإبتهاجات الأخرى . تم التوقف ، لكن ليس على الفور ، فقد ظل بعضهم يطلقون النار إلى ما بعد اسبوع من الواقعة الملائكية الخارقة ، التي اعتبرت مناسبة قومية ينبغي على مواطني الأمة الفذاذية أن يحتفلوا بها كل عام ، ويقيموا الأفراح والليالي الملاح ، لمدة ثلاثة أسابيع !
الحافلات ظلت واقفة على شارات المرور منتظرة عودة فذاذته إلى القصر، وقد نالت نصيبها من الطلقات المتساقطة من السماء ، فتكسر بعض زجاجها وثقبت سقوفها ، وأغمي على بعض ركابها ، وأصيب آخرون بالسكتة القلبية . من بين هؤلاء الذين سكتت قلوبهم ، العاشق والطبيب ، العاشق قتله طول الإنتظار ، والطبيب قتله الرعب ، لم يحتمل قلبه هول ما جرى ، ألقى رأسه على المقود ومات . !
صاحبنا السائق أقنع المحققين بعد أن كسروا له ضلعين إضافة إلى كسر في الرأس ، أنه أنزل يده ليحك ولم يكن ليحك لو لم تلدغه حشرة ما – ربما تكون نملة – أو
أي شيء من هذا القبيل ! ثم إنهم لم يعثروا معه على أي شيء يثير الشبهة ، حتى ولا سكين ، واقتنع المحققون ، حقا اقتنعوا ، غير أنهم اعتبروا فعلته تهكما وسخرية واحتقارا لفذاذته ، إذ كيف يفكر في حك ما بين فخذيه ، بل سوأته وبيضتيه ، في الوقت الذي يجتاز فيه موكب فذاذته الشارع ؟
هل قل الإحترام إلى هذا الحد ؟ يحك قباحته التناسلية بدلا من أن يسجد أو يركع ، أو أن يهتف ويصفق لفذاذته على الأقل .
***********
في الوقت الذي كانت فيه الدنيا تضج بالخوارق والصخب والجنون والخرافات ، كانت موجات الطلق تحاصر أم محمد اليافاوية ( الله يسامحها ! إلا أن تلد هذا اليوم ؟) كانت الموجات تحاصرها وتكاد تخنقها ، فيما العرق يتصبب من مسام جسدها ، وصراخها يعلو ليختلط بصخب الإحتفاء ، وحماتها تفك أزرار ملابسها وتفتح لها فخذيها لتولدها في التاكسي ، دون أن تعير أي اهتمام لما يجري حولها.
وحقا ولدت أم محمد في التاكسي ، اندفع الوليد من الرحم مرة واحدة وكان ذكرا ، هللت الحماة وزغردت غير أنها فوجئت بأم محمد تزحر من جديد ليندفع وليد ثان !! فهللت وزغردت وراحت تقطع حبل السرة بأسنانها ، وما كادت تقطعه وتعقده حتى بوغتت بأم محمد تهتف لها بأن رحمها ما يزال ممتلئا بالأولاد ! فزغردت وراحت تتلقف الوليد الثالث ، وحين اندلق الوليد الرابع أخذت تردد ( خير يا ربي خير ) وودت لو أنها في البيت لتطلب بخورا ، لتبخر أم محمد كي لا تصاب بأعين الحساد . والحق أنه لم يكن هناك من يحسد ، فقد كان الناس منشغلين بأنفسهم ، بل بمصائبهم ، سواء الذين كانوا منتظرين في السيارات أو الهارعين في الطرقات ، الأموات منهم والجرحى ، الذين أغمي عليهم والذين ما زالوا أحياء!
اندفع الوليد الخامس . جنت الحماة من الغبطة وراحت تردد مقولتها بصوت أعلى ( خير يا ربي خير ، خير يا ربي خير ، أللهم صل على سيدنا محمد ، اللهم صل على سيدنا محمد ، كما صليت على سيدنا ابراهيم ، وعلى آل سيدنا ابراهيم ، في العالمين ، إنك حميد مجيد !) ونفخت في أنف الطفل ، وقطعت حبل السرة بأسنانها كالعادة ، وعقدته ، ثم امسكت الطفل من قدميه وقلبته رأسا على عقب ، هزته ثلاث مرات وألقت به على المقعد الأمامي إلى جانب اخوته ، وانثنت لتفتح فخذي أم محمد أكثر من ذي قبل لترى فيما إذا فرغ الرحم ، غير أنها سمعت صراخا قادما
من الداخل وهذا ما أطار صوابها ، فهذا السادس يصرخ قبل أن يخرج إلى النور ، تلقفته الحماة كما تلقفت سابقيه ، وعالجته كما عالجتهم ، وحذفته إلى جانبهم . كانوا يصرخون بأعلى أصواتهم بينما لسانها لا يتوقف عن النطق وترديد التعاويذ :
"حوطتكم بالله وحفظتكم بالله وقمطتكم بالله وثنيتكم بالله ، وربطتكم بالصلاة على النبي ! اللهم صل على محمد ، دياتكم عشرة ورجلياتكم عشرة وحضروكم اولاد الخليل عشرة ، اللهم صل على محمد "
ولم تتنبه إلى انها أخطأت في عد الأيدي والأرجل ، فقد انبعث أنين أم محمد التي أخذت تغيب عن الوعي ..انثنت إليها وسترت فخذيها ، وقد تنبهت إلى أنها تنزف .
مددتها في استقامة على المقعد ، وشرعت تقرأ على رأسها تعويذة ، إنما دون بخور ودون حتى ذرة تراب ؛
عين الحسود فيها عود ، عين الجار فيها نار ، عين الظيف فيها سيف ، عين المرا فيها بلا ! اللهم صل على محمد ..
وتنبهت إلى أن السيارات أخذت تتحرك مطلقة أبواقها ، لقد مر الموكب وفتحت الطرق وهذا السائق لم يأت ، أين ذهب يا ناس ؟
والسيارات التي تقف خلفها أخذت تطلق أبواقها بجنون طالبة فتح الطريق
نزلت من التاكسي تاركة الأطفال يصرخون وأم محمد ملقاة في المقعد الخلفي وقد خفت أنينها ..
هرعت نحو السيارة التي خلفها مباشرة ، كان الطبيب ميتا خلف المقود . هرعت إلى السيارة التي على يمينها ، كان العاشق ميتا أيضا ! هرعت إلى الخلف ، شاهدت أناسا يتململون في سياراتهم كالأشباح ، راحت تتوسل إليهم : :
الشفير راح وما رجع يا خيي ، وكنتي ولدت في التكسي ، ونزيفها ما وقف ، اسعفونا ألله يخليكم ، ساعدونا ألله يساعدكم ويقف معكم ..
ولم يسمع أحد ، ولم يكترث أحد ، والأبواق تضج بجنون ، وقد أخذت السيارات تجنح من هنا وهناك باحثة عن مسلك لتتابع سيرها بسرعة جنونية ، وكأنها تبحث عن الخلاص بعد انهيار الأعصاب وطول الإنتظار القاتل المقيت .
ظلت الحماة تشرع يديها للسيارات ، تهتف تصرخ تستنجد تستغيث ، دون أن يغيثها أحد ،إلى أن جاء سائق ، بعد قرابة ساعة من تحرك السير ، وأشفق عليها , أوقف سيارته جانبا وهرع إليها ، ألقى نظرة نحو مفاتيح السيارة فوجدها في مكانها ، رفع الوليدين اللذين خلف المقود وأعطاهما للحماة التي قرفصت إلى جانب أم محمد . امتطى السيارة على عجل وانطلق بها إلى المستشفى .
هزت الحماة كتفي أم محمد وخاطبتها باسمها ، غير أنها لم ترد ، ولم تستجب لأية حركة . لقد فارقت الحياة . هتفت الحماة والسيارة تنطلق بأقصى سرعة مطلقة بوقها :
< لا مستحيل تموت ! قالت أنها ستنجب حتى سن المائة >
وراحت تكرر عبارتها وتنتحب وهي تهز الوليدين اللذين في حجرها ، في محاولة لتهدئتهما ، فيما السائق يطير بالسيارة لاختصار الزمن الذي سيصل خلاله إلى المستشفى..
******
آب 87 .

الروائي والفنان محمود شاهين في سطور
من مواليد السواحرة- القدس 1946
درس الصحافة في القاهرة ( في معاهد إعلامية وصحفية )
ودرس الأدب العالمي والعربي والأسطورة والعقائد البشرية والفلسفة دراسة خاصة .
روائي . قاص . فنان تشكيلي . باحث . ناقد .مفكر. ويكتب الشعر كهواية .
*أعمال أدبية :
1- نار البراءة – قصص – دار ابن رشد – 79 ( ترجم منها إلى الانكليزية : نار البراءة . ضمن مختارات من الأدب العربي. والنهر المقدس. ضمن مختارات من الأدب الفلسطيني . الترجمتان بإشراف الدكتورة سلمى الجيوسي.
2- الخطار – قصص – دار القدس – بيروت – 79 . ترجم منها قصة "العبد سعيد " إلى الانكليزية والويلزية والفرنسية والألمانية وغيرها.
3- الأرض الحرام – رواية – وزارة الثقافة – دمشق – 83 ( ترجمت إلى التركية عام 2002 )
4- الهجرة إلى الجحيم – رواية – المؤسسة الجامعة – بيروت – 84 . طبعة ثانية 87
5- الأرض المغتصبة – رواية – دار الشيخ – دمشق – 89
6- غوايات شيطانية – رواية ملحمية - نثر وشعر (ترجمت إلى الألمانية عام 99 ) ( نشرت بالعربية على شبكة الإنترنت) وصدرت عن دار نينوى في دمشق عام 2008)
7- موتى وقط لوسيان – قصص – وزارة الثقافة الفلسطينية – رام الله – 98
8- رسائل حب إلى ميلينا . دار البيروني -عمان . بدعم من وزارة الثقافة الأردنية
9- ألملك لقمان . ملحمة روائية .جزءان.نشرت على شبكة الإنترنت أولا ثم صدرت عن دار نينوى في دمشق 2009)
10- أبناء الشيطان – رواية قصيرة دار البيروني . عمان 2014
11- أديب في الجنة . ملحمة روائية فلسفية تكمل ملحمة الملك لقمان . مكتبة كل شيء . حيفا أب 2017
12- أيوب التوراتي وفاوست جوته . بحث مقارن . مكتبة كل شيء .حيفا . 2018
- عديقي اليهودي. رواية . مكتبة كل شيئ . حيفا .2018
14- زمن الخراب . رواية . مكتبة كل شيئ . حيفا . 2019
15- قصة الخلق . رواية . مكتبة كل شيء 2021
*****
* منشورات على النت:
15 * - الخالق . الخلق . الغاية . دراسات في العقائد والأساطير الشرقية .وتقديم فهم معاصر لماهية وجوهر الخالق،والغاية من الخلق.تخلص إلى أن الخالق محبة مطلقة وطاقة سارية في الخلق ومتجلية فيه ، وأن الغاية من خلق البشرهي أن يكونوا خالقين ، لمساعدة الخالق في عملية الخلق ، فعملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق عند محمود شاهين ، وأن الغاية من الخلق هي تحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وإقامة الحضارة الإنسانية التي لن تكتمل عملية الخلق إلا بها .
20- شاهينيات : مقولات وخواطر في الفكر الإنساني والمعرفة والخلق والخالق ،تكمل موضوع شاهين عن الخلق والخالق والغاية من الخلق : 1531 مقولة ومقالة منشورة حتى 30 حزيران 2021
( نشرت في خمسة أجزاء في دار كتابات جديدة للنشر الالكتروني )


21- ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة . ( بحث تاريخي نقدي في عشرة فصول يتطرق إلى تاريخية شخصية المسيح ونشأته ومن ثم رسالته ومن ثم إلى فلسفة الألوهة ومن ثم النظرفي شخصية المسيح من وجهة نظر صوفية )
22- قراءة نقدية للتوراة . عشرة أجزاء.
- دفاعا عن محمد ( رد على كتاب العفيف الأخضر 32 -" من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ ")
33- السلام على محمود درويش . ( أشعار عن ديوان محمود درويش ، لماذا تركت الحصان وحيدا )
- مقالات في الألم الإنساني والمعرفة منها :
34- تحولات الألوهة من الأنوثة إلى الذكورة
35-التحالف بين يهوة والشيطان
36- فصول من روايات
37- قصص قصيرة وأشعار.
38- صلاة الفذاذة العظمى . رواية قصيرة
39- أم الشهداء. رواية قصيرة
* أبحاث أخرى نشرت في مجلات وعلى النت :
40- هيكل سليمان بين الحقيقة التاريخية والخيال الأدبي.
41- القدس تاريخيا بين منطق العقل ومنطق الجهل والخرافة .
42- القدس مدينة السماء في بعض النثر قديمه وحديثه.

*أعمال صحفية :

43- فلسطين أرض وحضارة – الدار الجماهرية – طرابلس – 85
44- حرب المواجهة في لبنان – الاعلام الموحد – دمشق – 83
*- دراسات ومقالات نقدية في صحف ومجلات شهرية وفصلية أهمها :
45- التحول من البداوة إلى النفط في مدن الملح
46- الحزن الدفين - دراسة في قصص الأديبة الفلسطينية سميرة عزام
47- مقالات في الرواية الفلسطينية
48- مقالات في الرواية العربية
49- مقالات في الرواية العالمية
50- مقالات في القصة الفلسطينية
مخطوطات لم تنشر :
51- الأرض المغتصبة – جبل المنطار, رواية
52-الأحزان المتعانقة – رواية
كما ترجمت بعض قصصه إلى الانكليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والاسبانية والروسية وغيرها, وبيعت بعض قصصه إلى السينما والتلفزيون .
- حولت قصته "نارة البراءة" إلى المسرح وعرضت في عمان عام 1991
*أقام محمود شاهين خلال سني حياته الفنية ما لا يقل عن ثلاثين معرضا شخصيا في العديد من مدن العالم منها باريس وبرلين وفينا والقاهرة ودمشق والناصرة والشارقة وعمان ووارسو ،عدا معرضه الدائم في دمشق لقرابة خمسة عشر عاما ، بحيث أصبح له قرابة ثمانية آلاف لوحة في أكثر من ثمانين بلدا في العالم . و أقام معرضه الشخصي االرابع في عمان منذ أن عاد إليها منذ تموز 2012 ، في منتدى الرواد الكبار خلال شهري تموز وآب 2016

*مر شاهين بأكثر من مدرسة فنية خلال مشواره الفني إلى أن انتهى إلى أساليبه التي تنتمي إليه وحده . وأصبحت تقنيته في الرسم الجداري مميزة جدا ، فهو يمارس الرسم والحفر والزخرفة في معظم أعماله المستوحاة من الأساطير والتراث القديم والشعبي الحديث. وتزخر بعض لوحاته الكبيرة بما لا يقل عن أربعة وعشرين تشكيلا مختلفا ‘ فيما يزخر بعضها بقرابة أربعين .
لجأ شاهين إلى الرسم الذي كان هوايته ،حين تعثر نشر بعض أعماله الروائية لجرأتها وصداميتها مع الواقع . وقد نشر بعض أعماله التي كانت ممنوعة فيما بعد ، ك" غوايات شيطانية ، سهرة مع ابليس "و ملحمة ( الملك لقمان ) عن دار نينوى في دمشق .

*مقتنيات عامة لبعض الأعمال الفنية :
المتحف الوطني بدمشق – لوحتان (70*100 )
وزارة الثقافة الفلسطينية
صحيفة الأخبار – مصر
سفارة فلسطين – دمشق
المركز الثقافي السوري - باريس
متحف القدس
المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة – عمان
******





الفهرس:
1- أسبوع الألام ..... الصفحة
2- العبد سعيد ......
3- ثلاثية أم الغيث ......
4- الخطار......
5- نار البراءة .....
6- النهر المقدس...
7- أبناء ابليس...
8- موتي وقط لوسيان
9- أم محمود أم الشهداء...
10- صلاة الفذاذة العظمى ...
11 – محمود شاهين في سطور...



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لقمانياة غزة (19)
- لقمانيات الحرب على عزة (18)
- الهجرة إلى الجحيم. رواية
- سعيد وزبيدة . رواية
- لقمانيات غزة(17)
- لقمانيات غزة (16)
- لقمانيات (15) حرب غزة!
- محمود شقير في - أنا والكتابة - سرد ممتع وبوح متألق!
- لقمانيات (14) في الفهم والعقل والمعرفة والأنظمة والدين!
- الصوفية الحديثة . لقمانيات (13)
- خير ما يقال في زمن القتل والحروب والخراب!
- لقمانيات (12) ليس هناك امرأة تملأ حياة رجل!
- الصوفية الحديثة. لقمانيات (11)
- الخالق خلق الانسان ليكون خالقا بدوره ليبني الحضارة
- إحياء الموتى في جهنم داجون:
- لحالة النفسية في قصة -جسدي بين صبرا وبسمة- لمحمود شاهين
- مسيرة آلام الفلسطيني في قصة -أم محمود أم الشهداء-
- لقمانيات (9) في ماهية الخالق والخلق!
- الرواية الملحمة -الملك لقمان-
- لقمانيات (8)


المزيد.....




- مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا يطالب بوقف الحرب عل ...
- فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي ...
- انقاذ سيران مُتابعة مسلسل طائر الرفراف الحلقة  68 Yal? Capk? ...
- فيلم السرب 2024 بطولة احمد السقا كامل HD علي ايجي بست | EgyB ...
- أستراليا تستضيف المسابقة الدولية للمؤلفين الناطقين بالروسية ...
- بعد إطلاق صندوق -Big Time-.. مروان حامد يقيم الشراكة الفنية ...
- انطلاق مهرجان أفلام السعودية في مدينة الظهران
- “شاهد الحقيقة كامله hd”موعد عرض مسلسل المتوحش الحلقة 32 مترج ...
- -سترة العترة-.. مصادر إعلامية تكشف أسباب إنهاء دور الفنانة ا ...
- قصيدة (مصاصين الدم)الاهداء الى الشعب الفلسطينى .الشاعر مدحت ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - اسبوع الآلام -عشر روايات قصار