أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - سعيد وزبيدة . رواية















المزيد.....



سعيد وزبيدة . رواية


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 7816 - 2023 / 12 / 5 - 00:19
المحور: الادب والفن
    


5
ملحمة اسمها “سعيد وزبيدة“
محمود شقير
1
يكتب محمود شاهين رواية ملحمية مستعينًا بما تراكم لديه من
خبرات في كتابة السرد الروائي، وبما لديه من قدرات في تطويع
لغة السرد لكي تستجيب لما يستدعيه خياله من صور فنية،
ومن مشاهد تصل حدود الفانتازيا والغرائبية، كأن تتعرى
نساء القبيلة أمام بطل الرواية الملحمي العبد سعيد بن قعدان
حين يبدأ عزفه على المجوز، فيكون القارئ في حالة استقبال
ناجز لهذه المشاهد التي يهيئ لها شاهين السبيل للدخول إلى
وعي القارئ من دون تعقيدات.
يستوحي محمود شاهين في روايته هذه روح الملاحم الشعبية
التي ظهرت في تراثنا مثل عنترة والزير سالم والأميرة ذات الهمة،
وكذلك الحكايات الشعبية التي يظهر فيها أبطال يستميتون في
الدفاع عن حبيباتهم، ويضيف إلى قصص الحب التي ظهرت
في أدبنا وفي الآداب العالمية قصة حب لا تقل إدهاشًا عن تلك
القصص، فيصبح حب سعيد وزبيدة إضافة أكيدة إلى قصص
الحب بين قيس وليلى وعنترة وعبلة وروميو وجولييت وغيرها
من قصص الحب الخالدة في الثقافة الإنسانية، ولا بد من التنويه
أن قصة الحب هذه بين سعيد وزبيدة لها سمات فلسطينية؛
حيث تدور وقائعها في القرن التاسع عشر، في زمن الإقطاع
وبقايا العبودية، في قبيلة بدوية تعيش على مساحة واسعة من
6
الأرض واقعة على تخوم مدينة القدس.
2
تبدأ الرواية من لحظة مثول العبدة سجاح المقيمة في منطقة
حوران بين يدي العرافة التي تتنبأ للطفل الذي تحمله سجاح
في رحمها، بأنه سيكون طفلًًا وسيمًا قويًّا وعازفًا ماهرًا. لكنه
سيتعرض للإخصاء وأهوال فظيعة اُخرى كيلا تفتتن النساء
بعزفه وجماله، يفقد على أثرها قوته الخارقة وقدرته على
العزف. ومن جراء هذا التنبؤ المشؤوم تغادر سجاح وزوجها
العبد قعدان حوران بإذن من سيدهما الإقطاعي الذي باعهما
لتاجر عبيد، وذلك هروبًا من المصير الذي سيتعرض له الطفل
المنتظر، ويأخذهما قدرهما في نهاية المطاف إلى فلسطين ليكونا
في خدمة الشيخ عاقب كبير قبيلة العقايبة. ولم تكن رحلة
سجاح وقعدان هينة قبل الوصول إلى حمى الشيخ عاقب، ثم إن
الشيخ نفسه أعجب بجمال سجاح، ما دفعه إلى التفريق بينها
وبين زوجها لتكون محظية له لسنوات عديدة.
3
بلغة سردية تبدو محايدة، لكنها في الحقيقة ملتحمة بكل
التفاصيل المرّة المؤلمة، يتابع محمود شاهين مصير العبدة
سجاح التي احتملت كل الصعاب من أجل أن تواصل حياتها،
واحتملت بكثير من الصبر مصير طفلها الذي خصاه الشيخ
7
عاقب حين رآه يتفوق على كل الأطفال في ساحة اللعب، خصاه
الشيخ كيلا يكون سببًا في افتتان الفتيات به، لكن زبيدة ابنة
الشيخ التي ولدت في اليوم ذاته الذي ولد فيه سعيد، ظلت
ملازمة له منذ الطفولة، ولم يتمكن والدها الشيخ من إبعادها
عنه برغم ممارسته الضغوط عليها وعلى سعيد؛ حدَّ إجبار هذا
الأخير على التنكر لحب زبيدة، لعلها تبتعد عن حبيبها ولكن من
دون جدوى.
4
لم يكن الإخصاء هو الممارسة الوحشية الوحيدة ضد سعيد،
بل إنه تعرض لمؤامرة من أبناء الشيخ الذين اغتاظوا من
سطوع نجمه في الحروب التي خاضتها القبيلة؛ إلى حدِّ أن ولّّاه
والدهم الشيخ قيادة الجيش، فاضطر أمام احتجاجهم إلى نزع
صلاحيات سعيد وإعادته راعيًا لأغنامه، ولم يكن سعيد يتذمر
أو يشكو من أي إجراء يتخذه الشيخ بحقه، بل كان يمارس
حياته بتفوق وإبداع في كل شأن يوكل إليه، فقد حمى أغنام
الشيخ من هجمات الذئاب، وحين صار عزفه المثير على الناي
يحفّز النساء على التعرّي أمامه وفي بيوتهن وأينما كنَّ، فقد كان
لا بدّ من قطع أصابع يديه لكي يكف عن ممارسة تفوقه الذي
لا يروق السادة المتحكّمين في رقاب الناس البسطاء المسالمين.
هنا؛ وكما يؤكد الروائي محمود شاهين، فإن خضوع سعيد
لهندسة حياته على النحو الذي يلائم مصالح السادة عبر
8
الإخصاء والإزاحة من مواقع القيادة وعبر تقطيع الأصابع وغير
ذلك من ممارسات، إنما ينبع من هذه المصالح التي تستهين
بكل شيء في سبيل الحفاظ عليها، وليس من تدبير القدر، بحيث
يبدو تنبؤ العرّافة بما سيحل بسعيد الذي ما زال جنينًا في بطن
أمه، مجرد حيلة فنية ابتدعها شاهين ببراعة، ليضع المتلقي
منذ البداية في طقس الملحمة التي تتكشّف بعض ملامحها، ثم
يجري الغوص في التفاصيل في ما سوف يلي من أحداث.
5
وهنا أيضًا؛ يفترق مصير العبد سعيد، البطل الملحمي لرواية
سعيد وزبيدة عن مصائر أبطال حكاياتنا الشعبية الذين
يعودون إلى أهلهم وقد انتصروا على كل المصاعب، وذلك من باب
التخفيف على الناس المسحوقين الذين يستمعون إلى الحكايات،
وإيهامهم بنصرٍ متخيّل ينقضه بلؤم واقعهم المأزوم، حيث
يجاهر محمود شاهين بالحقيقة المرّة التي تقول: لا يمكن
لإنسان بسيط في أسفل سلم التراتب الاجتماعي في مجتمع طبقي
أن يهزم الشر بمفرده مهما سمت قدراته الجسدية والذهنية، بل
إنه يظل عرضة للهزيمة وللموت، إنما من دون يأس أو تخاذل
أو خضوع، وبتأكيد على القيم النبيلة التي ينبغي أن تكون في
خدمة الناس برغم الظلم والعسف والتحكم بمصائر الناس.
6
في الرواية سرد مُتأنٍّ رصين لحكاية حب حافلة بالقسوة
9
وبالمفاجآت بين العبد سعيد بن قعدان وبين الفتاة الجميلة
زبيدة ابنة شيخ القبيلة، التي رفضت كل الخطّاب من أجل حبّها
الصادق الذي اضطرها في النهاية إلى أن تضع حدًّا لحياتها حين
رأت حبيبها سعيد يذوي ويموت أمام عينيها، فآثرت أن تموت
إلى جواره؛ لنكون أمام قصة حب شبيهة بقصص الحب التي
خلّدها التاريخ.
وطبقًا لذلك؛ تنتهي الرواية بمشهد ملحمي مؤثّر لا يمكن
نسيانه، إذ تنهي زبيدة حياتها لتموت إلى جوار حبيبها الذي
مات محرومًا من الوصال مع حبيبته على النحو السوي الذي
تفترضه حياة سوية لا ظلم فيها ولا عبودية ولا استبداد.
تحية للروائي القدير محمود شاهين
محمود شقير/ القدس
22/09/022

11
) 1( القدَر!
حين وجدت الجارية سجاح أن حملها يكبرأكثرمن المعتاد
ذهبت إلى العرّافة.. المرأة التي تنظر في شؤون الناس وتتنبأ
بمستقبل القبيلة، يسمّونها “الفتاحة“. وهي على عكس بعض
العرافين، تصدق تنبؤاتها في معظم الأحيان، فحين تنبأت لشيخ
القبيلة بأنه سيتزوج من ثلاث نساء، وأنّه سيخلّف تسعة أبناء،
سيقضي كبيرهم في حروب الدولة العثمانية، صدقت تنبؤاتها،
وحين تنبأت بعام القحط الذي سيأكل فيه الناس لحم الحمير
والقطط والكلاب وأوراق الشجر، صدقت تنبؤاتها أيضًا، أما
حين تنبأت بقدوم الأعور الدجّال وعودة المخلّص وقيام الساعة
فلم تصدق تنبؤاتها، غيرأنها لم تتراجع عمّا تنبأت به، متذرعة
بخطأ في التاريخ تم بتضليل شيطاني، فظهور المذكورين وقيام
الساعة قادم لا محالة، وعلى الأغلب سيحدث في العام الأخير من
الألفية الميلادية الثالثة!
جلست سجاح في مواجهتها على بساط من شعرالماعز، وفردت
منديلًًا أخضر أمامها ألقت عليه مجموعة من خرزات الودع،
راحت تعبث بها وتباعد ما بينها وهي تتمتم بكلمات غامضة
وتهز رأسها أعلى وأسفل تارة ويمينًا ويسارًا تارة أخرى،
مستطيبة أو مستنكرة ما تراه، غيرأنها ما لبثت أن انتفضت من
هول ما رأته، ما أوقع الرعب في قلب سجاح.
“ طمنيني يا ستي “
“أنت حامل بولد أكبرمن كل الأولاد. طوله فارع وجماله
12
ساحر. لونه أسمر، لكن سماره ليس أسود كالزنوج، فهو يميل
إلى الحنطي! ستسمونه سعيد، وسيكون قويًّا جدًا بحيث لن
يتفوق ولد عليه في المصارعة والسباق، وحين يكبر سيتمتع بقوة
خارقة.. وسيكون عازفًا ماهرًا، وستفتتن النساء بعزفه وجماله
وقوته..
وتصمت العرافة للحظات ثم تنتفض من جديد بعد أن تأكدت
مما رأته للمرة الثانية” يا لطيف يالطيف “
“ خير إن شاء الله يا سيدتي “
“ المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين!
“ الله يكف عنا الشر!
“سيفقد ابنك ذكورته “!
“ رحمتك يا رب.. كيف سيحدث ذلك “؟
“ في الغالب سيقوم سيد بخصي سعيد وهو في سن الطفولة كي
لا تفتتن به نساء القبيلة لجماله وقوته ومهارته”
“إن شاء الله لا يصير! وماذا بعد يا سيدتي؟ “
“ ستفتتن النساء بابنك، لكنه سيتعرض إلى أهوال فظيعة أخرى
يفقد على أثرها قوته الخارقة وقدرته على العزف“
ولم تجد سجاح إلا أن تتضرع إلى الله لينقذ ابنها من هذا المصير
المشؤوم.
*****
عادت إلى البيت في حالة من القلق والفرح. الفرح للمولود
الجميل القوي القادم، والقلق من الخوف على مستقبله. فكرت
13
في هجر البلدة التي تعمل هي وزوجها قعدان فيها، كمزارعين
لدى اقطاعي في حوران، لديه بعض بساتين الفواكه وحقول
الحبوب. فخصي الطفل على الأغلب سيكون فيها وربما من قبل
السيد نفسه الذي يعملان عنده.
ذهبت إلى بستان حيث يعمل قعدان. أسرت له بالنبأ المفرح
المحزن، وطرحت عليه مغادرة البلدة، بل حوران كلها والذهاب
إلى فلسطين أو شرق الاردن، لعلهما ينجيان الطفل من القدر
الذي تنبأت به العرافة.
فأجأ الأمر العبد قعدان وبدا محتارًا للحظات، وما لبث أن
خاطب زوجته:
- أنسيت أننا عبيد يا سجاح وأننا ملك للسيد، ولن يقبل أن
يعتقنا دون ثمن؟
- قد يقبل يا قعدان أن يعتقنا أو يتخلى عنّا مقابل بيعنا إلى
تاجر عبيد أو إلى سيد آخر.
- وإذا لم يقبل.
فكرت سجاح للحظات:
- سنهرب تحت جنح الظلام.
- وهل سننجح في الهرب؟
- ولماذا لا ننجح؟
- لكن ما أدراك أن القدر المرسوم لطفلنا لن يلاحقه أينما حل؟
- حدسي يخبرني أن الخصي والأهوال الأخرى التي ستحل
بالطفل ستكون في هذه المنطقة وليس غيرها.
14
- آمل أن يصدق حدسك. سنمثل أنا وأنت أمام السيد هذا المساء
وأطلب إليه أن يشملنا بعطفه ويعتقنا.
*****
في المساء جثا العبد قعدان وإلى جانبه زوجته سجاح أمام
سيدهما.
تساءل السيد بعد أن تأملهما لبرهة:
- ماذا لديكما يا قعدان؟
- جئنا نطلب سماحك وعفوك يا سيدي؟
- ماذا تقصد؟
- أن تعتقنا يا سيدي؟
تفاجأ السيد بالأمر فليس من عادة العبيد أن يطلبوا العتق.
- اعتقكما هكذا لوجه الله؟
- ينالك ثواب عظيم من عند الله يا سيدي!
- لكني دفعت ثمنكما بالعملة العصملية!
- سيجزيك الله بعشرة أمثالها يا سيدي.
- وما الذي دفعكما إلى هذا الأمر، أهو الخلاص من العبودية؟
- كلا يا سيدي. لقد كنا ننعم بالطمأنينة في رحاب ظلالكم.
- ماذا إذن؟
- تنبأت عرافة القبيلة بأن ابننا سيلاقي أهوالًًا في طفولته
وشبابه.
- أية أهوال هذه التي تنبأت بها العرافة؟
- سيخصى الطفل من قبل السيد الذي نعمل عنده على الأغلب!
15
وسيواجه مصائب أخرى لم تفصح عنها العرافة.
راح السيد يضحك وما لبث أن تكلم:
- اطمئن يا قعدان. من ناحيتي لن اقوم بخصي الطفل، فأنا قد
أحتاج إلى عبيد من نسلكم بعدما أعجبني عملكما أفضل من
معظم العبيد الذين لدي. ثم لا تصدق العرّافين فهم يكذبون في
الغالب. وقد يكون الحمل الذي في بطن امرأتك أنثى وليس ذكرًا!
- إنه رجاؤنا يا سيدي، وقد أخذنا قول العرافة على محمل الجد!
- لكن من يضمن لكما أن الطفل لن يواجه قدره أينما حل؟
- ليس أمامنا غير ذلك يا سيدي!
- يبدو أنكما تصرّان على الأمر.
- ونأمل كرمك يا سيدي.
أطرق السيد للحظات متفكّرًا. ويبدو أنه استقر على أمر.
فقعدان خدم لديه قرابة اثنتي عشرة سنة، وسجاح قرابة عشر
سنين، وهما يستحقان أن يعتقا بشكل ما..
- لن أتخلى عنكما دون مقابل. سأصحبكما غدًا إلى تاجردمشقي
للعبيد له مقر في حوران يصدّرمنه عبيدًا إلى فلسطين وشرق
الأردن والجزيرة والعراق وأبيعكما. وآمل أن تواجها حظًا
سعيدًا.
- نشكر كرمك يا سيدي!
*****
عادا إلى كوخهما الصغير. دون أن يبدو عليهما كبير تفاؤل.
فالتنقل من سيد إلى سيد آخر، حتى لو كان في مكان أبعد، تنقل
16
من عبودية إلى أخرى، وربما تكون العبودية اللاحقة أسوأ من
السابقة، وربما مع سيد أسوأ أيضًا. ومع ذلك قد يكون في الأمر
نجاة من القدرالمحتوم للطفل.
هذا ما توصل إليه قعدان وسجاح وهما يستلقيان على حصير
دون غطاء..
راح الجنين يتحرك في رحم سجاح. تحسست بطنها وهي
تضحك مشيرة إلى قعدان بحركته:
- سعيد يتحرك يا أبو سعيد، يبدو أنه غير مرتاح في رحمي.
- هل أسميته سعيد منذ اليوم؟
- العرافة قالت أننا سنسميه سعيد.
- سعيد ورسم له الشقاء قبل أن يولد، أي سعادة هذه؟
- إنه قدرنا يا أبو سعيد!
- قدرنا الذي رسمه لنا سادة الحروب وسادة المال، وليس الله!
- وهل تظنين أن الطفل سينجو من هذا القدر؟
- آمل ذلك..سمعت أن هناك من يطالب بتحرير العبيد!
- لا أمل يلوح في الأفق ما لم يوافق السادة على الأمر، وهم على
الأغلب لن يوافقوا..
- لنا الله يا أبو سعيد.
- ألا تظنين أن سيدنا ربما كان أرحم من غيره وخاصة بموافقته
على بيعنا؟
- يبدو الأمر كذلك مع أنه كثيرًا ما عاقبنا على مسائل لا تستحق
العقاب. ولم يزوجني لك إلا بعد أن ملّ من مضاجعتي.
17
وعادا إلى قلقهما من المستقبل تخوفًا من رحلتهما القادمة في
العبودية وماذا يخبّئ القدر لهما. مر في مخيلة قعدان شريط
المتاجرة به مع مجموعة من التجار والأسياد
منذ أن كان طفلا يلهو مع الأطفال على شواطئ النيل شمال
السودان وأسره مع مجموعة منهم ليحشر في سفينة مع مجموعة
من العبيد والأطفال مقيدين بالأغلال، ليباع في مرفأ إلى تاجر
أخر ومنه من سيد إلى سيد إلى أن استقر عند هذا السيد. ومر
في مخيلة سجاح الشريط نفسه مع طفولة منتهكة واجهت فيها
عذابات وآلام منذ أن كانت طفلة باعها أبواها من شدة عوزهم
لسيد حبشي، افتضها وهي في التاسعة من عمرها ليبيعها فيما
بعد إلى سيد خليجي لتمكث عنده قرابة عشرة أعوام قبل أن
يبيعها، لتستقر أخيرًا عند هذا السيد الحوراني.
- يجب أن ننام يا سجاح لنقدرعلى مواجهة ما ينتظرنا في الغد.
استرخيا وأغمضا أعينهما في محاولة للنوم على أمل أن لا يريا
كوابيس فظيعة.
****
18
) 2( سوق العبيد!
مثل قعدان وسجاح في صباح اليوم التالي أمام تاجر العبيد
الدمشقي. كان مجلسه في غرفة واسعة مفروشة بالسجاد
وضعت فيها آرائك وثيرة مبطنة بنسيج من المخمل البنّي.
تأمل التاجر سجاح أولًًا ثم راح يتأمل قعدان، دون أن يتفوه
بكلمة، غير أنه كان يهز رأسه أعلى وأسفل مطلقا همهمة وكأنه
يرى فيهما شيئًا كان يبحث عنه.
خاطب سيدهما “جعفر” الجالس إلى جواره متسائلا:
- من أين هما؟
- العبد من السودان والجارية من الحبشة.
- ماذا يسميان؟
- قعدان وسجاح!
استوقف اسم سجاح التاجر، فتساءل:
- لعلها من أصل تميمي لحملها هذا الإسم الذي حملته سجاح
بنت الحارث الشاعرة التميمية التي ادعت النبوة، وألفت جيشًا
من أربعين ألف محارب هزمه جيش أبو بكر.
- لا ليس لها علاقة ببني تميم كما أعرف. ولا أظن أن بعض
أبناء القبيلة هاجروا إلى الحبشة.
- آها.. وما دينها؟
- مسلمة!
- وممن هي حامل؟
- من العبد..هو زوجها!
19
- آها! وما دينه؟
- إنه مسلم أيضا!
- وكم عمره؟
- في حدود الثلاثين.
- والجارية كم عمرها.
- العمر نفسه تقريبًا..
- أها آها.. جيد أنهما مسلمان وليسا كافرين.. ولماذا تريد
بيعهما يا سيد جعفر!
- في الحقيقة أحببت أن ألبي لهما رغبة في مغادرة هذه المنطقة
كونهما مسلمين، ولو كانا كافرين لما تخليت عنهما بسهولة. ثم
إنهما خدماني بإخلاص لأكثر من عقد من الزمن.
- أها.. أنت حنون يا سيد جعفر! حنون جدًا.. كم تريد ثمنهما؟
- عصمليتان ذهبيتان ونصف!
- أوه هذا كثير. كثير جدًا.. بهذا المبلغ أشتري ثلاثة عبيد وثلاث
جوار! لكن هل لديك ما يكفي من العبيد والجواري يا سيد
جعفر حتى قررت الاستغناء عنهما؟
- في الحقيقة قد أحتاج وسأشتري فيما بعد إن احتجت.
- ولماذا لا تشتري اليوم قبل أن ترتفع الأسعار يا سيد جعفر.
أوروبا وأمريكا باتا في حاجة إلى ملايين العبيد للعمل. والتصدير
إلى مناطقنا قد يقل كثيرًا.. الأوروبيون والأمريكان يستولون على
مئات الآلاف منهم شهريًا. لدي عبيد صغار السن ولدي جاريات
صغيرات قد تحتاج إلى واحدة تتمتع بجمالها.. سأعطيك عبدًا
20
وجارية صغيرة بدلًًا منهما..
لانت نفس جعفر للصغيرات وبدا أنه سيوافق على المبادله، لكن
جاريته حامل، كما أنها تجيد العزف والغناء، فتساءل:
- لكن جاريتي حامل! ثم إن عبدَي مجربان ومضمونان. فهما
خدومان ومطيعان ونشيطان. والجارية تجيد العزف على العود
والغناء.
- أوه يا سيد جعفر.. حمل جاريتك سيكلفني أو سيكلف من
سيقتنيها الكثير، ثم إن بيعها كحامل وبرفقة زوج لن يكون
سهلًًا على الإطلاق، وضمانهما لن يفيدني شيئا.. لكن لا مانع
من أن تعطيني شهادة مكتوبة بحسن سلوكهما وطاعتهما! أما
عن الغناء والعزف فمعظم الجواري يجدن ذلك..
عشق الصغيرات استولى على عقل جعفر فلم يطل في المساومة:
- سأنظر في الأمر بعد أن أرى البديل والبديلة!
- يمكنك أن تذهب إلى حظيرة العبيد وتختار ما يعجبك. وهذه
الميزة لا أقدمها لغيرك!
- تشكر!
أشار جعفر إلى سجاح وقعدان أن ينهضا ويمكثا في الخارج
مع مرافقيه إلى أن ينظر في الأمر، وذهب برفقة عبد إلى حظيرة
العبيد.
حظيرة محاطة بجدارعال دون سقف يجلس فيها عشرات
العبيد والجواري، مقيدين إلى حبال تربط كل عبد بالأخر،
والجواري كذلك. دخل السيد جعفر إليها وراح يتأمل وجوه
21
وأجساد الفتيات أولًًا.
اختار طفلة من الواضح أنها لم تبلغ سن الرشد بعد. وشابًا بدا
أنه لم يتجاوز العشرين من عمره..
ساقهما العبد إلى مجلس التاجر ليمثلا أمامه جاثيين على
ركبهما.
- هل أعجباك. هذه الصغيرة لم تتجاوز الرابعة عشرة، ستتمتع
بها كثيرًا.
هتف التاجر.
- مبدئياّ نعم. لكني أريد أن أراهما عاريين وأختبرهما.
- لك ما تريد.
وأشار إلى الطفلة أن تنهض وتتعرى.
نهضت الطفلة ونزعت ثوبها الذي لم يكن على جسدها غيره،
ووقفت حانية رأسها خجلة.
- ارفعي رأسك وانظري نحونا، وافتحي رجليك.
- جميلة أليس كذلك. سمارها مدهش. ليست زنجية. سمراء
نصرانية. عيناها واسعتان سوداوان على حوَر، بل حوراء.
وجنتاها كلُبّ التفاح. أنفها حبة فراولة على أمّها! فمها كرزة
ناضجة. شفتاها مرجان تنشدان القبل.عنقها كعنق الزرافة.
نهداها كإجاصتين بالكاد نبتا. سرتها جوهرة على بطن حريري.
عانتها بالكاد بزغت. فرجها خاتم زمرّد. فخذاها وساقاها من
مرمر مصقول. ردفاها جرّتا زبد بينهما فص من ألماس! قدماها
صغيران كظلفي ظبية. ما رأيك يا سيد جعفر.
22
- إنها جميلة حقًا جميلة.إنك تجيد الوصف يا سيد!
- يمكنك أن تتذوق رحيق شفتيها ولسانها إن شئت!
ورغم أن لسان السيد جعفر كان يتلمظ في فمه لالتهام شفتي
الطفلة إلا أنه فضل التريث!
- فيما بعد.
- ابتسمي!
ابتسمت الطفلة بتصنع!
- اضحكي!
ضحكت بتصنع أيضًا.
- أسنانها كاللؤلؤ المنظوم أليس كذلك يا سيد جعفر!
هز جعفر رأسه دون أن يتكلم.
-افتحي فمك واخرجي لسانك!
فتحت فمها وأخرجت لسانها.
- عسل في خابية من المسك والعنبر يا سيد جعفر.
- جميلة. لو تستدير وتنحني!
- هيا استديري.
استدارت الطفلة.
- أطلقي شعرك ولا تبقيه كذيل فرس.
أطلقت شعرها لينسدل على ظهرها.
- حرير أليس كذلك يا سيد جعفر؟
هز جعفر رأسه بالإيجاب.
- هيا انحني..
23
انحنت الطفلة واضعة يديها على ركبتيها!
- ردفاها مكتنزان مع أنها ما تزال صغيرة!
- هل هي ثيب أم عذراء يا سيد؟
- سامحك الله يا جعفر، هل تبقى جارية عذراء لدى سيد؟
ابتعتها ثيبًا. أخبرتني أن سيدها الأول افتضها وهي في الثامنة
من عمرها، أسرت بعد أن قتل أبواها في حرب قبلية في اليمن
وتنقلت بين سيدين بعد ذلك. أنا ابتعتها من سيدها الثاني وهي
في الثانية عشرة.
- خسارة!
- أبدًا يا سيد جعفر، إنها أفضل ربح لك، لن تقتني من هي
أجمل منها، لغيرك لا أبيعها بخمس عصمليات. وها أنا ابادلها
بجارية حامل!
- ما اسمها؟
- عفراء!
- اسم جميل! وإن كان لا يعبرعن حال الجارية غير العفراء.
ماشي الحال.
ونهض جعفر وشرع في جس نهدي الطفلة وردفيها..وما لبث
أن هتف:
وافقت عليها.. ليتعرى العبد..
أشار التاجر إلى الطفلة أن ترتدي ثوبها ليتسلمها عبدان من
مرافقي الاقطاعي جعفر؟
وطلب إلى العبد أن ينهض ويتعرى.
24
نزع العبد ملابسه ليقف عاريًا.
هيا شد عضلاتك لتبرز مفاتن جسدك أمام السيد.
شد الشاب عضلات جسده قدر الإمكان.. أشار السيد إليه أن
يشد أكثر فأكثر أقصى ما يستطيع.
برزت عضلات العنق والعضدين والساعدين والفخذين وغيرها
ليبدو العبد الشاب وكأنه بطل كمال أجسام رغم سوء التغذية
الذي يعيشه معظم العبيد.
- رائع أليس كذلك؟
- يبدو أنه غير مخصي!
- يمكنك أن تخصيه إذا تخوفت على نسائك منه.
- ما اسمه؟
- اسمه يعفور!
- ما شاء الله عفراء ويعفور، لعلهما أخوان؟
- لا ليسا أخوين!
- من أين هو؟
- من عُمان
لم يقم جعفر بجس جسد العبد، قال:
- حسن.. وافقت عليه..
- بارك الله لك فيه وفي الجارية الصغيرة.
وأشار التاجر إلى العبد أن يرتدي ملابسه ليتسلمه مرافقوجعفر
من العبيد. كما تسلم مرافقو التاجر سجاح وقعدان ليصحبوهما
إلى حظيرة العبيد.
25
كتب جعفر شهادة يشيد فيها بسلوك وطاعة سجاح وقعدان.
مهرها بخاتمه وسلمها إلى التاجر. ولم يكن قادرًا على الانصراف
دون أن يتذوق رحيق فم صغيرته، فلسانه ما يزال يتلمظ في
فمه. نهض وأشار إلى الطفلة أن تدنو منه. أخذ رأسها بيديه
والتهم شفتيها مولجًا لسانه في فمها...
ودع جعفر التاجر وانصرف بصحبة مرافقية والطفلة والعبد
االصغيرين.
*****
لم يكن لدى هذا التاجر سلاسل من الحديد. بل سلسة طويلة
من الحبال ذات رباق، توضع حول عنق العبد، يفصل بين
الربقة والربقة قرابة متر. وكانت رباق الإناث منفصلة عن رباق
الذكور. ويحرس الجميع مجموعة من عبيد التاجر مسلحين
ببنادق بدائية وكرابيج وسيوف.
تضم حظيرة التاجر قرابة ستين عبدًا وأربعين جارية. جمعهم
من أسواق مختلفة للعبيد في سوريا والعراق وبعضهم ابتاعهم
من أسيادهم. ومعظم العبيد ينتمون إلى شعوب افريقية وقلة
منهم تنتمي إلى جزيرة العرب ومصر وبلاد الشام والعراق.
وكثر من هؤلاء مرّوا بحياة لا تطاق سواء بقطع الفيافي والقفار،
تحت وقع السياط، أو بحشرهم في سفن تجارية وجلبهم عبر
البحر الأحمر وسط ظروف قاسية ومعاملة تفتقر إلى أبسط
الحقوق الإنسانية. فهم يعاملون في الغالب كحيوانات لا كبشر..
أَربقت سجاح مع مجموعة من الجواري فيما أربق قعدان مع
26
مجموعة من العبيد.
لتبدأ رحلة معاناة جديدة إلى عالم يجهلانه، في محاولة يائسة
لمواجهة قدرلا مفر منه رسم لطفل لم يولد بعد.
تساءلت سجاح وهي تتقوقع على نفسها مربوقة إلى جانب
شابة زنجية:
- لماذا يربقوننا طالما أننا داخل حظيرة محاطة بجدارعال.
- يخافون أن نتمرد ونجد وسيلة للهرب.
لم تتوقع سجاح أن تكون البداية على هذه الطريقة المذلّة،
وراحت تلوم نفسها لطلبها إلى قعدان أن يهجرا سيدهما، بل
وراحت تلوم قعدان الذي وافق في النهاية على رأيها.. وكانت
هذه حال قعدان الذي راح يلوم نفسه لموافقته على الهجرة. فهما
على الأقل كانا مستقرين وفي حال أفضل من هذه عند سيدهما،
رغم أنهما كانا يعملان لأكثر من أربع عشرة ساعة يوميًا. جاء
أحد المتسوقين الأسياد، بدا وكأنه شيخ عشيرة أو قبيلة.. راح
يتأمل الجواري دون العبيد. تمنت سجاح أن لا يختارها أحد من
المنطقة نفسها، والأسوأ أن يختارها أحدهم دون زوجها، وأن
يوافق التاجر على بيعها.. كان مجرد التفكيرفي الأمر يشعرها
بالرعب. كان قعدان مربوقًا على مسافة أمتار منها مع جماعة
من العبيد وكانا يحدجان بعضهما بين فترة وأخرى بنظرات
تخالجها الحيرة والقلق.
اختار المتسوق جارية شابة. فكها حارس من الربق واقتادها
خلف المتسوق إلى حيث يجلس التاجر. كان غذاء العبيد وجبتين
27
فقط في اليوم. وجبة في الصباح ووجبة في المساء. وجبة الصباح
تكون في الغالب من البيض المسلوق وشرحات من البندورة
والخيارورغيف من الخبز وكأس شاي. يعطى العبد بيضتين
مع قليل من شرحات البندورة والخيارإضافة إلى رغيف الخبز.
أحيانا يرافق الفطور القليل من زيت الزيتون والزعتر وبيضة
واحدة مسلوقة. العشاء في الغالب ثريد مرق البندورة مع الأرز
أو السميد، أو ثريد مرق العدس مع الخبز.. ونادرًا ما يكون
مجدرة. اللحم لا يقدم للعبيد لدى التجار، والمحظوظون منهم
هم من يتذوقون اللحم عند سيد رحيم بعض الشيء. في أحيان
أكثر ندرة يقدم لهم سمك السردين.
هذا ما عرفته سجاح من جارتها المربوقة إلى جانبها، حين
تساءلت عن الطعام بعد أن شعرت بالجوع. كانت الجارة في
حدود الأربعين من عمرها، وقد مرت في حياتها بأكثر من سيد.
مرالنهارالذي بدا لسجاح أطول نهارعرفته في حياتها لشعورها
بالجوع والعرق يتصبب من جسدها لحرارة الجو.. فالحظيرة
غير مسقوفة والعبيد يبقون في العراء وسط حر رهيب.
حان وقت العشاء ليصطف العبيد في طابور والجواري في
طابورآخر داخل الحظيرة، أمام مائدتين كبيرتين وضع عليهما
طناجر ممتلئة بثريد البندورة مع الأرز والخبز، إلى جانب
صحون وملاعق.
حين يصل الدور إلى الجارية أو العبد، يملأ العبد الطباخ صحنا
بالثريد ويضع فيه ملعقة ويقدمه له.. وعلى العبد أن يخطو
28
قليلا بقدرالمسافة التي تفصله في الربق عن العبد الذي يتبعه،
ليتيح له أن يقترب من الطباخ، ويشرع في تناول طعامه وقوفًا،
وكان يتحرك كلما ملأ عبد صحنه وتحرك جانبا ليتيح الدور
لمن يتبعه.. لم تكن حركة العبيد تتم في اتجاه واحد، فالشخص
الأول الذي أخذ طعامه هو من يحدد سير الطابور وحسب
أوامرالحارس. فهو في الغالب ينعطف يمينا ثم يمينا مرة أخرى
لتتم العودة إلى المكان الذي انطلقوا منه. وكان العبيد الأوائل في
الطابور ينهون طعامهم قبل أن يحصل من هم في المؤخرة على
طعامهم. فيبقون واقفين في الربق إلى أن يحصل الأخرون على
طعامهم ويشرعوا في تناوله..
كانت سجاح في مؤخرة الطابور. وحين وصلها الدور كان
ظهرها في مواجهة ظهور بعض الجواري الأخريات اللواتي
حصلن على طعامهن وشرعن في تناوله.
ملأ الطباخ صحن سجاح إلى آخره حين رأى أنها حامل، وراح
يردد لها:
“” أنت حامل ويجب أن تأكلي ما يكفيك ويكفي الجنين “
- أشكرك يا سيدي.
بعد العشاء لا بد أن يخلد العبيد إلى النوم لكن بعد تقييد
أيديهم خلف ظهورهم، حتى لا ينزعون الرباق من أعناقهم
ويقدمون على ما لا تحمد عقباه.
****
29
) 3( ليلة سمر!
كان لليوم أن يمر حسب ما جرى لولا أن السيد أمرأحد عبيده
أن يختار أجمل جاريتين من اللواتي يجدن الرقص أو العزف
والغناء، وأشار إليه أن يصحب معهن الجارية الجديدة سجاح
ليتعرف إليها أكثر!
فوجئت سجاح باختيارها من قبل العبد. لم تصدق نفسها فلا
يعقل أن يتسامر السيد مع جارية حامل قد لا تجيد الرقص
والغناء، فراحت تتأكد من العبد.
- لماذا اخترتني يا أخي وأنا امرأة حامل لا تجيد لا الرقص ولا
الغناء.
- لست من اختارك بل السيد نفسه هو من طلب أن أحضرك.
والحق إن سجاح كذبت على العبد في ما يتعلق بالرقص والغناء،
لعله يتخلى عن اختيارها مع الجواري. وحين عرفت أن السيد
هو من طلبها انتابتها الوساوس وتمنت في سريرتها ألا يكون
السيد قد اختارها لمواقعتها.. لم تكن تخاف على نفسها بقدر ما
تخاف على قعدان أن تتفجر غيرته عليها إذا ما عرف أن السيد
واقعها. فالسيد السابق لم يواقعها بعد أن زوجها له، ليس
حرصًا على نفس قعدان، بل لأنه ملّ منها. وحين كان يستدعيها
للسمركانت الغيرة تنتاب قعدان وينهال عليها بالأسئلة “ هل
غازلك، هل قبلك، هل جامعك “ فتؤكد له أنه لم يفعل شيئا
من كل هذا.. فالسيد يدعي أنه ملتزم بشرع الاسلام الذي حرم
وطء الجارية المتزوجة ما لم تنفصل عن زوجها. ومع ذلك
30
تظل الشكوك تراوده. وحين رأى العبد يفك قيد سجاح ويخرج
الربقة من رأسها ويصحبها مع جاريتين إلى صالون السيد، لم
يتوقع غيرالأسوأ لما سيجري لها.. فراحت الغيرة تنهش قلبه وود
لو في مقدوره أن يفعل شيئا يشفي غليله.
المحظيات من الجواري اللواتي يختارهن السيد للسمر يتميزن
عن الأخريات بأنهن يدخلن الحمام ويغتسلن ثم يلبسن أفضل
الملابس ويتعطرن ويسرحن شعورهن ويتجملن قبل أن يمثلن
في حضرة السيد. ويتاح لهن أن يتناولن من الأطعمة ما لا
تتذوقه الأخريات..
أدخلت سجاح مع الجاريتين إلى الحمام. استحمت وتعطرت
وسرحت شعرها وأعطتها الجارية المشرفة على خدمة المحظيات
ثوبًا من الحرير الأزرق المزين برسوم وزخارف مختلفة. فبدت
كأميرة اغريقية! طلبت عودًا من المشرفة فأعطتها عودًا ادعت
أنه جديد.
تعلمت سجاح الغناء والعزف على العود من طفولتها، إلى أن
تمكنت منهما وهي في خدمة سيدها الخليجي الذي أمضت لديه
قرابة عشر سنين تعلمت خلالها العربية أيضًا وحفظت الكثير
من الشعر العربي.. وباعها الخليجي بثمن باهظ إلى تاجر
عراقي حين ساءت أحواله.. اقتناها العراقي قرابة عام وباعها
إلى سيدها الأخير وهي في حدود العشرين من عمرها، وزوجها
إلى قعدان وهي في حدود السابعة والعشرين.
إحدى الجاريتين ) ظفيرة( ارتدت ثوبًا للرقص، بينما الأخرى )
31
لمياء( ثوبًا عاديًّا، وطلبت طبلة كونها تجيد الضرب عليها.
رحب التاجر بالجاريات بوجه باش، وكلمات تسرالنفس قائلا
“ أهلًًا بالأميرات“
كان يلم ببعض حقوق الجواري حسب الشريعة غيرأنه لم يتقيد
بها في حياته. فكان يضاجع الكثير من الجواري قبل بيعهن.
أجلس سجاح إلى يساره وظفيرة إلى يمينه، ولمياء في مواجهته ..
كان يجلس على أريكة واسعة وثيرة خلف مائدة تعج بالفواكه
المنوعة وزجاجات الخمر والكؤوس. حضرت جارية خادمة
وملأت كؤوس المسامرات الثلاث، ليشرب السيد نخبهن.
اعتاد السيد التاجر أن يبدأ مسامرته بالقبل والكلام الجميل،
فما أن تبادل الأنخاب مع الجواري حتى طوق عنق سجاح
بشماله وشرع في تقبيل خدها مرددأ“ أهلا بأميرة الأميرات، لم
أبتعك إلا لأنك جميلة “
تقبلت سجاح الوضع على مضض دون أن تبدي ذلك للسيد
غير أنها شكرته “ شكرًا ياسيدي “
كان يتمتع بالقبل الخفيفة من الخد وكأنه يقبل ورده. غير أنه
ما لبث أن قبل عينها ووجنتها لينحدر إلى عنقها ويرفع بيمناه
رأسها ليمطر العنق بالقبل الخفيفة ذاتها.
لا تذكر سجاح أن سيدًا قبلها بهذه النعومة من قبل.. وبدا لها
أن السيد رجل مهذب ولطيف ويمكن أن تتجاوب معه بقدر ما
يتيح لها حملها.
توقف السيد للحظات كرر خلالها شرب نخب جواريه وعاد إلى
32
سجاح ليمطر شفتيها بالقبلات الخفيفة ذاتها، غير أنه ما لبث
أن تعمق بقبلة بأن التهم شفتيها، تجاوبت سجاح قدر الإمكان
معه حتى لا تبدو له غير متقبلة للوضع مما سيعرضها لما لا
تحمد عقباه. لم يتوقف السيد على ذلك وراح يتعمق في التقبيل
بأن أولج لسانه في فم سجاح وطلب إليها أن تولج لسانها في
فمه.. شعرت سجاح بالقرف لكنها لا تقدر على التمنع خوفا
من العاقبة..
تنفست الصعداء حين توقف السيد وبادل سجاح والجاريتين
الأنخاب من جديد لينتقل بعد ذلك إلى الراقصة ظفيرة الجالسة
إلى يمينه.
كانت ظفيرة عارية الفخذين بثوب الرقص. تحسس فخذها
الأيسر ثم صعد إلى صدرها ليداعب نهديها ويشرع في تقبيلها.
هي في حدود الخامسة والعشرين من عمرها، من أصل مغربي.
أما ضاربة الطبلة لمياء فكانت دون العشرين، من أصل لبناني.
والجواري الثلاث كان سمارهن خفيف يميل إلى لون الحنطة
ولسن سوداوات.
ما أن فرغ من الراقصة حتى طلب إلى )لمياء ( أن تجلس في
حضنه ليشرع في مداعبة نهديها وتقبيلها.
أخيرا فرغ السيد من طريقته في استقبال مسامراته وطلب إليهن
أن يتناولن الفواكه، ويشربن المزيد من الخمر. كانت سجاح
جائعة بعد ثريد مرق البندورة فتناولت موزة وتفاحة.. وكذلك
فعلت الجاريتان..
33
لاحظ السيد أن سجاح لم تشرب إلا القليل من كأس الخمر
الأول، فتسأءل:
- لماذا لا تشربين يا سجاح؟
- الخمر يضر بالحمل يا سيدي وليس في الامكان أن أشرب
كثيرًا..
- الحق معك. اشربي كما تشائين. لنبدأ السمر إذن.. أسمعينا
شيئًا على العود يا سجاح.
أخذت سجاح العود وداعبت أوتاره ثم شرعت في العزف. ترنمت
بتقاسيم لحنية وجدانية ناغت فيها الليل وما يحمله من جراح
للمعذبين، ما أشغف قلب السيد ومسمعه. فراح يردد “آه يا
سجاح آه “
شرعت في ترديد كلمات من قصيدة لأبي البحر الخطي البحريني
) جعفر بن محمد(. ذكرت عنوان القصيدة وإسم الشاعر أولًًا
ثم شرعت في الغناء:
يا من نأت بهمُ الديار فأصبحوا
مستوطنين على النوى الألبابا
إن تُكسِبِ الألقابَ من يُدعى بها
شرفًا فقد شّّرفتمُ الألقابا
ردد السيد مستطيبًا، وسجاح تجود من أعماقها بصوت شجي:
“ الله عليك يا سجاح لن أبيعك بكنوز سليمان “!
وهذه أكبر كذبة كذبها التاجر. فسنرى أنه سيبيعها ببضع
عصمليات فيما بعد.
34
فارقتم فجعلت زقومَ الأسى
زادًا وغساق الدموع شرابا
أكذاك كل مفارق أم لم يكن
قبلي محب فارق الأحبابا
يامنتهى الآراب هذي مهجتي
قد قُطِّعت من بعدكم آرابا
“ الله الله الله أي جمال هذا يا سجاح أي كنز أنت بحق السماء”؟
وتأسفي أني غداةَ فراقكم
لم أقض من توديعكم آرابا
اني لأعجَبُ من مراجعة النوى
عن ربعكم لي جيئة وذهابا
ماذقتُ عذبَ القرب الا ردَّهُ
وشكُ التفرّق والبعاد عذابا
قد جرّد التفريقُ سيفًا بيننا
أفما يتيح له اللقاء قرابا؟
*****
صفق السيد والجاريتان لسجاح وقد فرغت من العزف
والغناء..تساءل السيد:
- من وضع هذا اللحن الذي شدوت به يا سجاح؟
- أنا يا سيدي!
- الله عليك ما أروعك أنت ملحنة أيضًا، حرام أن تكوني جارية!
أو على الأقل جارية في قصر السلطان!
35
وهذه ثاني كذبة تملق التاجربها سجاح لتمتعه في السرير!
وطلب السيد إلى الراقصة ) ظفيرة( أن تريهم شيئًا من إبداعها.
شرعت ) لمياء( في الضرب على الطبلة بإيقاع بطيء، رافقتها
سجاح على العود.
نهضت ظفيرة وراحت تتلوى على الإيقاع الموغل في عمق إيحائه.
تثني خصرها يمينًا وشمالًًا وتميل بجسدها في الاتجاهين وهي
تلوي يديها وتميل بجسمها إلى الخلف فارجة ساقيها لتعود
وتنحني إلى الأمام ثم ترفع جسدها وتشرع في ثني ساقيها
وتهبط راقصة حتى تجثوعلى ركبتيها وهي تتلوى بجسمها
ولتنحني بعد ذلك ليقترب رأسها من الأرض وهي تفرد يديها
وتلويهما بحركات حادة وتشرع في النهوض وهي تبطئ من
حركاتها شيئا فشيئا لتتوقف مع توقف اللحن والطبلة.
استحسن السيد حركاتها التي كانت ترسم ما يجول في نفسها
فشرع في التصفيق لها وهو يردد “ أحسنت يا ظفيرة وأنت يا
لمياء!“
وشرب نخبها ونخب لمياء، وقد بدأ يثمل طالبا إلى ظفيرة أن
تستمرفي الرقص. شرعت ظفيرة في رقص مختلف هذه المرة
يعتمد على هزالنهدين ورجف الساقين والدوران والحركات
العنيفة بعض الشيء. وحين راحت ترقص نهديها في اهتزاز
مدهش صرخ السيد بصوت عال “الله الله“ و حين راحت تهز
جسدها في حركات راجفة من قمة رأسها إلى أخمصي قدميها
شعر السيد أنه أمام جنية، أما حين راحت تدور حول نفسها
36
والفستان يحلق ويدور معها لتبدو وكأنها ستطير، أخرجت
السيد عن طوره ونهض واقفًا وهو يصرخ “ حورية أنت يا
ظفيرة، حورية من حواري الجنة، بعثها الله لي“!
وهذه كذبة ثالثة تملق بها ظفيرة.
وجلس مترنحًا من شدة السكر. فيما أنهت ظفيرة وصلتها.
توقعت سجاح أن تنتهي الليلة دون ممارسة غرامية للسيد، طالما
أنه ثمل، وقد يخر بين لحظة وأخرى نائما.. غير أن توقعاتها
خابت، فلم تتنبه إلا والسيد يرفع ثوبه عن سوأة ذابلة، ويمد يده
إلى رأس ظفيره ليقربه منها طالبًا إليها أن توقظها من غفوتها
لتنهض وتقوم وتمارس طقوسها في هدأة الليل!
شرعت ظفيرة في مداعبة سوأة السيد فيما كان يمد يده إلى رأس
سجاح ويدنيه منها ويشير بيده إلى لمياء في مواجهته لتقترب
وتشاركهن الأمر.. وهكذا تناوبت الجواري الثلاث على إنهاض
سوأة السيد من غفوتها، لتبدأ ليلة حمراء للسيد مع الجواري
الثلاث لم يعشنها في حياتهن، وإن عاشها السيد كثيرًا، غير أنه
كان يحاول في كل ليلة سمر جديدة أن يأتي بما هو جديد. لذلك
فعل مع الجواري الثلاث ما لم يفعله من قبل. حاولت سجاح
أن تبدو متحفظة بعض الشيء في البداية غير أنها ما لبثت وأن
دخلت في الحالة تحت إلحاح السيد لتنغمس فيها، ملبية كل ما
يطلبه السيد ولوعلى قدر قليل من المضض. بدأ السيد يصحو
من حالة الثمالة بالتزامن مع صحو سوأته ليصحب الجواري
الثلاث إلى غرفة النوم ليباشر طقوسه معهن بكل ما هو ممكن
37
وغير مستحيل!
*****
الذي لا يصدق أن تعود الجواري بعد الفروغ من تلبية كل
رغبات السيد إلى حظيرة العبيد، وكأن ما جرى هو مجرد
حلم وقد انتهى.. فما أن فرغ السيد من اشباع وطره وانطرح
متهالكًا على السرير، حتى دخلت المشرفة التي كانت كما يبدو
تبصبص على الحفل من ثقب الباب، واصطحبت الجواري إلى
غرفة الملابس لينزعن ملابس السمر ويرتدين ملابسهن العادية
ليعدن برفقة عبد إلى حظيرة العبيد ليربقن كما من قبل وكأن
شيئا لم يكن.
انطوت الجواري على أنفسهن من جراء الانهاك والسكر، وسط
لهيب حر تموزي، وحاولن قدرالإمكان أن يخلدن إلى النوم وقد
قارب الفجرعلى البزوغ.. كان قعدان ينوس في نومه بين اليقظة
والنوم متفكرًا في أمر سجاح. وحين سمع جلبة استيقظ ليرى
على نور القمر الجواري يدخلن إلى الحظيرة وسجاح بينهن
منكسة رأسها جاهدة أن لا تنظر حيث يربق قعدان .. راحت
دخيلته تغلي بقدرلا يمكن تخيله من القهر والغضب والحزن،
وود لو في مقدوره أن يقوم بزلزال يدمر الكون!
*****
38
) 4( الرحيل
مر اليوم الأول حسب ما جرى، وفي اليوم الثاني لم يدع السيد
جواريَ إلى السمر، وفي اليوم الثالث قررالسيد الإرتحال بالعبيد
إلى شرق الأردن، بعد أن توقف السوق في حوران ولم يعد يحضر
أحد ليشتري عبيدًا وجواري.
أَيقظ العبيد قبيل الفجر لينطلقوا في قافلة يتقدمها حارسان
ويسير إلى جانبيها ستة حراس وفي مؤخرتها حارسان..
الحراس مسلحون بسيوف وبنادق بدائية. العبيد يتقدمهم
طابور الرجال، يتبعهم طابورالجواري. الجميع مقيدون من
أيديهم خلف ظهورهم ورباق الحبال في أعناقهم..
السيد التاجر لم يكن يرافق القافلة.. فهو يتحرك على راحته
ممتطيًا جواده يرافقه ثلاثة فرسان يلبسون الدروع ويتسلحون
بالسيوف والتروس والبنادق البدائية .
حين بزغت الشمس كان العبيد قد قطعوا أكثرمن عشرة
كيلومترات، وحين حلت الظهيرة كانوا قد قطعوا قرابة عشرة
أخرى. اشتدت حرارة الشمس وبدأ الجميع يشعرون بالإرهاق.
شعرت سجاح أنها قد تسقط طريحة بعد لحظة أو أخرى لشدة
الإرهاق الذي كانت تعاني منه، خاصة وأن الجميع لم يأكلوا
شيئًا حتى حينه.
توقفت القافلة أمام محطة استراحة للقوافل التجارية.. فكت
قيود العبيد والجواري ليقضوا حاجاتهم ويتناولوا الطعام
وسط حراسة مشددة. قدم لكل واحد قطعة جبن وبيضة
39
مسلوقة وحبة بندورة وخيارة ورغيف خبز كبير وكأس شاي.
وتسنى لسجاح أن ترى قعدان عن كثب دون أن تتحدث إليه.
بدا لها أنه في غاية الحزن والإرهاق. فاومأت له برأسها أن تحمّل
إلى أن يفرجها الله.
ما أن تناول الجميع فطورهم حتى أعيدوإلى الرباق والقيود.
ليمضوا يومهم وليلتهم في الإستراحة. وكان التاجر يأمل أن يبيع
بعض العبيد والجواري فيها غير أن اليوم مر دون أن يأتي أحد،
لذلك كان لا بد من الإنطلاق منذ الفجر نحو اربد.
*****
بلغت القافلة اربد مساء.. توقفت في استراحة للقوافل التجارية
كعادتها. كان على. مقربة منها سوق للعبيد. تمكن التاجرفي
اليوم التالي من بيع جارية وعبدين لسيدين. وفي اليوم الثالث
جاء سيد وراح يتأمل الجواري. توقف أمام سجاح متأملًًا
جمالها.. أدهشه أن تكون حاملًًا إذ يندر أن تكون جارية
متزوجة أو حتى حبلى من سيد ما أو عبد.
تساءل السيد حول الأمر:
-“ لها وضع خاص“. أجاب السيد التاجر.
- كم تريد ثمنها؟
- خمس عصمليات ذهبية!
- أف ولماذا هي غالية إلى هذا الحد؟
- هي تجيد العزف على العود والغناء والتلحين، كما أنها تحفظ
بعض أشعار العرب، هي جارية لا تقدر بثمن. عدا أنها حامل،
40
وهذا يعني أن المشتري سيحصل على عبد للمستقبل منها.
- وممن هي حامل؟
- من زوج عبد موجود مع العبيد.
- وهذا يعني أن المشتري سيشتري العبد أيضًا. إذ لا يجوز
التفريق بينهما إذا كانا مسلمين.
- هذا صحيح فهما مسلمان.
- وكم ثمن العبد؟
- عصمليتان ونصف!
- وهذا كثير أيضا. ليس في استطاعتي شراءَهما.
- يمكنك أن تنتقي غيرها إذا لا تريد إلا جارية.
وراح السيد يتأمل الجواري إلى أن استقرت عيناه على لمياء.
- وهذه كم ثمنها؟
- ثلاث عصمليات!
- أيضا غالية!
- عدا جمالها هي تجيد الضرب على الطبلة ولديها مواهب في
السرير لا تتوفر لدى جارية أخرى.. كما أنها صغيرة كما ترى..
- سأبتاعها.
حمدت سجاح الله أن بيعها لم ينجح، فهي لم تحب شكل
السيد، الذي كان سمينًا وقصيرًا وكبيرًا في السن. وكادت أن
تشكر سيدها الذي رفع سعرها، غير أنها لم تفعل.
وهكذا فَكت لمياء من الربق. طلبت أن تودع بعض صديقاتها.
فعانقت سجاح وظفيرة وجاريتين.. وانصرفت بصحبة سيدها
41
الجديد بعد أن قبض التاجر ثمنها.. لم يطلب إليها السيد أن
تتعرى ليتأكد من جمال جسمها، فقد كان صغر سنها كافياَ
لإقناعه بجمال جسمها.
******
في اليوم الرابع توقف البيع. فقررالتاجر الإرتحال إلى السلط في
اليوم الخامس.كان سوق العبيد في السلط أفضل منه في غيره.
فباع التاجر ثلاث جوار وثلاثة عبيد، خلال ثلاثة أيام، وابتاع
جاريتين وعبدين. وأمضى يومين آخرين دون أن يبيع فقرر
الإرتحال إلى أريحا.
في الطريق إلى أريحا حدث ما هو غير متوقع. فعلى مقربة من نهر
الاردن هاجم قرابة خمسة عشر من قطاع الطرق قافلة العبيد في
محاولة للإستيلاء عليها. كان الهجوم في وضح النهار ولم يكن
المهاجمون يحملون من السلاح غير السيوف، كما أن معظمهم
كانوا راجلين. لذلك تفوق حراس ومرافقو قافلة العبيد من
التفوق عليهم في معركة لم تدم لأكثرمن نصف ساعة من الزمن.
فقد أقبل المهاجمون بشكل مكشوف ودون تخطيط محكم، ما
أتاح للمدافعين تهيئة بنادقهم، وما أن أصبحوا في مرمى نيرانهم
حتى أطلقوها عليهم ليسقط منهم أربعة. ومع ذلك لم يتوقف
المهاجمون فقد واصلوا هجومهم ليلتحموا بالمدافعين بسيوفهم.
غيرأنه سقط رجل آخر منهم. كان حراس القافلة من الأقوياء
والمدربين جيدًا، فتمكنوا من هزيمة المهاجمين بعد أن سقط منهم
أربعة آخرون ليولي الباقون الأدبار. ولم يسقط من الحراس إلا
42
قتيل واحد وثلاثة جرحى، جراحهم طفيفة.
ما لم يكن متوقعًا أيضًا أن عبدين استغلا وضع المعركة وتمكنا
من فك قيودهما والهرب. غيرأن أحد الحراس رآهما، فأمره قائد
الحرس أن يتبعهما.. أطلق النارعلى أحدهما فأرداه صريعًا،
وحشا بندقيته ثانية وراح يعدو خلف الآخر إلى أن أصبح على
مسافة مجدية منه لإطلاق النارعليه، فأطلقها ليسقط العبد
صريعًا أيضًا.
حين علم التاجر بالأمر أثنى على حراسه وكافأهم بتقديم
وجبات من اللحم والثريد لهم.
تابعت القاقلة سيرها بعد أن عبرت نهر الأردن لتبلغ أريحا عند
الأصيل. لجأت إلى استراحة لقوافل التجار لم يكن فيها سوق
للعبيد. فاضطرالتاجرأن يقيم السوق في الإستراحة لعل أحدًا
يشتري.
أمضى في أريحا ثلاثة أيام باع خلالها عبدًا وجارية، لينتقل بعد
ذلك إلى القدس ويحط رحاله على مقربه من سورها الشرقي،
ليقيم هو في نزل قريب ويترك العبيد وحراسهم يقيمون في
العراء.
كان ثمة سوق تجاري مفتوح يقع بين باب الأسباط وباب
الساهرة ملاصق لسور القدس من الشرق والشمال، تقام فيه
سوق لتجارة المواشي والعبيد. كان السوق يزدهر بالبيع والشراء
يوم الجمعة، كونه يوم عطلة رسمية، لذلك سمي سوق الجمعة.
في الصباح كان الحراس يسوقون العبيد والجواري إلى السوق،
43
حيث تباع الأغنام بكافة أنواعها إضافة إلى الحميروالبغال
والخيول والحصن والأبقار والإبل. اختار التاجر ركنًا متطرفًا
أوقف فيه بضاعته من العبيد والجواري. هرع كثيرون لمجرد
الفرجة على الجواري والعبيد. كانت ألوان العبيد تتراوح بين
الأسود والأسمر والحنطي، أما الجواري فلم يكن بينهن إلا
القليل من السوداوات، فكان معظمهن من البيض والقمحيات
وخفيفات السمرة. فالإقبال على الجواري السود شبه نادر،
عكس العبيد السود الذين كان ينظر إليهم كرجال أقوياء
يصلحون للعمل. أما الجواري فكانت الغاية الأهم من اقتنائهن
هي النكاح.
مر ساعتان ولم يكن هناك غير جمهور المتفرجين على العبيد
والجواري، وكانت هذه لبعضهم أول مرة يرون فيها هذا المنظر
وبهذا الكم من العبيد والجواري.. وبدا معظمهم وهم يتساءلون
عن السبب في تقييدهم من أعناقهم وأيديهم، وكثيرون منهم
كانوا يبدون شفقة وحزنا عليهم.
أقبل الشيخ عاقب شيخ مشايخ قبيلة العقايبة ممتطيًا جواده
متقلدًا سيفه وبندقيته، يرافقه ثلاثة عبيد حراس يسيرون على
أقدامهم. وما أن اقترب من حشد العبيد حتى نزل عن جواده
وتقدم باتجاههم. رحب به التاجر مصافحًا، هاتفًا:
- يا هلا بشيخ المشايخ، هلا ورحب والله شرفت يا سيدنا.
- ألله يزيدك شرف يا سيد. هل هؤلاء العبيد والجواري لك؟
- إي والله يا شيخ من مال الله لي!
44
- أبحث عن جارية تجيد الغناء والعزف على العود وأخرى تجيد
الرقص!
- وصلت يا شيخ. طلبك موجود بإذن الله!
- وأريد عبدًا خدومًا مطيعًا!
- أنت تأمر يا شيخ.
وأشار إلى حارس أن يأتيهما بسجاح وظفيرة وقعدان.
تأمل الشيخ وجهي وقوامي الجاريتين.
- زينات! أشهد الله انهن زينات ومزيونات!
- لكن لويش هيذي إلها بطن!
- إنها حامل ياشيخ!
- حبلى يعني؟
- إي والله يا شيخ!
- ومين حبلها؟
- زوجها يا شيخ الواقف معنا!
- ها وتريد تبيعها هيه وزوجها؟
- إي والله يا شيخ! وزوجها مطيع وخدوم ولدي شهادة في
حسن سلوكهما وأخلاقهما من سيدهما السابق!
- شوف! إن كان صوتها زين وتغني زين والله لاشتريها هيه
وزوجها!
- على مسؤوليتي يا شيخ!
- مسؤوليتك مقبولة لكن ياريت أسمع صوتها!
- لك ذلك يا شيخ!
45
ونظر الشيخ إلى ظفيرة قائلا:
- وأنت يا زينه! ترقصين زين!
- ترقص زين الزين يا شيخ أنا شفت رقصها!
- معلش لو نشوف شي منها.
- ممكن يا شيخ.
- وش أساميهم؟
- المغنية سجاح والراقصة ظفيرة والعبد قعدان.
- حياهم الله. عاشت الأسامي!
- وحياك يا شيخ!
كان ثمة قهوائي على مقربة من السوق يبيع القهوة والشاي
في الهواء الطلق.وضع أمام كوخه بعض الكراسي والمناضد
الصغيرة. فك التاجرقيود الجاريتين وقعدان واصطحبهم مع
الشيخ ومرافقه إلى هناك.
ما أن جلسوا حتى طلب التاجر إلى سجاح أن تسمعهم بعض
الغناء.
اختارت سجاح بعض الأبيات من معلقة عنترة العبسي:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي
فوقفت فيها ناقتي وكأنها فدن لأقضي حاجة المتلوّم
يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم!
- زين والله زين يسلم لسانك يا زينة!
46
- ولسانك يا سيدي!
هتفت سجاح!
- وهذا صوتها دون عزف يرافقها فكيف لو كان معهاعود؟
هتف التاجر.
- والله لاشتري لها أزين عود!
وتوجه الشيخ إلى ظفيرة قائلا:
- وأنت يا زينه؟
نهضت ظفيرة وقامت بحركات راقصة دون مرافقة موسيقى.
هزت خصرها ورقصت نهديها ورجفت ساقيها ودارت على
نفسها. ليعجب الشيخ برقصها. ثم توجه إلى قعدان متسائلا:
- وانت وش تجيد يا قعدان؟
- أجيد استعمال السيف ورعي الغنم والإبل وحرث الأرض
ورعاية البساتين وجني المحصول والعزف على الناي!
- زين زين!
والتفت إلى التاجر متسائلا:
- كم تريد ثمنهم يا لخو!
- إلك بعشر عصمليات ذهبية!
- ييه هذا كثير يا راجل!
- صدق أنني لم أعط هذا السعر إلا لك، لغيرك كنت أطلب أكثر
بكثير.
أطرق الشيخ للحظات ثم وافق:
- زين وأنا شريت!
47
- الله يبارك لك فيهم.
كتب التاجرللشيخ عقد بيع وتملك للجاريتين وقعدان، وودع
الشيخ وانصرف عائدًا إلى السوق.
قطع الشيخ عهدًا على الجاريتين وقعدان بأن أقسموا بالله
ثلاثًا بالولاء والوفاء للشيخ وعدم الهرب من خدمته، ثم أرسل
الجاريتين مع عبدين من حراسه ليبتاعا عودًا وطبلة وثوبًا
للرقص، رغم وجود عود وطبلة وثياب للرقص في مضافة
الشيخ، لكنه فضل أن تختارا ما يعجبهما. وانطلق الشيخ على
جواده عائدًا إلى حيث مساكن القبيلة في برية القدس، يرافقه
العبد قعدان والحارس. لم يقيد قعدان وجعله يرافقه دون قيود
كما العبد الآخرالذي بقي معه. وهو ما فعله مع الجاريتين حين
أرسلهما للتسوق. وكان عليه أن ينتظر الجاريتين والعبدين في
متنزه قريب على الطريق. تفاءل قعدان بالخير طالما أن الشيخ
لم يصطحبه مقيدًا، وهذا فأل حسن.
قاد العبدان الجاريتين إلى سوق خان السلطان المملوكي حيث
يوجد متجر لبيع الآلات الموسيقية كما عرفا. انتقت سجاح
عودًا أندلسيًا بخمسة أزواج من الأوتار، يطلق عليه اسم زرياب
أشهرعازف عود عباسي، صناعتة شامية. وانتقت ظفيرة طبلة
فلسطينية من أجود الأنواع وثوبًا محتشمًا بعض الشي للرقص
بعد أن قال أحد العبدين أن ثياب الرقص في بيت الشيخ ليست
فاضحة، غير أن قماش الثوب كان شفافًا لا يستر ما يخفيه
من الجسد إلا بشكل طفيف. دفع عبد ثمن المشتريات وانطلقوا
48
ليلحقوا بالشيخ وقعدان والحارس الآخر، حيث كانوا ينتظرونهم
في المتنزه . وما أن وصلوا حتى أجلسهم الشيخ إلى مائدته وطلب
غداء من الشواء والمقبلات للجميع.
لم تصدق سجاح نفسها والشيخ يجلسهم إلى مائدته ويطلب
غداء له ولهم. كانت الجاريتان وقعدان يعانون من جوع مزمن،
فهم لم يشبعوا يومًا طوال الأيام التي مكثوها مع التاجر. أدرك
الشيخ ذلك وأبدى كرمه وحسن معاملته لهم. وازداد تفاؤل
ثلاثتهم بالخير طالما أن البداية مع الشيخ كانت مطمئنة إلى أبعد
الحدود. وتمنوا كل في سره أن يدوم الأمر كذلك.
ما أن فرغوا من تناول الطعام حتى انطلقوا خلف الشيخ
سائرين على أقدامهم ودون قيود..
****
49
) 5( قبيلة العقايبة
كان لدى الشيخ مضيفتان للإستقبال. داخلية ضمن بناء من
طابقين، وخارجية في بيت من الشَعر. يستخدم المضيفة الداخلية
لزوجاته وأقربائه وبعض الضيوف، أما المضيفة الخارجية
فيستقبل فيها شيوخ ووجهاء العشائر والضيوف الغرباء. في
الليلة الأولى أقام سهرة مع الجاريتين لزوجاته الثلاث وجواريه.
ترنمت فيها سجاح بأجمل ما تحفظه من الشعر العربي وجادت
ظفيرة بهز خصرها ونهديها وردفيها على وقع الألحان، وإيقاع
الطبلة التي كانت تضرب عليها جارية مصرية من جواري
الشيخ تدعى زينب! وشاركت في الحفل جارية يهودية من أصل
عراقي تعزف على الناي تدعى أستير. كان الشيخ يعجب بعزفها
كلما عزفت في سهراته. كما حضرت الحفل جارية مسيحية من
دمشق تدعى سارة، تجيد الرقص والضرب على الطبلة أيضًا غير
أن الشيخ لم يطلب إليها أن ترقص، لكنها شاركت في الضرب
على طبلتها لترافق زينب في بعض الفقرات.
انتهت السهرة على السهر ودون أي شيء آخر، ولم يكن في
السهرة خمر فلم يعتد الشيخ تناوله كما هي الحال مع أفراد
القبيلة. فقط قهوة ساده وطعام من اللحم والأرز مع الثريد
قدم على منسف كبير يستطيع رجل أن يجلس فيه. كانت تعلو
المنسف كمية كبيرة من قطع اللحم الكبيرة ورأس الخروف
وضع تحتها مقدار كبير من الأرز على ثريد من الخبز مزج
بمرق اللحم.
50
انصرفت سجاح آخر السهرة لتنضم إلى قعدان في كوخ صغيرمن
الطين اختاره لهما السيد. أما ظفيرة فقد اختارلها الشيخ أن
تقيم مع زينب وسارة اللتين كانتا تقيمان في كوخ من غرفتين
ضمن مجموعة غرف طينية متجانبة أعدت للجواري والعبيد.
وكعادة قعدان لمعرفة ما حدث راح يسأل سجاح عما جرى في
السهرة وهل تمت مواقعتها من قبل الشيخ أم لم تتم، وحين
أكدت له أن شيئا من ذلك لم يحدث، وجدها فرصة لأن يسألها
عن الليلة الحوارانية مع التاجر، فلم يتح له أن يتكلم معها طوال
أيامه مع عبيد التاجر. حاولت أن تتملص من الإجابة المباشرة
بأن قالت له “ يا أبو سعيد لماذا تتجاهل كوني جارية معرضة
لكل أنواع الرغبات التي يطلبها السيد، وليس لي حق الرفض،
فتسأل أسئلة قد تكون الإجابة عنها مزعجة ومقلقة لك“ فوجئت
بقعدان ينفجر بالبكاء وهو يهتف “ هذا يعني أنه جامعك، آه
يا قدري الحقير“ فاضطرت سجاح أن تكذب وتقول له “ قبلني
فقط “ لعلها تخفف من حزنه وغيرته الفظيعة كعبد.
في الليلة الثانية دعا الشيخ شيوخ عشائر العقايبة وهم مجموعة
من المخاتير يقاربون العشرة، إضافة إلى بعض الوجهاء، دعاهم
للسهر على أنغام ورقص جواريه، لذلك لم يتغيب من المخاتير
والوجهاء شخص واحد.
يعود أصل العقايبة إلى فخذ من أشهر قبائل شمال شرق شبه
الجزيرة العربية. كان ثمة صراع بينهم وبين قبيلة أخرى
حين غزوها بقيادة الشيخ عقاب الأول أب جد الشيخ عاقب.
51
كانت الغزوة ثأرية لأنه سبق للقبيلة المغزوة أن غزت العقايبة
واستولت على قطيع إبل وقتلت راعيين. جرت معركة حامية
الوطيس أقسم فيها الشيخ عقاب أن لا يعود بفرسانه إلا بعد
الثأر للقتيلين واسترداد قطيع الإبل. فتم قتل خمسة فرسان
من القبيلة المغزوة واستعاد العقايبة قطيع الإبل وغنموا قطيع
معز وقطيع إبل أيضًا. قويت شوكة العقايبة بعد هذا النصر،
وصارت القبائل تخاف بأسهم، فكان لا بد من التحالف ضدهم.
استطاعت القبيلة المهزومة أن تكسب تحالف أربع قبائل معها..
وصلت أنباء االتحالف إلى الشيخ عقاب فعقد اجتماعًا لوجهاء
وشيوخ القبيلة لبحث الامر. اقترح بعضهم إقامة تحالفات مع
قبائل أخرى واقترح آخرون الهجرة حقنًا للدماء لأن التحالفات
المعادية كانت قوية بحيث لن يكون من السهل إيجاد تحالفات
تقدرعلى مواجهتها، وهكذا انتصر رأي مقترحي الهجرة.
نادى المنادي في أحياء القبيلة بهدم الخيام وبيوت الشعر
والتجهيز للرحيل.. حُملت البيوت والأثاث والأواني على ظهور
الإبل. وارتحلت القبيلة مصطحبة إبلها وأغنامها ومواشيها
وأولادها وأطفالها.. يحرسها ثلاثون فارسًا من خيرة فرسان
القبيلة.
بعد مسيرة بضعة أيام بلياليها حط أبناء القبيلة رحالهم جنوب
شرق الأردن أواخر سني القرن السابع عشر. استضافهم شيخ
قبيلة ليصبحوا ضمن قبيلته. وبانضمامهم قويت شكيمة القبيلة
المضيفة وراحت تنتصر في غزواتها على القبائل المجاورة، ما أثار
52
غيرة بعض أفراد القبيلة حين أخذ بعض رجال القبيلة الوافدة
مكانتهم عند الشيخ، فاحتج هؤلاء لدى الشيخ مطالبين بطردهم
من قبيلتهم وإلا فإنهم سيغادرونها.. أذعن الشيخ لأفراد قبيلته
واستدعى الشيخ عقاب ليبلغه الأمر. اضطر العقايبة إلى الرحيل
مكابدين عناء التنقل والإرتحال.. حطو رحالهم في منطقة الكرك
ومكثوا فيها. وما أن استقروا حتى باشروا عادتهم في الغزو وصد
الغزوات. ونظرا لأنهم قاموا بصد بعض الغزوات وانتصروا فيها،
بقيادة الشيخ عقاب، باتت بعض القبائل تخافهم، فاستغلت
موت الشيخ عقاب شيخ القبيلة بجلطة دماغية، وأقامت تحالفًا
من مجموعة عشائر ضدهم، وهددتهم بشن حرب عليهم إن
لم يغادروا المنطقة. وجد الشيخ عقاب الثاني نفسه في موقف
ضعيف، فجمع وجهاء القبيلة للتشاور. وبعد مداولات لم تطل
كثيرًا، اتخذوا قرارًا بالهجرة إلى فلسطين. وهكذا ارتحلوا بكل
ما يملكون قاطعين الجبال والأودية ليدخلوا إلى فلسطين من
جنوب البحر الميت ليجتازوا صحراء النقب ويشتبكوا مع بعض
القبائل البدوية التي اعترضت طريقهم، ويتابعوا ترحالهم عبر
براري الخليل وبيت لحم دون معارك تذكر، وإن حدثت
بعض المناوشات مع قبائل تعتبر نفسها قيسية. بينما العقايبة
يعتبرون أنفسهم من القبائل اليمنية. حطوا رحالهم أخيرًا في
ضواحي القدس الجنوبية الشرقية إضافة إلى بريتها. كان ذالك
أواسط القرن الثامن عشر. ومع الزمن أصبحوا يسيطرون على
أراض تمتد لأكثر من عشرين كيلومترا من ضواحي القدس غربا
53
إلى البحر الميت شرقا، بعد أن صدوا جميع الغزوات القادمة من
شرق نهر الاردن وجنوب فلسطين. غيرأن الشيخ عقاب الثاني
قتل في إحدى هذه الغزوات حين هوجم مع بعض مرافقيه من
قبل عشرة فرسان من أًفراد القبيلة المغزوة، ليتسلم عقاب الثالث
قيادة القبيلة لقرابة عشرين عامًا إلى أن قتل في كمين نصبه
له مجموعة من قطاع الطرق هو الآخر، وقتل معه حارسان،
ليتسلم الشيخ عاقب الحالي قيادة القبيلة ويطهّر المنطقة من
قطاع الطرق واللصوص والمارقين ثأرًا لأبيه وجده، ويصد
بعض الغزوات من شمال وجنوب وشرق البلاد، فقويت شوكته
وبدأت القبائل والقرى المجاورة تهابه وتحسب حسابًا للقبيلة.
راحت القبيلة تستقر وترسخ جذورها في الارض، وتخلت بعض
الأسر عن قطعان الإبل وراحت تستبدلها بقطعان أغنام.. ليتابع
أبناء القبيلة عملهم في تربية المواشي وخاصة المعز والضأن،
وزراعة الحبوب واستخراج الملح من البحر الميت وهو الجديد
الذي طرأ على عملهم، إضافة إلى أعمال أخرى كانت تقوم بها
النساء كالنسيج وحلب الأغنام وعمل الجبن واللبن والسمن
إضافة إلى صنع مادة من التراب والفخارتستخدم في البناء وطلي
جدران الآبار، يسمونها “حُمرة“ وأضيف إلى هذه الأعمال فيما
بعد زراعة التين والزيتون والعنب وفواكه وخضار أخرى على
مقربة من القدس.
كان معظمهم يقيمون في بيوت من شعر المعز، لكن ما أن
استقروا أوائل القرن التاسع عشر حتى راح بعضهم يحفرون
54
الكهوف في سفوح الجبال والأودية والمناطق الصخرية،
وبعضهم يبنون المساكن الحجرية والطينية والأكواخ ويتملكون
الأرض التي كانت مشاعًا. وقد حفروا عشرات الكهوف والآبار
في البرية و سفوح وأودية جبل المكبر لتخزين المياه الشتوية. أما
القريبون من القدس فكانوا يستقون من نبع بئرأيوب في حي
سلوان.
في السهرة التي أقامها الشيخ عاقب في المضيفة الخارجية
لشيوخ ووجهاء القبيلة كان جميع الحضور من الرجال، ولم
يكن هناك إناث غير خمس جوار من جواري الشيخ، هن سجاح
وظفيرة وزينب وأستيرعازفة الناي وسارة الشامية. بدأت
السهرة في حدود التاسعة مساء بأن ألقى أحد شيوخ العشائر
شعرًا في مديح الشيخ عاقب، تطرق فيه إلى مناقب الشيخ من
كرم وشجاعة ومقام. ثم شرع عبد في تقديم القهوة السادة
وما أن شرب الضيوف قهوتهم حتى أشار الشيخ إلى سجاح أن
تسمعهم شيئا على العود.
شرعت سجاح باللعب بأوتار العود لتبدأ في عزف منفرد،
مترنمة بأنغام مختلفة متنقلة بين المقامات من صبا ونهاوند
وعجم وبيات وسيجاه وحجاز ورست وغيرها، وسط إعجاب
الضيوف وتأوهاتهم وإشادتهم بعزفها المتفرد في شجنة وتنقله
بين مقامات الحزن والفرح.. وحين انتهت من وصلتها بدأت
بلحن جديد شاركت فيه الجواري بالعزف على الناي وضرب
الطبلة، وراحت سجاح تترنم بكلمات من شعر المتنبي:
55
وَالهَمُّ يَختََرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً
وَيُشيبُ ناصِيَةَ الصَبِيِّ وَيُهرِمُ
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ
وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَم
)آه يا سجاح(
ردد الشيخ عاقب فيما أبدى الآخرون اعجابهم بثقافة سجاح.
لا يَخدَعَنَّكَ مِن عَدُوٍّ دَمعُهُ
وَاِرحَم شَبابَكَ مِن عَدُوٍّ تَرحَمُ
لا يَسلَمُ الشََرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأذَى
حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَم
)الله الله عليك ما أروعك يا زينه!(
قال أحد الشيوخ!
والذُلُّ يُظهِرُ في الذَليلِ مَوَدَّةً
وَأَوَدُّ مِنهُ لِمَن يَوَدُّ الأرَقَمُ
وَمِنَ العَداوَةِ ما يَنالُكَ نَفعُهُ
وَمِنَ الصَداقَةِ ما يَضُُرُّ وَيُؤلِمُ
“ يا سلا م. درر والله درر يا شيخ عاقب “
قال مختار آخر.
وَالوَجهُ أَزهَرُ وَالفُؤادُ مُشَيَّعٌ
وَالرُمحُ أَسمَرُ وَالحُسامُ مَصَمِّمُ
أَفعالُ مَن تَلِدُ الكِرامُ كَريمَةٌ
وَفَعالُ مَن تَلِدُ الأعَاجِمُ أَعجَمُ
56
ردد أكثر من شيخ ألله ألله.
وراح بعضهم يبدون إعجابهم بمهارة الشيخ في اختيار جواريه.
وتمنى بعضهم أن يحصلوا على جوار مثلهن بجمالهن
ومهارتهن.
وفي الحقيقة إن معظم الشيوخ لم يكونوا يملكون جوارلأحوالهم
المادية التي لا تتيح لهم ذلك. فالجواري والعبيد لم يكن يملكهم
إلا القلائل من ميسوري الحال الذين قد لا يتجاوزعددهم أصابع
اليدين في القبيلة. وغالبيتهم كانوا يكتفون بعبد واحد ودون
جوار. واقتناء العبيد لدى بعض الأسر لم يحدث في الغالب إلا
بعد الاستقرارالنسبي، رغم وجود صراعات قبلية وعشائرية
تجري في المنطقة، ونادرًا ما كانت أسرة تقتني عبدًا أو جارية.
****
شرعت أستير في عزف لحن شجي على الناي، فأبدعت والناي
يكاد يئن وجعًا بين أناملها وهي تحلق به ليوغل في أعماق
وجدانية تحن لها القلوب وتدغدغ النفوس. ونهضت ظفيرة
لتتلوى بجسدها ويديها محاكية اللحن ليبدو جسدها وهو
يتمايل وينثني بليونته ليتوحد مع اللحن، راسمًا أجمل اللوحات
التي يمكن أن يقوم بها جسد انثوي.
شفافية قماش ثوب الرقص كانت تبدي مفاتن جسد ظفيرة ما
جعل الشيوخ يتمتعون ليس بجمال الرقص بل بجمال الجسد
أيضًا، فراحوا يبدون اعجابهم متأوهين من أعماقهم مرددين
كلمات استحسان حاسدين الشيخ عاقب على هذه النعمة التي
57
أسبغها الله عليه.
وما أن توقف اللحن حتى شرعت زينب في الضرب على الطبلة
لترافقها سجاح على العود، وانضمت سارة إلى ظفيرة لتشاركها
الرقص.. ورغم أنهما لم ترقصا معًا من قبل، إلا أنهما استطاعتا
أن توجدا لغة مشتركة لجسديهما بحيث بدتا وكأنهما تدربتا
على الأمر من قبل، ما أثار إعجاب الشيخ وضيوفه وهم يرون إلى
تناغم هز خصريهما ونهودهما وأردافهما. وانطراحمها أرضًا
لتتقلبا وتتلويا على فراش السجاد. وحين نهضتها وهما تتلويان
نهض رجل من الوجهاء وراح يشاركهما الرقص، ليتبعه آخر
فآخر.
تمنى أحد الجالسين الذين يشربون الخمر لو أن في السهرة
خمر. فسهرة كهذة لا تليق دون خمر.. باح بذلك لجاره الذي
وافقه الرأي..
كان بعض الحضور يضحكون على رقص الرجال الذي كان
حركات عشوائية لا علاقة لها بالرقص الشرقي، ما دفع أحد
الشيوخ إلى الطلب إليهم أن يجلسوا حتى لا يفسدوا رقص
الراقصات.. فعادوا إلى أماكنهم.
ابدعت الجواري بعزفهن ورقصهن ما أبهج الضيوف.. وطالت
السهرة إلى ما بعد منتصف الليل، حيث شعر الضيوف بالنعاس
والجواري بالتعب.
أنهى الشيخ عاقب الحفل وراح يودع ضيوفه الذين راحوا
يتمنون له طول العمر والسعادة.
58
أثنى الشيخ على الجواري بأن أعفى أربعًا منهن نصف النهار
التالي من العمل وأعفى سجاح اليوم بكامله منه، وهو يرى إلى
بطنها ينذر بقرب أيام ولادتها، وكانت دخيلته الذكورية تتحرك
كلما نظر إلى جمال وجهها، وبدأ يفكر في أن يجعل قعدان
يفارقها ليتسنى له مواقعتها، فقد بدأ يشعر بالملل من مجامعة
معظم نسائه وجواريه السابقات، وسيجدد حياته مع سجاح
وظفيرة الجديدتين، متوقعًا أن تكونا على إلمام بفنون الجماع
أكثر من جواريه السابقات ونسائه الثلاث..
****
59
) 6( ولادة سعيد وزبيدة!
يبلغ الشيخ عاقب قرابة الخامسة والخمسين من عمره. متزوج
من ثلاث نساء. وطفاء وثريا وحليمة. وله قرابة اثني عشرابنًا
وإبنه منهم ولد وبنت من جارية ماتت.
وطفاء الزوجة الاولى في حدود الخامسة والأربعين من عمرها. له
منها ثلاثة أبناء وبنتان. أكبر الأبناء في حدود الرابعة والعشرين
من عمره. والبنت الأكبر في حدود الرابعة عشرة.
وطفاء شبه مهجورة في الفراش لأن الشيخ يبتعد عن المرأة كلما
كبرت في السن، فهو يعشق الصغيرات ونادرًا ما يجامعها، لكن
لها معزة خاصة عنده كونها ابنة عمه وزوجته الأولى وأم أولاده
الكبار. وهي موكلة بإدارة شؤون بيوت الشيخ والإشراف حتى
على عمل العبيد والجواري.
ثريا الزوجة الثانية في حدود الخامسة والثلاثين من عمرها. له
منها ولدان وبنت. ولد في حدود الثانية عشرة من عمره وبنت في
حدود العاشرة، والولد الآخر في حدود الثامنة. يأتيها الشيخ مرة
كل بضعة أسابيع، تقل أحيانًا وتزيد أخرى عن ذلك. لها مكانة
مقبولة لديه. وهي من بنات القبيلة لكن ليس من عشيرته.
حليمة الزوجة الثالثة في حدود الثلاثين من عمرها. له منها
ولد وبنت. الولد في حدود الخامسة من عمره والبنت في حدود
الثالثة. وهي حامل على وشك الولادة. أكثر نسائه رغبة لديه،
لذلك كان يأتيها مرة كل أسبوعين أحيانا قبل الحمل، لكن بعد
الحمل نادرًا ما يأتيها. كما أنها من عشيرته، وتربطها به قرابة
60
من طرف الأم.. لم يجمع الشيخ بين زوجتين من زوجاته في
مجامعة، كما لم يجامع زوجتين في ليلة واحدة وهي الحال
نفسها مع الجواري إلا ما ندر.. لا يأتي نساءه إلا في الليل معظم
الأوقات ونادرًا ما يمارس الحب في النهار. وإذا حدث ومارسه في
النهار يكون مع جارية وليس زوجة.
يواقع زوجاته وجواريه في غرفة نومه التي ينام فيها وحده. فما
أن يقضي حاجته مع الزوجة أو الجارية حتى تعود إلى بيتها.
في العادة يمرعلى بيوت نسائه وجواريه ليطمئن عليهن ويختار
واحدة لتوافيه في غرفة نومه، وإذا لم يذهب بنفسه يرسل
جارية أو عبدًا ليخبر المطلوبة للسيد، فتقوم بالإغتسال والتزين
والتعطر قبل الذهاب إلى مخدع الشيخ.
له من الجواري المحظيات قبل سجاح وظفيرة ثلاث، هن أستير
وزينب وسارة. أستيرفي السابعة والعشرين من عمرها وسارة
في التاسعة والعشرين وزينب في الثالثة والعشرين. وهناك قرابة
عشر كبيرات وغير محظيات فهن للعمل فقط.
زينب هي الأكثر رغبة لديه يطيب له غنجها باللهجة المصرية في
السرير. وإجادتها لأوضاع غرامية محببة لديه! أحيانا يواقعها
ثلاث مرات في الأسبوع.
أستير كذلك لديها قدرة هائلة على إثارة الشيخ وإمتاعه. يحب
غنجها باللهجة العراقية ويعشق طريقتها في إرضاعه مذكرة
إياه بطفولته الأمومية وهو يرضع من ثدي أمه.. يجامعها
أحيانًا مرتين في ليلة واحدة. كيهودية لا ينظر إليها ككافرة بل
61
من أهل كتاب من كتب الله. وهي الحال نفسها التي ينظر بها
إلى سارة المسيحية.
تمتاز سارة عن زينب وأستير بإجادتها فنون مختلفة للمواقعة
وخاصة حين تمتطي الشيخ من فوق وتصول وتجول وكأنها
تمتطي حصانًا، مرددة كلمات عامية دمشقية يحبها الشيخ
كما يحب لهجات الأخريتين، وفيما بعد، أي بعد مواقعة ظفيرة
المغربية وسجاح الحبشية البدوية وجد الشيخ نفسه خبيرًا
باللهجات العربية. سجاح في الحقيقة لم تعد حبشية بعد أن
عاشت لعقد من الزمن في بيت بدوي خليجي، وأصبحت تجيد
اللهجة البدوية إضافة إلى العربية الفصحى، وذلك ما جعلها
ممتنة لذاك الخليجي طوال حياتها، فقد ابتاعها طفلة ورباها
كما يريد وكم تمنت لو أنه لم يبعها.
أطرف ما في الشيخ أنه راح في غرامياته يخاطب جواريه
بلهجاتهن ليحببهن إليه ويقربهن منه، ويشعر كل واحدة منهن
أنه يحب لهجتها وممارستها معه أكثرمن لهجات وممارسات
الأخريات.
قام الشيخ باستدعاء ظفيرة إلى غرفة نومه بعد قرابة أسبوع
من شرائها وطلب إليها أن ترقص له أولا ومن ثم أن تريه من
فنون الحب المغاربية ما لا يعرفه. أجادت ظفيرة وأبدعت في
فنون الرقص والسرير وهي تردد كلمات لم يسمع بها الشيخ في
حياته ما أبهج الشيخ وطيب خاطره وأراح نفسه، وأثنى عليها
بأن أعفاها يوما من العمل في حلب الأغنام وعمل اللبن والجبن.
62
وهذا الإعفاء كان يشمل كل جارية تمتعه بأفضل ما تستطيع!
وبعد يومين استدعى سجاح ليسهر معها ليلة اقتصرت على
القبل وخاصة العميق منها، الذي قامت به سجاح لتمتع
الشيخ حسب رغبته في ذلك! فقد كانت أيام حملها قريبة وعلى
وشك الولادة. والشيخ لا يحب مواقعة الحوامل، كما أن الأمرقد
يحسب عند الله زنى كون سجاح متزوجة، وهذا ما لا يريده
الشيخ! وأمضى معظم الليلة يستمع إلى عزفها المنفرد على العود
والإستماع إلى بعض ما تحفظة من أشعار. لكنه لم يخف اعجابه
بجمالها وإشعارها أنه يرغب في أن تكون محظية لديه وغير
مرتبطة برجل. لم تعلق سجاح على ما أبداه الشيخ وظلت تترنم
على ألحان العود والشيخ يتمايل هازًا رأسه شغفًا بالعزف.
اقتنى الشيخ معظم ثروته من الماشية والأرض عن أبيه الذي
اقتناها بدوره عن أبيه أيضًا وأضاف إليها، وهو ما فعله الشيخ
عاقب كذلك. فأصبح لديه آلاف الدونمات من الأرض الزراعية
وبساتين العنب والتين وكروم الزيتون وغيرها وآلاف المواشي من
الضأن والمعز.
للشيخ من العبيد قبل قعدان قرابة ثلاثين عبدًا. يعملون في
رعي الأغنام وفلاحة الأرض ورعاية البساتين والكروم. ويرافق
بعضهم الشيخ في تجواله وسفراته. معظمهم زنوج من بلدان
افريقية مختلفة ابتاع معظمهم في سنين متفاوتة وورث بعضهم
مع أملاك أبيه.
*****
63
كان بطن سجاح قد بلغ أوجه في الكبر ولم تعد قادرة على السير
بسهولة وبطنها يندفع إلى الأمام، والمولود يتحرك بين فينة
وأخرى في رحمها.. أدركت أنها على وشك الولادة حين بدأت آلام
في ظهرها وتقلصات أسفل بطنها. إنه المخاض دون شك وقد
جاءها قبيل الفجر. أيقظت قعدان لتخبره وليبحث لها عن داية.
ذهب قعدان إلى ظفيرة ليخبرها فاصطحبته إلى سيدتها وطفاء
طالبة مساعدتها، أخبرتهما عن داية تسمى أم سرور مسكنها
غير بعيد ويمكن أن يذهب قعدان لإحضارها، ليأخذ جوادًا من
حظيرة الخيول ويمتطيه حتى لا يتأخر. شكر قعدان سيدته
وذهب إلى حديقة الخيول. اختار جوادًا وامتطاه وانطلق. فيما
ذهبت ظفيرة إلى سجاح لتبقى معها إلى أن تحضر الداية.
على مقربة من كوخ أم سرور استقبل قعدان كلبان بنباح حاد.
غير أنهما كانا يخافان الاقتراب من الجواد فينبحان على مقربة
منه. توقف قعدان أمام الكوخ. نهضت أم سرورعلى نباح الكلبين
وفتحت الباب لترى قعدان ينزل عن الجواد ويقترب. نهرت
الكلبين وأسكتتهما.
- يصبحك بالخير يا أم سرور!
ورغم أنها تدرك ما يحتاجه شخص في هذا الوقت، إلا أنها
فضلت أن تتأكد:
- يصبحك بأنوار النبي وش تريد؟
- زوجتي على وشك الولادة وليس عندنا أحد يهتم بها.
- بيتك بعيد.
64
- جنب بيت الشيخ عاقب يا حجة.
- انت من عبيد الشيخ؟
- إي والله!
- هلا ورحب والله. انتظر لألبس وأركب حماري وأمشي معاك!
- لا تتأخري يا أم سرور الله يوفقك.
ارتدت أم سرور جلبابها وحذاءها وفكت حمارها من مربطه
وامتطته وانطلقت ناهرة الحمار لينطلق بأقصى سرعه خلف
الجواد.
****
حين وصلت الداية أم سرور كانت موجات الطلق تنتاب سجاح
بين لحظة وأخرى لتزداد حدة الانقباضات في كل مرة جديدة.
أدركت أم سرور أن الولادة قريبة.. طلبت ماءً ساخنًا. كانت
ظفيرة قد حضرته لمعرفتها لحاجة الداية إليه، حين حضرت في
ماضي أيامها بعض حالات الولادة.
طلبت أم سرورإلى قعدان أن يبقى في الخارج ومددت سجاح
في وضع مناسب فارجة فخذيها وثانية ساقيها شامرة ثوبها
إلى ما فوق سرتها.. وراحت تغطس خرقة في وعاء الماء الساخن
وتعصرها ثم تمسح بها بطن سجاح، طالبة إلى سجاح أن تأخذ
نفسًا عميقا بعد كل موجة طلق. وبدأ صراخ سجاح يعلو كلما
زادت حدة انقباضات الرحم.
وشرعت أم سرور في ترديد بعض التعاويذ والآيات القرآنية فيما
كانت ظفيرة تجلس إلى رأس سجاح وتحتضنه بيديها مشجعة
65
إياها على الشد حين تأتي موجة الطلق.
في الوقت نفسه كانت ألام المخاض قد بدأت تنتاب حليمة زوجة
الشيخ الثالثة. بلغ الخبر مسامع الشيخ فأوصى وطفاء أن تعتني
بها وأن تهتم بأمر ولادة سجاح أيضا..
أرسلت وطفاء الجارية سارة لتكون إلى جانب سجاح مع ظفيرة،
ولتخبر الداية أن ثمة ولادة أخرى في انتظارها. واصطحبت
الجارية أستير لتكون معها في رعاية ولادة حليمة.
تفاءلت أم سرورخيرًا بهذه الليلة المباركة التي أنعمت عليها
بولادتين، مدركة أن الشيخ سيجزل لها العطاء..
صرخت سجاح صرخة هائلة ورأس الوليد يجتاز عنق الرحم
كما توقعت أم سرور، ليتابع طريقه للخروج إلى النور عبر قناة
المهبل..
“ ازحري يا بنتي.. أزحري قربت ولادتك “
راحت سجاح تزحرصارخة بكل ما اوتيت من قوة وظفيرة
تحتضن رأسها وسارة تمسك يديها لتساعدها على الشد ليندفع
الوليد.
لم يعد قعدان قادرًا على المكوث جالسا فنهض وراح يقطع
المسافة أمام الكوخ ذهابًا وإيابًا، لعله يخفف من القلق الذي
راح ينتابه.. وفجأة أبرق نور في الفضاء أنار المنطقة بكاملها
حتى داخل الكوخ لترافقه زغاريد الجواري والداية شاقة عنان
الفضاء في اللحظة ذاتها معلنة ولادة سعيد بسلام.
انفرجت أسارير قعدان فيما كانت الداية أم سرور تردد الآيات
66
القرآنية وهي ترى إلى حجم المولود غير العادي وقد تنبهت إلى
النّورالذي غمرالكوخ فأعلنت أن المولود مبارك، وراحت تصلي
على النبي وتدعو الجاريتين إلى الصلاة عليه، وهي تحيط الحبل
السرّي على مقربة من السرّة بخيط من القطن وتربطه، لتقص
الحبل بعد ذلك لتفصله عن السرّة.. كما قصته من طرف
المشيمة دون أن تربطه. وشرعت في مسح الغشاء عن جسد
المولود بالخرقة الساخنة وهي تردد ابتهالاتها وتعاويذها:
“ اللهم صلّّي على محمد اللهم صلّّي على محمد. دياتك عشرة
ورجلياتك عشرة وحضروك اولاد الخليل عشرة “
كان المولود جميلًًا جدًا وبحجم مولودين على الأقل ممن اعتادت
الداية أن تراهم عند الولادة.
مسحت جسد الطفل بالخرقة الساخنة ولفعته بما حضّّرته
سجاح له وأسلمته إلى صدرها لترضعه وهي تبارك لها به.
ورفعت الفراش الذي تلوث بدماء المشيمة والمواد التي كانت
تغطي جسد المولود. وخرجت لتبارك لقعدان وتذهب إلى بيت
حليمة لتشرف على ولادتها.
دخل قعدان مبتهجًا. قبل سجاح مهنئًا بسلامتها وسلامة المولود
سعيد، متطرقًا إلى النور الذي انبلج في المكان عندما ولد سعيد
مؤكدًا قول الداية أن الوليد مبارك من الله.
*****
لم تكن ولادة حليمة صعبة فهذا حملها الثالث.. فما أن مكثت
الداية بضع دقائق حتى بدأت موجات الطلق تشتد على حليمة.
67
زحرت بضع مرات ليخرج المولود من الرّحم ويعبر قناة المهبل
بسهولة لتتلقفه يدا الداية أم سرور. كان الوليد أنثى. زغردت
أم سرور وصلت على النبي لتنطلق بعدها الزغاريد والصلوات
والإبتهالات.
سمع الشيخ الزغاريد من بيت حليمة فأخذ بندقيته وحشاها
بالبارود وأطلق طلقة ابتهاجًا.. وانصرف ليهنيء حليمة ويرى
المولودة ويطلق عليها اسم زبيدة. ولم ينس أن يذهب إلى كوخ
قعدان ليهنئ بالمولود سعيد. وكان من عادة الشيخ أن يحتفل
بالمواليد من الذكوردون الإناث بأن يقيم وليمة يدعو إليها بعض
افراد القبيلة، يتم فيها الرقص والغناء وإطلاق النار. لكنه
كسرالعادة بولادة زبيدة وأقام وليمة كبيرة حرص فيها على أن
يشير إلى ولادة سعيد ابن سجاح دون أن يشير إلى قعدان الأب،
وهو يريد بذلك أن يمهد الطريق إلى قلب سجاح. ذُبح في الوليمة
عجل وعشرة خراف وعشرة جداء.. وأقيمت الأفراح وانطلقت
الزغاريد وهزج الرجال في سامر طويل وغنّوا في دبكات مختلفة
على وقع النايات والأراغيل. وتناول ثريد المناسف المكلل باللحوم
والأرز قرابة مائتي رجل وامرأة وطفل. وتساءل كثيرون عن
السبب الذي دفع الشيخ للإحتفال بمولودة اقترنت ولادتها
بولادة طفل لجارية! ويعلن أن الإحتفال يشمل ابن الجارية
أيضًا! فهل يقصد الشيخ أن يتبنى الطفل أم يتقرب من الجارية
ليطلقها من زوجها وربما يتزوجها؟
فرحت سجاح وكذلك قعدان بتهنئة الشيخ لهما بالمولود وشمله
68
بالإحتفال الذي لم يكن يخطرببالهما، وازدادا تفاؤلًًا بالأيام
القادمة، وكادت سجاح أن تنسى القدر الذي تنبأت به عرافة
حوران بأن سعيد سيخصى، لما رأته من طيبة وحسن معاملة
من الشيخ عاقب.
أجزل الشيخ العطاء للداية أم سرور بأن أكرمها بنصف عصملية
ذهبية وكيسًا كبيرًا من الطحين، وعنزتين ورقصت في الحفل كما
لم ترقص من قبل!
****
69
) 7( ما لم تتنبأ به عرّافة حوران!
يبدو أن القدر خارج قدرة العرافين على معرفة كل ما تحمله
الأيام من رزايا، فتفاؤل سجاح وقعدان بمستقبل أيامهما في
خدمة الشيخ لم يدم طويلا، فلم يمر سوى بضعة أيام على
خروج سجاح من نفاسها بعد الولادة حتى استدعاها الشيخ
إلى منامه! لم يكن قعدان معها في الكوخ فقد كلف أخيرًا من
قبل الشيخ نفسه بحراسة ورعاية بساتين للشيخ تعج بكروم
العنب والتين والزيتون والمشمش، تقع في ضواحي القدس بعيدًا
عن البرية التي يقيم فيها الشيخ. وكان على قعدان أن يحرس
مع عبيد آخرين الكروم ليلا خوفًا من اللصوص، وثمة عبيد
يشاركونه في أعمال البستنة ورعاية الأشجار أيضًا، لكن خبرة
قعدان كانت أكثر من خبرتهم، لذلك كانوا يعملون تحت إمرته..
لم تفكر سجاح في ما يريده الشيخ منها، فهو على الأغلب لن
يواقعها وقد يكتفي بالقبل كما في السهرة الوحيدة السابقة التي
أمضتها معه. لكن الأمر كان أخطر مما توقعته سجاح.
استحمت على عجل وتزينت وتعطرت وطلبت إلى ظفيرة أن
تبقى إلى جانب الطفل فقد يستيقظ من نومه.
كان الشيخ في انتظارها. أجلسها إلى جانبه وقبلها بضع قبلات
قبل أن يطلب إليها أن تستمع إليه جيدا.
- كلي آذان صاغية يا سيدي!
- تعرفين يا سجاح كم أعزك وأريدك!
- أعزك الله يا سيدي.
70
- وأريدك تكوني حليلتي، لي وحدي. وش رأيك؟
فوجئت سجاح بالأمر. وتذكرت ما أشعرها به في السهرة السابقة
ولم تعلق عليه. ترددت في الكلام غير أنها هتفت أخيرًا.
- إن ذلك ليسعدني يا سيدي لو لم أكن متزوجة!
- إيه! أخلي كعدان يهجرك أو يطلقك. وأبعده عنك وأخليه بعيد
هناك في البساتين.
كانت سجاح تحب قعدان بقدر ما كزوج، فهو طيب وخدوم
وعاطفي جدًا وغيور، لكنها لا تملك قدر نفسها كجارية، فهي
رهن إرادة الأسياد ولا تستطيع أن ترفض حتى لو آلمتها الموافقة
على طلب السيد أو الشيخ. ومع ذلك حاولت أن تثني الشيخ عما
عزم عليه:
- ستكون صدمة كبيرة ل قعدان يا سيدي قد تفقده عقله أو
يقدم على أمر ما..
- لا لا.. كلها كم من يوم وينسى كل شي.. وسأكرمه بما ينسيه
كل شيء.
وفكرت سجاح للحظات ثم قالت:
- أليس في الإمكان أن تعاشرني وأنا على ذمة قعدان. سأمنحك
ما لا تستطيع جارية أخرى أن تمنحه.
- هذا زنى يا سجاح، تريديني أكون زاني؟ عفية عليك!!
صمتت سجاح للحظات مدركة لواقعها وعدم قدرتها على
الرفض. فهي امرأة ضعيفة في عالم أراد لها أن تكون جارية
تلبي رغبات الأسياد وكل ما يطلبونه منها. وما لبثت أن هتفت
71
تماشيا مع قدرها:
- إلي تشوفه يا سيدي.
- انفرجت أسارير الشيخ وابتهج مبتسمًا وضم سجاح إليه
وقبّلها على خدها، وردد:
- أنت من هالساع حليلتي ولن يقرب منك أحد غيري طالما
كنت على ذمتي. وابنك بمثابة ابني. وسأخبر كعدان بالأمر.
وهلّّا وريني مهارتك في السرير صار لي شهور أستنى هالليلة يا
سجاح. تراني كنت أحترق على وصالك الكامل!
لا يقصد الشيخ بالحليلة الزوجة، بل المحظية دون غيرها من
الجواري، وهذا ما فهمته سجاح بدورها وهي تتمنى في دخيلتها
لو أن الشيخ أمهلها حتى تخرج من آثار الصدمة. غير أن الأمر
بدا مستحيلًًا حين رأت الشيخ ينقلب خلال لحظات ويتحول إلى
وحش راح ينقض عليها بشراهة وهو في غاية التهيج.
*****
كانت ليلة فظيعة مع الشيخ لم تعش سجاح مثلها من قبل.
عادت إلى الكوخ لتجد ظفيرة نائمة إلى جانب الطفل سعيد.
قبلت سعيد قبلة خفيفة على خده ونبوءات عرافة حوران
بخصيه تمثل في مخيلتها. حاولت أن تطرد الصورة من مخيلتها
حين تصورت أن حظوة الشيخ لها قد تبعد شبح الخصي الذي
يطاردها عن الطفل، بل وقررت في سريرتها أن تمنح الشيخ ما
لا تمنحه الأخريات له، لعل كلمتها تصبح نافذة عنده.
استيقظت ظفيرة على حركة سجاح وهي تتثاءب.
72
- جيتي؟
- آه.
- شو صار معك؟
كان بود سجاح أن لا تتحدث عما جرى معها لكن رغبتها في
البوح كانت أقوى فهي في حاجة إلى من تفضي له بأوجاعها..
- الشيخ طلقني من قعدان واتخذني حليلة!
فوجئت ظفيرة بالأمر وبدا لها أن سجاح تقبلت الأمر مرغمة
كجارية فهي لم تكن فرحة بل متجهمة فقررت أن تفرّج عنها:
- نيالك! ما تفرحي ليش متكدرة. الحياة ابتسمت لك، محظية
للشيخ شو بدك أحسن من هيك؟
- خايفة على قعدان يا ظفيرة!
- يوه قعدان قعدان. فيه وحده تفضل عبد على سيد؟ ما تكوني
هبلاء، انبسطي وعيشي الحياة.. بكره الشيخ يسكنك في بيت
ويعفيك من الأشغال الشاقة.
- لا أظن أن شيئا من هذا سيحصل وسيبقيني في هذا الكوخ.
- حتى لو أبقاك فيه ليست مشكلة. المهم علاقتك معه.
- لن تختلف عن علاقتك معه. يجامعني كلما احتاج إلي ولا شيئ
أكثر من ذلك.
- لا تستعجلي. صحيح جامعك؟
هزت سجاح رأسها بالإيجاب!
ابتسمت ظفيرة وهي تسأل كيف كان؟ معتقدة أن ليلتها كانت
رومانسية مع الشيخ!
73
فاضطرت سجاح إلى القول:
- كان مثل الوحش وكأنه لم ير النساء في حياته!
- هذا من جمالك أفقده عقله!
وفضلت سجاح أن توقف الحوار عند هذا الحد. قالت:
- أنا تعبانه ولازم أنام. فيك تنامي عندي إذا بدك.
- لا لازم أروح لكوخي مع زينب وسارة.
ونهضت قائلة “ تصبحي على خير “
ردت سجاح قائلة “ تلاقي خير“ واستلقت إلى جانب سعيد.
طوقته بذراعها واحتضنته جاهدة لتطرد أية أفكار وتخيّلات
تراودها.
*****
في اليوم التالي كان الشيخ يتقلد سيفه ويمتشق بندقيته ويمتطي
جواده وينطلق نحو بساتينه في ضواحي القدس برفقة أحد
العبيد.
كان للشيخ بيت صغير في ضواحي القدس يضع فيه بعض
لوازم البساتين من معدات وأدوات وآلات تخص أعمال البستنة.
يشرف عليه عبد موكل برعايته. توقف الشيخ عنده وطلب إلى
العبد أن يعمل له قهوة، وأرسل مرافقه إلى البساتين ليخبر
قعدان أن يحضر إليه.
كان قعدان يحفر بفأس حول شجرة حين فاجأه مرافق الشيخ
طالبًا إليه أن يحضر إلى الشيخ لحاجته إليه.
أوجس قعدان مخافة أن يكون في الأمر ما لا يسره، ولم يخطر
74
بباله ما جاء الشيخ من أجله، وهو هجر سجاح أو طلاقها.
توقف عن الحفر ورافق المرافق إلى بيت الشيخ.
- السلام عليكم سيدي!
- وعليك السلام يا كعدان. أكعد أكعد.
جلس قعدان على مقربة من الشيخ دون أن يكون في مستواه
تمامًا.
- اسمع يا كعدان.
- سيدي!
- انت إلك عندي معزة خاصة.
- الله يحفظك ويديمك سيدي.
- ومنشان هيك عينتك مشرف على البساتين والكروم ورايح
أخليك تقيم في هذا البيت. وما حبيت أعمل شي يخصك من غير
ما أخبرك.
- ممتن لك يا سيدي!
وأدنى الشيخ رأسه من قعدان ليحدثه بصوت أقرب إلى الهمس:
- الحقيقة أن سجاح رايدتني وتريد تكون أقرب إلي!
راح قلب قعدان ينبض بشدة، فيما الشيخ يتابع:
-. قلت إلها لما جت عندي وصارحتني..
وتردد الشيخ وهو يلفق....
... وتريد.. تريد.. تقضي الليلة معي. قلت إلها ما يصير يا
سجاح.. أنا كمان أعزك وأريدك، لكن أنت على ذمة رجل وما
يصير نخونه ونخرج على شرع الله! وسألتني وش الحل يا شيخ
75
تراني أتقطع لوصالك؟!
وصمت الشيخ للحظات قبل أن يلقي قنبلته فيما قعدان يبتلع
ريقه الذي راح يجف..
.. قلت إلها لازم كعدان يطلقك أو يهجرك! قالت وإذا مارضي
قلت إلها كعدان طيب وما يخيب لك رجاء!
كان قلب قعدان على وشك أن ينفجر والشيخ يتابع:
- وأنا بحكم مونتي عليك قلت لها اعتبري حالك مهجورة من
هالحين ولك أن أخبر كعدان وأجعله يبتعد عنك إلى الأبد!
تجمد قعدان ولم يعد قادرًا على الكلام، فالشيخ قرر نيابة عنه،
وليس في مقدوره أن يرفض، ليجد نفسه خلال لحظة من دون
زوجة وولد!
ظل الشيخ صامتًا منتظرًا موافقة قعدان على قراراته.. وبالكاد
حتى همس قعدان وهو يشعر أن قلبه يتمزق في أحشائه:
- بتم.. بتمون يا سيدي! بتمون!
ابتهج الشيخ وربت على ظهر قعدان!
- هذا أملي فيك يا كعدان. اعتبارًا من اليوم تقيم في بيتي هذا..
وانس سجاح.. النسوان ما ييجي منهن إلا الهم..
وأشار إلى الموكل بالبيت أن يخصص فيه غرفة لقعدان. ونهض
ليمتطي جواده وينصرف..
كان قعدان يكبت في دخيلته صرخة بحجم بركان، وما أن أدرك
أن الشيخ ابتعد حتى أطلقها ليتردد صداها من سفوح وأودية
القدس. وراح يلطم رأسه بقبضتيه وينتف شعر رأسه.
76
حاول حارس البيت ) سلامة ( أن يهدئ من روعه دون جدوى.
فأمضى اليوم وبضعة أيام أخرى وهو في غاية الحزن، ولم يكن
في حاجة لأن يعرف من سجاح الحقيقة، فكل ما تفوه به الشيخ
عنها كذب، وأن كل ما جرى هو من فعل الشيخ دون غيره.
أمضى قرابة شهر وهو في حال يرثى لها.. تنتابه نوبات من
القهر يختلج فيها الحزن بالغضب فيشرع بإطلاق صرخات
فظيعة يتبعها بضرب رأسه بقبضتيه ونتف شعره؟
فاجأه سلامه بعد نوبة غضب، ربما بما كان يجهله، ليخفف
من وطأة الحزن على نفسه. أمسكه من طوقه وقرب رأسه إليه.
- يا أخي كفاك تعذيبا لنفسك! ما فعله الشيخ بالفصل بينكما
لصالحك، هذا أفضل لك من أن تكون سجاح على ذمتك،
ويضاجعها الشيخ على عينيك حين يريد، لتنهش الغيرة قلبك
وقد تقضي عليك!
لم يجب قعدان وإن وجد في كلام سلامه بعض الصواب.. فبدأت
نوبات القهر تخف بعد ذلك لتطول فترة غيابها لتتجاوز الأشهر
أحيانا..
****
77
) 8( زبيدة وسعيد!
طُهّرسعيد في الثانية من عمره مع مجموعة من أطفال العبيد
والأسياد. فزغردت النساء وأقيمت الافراح والليالي الملاح
لتطال الفرحة العبيد أيضًا. كانت حليمة تضع طفلتها زبيدة
عند سجاح لتعتني بها مع سعيد، فتعلقت الطفلة بسعيد
لكثرة ما كان يلعب معها. وحين بلغا الرابعة من عمريهما
لم يكادا يفارقان بعضهما، فما أن تستيقظ زبيدة من نومها
وتأخذ فطورها حتى تذهب لتلعب مع سعيد وتبادله القبل،
وليشاركهما أطفال آخرون اللعب. غيرأنه كان لسعيد اهتمامات
أخرى، فقد كان يحب العبث بعود أمه ويحاول أن يفعل كما
تفعل هي، وكانت زبيده تشاركه العبث أحيانًا،غير أن الأمر كان
صعبًا عليها وعليه. ومع ذلك لم يتوقف سعيد عن العبث ليحدث
بعض الأنغام. حرص سجاح على العود من أن ينزعاه، دفعها
إلى ابتياع ناي بصفارة، وكذلك قصبة مثقبة من البوص يركب
عليها زمارة.. راق لهما الأمر واستطاع سعيد أن يخرج أصواتًا
من الآلتينّ، ويشكل أنغاما أفضل مما يفعل على العود، بينما
زبيدة تصرخ لأنها لا تستطيع أن تفعل مثله.
سجاح كانت فرحة وسعيدة بهذا التآلف بين زبيدة وسعيد،
فقد يدفع الأمر بالشيخ إلى الاهتمام بسعيد. المشكلة أن الشيخ
نادرًا ما يرى أطفاله وحين يرى أحدهم يسأله ابن من هو من
نسائه، وحين يرى أطفاله مع آخرين لا يعرف أبناءه من بينهم،
والمعرفة لم تكن تتم بقدر مقبول إلا في الكبر وأحيانًا بعد بلوغ
78
سن الرشد.
حين بلغ سعيد وسجاح الخامسة راحا يتسابقان في الجري أكثر
مما كانا يفعلان من قبل. كانا يتسابقان وحدهما أو بمشاركة
الأطفال، وكان سعيد بقامته الأطول من الجميع هوالفائز دائمًا.
وحين كانا يختليان لبعض الوقت في حقل زرع أو خلف جدار
أو صخرة، كانا يلعبان لعبة العريس والعروس دون أن يعرفا
كيف تتم اللعبة الحقيقية بين الكبار، وإن كانت زبيدة تستلقي
على ظهرها وترفع ثوبها ليرفع سعيد ثوبه بدوره ويحاول أن
يستلقي فوقها.
حين بلغ سعيد السادسة طلبت سجاح إلى الشيخ أن يتيح له
التعلم عند أحد شيوخ الدين في القبيلة، فوافق. وهكذا بدأ سعيد
يتعلم القراءة والكتابة وحفظ الآيات القرآنية. وكانت القراءة
تقتصرعلى كتاب القرآن. كما أحضرت له أمه نايًا ومجوزًا
وأرغولًًا بعد أن قطع مرحلة مقبولة على الآلات البسيطة ففرح
بها. ولم يحد ذلك من لقاءاته هو وزبيدة، يلعبان مع السخال
وصغار الخراف أو يتوغلان في البرية وسعيد يصطاد العصافير
لزبيدة أو يختليان في حقل حنطة ليمارسا لعبة االعريس
والعروس بوعي غريزي أكثر من ذي قبل. افتقدت حليمىة
ابنتها ذات يوم حين بحثت عنها وحين عرفت أنها ذهبت لتلعب
مع سعيد، أرسلت سجاح للبحث عنهما. راحت سجاح تجوب
الحقول منادية بين لحظة وأخرى. كان سعيد مستلقيًا فوق
زبيدة مداعبًا جسدها، حين سمع صوت أمه يناديه من طرف
79
حقل حنطة. نهض بسرعة لينسدل ثوبه على جسده ولتنهض
زبيدة بدورها. فوجئت سجاح بهما وقد نهضا على مسافة غير
بعيدة عنها وسط الحقل، ليغطي الزرع معظم جسديهما،
أدركت ماذا كانا يفعلان. نادتهما ليقدما عبر الحقل. سألت
سعيد:
- ماذا تفعلان؟
قال سعيد وهو ينكس رأسه مدركًا أن ما يقوم به مع زبيدة هو
فعل عيب:
- نلعب!
ولم تتفوه زبيدة بكلمة ولم تنكس رأسها أو تديره جانبًا، بل
بدت وكأنها مستنكرة قطع خلوتهما !
- تلعبان؟ هذا عيب!
وأخذت يد سعيد وضربته بيدها على ظهرها وهي تردد:
- العبا أي لعبىة إلا هذه فهمت؟
تدخلت زبيدة هاتفة “ لا تضربيه “
- وأنتِ أيضًا إياك أن تعيديها معه! هيا أمامي إلى البيت.
لم تسأل حليمة أين كانا وماذا كانا يفعلان. وبدت سجاح
متشائلة بهذه العلاقة الحميمة بين ابنها وزبيدة، وحين أخبرت
الشيخ بها في خلوة لها معه، محاولة التقرب إليه أكثر، لم يبد
عليه أنه مهتم للأمر، ما أضاع التشاؤل عندها ليحل التشاؤم
محله، بل وأخذت تشعر أن خلواتها مع الشيخ على وشك النفاد،
إن لم تكن قد نفدت، وخاصة بعد أن استنفدت كل مهاراتها
80
في فنون السرير ليحاول الشيخ تطبيقها على جواريه وبعض
نسائه أحيانًا، ما أثار حفيظتهن، فبعضهن وخاصة حليمة لم
تكن تحبذ هذا الإيغال في الخيال السريري ليطال ما قد يكون
محرّمًا، وهو ما لم تكن حليمة تطيقه، غيرأن دوافع الغيرة
لديها التي كانت تتأجج كلما طلب الشيخ إليها أن تفعل كما
تفعل سجاح، دفعتها لأن توغل في التقليد حتى تتفوق عليها،
ليتأوه الشيخ من أعماقه مستلذًا، لتبلغ تأوهاته مسامع نسائه
وجواريه الأخريات في خدورهن.
في سن السابعة تابع سعيد صيد العصافير بنصب الفخاخ لها
ومداهمة أعشاشها أو اصطيادها بالنقيفة أو حتى بقذفها
بحجر، بيده مباشرة أو عبر مقلاع. وهذا الأخير كان يستخدم
لأسراب من العصافير أوالحمام أوالحجل أو اللقلق حين يمر
بهجرته من المنطقة ويتوقف فيها لبضعة أيام. كان الأمر صعبًا
عليه، غير أن مثابرته جعلته يجيده إلى حد مقبول في الثامنة
والتاسعة. ومع ذلك كان يفضل النقيفة أو نصب الفخاخ. أفضل
طريقة لديه لاصطياد العصافير بالنقيقة، كانت أن يكمن خلف
صخرة باب البئر، وحين يأتي العصفور ليشرب، يتوقف على
حافة حوض الماء لينقفه سعيد بحصاة تطيح به.
كان صيد سعيد يذهب دائما إلى زبيدة دون أبناء الأسياد
والعبيد، وأحيانًا كان يشعل النار ويشوي العصافير برفقتها.
لم تكن تساعده إلا في جمع الحطب. وكانت تتفرج عليه وهو
يقوم بالشواء!
81
في التاسعة كان سعيد قد أصبح يجيد العزف على الناي بحدود
وكذلك على المجوز والأرغول دون أن يجيد تمامًا عملية التنفس
التي تتطلب مهارة فائقة في تعلمها كي لا ينقطع الصوت خلال
اللحن، إذ يتوجب عليه أن يجعل من فمه قربة تخزن الهواء
وتضخه في الآلة وهو يتنفس من أنفه خلال العزف. كانت زبيدة
تحب عزفه وتطلب إليه أن يعزف لها.. وفي سن العاشرة أضيفت
هواية أخرى إلى هواياته وهي المصارعة مع أبناء العبيد والأسياد،
ولم يكن لأحد أن يتفوق عليه كما في السباق. ولم يعرف سعيد
كما لم تعرف سجاح ولم يعرف قعدان القابع في عمله في بساتين
وكروم الشيخ، أن القدر كان يرسم خطوطه لسعيد بدءًا من هذه
اللعبة. فذات يوم كان الأطفال يتصارعون في ساحة فسيحة على
مسافة من بيوت البلدة.. ومر الشيخ عاقب ممتطيًا جواده قادمًا
من جولة على الحقول، برفقة مزيود أحد عبيده. توقف على
مقربة من أطفال يلعبون المصارعة بينما مجموعة من الأطفال
الإناث يقفن متفرجات. اقترب طفل من سعيد مشمرًا ساعدية.
تلقاه سعيد بيديه ليطرحه أرضًا من أول محاولة. شرعت
زبيدة في التصفيق لسعيد لتصفق معها الأخريات. نهض الطفل
المهزوم ليقف إلى جانب الأطفال المهزومين. هجم طفل ثان على
سعيد فطرحه أرضًا بسرعة فائقة. وهجم ثالث فطرحه ورابع
وخامس إلى أن طرح عشرة أطفال معظمهم من أطفال الأسياد،
وسط تصفيق زبيدة والأطفال الآخرين. كان الشيخ يرقب
المشهد بدهشة بالغة لجمال الطفل وقوته الخارقة ومهارته.
82
وراح يفكر في المستقبل وما يمكن أن يفعله هذا الطفل حين
يكبر. سمار الطفل أوحى إلى الشيخ أن الطفل من أبناء العبيد.
ومع ذلك سأل مرافقه مزيود ليتأكد:
- هل هذا الطفل من أبناء العبيد؟
- أجل يا سيدي.
أطرق للحظات ثم قال:
“ إذا ما ما كبر هذا الطفل فلن تبقى امرأة في القبيلة إلا وتنزع
ثيابها له، اذهب وأتني به سأقطع خصيتيه “
كان العبد مزيود يعرف سعيد فخاطب الشيخ على أمل أن يغير
رأيه لمعرفته بحظوة سجاح عنده:
“ إنه سعيد ابن الجارية سجاح يا سيدي“
أطرق الشيخ مرة أخرى متفكّرًا.. وما لبث أن هتف حاسمًا أمره:
“ لا يهم ابن من هو.. هيا أحضره“
ولكز جواده لينطلق به.
دنا مزيود من الأطفال. أمسك بيد سعيد واقتاده قائلا “ تعال
معي الشيخ يريد ك“
كان سعيد يعتقد حسب ما أخبرته أمه عبر سعيها للتقرب
إلى الشيخ، أن الشيخ بمثابة أبيه، حين لم يتح له معرفة أبيه
الحقيقي.. وما عرفه من أمه أن أباه سافر لعمل ولم يعد، والمرة
الوحيدة التي التقى فيها أباه على مقربة من أكواخ وخيم العبيد،
وأخبره أنه أبوه، لم يصدقه، ورد عليه قائلًًا “ أنا ابن الشيخ
عاقب“ وانصرف قعدان يداري أحزانه بحرمانه حتى من ابنه
83
بعد أن حرم من زوجته. ورغم أن الشيخ لم يتخذ قرارًا بهذا
الشأن إلا أن إبعاد قعدان إلى العمل في البساتين وعدم مغادرتها
كان له دور في هذه المسألة. ومع مرور الأيام والسنين راحت
عاطفة الأبوة تضمحل شيئًا فشيئًا في نفس قعدان إلى أن كادت
تتلاشى. وكانت سجاح تدرك الغاية من إبعاد قعدان، ولم ترد أن
تضع الطفل أمام أسئلة كثيرة في المستقبل.
لم يمانع سعيد في مرافقة مزيود، بل انتابه بعض السرور للقاء
من يفترض أنه أبوه بالتبني، رغم أنه لم يجالسه ولو مرة في
حياته، ولم يكن الشيخ يعرفه فهو حتى أولاده لا يعرف بعضهم.
كان الشيخ قد أمر العبد حامد المشرف على المضيفة أن يشعل
الفحم في الساحة أمام المضيفة. وكان ثمة رجال يجلسون في
المضيفة بعضهم ضيوف جاءوا في غياب الشيخ.
تسرب خبرإلى البيوت والأكواخ يشير إلى أن الشيخ سيخصي
سعيد. هرع بعض الناس من نساء ورجال ليشاهدوا عملية
الخصي. كان الشيخ يجلس إلى جانب موقد الفحم وقد وضع فيه
سكينًا، بينما وقف مزيود ممسكًا بيد سعيد وخلفهما مجموعة
من الأطفال بينهم زبيدة. لم تعرف زبيدة كما لم يعرف سعيد
حتى حينه ما الذي سيجري. غير أن المخاوف بدأت تنتاب سعيد
حين لم يرالشيخ يستقبله كما كان يأمل، بل بدا الآخر منشغلا
بتقليب السكين في جمرالموقد، فراح يتساءل في سره عمّا يريد
الشيخ أن يفعله بالسكين.
أشار الشيخ برأسه إلى رجال أن يقيّدوا سعيد. نهض رجلان
84
واقتادا سعيد عنوة إلى جانب الموقد، شعر سعيد بالرعب فشرع
بالصراخ. سارعوا إلى طرحه أرضًا وتكميم فمه وعينيه بمنديل..
قيدوه من يديه ورجليه، لكنهم لم يحدوا من حركته، فأمسك
رجلان بيديه ورجلان برجليه.. شعرت زبيدة بالرعب حين
أدركت أن أمرًا خطيرًا سيحصل لسعيد فراحت تصرخ هاتفة “
لا لا!“ فأمر الشيخ بإبعادها لتأخذها أمها عنوة وتبعدها وهي
تصرخ. بلغ الخبر مسامع سجاح فهرعت صارخة مدركة أن
نبوءة عرافة حوران بالخصي قد أزفت! أخبروا الشيخ ليأمر
بإبعادها.. تلقاها عبدان ليطرحاها ويقيداها..
جاء رجل بخيط من القنب. حصر خصيتي سعيد أسفل كيس
الخصيتين وربط الخيط من فوقهما.
أخرج الشيخ السكين من النار فبدا أحمر كاللهب.. ابتعدت
بعض النساء فيما أخفى بعضهن وجوههن وهن يبتلعن
ريقهن.. وراحت سجاح تصرخ في قيدها “ابني ابني “ مرر
الشيخ السكين من تحت الخيط فقطع الخصيتين وألقى بهما
بعيدًا، فلاحقتهما عيون الناس، وهرع الأطفال نحو المكان الذي
ستسقطان فيه، فيما كان سعيد يئن صارخًا من شدة الألم،
دون أن تحد الكمامة من ذلك، بينما الشيخ يكوي مكان القطع
بالسكين ليوقف النزيف.
أشار الشيخ إلى العبيد أن يفكّوا قيد سجاح لتأخذ ابنها فيما
كان رجلان يفكان قيود سعيد ويرفعان الكمامتين عن فمه
وعينيه. أقبلت سجاح كلبوة فقدت أشبالها، انقضت على الطفل
85
لتحمله وتنطلق به عائدة إلى الكوخ جاهدة لأن تكبت صراخها
في أعماقها.، وقد بدا سعيد شبه فاقد للوعي وهو يئن بصرخات
متتالية.
*******
86
) 9( نبوغ سعيد!
حين علم قعدان بخصي سعيد تحركت عاطفة الأبوة شبه القتيلة
في نفسه، فانتحب بصمت ليأخذ العبد سلامه وكيل البيت
بخاطره، في محاولة يائسة لإنقاذه من أوجاعه التي بدا أنها
تنهكه.
ولم تكن سجاح في حال أفضل هي الأخرى فقد أثرعليها
خصي سعيد إلى حد كاد أن يدمرها، وأيقظ كل نبوءات عرافة
حوران في نفسها، لتجد أنها كانت تذهب في اتجاه قدرها وليس
في الهروب منه. وباتت تنظر إلى الحياة بعين متشائمة للغاية،
خاصة وأنها لم تعد المحظية المفضلة لدى الشيخ كما يبدولها،
وجزمت بالأمر حين ابتاع الشيخ جارية لم تبلغ سن الرشد بعد.
وحين رأتها وعرفت مقدار جمالها أيقنت أن لياليها الحمراء مع
الشيخ قد أفلت إلى غير رجعة، وأنها قد لا تعود إلا نادرًا، لنزوة
عند الشيخ أو لسبب ما لا يعلمه إلا الله..وكان كل همها ينصب
على سعيد. ورغم أنها تدرك أن الخصي لا ينجب إلا أنها راحت
تسأل بعض النساء لتتأكد من ذلك. وحين قطعت الأمل راحت
تسأل عن إمكانية الانتصاب لديه للمعاشرة. فأكدت بعض
النساء أن الانتصاب يحدث وأنه في مقدورالخصي أن يتزوج
شريطة أن تعرف العروس أن عريسها خصي، وبعضهن رأين
أن الانتصاب شبه معدوم، وبعضهن أكدن على وسطية الوضع
حسب الحالة النفسية ورغبة الخصي للجنس وحاجته إلى المرأة.
أما عن تساؤلات سعيد حول الخصي والغاية منه، فكانت سجاح
87
تلفق له إجابات من نوع “عدم الخصي يؤثر على قوة الرجال
فيخصونهم حتى يصبحوا أقوياء، وقد خصاك الشيخ لتكون
قويًا حين تكبر“
بدأت سجاح تفقد بعض شهيتها للطعام وراحت تنحف لينقص
وزنها فيما تساؤلات سعيد عن الخصي لم تتوقف، فهولم يقتنع
كما يبدو بما قالته له، فترد على أسئلتة الكثيرة بإجابات ملفقة
في الغالب حتى لا تثقل على قلب الطفل.، الذي راح يستعيد
عافيته بعد قرابة ثلاثة أسابيع من الخصي. واستأنف عزفه على
الناي وقد وعدته بناي جديد وشبابة وأحضرتهما له بعد أيام،
كما أحضرت له أرغولًًا ومجوزًا جديدين، إضافة إلى ربابة وعود
بأربعة أوتار فقط. راح سعيد ينام على العزف ويستيقظ عليه،
أصبحت كل هواجسه وأحلامه هي العزف ولا شيء غير ذلك، إلا
زبيدة التي كانت تجلس أمامه أو إلى جانبه وهو يعزف، لتهيم
حبًا به وبعزفه. دون أن تدرك حتى حينه الغاية من خصيه، ولم
تحصل على إجابات مقنعة من أمها عن كيفية الخصي والغاية
منه. فرحت سجاح بتعلق سعيد بالآلات الموسيقية وتوقفه عن
أسئلة الخصي، ما يشير إلى أنه لم يعد يقلقه كما من قبل. ولم
تصدق نفسها حين رأت سعيد خلال أشهر يجيد العزف على
معظم الآلات. كان يهيم بالمجوز والأرغول فلا يفارقانه، لا في
الليل ولا في النهار. أتقن العزف عليهما بشكل مدهش بعد أن
أجاد عملية التنفس خلال العزف، ليتحول إلى الربابة ليجد
فيها ما لم يجده في آلات النفخ والعود. واظب على العبث بوترها
88
الوحيد وقوسها إلى أن أجاد العزف عليها، ليحوّل اهتمامه إلى
العود الذي حرم منه حتى حينه، وحين رأته سجاح يتعلق به
ويتعامل مع أوتاره بقدرة فائقة ، قدمت له عودها مدركة أنه
سيتقن العزف عليه خلال مدة قصيرة.. وما أن واظب سعيد
عليه لبضعة أسابيع حتى راح يهيم شغفًا به ليفاجئ أمه كما لم
تتفاجأ من قبل إلى هذا حد، فقد راح سعيد يلامس شغاف قلبها
لينشرها على الملأ لتبكي من أعماقها فرحًا وحزنًا وألمًا.. وما أن
أتم سعيد الثانية عشرة من عمره حتى كان يجيد العزف على
كافة الآلات الموسيقية في القبيلة، الشعبي منها وغير الشعبي،
وحين سمع الشيخ بمهارته في العزف على الربابة راح يستدعيه
للعزف في سهراته مع وجهاء القبيلة.
كان سعيد خلال تعلم القراءة والكتابة قد حفظ غيبًا العديد
من الآيات القرآنية خلال عامين من التعليم لدى شيخ ديني في
البلدة، لكنه لم يجد ما يقرأه بعد ذلك، وحين استدعاه الشيخ
للعزف على الربابة في سهرة له، لم يكن يحفظ أي كلمات ذات
شأن يرددها مع اللحن، واكتفى بمقطوعات موسيقية تعبرعمّا
يجول في خاطره، وبعض الأغاني الشعبية التي كان يسمعها في
أعراس البلدة. ورغم أن الشيخ وضيوفه أحبّوا العزف والأغاني،
إلا أنهم فضّلوا لو أن سعيد يحفظ بعض الأشعارمن تغريبة
بني هلال أو قصة الزير سالم اللتين كانتا تشكلان جزءًا من
ثقافة القبيلة، ويحفظ بعض المسنين أشعارًا منهما.. ونظرًا
لعدم توفر كتب في القبيلة تحتوي على أي منهما، فقد ارتأى
89
الشيخ أن يطلب إلى حفظة بعض أشعارهما أن يعلمها إلى
سعيد، ليتبين للشيخ فيما بعد أن سجاح تحفظ من أشعارهما
أكثر مما يحفظه جميع حفظة القبيلة. فشرعت في كتابة كل
ما تحفظه من قصائد مختلفة لسعيد ليقوم بحفظ ما يريد.
وكما كانت دهشتها حين رأت سعيد يجيد العزف على الآلات
االموسيقية، كانت دهشتها أكبر حين رأت سعيد يحفظ الأشعار
بسرعة غير عادية.
وحين استدعي سعيد إلى سهرة بعد بضعة أسابيع راح يتغنى
بقصيدة من ملحمة الزير سالم، ولحن ربابته يشق عتمة الليل
ليتسلل إلى بيوت وأكواخ الحي. كانت القصيدة هي وصية كليب
لأخيه الزير التي خطّها بدمه على صخرة قبل أن يموت. وقد
تطرق سعيد للواقعة بكلمات مختصرة وشرع ينشد متقمصًا
شخصية كليب، فبدا في غاية الحزن وهو يمهّد بلحن موغل في
الفجيعة، جعل الشيخ وضيوفه يجلسون في صمت وخشوع
ليبدوا وكأنهم في مأتم:
هديت لك هدية يا مهلهل / عشر أبيات تفهمها الذكاة
أول بيت أقول استغفر الله / إله العرش لا يعبد سواه
وثاني بيت أقول الملك لله / بسط الأرَض ورفع السماء
وثالث بيت اوصي باليمامة/ واحفظ العهد لا تذكر سواه
ورابع بيت أقول الله أكبر/ على الغدار لا تنسى أذاه
وخامس بيت جساس غدرني/ شوف الجرح يعطيك النباة
وسادس بيت قلت الزير أخوي/ شديد البأس قهار العداة
90
وسابع بيت سالم كون راجل/ لاخذ الثأر لاتعطي وناة
وثامن بيت بالك لا تخلي/ لا شيخ كبير ولا فتاة
وتاسع بيت سالم لا تصالح/ وإن صالحت شكوتك للإله
وعاشر بيت إن خالفت قولي/ فأنا وياك لقاضي القضاة
*****
وتوقف سعيد عن العزف. ليضج الشيخ والحضور بالتهليل:
“ الله الله عليك ياسعيد جود يا وليدي جود “
هتف الشيخ وهو يخاطب سعيد لأول مرة بهذه الكلمات
مستخدما تعبير “يا وليدي“ وكأنه بمثابة ابن له، وبدا وكأنه
نادم على خصيه، فقد شعر في دخيلته أن طفلا بهذا النبوغ
يستحق حين يكبر أن تنزع زينات النهود ثيابهن له.
بدأ سعيد يلامس وترالربابة ممررًا وترالقوس بخفة وليونه
عليه ليبعث لحنًا أقرب إلى أنين قلب مثلوم:
يقول الزير أبو ليلى المهلهل/ وقلب الزير قاسي لا يلينا
وإن لان الحديد ما لان قلبي/ وقلبي من حديد القاسيينا
)هذا هو قلب الزير. علق أحد الضيوف!(
تريدي يا أمي أن أصالح / وما تدري بما فعلوا فينا
فسبع سنين قد مرت عليه / أنام الليل مغمومًا حزينا
أنام الليل أنعى في كليب / أقول لعله يأتي إلينا
أجتني بناته تبكي وتنعى/ تقول اليوم صرنا حائرينا
فقد غابت عيون أخيك عنا / وخلانا يتامى قاصرينا
وأنت اليوم يا عمي مكانه / وليس لنا غيرك معينا
91
سللت السيف في وجه اليمامة / وقلت لها أمام الحاضرينا
)اليمامة زينة الزينات. علق آخر ليوافقه الشيخ.(
وقلت لها ما تقولي / أنا عمك حماة الخائفينا
كمثل السبع في صدمات قوم / أقلبهم شمالًًا مع يمينا
)كفوا والله كفو!(
فدوسي يا يمامة فوق راسي/ على شاشي إذا كنا نسينا
فإن دارت رحانا مع رحاهم / طحناهم وكنا الطاحنينا
أقاتلهم على ظهر مهر / أبو حجلان مطلوق اليدينا
فشدّي يا يمامة المهر شدي/ وأكسي ظهره السرج المتينا
****
توقف سعيد عن العزف والغناء وسط ثناء الشيخ وضيوفه.
وقد أوحت أشعار سعيد عن بطولات الزير إلى الشيخ بأن يعلم
سعيد الفروسية، فطفل بهذه المهارة والقوة لا بد وأن يكون
فارسًا لا يقهر إذا ما تعلم الفروسية، خاصة وأن الصراعات
بين قبائل مختلفة قيسية ويمنية تندلع بين فترة وأخرى وقد
تطال القبيلة بعد أن توقفت لبضعة أعوام تنفس الناس خلالها
الصعداء. لذلك حرص الشيخ على أن يخبر سعيد بنواياه وهو
يهم للإنصراف:
- أريدك تكون فارس يا وليدي يا سعيد وسأجعل أمهر فرسان
القبيلة يعلمك على استخدام السيف والترس والسهم والرمح.
أومأ سعيد برأسه وهو يقول “ شكرا يا شيخ“
- وما تنسى تسلم لي على أمك تراني والله مشتاق إلها.
92
- تسلم يا شيخ..
وغادر سعيد المضيفة ليزف سلامات الشيخ لأمه ويخبرها بنية
الشيخ تعليمه الفروسية وأنه خاطبه لأول مرة في حياته قائلا يا
وليدي. ما جعلها تتفاءل من جديد بالمستقبل بعد طول تشاؤم
أورثها إياه تقلبات الشيخ بين اللين والقسوة والرحمة والشدة،
فقد يصبح سعيد واحدًا من فرسان القبيلة المشهود لهم إن لم
يكن أهمهم، ما يجعل مكانته عند الشيخ مرموقة! لكن ما يعكر
صفوها أن سعيد ما يزال صغيرًا على تعلم الفروسية. لو أن
الشيخ يصبر عليه لعامين أو ثلاثة على الأقل.
*****
93
) 10 ( دروس في الغرام!
فوجئت سجاح صباحًا بقدوم العبد حامد يستدعيها للمثول
أمام ألشيخ! تفاءلت خيرًا بعد طول انقطاع، ما بدا لها أنه جفاء
من الشيخ، فلم يستقبلها ولو لمجرد الاطمئنان، وترك أمرعملها
إلى زوجته وطفاء التي كلفتها للعمل مع باقي الجواري والعبيد
في حلب الأغنام وعمل الجبن واللبن والسمن.
لم تتزين لإدراكها أن الوقت ليس وقت غرام للشيخ، كما أن
الشيخ يصب جُلّ اهتمامه على الصغيرات، فلم يمض عامان
على ابتياع الجارية الصغيرة حتى ابتاع الشيخ جارية أصغر لم
تبلغ الرابعة عشرة من عمرها.. غير أنها أصلحت من هندامها
وحاولت قدر الامكان أن تبدو في مظهر لائق للشيخ.
استقبلها الشيخ في مضيفة العائلة دون أن ينهض من مجلسه،
ومد يده لمصافحة يدها التي امتدت وهي تنحني لتقبل يده
وتضعها على جبينها كما جرت عليه العادة بين الجواري والعبيد
وحتى الزوجات والأبناء. فمصافحة الشيخ تستدعي تقبيل يده
ووضعها على الجبين قبل إطلاقها.
- كيف حالك يا أم سعيد؟
- الحمد لله يا سيدي!
- عساك زعلانه مني.
- المهم رضاك علي يا شيخ.
- الله يرضى عليك! تعرفين الله بلاني بحب الصغيرات ونتي
كبرتي مثل غيرك يا أم سعيد! وصلك سلامي مع سعيد؟
94
- وصل يا شيخ تسلم ويطول عمرك!
- سعيد مثل وليدي ولازم ندربه عالفروسية!
- إلي تريده يا شيخ وإن كان الولد بعده صغير عالفروسية!
- هذا عمر زين للتعلم، وإن شاء الله يكون فارس من فرسان
القبيلة.
- إن شاء الله يا شيخ.
- وش اخبار الشغل معك حد يزعلك أو يكلفك بما هو فوق
طاقتك.
- أبدا يا شيخ مثلي مثل الجواري.
- ومعاملة وطفا إلك.
- زينه يا شيخ. مثل معاملة الأخريات.
وأدنى الشيخ رأسه من سجاح وراح يخاطبها بصوت خفيض
وكأنه لا يريد لأحد أن يسمعه غيرها.
- اريد منك خدمة يا أم سعيد!
- أنت تأمر ياشيخ!
- البنية هيذي اقصد الجارية الجديدة الصغيرة ما تفهم شي
في أمورالغرام وأريدك تعلمينها الأصول وتعلمينها وش إلي
يعجبني ولي ما يعجبني.. حتى الصغيرة إلي قبلها خبرتها مش
ولا بد ياريت تعطيها اشوية دروس من عندك كمان.. أريدك
تباشري تعليمهن من اليوم. رايح أخبر وطفاء توديلك إياهن
على انفراد.
أطرقت سجاح للحظات تفكر في الوظيفة التي اختارها لها
95
الشيخ، وما لبثت أن هتفت بالعبارة المعتادة التي يفضلها
الشيخ على غيرها:
- أنت تأمر يا شيخ!
ومد الشيخ يده إلى دلة القهوة على مقربة منه وسكب فنجانًا
لسجاح وفنجانًا له.
- يسلّم إيديك يا شيخ؟
- وإيديك يا أم سعيد. صحة وعافية.
وما أن شربت سجاح القهوة حتى أذن لها الشيخ بالانصراف.
عادت إلى كوخها وقد أدركت الغاية التي استدعاها الشيخ
من أجلها. وجدت سعيد يعزف على العود وزبيدة تستمع له.
صرفتهما إلى خارج الكوخ شريطة أن لا يبتعدا وأن لا يغيبا عن
الأنظار. فخلوات الطفولة في السنوات المنصرمة لم تعد متاحة،
لأن العادات الاجتماعية لا تبيح الاختلاط المنعزل بين الذكور
والإناث إذا ما تجاوزا سن الحادية عشرة على الأكثر، وإن كان
في خصي سعيد ما يدعو للإطمئنان. فالولد كما بدا لسجاح أنه
لا يشعر بأية أعراض مراهقة، عكس زبيدة التي كانت شهوتها
للجنس تتأجج عبرما يبدو من بعض حركاتها ومرافقتها لسعيد
لأكثر من مرة في اليوم، ويبدو أنها لم تدرك أبعاد الخصي بعد.
لم تنتظر سجاح طويلًًا قدوم أي من الطفلتين. وفكرت في
الأسباب التي لم تدفع الشيخ لإرسال الاثنتين معا لتعليمهن.
فهل هو حريص على الحياء أم ماذا؟
جاءت الطفلة الجديدة الأصغر في البداية. استقبلتها سجاح
96
وأجلستها أمامها.تأملتها للحظات مستعرضة طفولتها
وأنوثتها وجمالها. كانت جميلة فعلًًا. فتقاسيم ملامح وجهها
تبدو متناسقة، وشعرها الأسود يضفي مسحة ظلال على لونه
الحنطي. بدت خجلة بعض الشيء وهي تجلس منكمشة دون
استرخاء.
- ما اسمك يا صغيرتي؟
- وعد!
- كم عمرك؟
- 14 سنة!
- من أي بلد أنت؟
- من حلب!
- كيف أصبحت جارية ومتى؟
- اسرتي فقيرة وباعني أبي إلى تاجر عبيد ليعول أمي وأخوتي
الأصغر,
- وهل تقبلت الأمر راضية؟
- لا لم أكن راضية لكني لم أصر على الرفض. لم يكن أمامي
خيار آخر.
- كم كان عمرك؟
- 12 سنة!
- ألم يكن في المقدور تزويجك لشخص بمهر يساعد الأسرة.
- لا أظن ولا أعرف إن فكّر أبي بالأمر.
- هل تعرفين بكم باعك أبوك؟
- لا أعرف!
97
- هل تأتيك الدورة الشهرية؟
- تاتيني منذ أن باعني أبي.
- ماذا جرى لك بعد ذلك.
- افتض التاجر عذريتي ومارس معي الجنس لقرابة عام
وباعني لتاجر آخر. مكثت معه لبضعة أشهر إلى أن باعني
لتاجر آخر أمضيت معه لبضعة أشهرإلى أن حضر بعبيده
وجواريه إلى فلسطين ليشتريني الشيخ.
- هل هو تاجر دمشقي لديه حظيرة للعبيد في حوران.
- أجل.
راحت سجاح تهز رأسها وهي تقول:
- إنه التاجر نفسه الذي اشتراني وباعني للشيخ.
ومرت لحظات صمت قبل أن تشرع سجاح في الحديث. لم
تعرف كيف يمكن لهذه الطفلة أن تحتمل كل نزوات الشيخ على
اختلافها. تساءلت:
- يفترض أن لديك بعض الخبرة في أمورالغرام لما مررت به
قبله، فلماذا يعتبر الشيخ انك تجهلين ذلك؟
- لا أعرف يا سيدتي إن كنت جاهلة في هذه الامور، ما أعرفه
أن الأسياد يطلبون أشياء لا قدرة لي عليها فأرفضها أو أتقبلها
بقرف وأنا أتألم وأبكي حين يرغمونني على ذلك.
أدركت سجاح مأساة الطفلة وأبدت تعاطفاّ كبيرًا معها، وراحت
تلعن في سريرتها هذا القدر الذي رسم للعبيد والجواري..فلا
أحد من الأسياد يرحم طفولتها، ولم تعرف كيف يمكن أن
98
تجعلها تتقبل ممارسات الاسياد االمختلفة في أغلبها. فلا تتصور
أن تتقبل طفلة بهذا العمر هذه الممارسات. ورغم أنها تعرف
كل ما يمكن أن يفعله الأسياد إلا أنها راحت تتأكد من الطفلة،
لتخبرها وهي تبكي بما هو فظيع وفوق طاقتها. فالشيخ لا يترك
طريقة للمارسة الجنسية إلا ويطبقها، فتعامله مع الجواري
والنساء أوصله إلى أشكال وطرق مختلفة.
- آه يا ابنتي لا تبكي. لعل الشيخ لا يريدك أن تبكي وهو
يمارس رغباته، فهو لا يحب أن يشعر بأنه يظلمك، ولا يحب
البكاء، يريدك أن تكوني معه سعيدة وتمارسين الغرام راضية
ومستمتعة.
- أجل إنه عكس آخرين كانوا يتمتعون ببكائي وحتى ضربي
لأصرخ بصوت عال!
وأدنت سجاح رأسها لتهمس للطفلة وكأنها لا تريد حتى
للجدران أن تسمعها:
“ مجرمون يا ابنتي “
- إنهم كذلك. المشكلة مع الشيخ أنه كلما اقترب من النشوة زاد
عنفه ورغم ذلك يريدني أن لا أتألم، وإن تألمت أو صرخت فألم
متعة ولذة، ينبغي علي أن أطلب المزيد منه.
- أعرفه يا ابنتي إنه كالوحش حين يبلغ ذروة التهيجّ! سأحاول
جهدي أن أجعله يعاملك بشكل أفضل، شريطة أن تتقيدي بقدر
كبير بما سأقوله لك.
- سأحاول!
99
- ليس مجرد محاولة بل تصميم على الأمر! ولو تطلب بعض
التمثيل.
- أكيد تستحمين وتتزينين وتتعطرين قبل أن تذهبي للشيخ.
- نعم وتشرف سارة على تهيئتي!
-هل تغسلين داخل جسمك!
حتى سجاح بدت متحفظة أمام الطفلة بلفظ الأعضاء بأسمائها
الصريحة.
- أغسل وأنظف كل شيء!
- ما هو أكثر شيء يؤلمك في الممارسة؟
وبدت وعد خجلة من أن تبوح!
- لا تخجلي كلنا مثلك!
- إنه يخنقني يا سيدتي آخر مرة تقيأت! وحين يأتيني من ال..
لا يمهد للأمر ويطعنني بشدة ثم يضغط علي بكل قوته لأشعر
أن روحي ستطلع!
- طيب استمعي إلي الآن! الرجال يحبون المرأة التي تعجب بهم
وتقبل عليهم بنهم متغزلة بمزاياهم الفريدة، ليشعر الرجل أنه
أفضل من يمارس الغرام! حاولي أن تطري خصال الشيخ من
رجولة وذكورة وأنك طوع يديه. كيف رغبتك الجنسية؟
- أظن أنها لا تختلف عن رغبة أي امرأة لكن ضمن الشروط
الممكنة. ممارسات بعض الأسياد جعلتني أكره الجنس أحيانًا
وأفضل العادة السرية على ممارسته مع رجل.
- خذي في اعتبارك أن ما تكرهينه اليوم قد تحبينه غدًا.. أهم
100
شيء أن توحي للشيخ أن رغبتك جامحة للممارسة معه تحديدًا،
وأنك لا تتصورين رجلا غيره يمكن أن يمارس معك الغرام..
قولي له أنت سيد الرجال يا روح وعد. أنا فدا..! لا تنزعي
ملابسك دفعة واحدة بل قطعة قطعة. وبحركات مثيرة تؤجج
رغبة الشيخ،تقلبي بطنًا وظهرًا بأوضاع مختلفة. لا تتركي
وضعًا إلا وتريه للشيخ وحين ترين أنه مثار اقبلي عليه وابدأي
بنزع ثيابه وتقبيل جسده من أماكن مختلفة إلى أن تنتهي إلى..!
تخيلي أنه قطعة حلوى لذيذة حتى لا تشعري بالقرف.. تغزلي
به وأنت تلعقين قطعة الحلوى قبل التهامها! حاولي أن تلتهمي
القطعة كلها قدرالامكان بعد أن تذوقت طعمها. لا تدعي الشيخ
يفعل ذلك، أنت اقدمي على الأمر.هذا يسرالشيخ وقد لا يفكر في
أن يقوم هو بذلك، وإذا ما قام حاولي قدرالإمكان أن تتجاوبي
معه حتى لو ضايقك فهو لن يتركك تختنقين.
أتقني الأوضاع التي يطلبها الشيخ بأفضل ما يمكن. وإن طلب
إليك أن تمتطيه من عل، اقبلي عليه كمهره وأدبري عنه كظبية.
دعي الشيخ هو من يصرخ لا أنت!
هل حفظت الدرس؟
- آمل ذلك!
- بإمكانك أن تنصرفي الآن وسأراك بعد أن يستدعيك الشيخ!
استقبلت سجاح الجارية الصغيرة الثانية “ رغد “ في اليوم
نفسه.. كانت فتاة من ليبيا، في سن السادسة عشرة. اغتنمها
غزاة في إحدى غزواتهم على قبيلة، وبعد أن نال زعيم الغزاة أربه
101
منها باعها إلى تاجر عبيد أخذها إلى بلاد الشام مع مجموعة من
الجواري لتنتهي عند الشيخ عاقب.
كانت خبرتها أفضل من خبرة وعد في أمور الغرام وبدت شبه
متقبّلة لسلوك الشيخ وإن امتعضت من بعض ممارساته..
أعطتها سجاح الدروس نفسها التي أعطتها لوعد وصرفتها.
قابلت سجاح الشيخ في المساء وأخبرته أنها درّست الصغيرتين،
وأشارت عليه أن يكون اقل عنفًا معهن، وأن يحاول قدرالإمكان
أن يكون ودودًا، فسيلاقي منهن ما يسره. وحين مثلت سجاح
في اليوم التالي أمامه راح يشكرها على ما فعلته. فقد أمضى مع
وعد ليلة لا مثيل لها. وحين رأت وعد شكرتها الأخرى بدورها
على درسها، فقد أمضت الليلة على خير مع الشيخ، بل وبلغت
النشوة لأول مرة معه!
*****
102
) 11 ( فروسية!
أعلن الشيخ عن دورة فروسية لأبناء القبيلة بين سن 14 و 17 عاما.
وخلال بضعة أيام وجد الشيخ نفسه أمام قائمة حوت قرابة
مائة اسم. عيّّن ابنه الأكبر “ُجُهم “ مشرفًا على الدورة واختارأحد
فرسان القبيلة “ملحم“ المشهود له بالفروسية بتدريب الأطفال.
جمع جهم وملحم الأطفال ليختارا منهم خمسين فقط. استبعدوا
كل طفل ضعيف البنية أو قصيرًا، أو به مرض أو عاهة ما.
وأبقوا على خمسين فقط، بينهم خمسة عشرمن أبناء العبيد،
وتسعة من أبناء الأسياد من أمهات جوارٍ! ووضعوا برنامجًا
للتدريب على فترتين، صباحية ومسائية. الصباحية تبدأ بعد
طلوع الشمس بقليل وتنتهي قبيل الظهيرة. البداية تكون
بالتنفس ولعب تمارين رياضيّة مختلفة ثم الهرولة يتبعها
الجري. بعد ذلك تبدأ المصارعة ثم ركوب الحصان عاريًا والعدو
به، ثم ركوبه مسرجًا.. وينتهي اليوم بالتدريب على استخدام
السيف والرمح والقوس والسهم والدرع والترس.الفترة المسائية
تبدأ قبيل الأصيل وتنتهي مع غروب الشمس. يتم فيها التدريب
على المصارعة بالسيف والرمح واستخدام القوس والترس من
فوق ظهرالحصان. يتبعها حشو واستخدام البنادق البدائية.
عرض برنامج الدورة على الشيخ فوافق عليه. واشترط أن تقوم
كل أسرة بتجهيزطفلها بكل ما هو مطلوب للدورة، ما عدا
البنادق التي لم تكن متوفرة لدى معظم الأسروحتى في الأسواق،
فاستخدامها لم يكن شائعًا..
103
جهز الشيخ العبد سعيد وأحد أبنائه “ ماجد “ الذي ضمه
للدورة، كما جهز أبناء ثلاث أسر فقيرة، إضافة إلى ثلاثة أطفال
من أبناء العبيد.
بدأت الدورة بعد قرابة شهر من الاعلان عنها واختير سهل على
مقربة من بعض بيوت القبيلة للتدريب فيه.
كان سعيد أطول الأطفال جميعًا بمقدار يقارب ربع متوسط
أطوالهم فبدوا كالأقزام إلى جانبه مع أنه لم يتجاوز الرابعة
عشرة من عمره بعد. وكان من البديهي أن يكون سعيد الأول
على الإطلاق في كل شيء يتعلمونه. فلم يكن أي من الأطفال قادرًا
على التفوق عليه في أمر ما.. ولم تتوقف مهارة سعيد على ذلك،
فقام بأفعال لا يستطيع المدرب نفسه أن يفعلها. فمنذ بداية
الدورة كان سعيد يثب إلى ظهرالحصان غير المسروج وغير
المرسن بسهولة فائقة، وليس في الأمرما هو خارق، الخارق كان
أن يقوم سعيد بحركات على ظهر الحصان، لا يمكن أن يقوم
بها أحد غيره، كأن يميل بكل جسمه إلى جانب ظهر الحصان
وهو يعدو؟ هذا أمر لم يقدر عليه أحد والحصان غير مسرج.
ولم يتوقف الأمرعلى ذلك بل تعداه إلى الجلوس أوالتمدد على
ظهر الحصان، وأخيرالإنحناء على ظهر الحصان والإمساك
بمعرفته وشدها بقوة ليثب الحصان رافعًا قائمتيه الأماميتين
إلى أعلى هازًا رأسه وجسده في محاولة لإسقاط سعيد عن ظهره
دون جدوى، ليعود سعيد إلى التوقف عن شد شعر المعرفة ليهدأ
الحصان ويعود لمتابعة جريه إلى أن يشد سعيد معرفته ثانية
104
ليعود إلى حالة هيجانه وقد أدرك أن سعيد يفعل ذلك متعمّدًا،
ليصبح الحصان طوع يديه!
أما حين امتطى سعيد الحصان مسرجًا ومرسنًا فكان ما لا
يصدق! فقد أدهش سعيد جميع أبناء القبيلة بمهاراته، فلم
يترك وضعًا للركوب إلا وطبقه، كما أنه ابتكر أوضاعا جديدة
لم يألفها الفرسان من قبل كأن يميل إلى جانب الحصان وهو
يعدو معتمدًا على وضع رجل واحدة في الركاب تاركا الثانية
طليقة، ليقف إلى جانب الحصان أو يتمدد نحو الأمام مادًا رجله
الطليقة إلى الخلف، أو ينكفئ إلى الوراء ليصبح رأسه في الخلف
عند مؤخرة الحصان..
في يوم التخرج بعد قرابة ستة أشهر من بدء الدورة وقف الآلاف
من أبناء القبيلة إلى جانب الساحة الفسيحة يتفرجون على مهارة
أبنائهم في الفروسية، وسط زغردة الفتيات والنساء، فيما جلس
الشيخ وبعض رجالات القبيلة في سرادق كبير أعد لهم. وحين
جاء دور سعيد في الامتحان توقع الجميع أن يشاهدوا العجب.
وقف جهم ابن الشيخ والمدرب ملحم أمام بعض فرسان
القبيلة في طرف الساحة ليشرفوا على اختبار الخريجين. كان
الخريجون يقفون أو يجلسون على مقربة من جهم والمدرب،
وحين يتم اختيارأحدهم كان عليه أن يمتطي جوادًا أو يعدو
إلى الطرف المقابل للساحة أو إلى منتصفها حسب نوع الاختبار،
ليقوم بتنفيذ الفحوص هناك.
حين جاء دور سعيد امتطى حصانه جانبيًا معتمدًا على وضع
105
رجله اليمنى في الركاب الأيسر للحصان بدلًًا من اليسرى تاركًا
جسده يقف إلى جانب الحصان، أي عكس الوضع الطبيعي
للركوب الذي يفترض أن يبدأ بالرجل اليسرى في الركاب. زغردت
سجاح لتتبعها زبيدة فمئات النساء بالزغاريد وضج رجال
القبيلة بالتصفيق. وبعد بضعة أمتار من السير خببًا في الساحة،
كان على سعيد أن يعود لامتطاء الحصان بشكل طبيعي، غير أن
الأمر بدا متعذرًا للناس دون ايقاف الحصان، لينزل سعيد رجله
اليمنى من الركاب ويضع اليسرى ليتسنى له امتطاء الحصان
بشكل صحيح، غير أن ما فعله سعيد لم يكن أحد ليتخيله قط! لم
يوقف سعيد الحصان، بل جعله يستمر في سيره الخببي، ورفع
سعيد رجله اليسرى ولوح بها عاليًا ووثب ليمتطي الحصان
بالخلف.. ضجت الزغاريد والتصفيق والصراخ. ولم يعرف أحد
كيف سيعود سعيد إلى الركوب الطبيعي بعد أن أصبح جسمه
معاكسًا لجسم الحصان. وحين شرع سعيد في العودة إلى الوضع
الطبيعي كتمت سجاح وزبيدة ومئات النساء أنفاسهن ووضعن
أيديهن على قلوبهن، فقط أطلق سعيد رجليه من الركابين
ورفعهما إلى أعلى متكئًا على راحتي يديه على السرج، بينما
الحصان ما يزال يعدو خببًا. ليقف على يديه على ظهرالحصان
ويشرع في الإستدارة معتمدًا على نقل يديه ببطء من اليمين إلى
اليسار ليصبح واقفًا في اتجاه الحصان. توقع الناس أنه لم يبق
أمام سعيد إلا أن يعود إلى الركوب الطبيعي على الحصان، غير
أنه لم يفعل، فقد رفع يده اليسرى ولوح بها للناس وهو يقف
106
معتمدًا على يده اليمنى فقط، ليعيد اليسرى ليعتمد عليها ويلوح
باليمنى ويعيدها لينزل ساقيه ليضع قدميه عل ظهر الحصان
ثم ينزلهما ليضعهما في الركابين، ليعود إلى الركوب الطبيعي..
انطلقت الزغاريد لتشق عنان الفضاء كما لم تشقها من قبل،
وضج الآلاف بالتصفيق والصراخ.
كان سعيد قد وصل بحصانه إلى الطرف الآخر من الساحة
ليبدأ الخضوع للإختبار، فما فعله لم يكن من ضمنه! استدار
بالحصان ليقف متهيئًا للبدء. أطلق المدرب ملحم طلقة من
بندقيته كإشارة للبدء. انطلق سعيد على جواده. كان يفترض أن
يطلق سهم على سعيد ليتلافاه وهو دون ترس، غير أن الفارس
المختبِِر“ مقبل“ كان ينوي الشر لسعيد، فهو لم يكن يريد أن
يصبح فارس القبيلة عبدًا وابن عبد وجارية، فأطلق سهمه على
ارتفاع منخفض بحيث بإمكانه أن يصيب سعيد مهما انحنى
على ظهر الحصان ليتلافى السهم. أدرك سعيد أنه لن ينجو من
السهم إذا ما بقي على ظهر الجواد، وبسرعة فائقة رفع قدمه
اليمنى من الركاب ومال إلى الجانب الأيسر للحصان ليمر السهم
على ارتفاع قد لا يزيد عن شبرين من ظهر الحصان. زغردت
سجاح من أعماقها لتتبعها زبيدة فنساء وفتيات القبيلة. أدرك
الشيخ عاقب نية مطلق السهم قتل سعيد، فأوعز بإحضار
المدرب ملحم ومطلق السهم إليه. تقبل الشيخ وجهة نظرملحم
الذي أكد أن تعليماته تقضي بإطلاق السهم على الجزء العلوي
من الجسم أو حتى فوق الرأس! بينما قال مقبل أنه أخطأ
107
التسديد لأن الحصان كان ينطلق بسرعة فائقة نحوهم. ورغم
أن الشيخ لم يقتنع بوجهة نظر مقبل إلا أنه أعاده إلى الفريق
الممتحن، لكن دون أن يقدم على إجراء اختبارات أخرى لسعيد
إلا بطلب منه هو! وقد أضمر الشيخ سوءًا لمقبل في محاولة منه
للإنتقام لسعيد!
كان سعيد قد عاد بجواده إلى طرف الساحة ليتلقى سهما
بترسه هذه المرة. أطلق المدرب نفسه السهم على سعيد المقبل
على جواده، تلقاه سعيد بسهولة. وعاد إلى طرف الساحة ليتلقى
ضربة رمح منطلقا نحوه. تلقى الضربة بترسه ومال إلى جانب
الحصان ليتلافى ضربة ثانية جاعلا الرمح يمر دون أن يصيبه.
جاء دور المصارعة بالسيف من على ظهر الحصان. أوعز الشيخ
إلى ملحم أن يكلف مقبل بمنازلة سعيد. أدرك مقبل أن الشيخ
يريد أن ينتقم لسعيد لإدراكه أن سعيد سيهزمه، غير أن ثقة
مقبل الزائدة بنفسه جعلته يتقبل الأمر بصدر رحب، فلا يمكن
لهذا الغلام طري العود أن يتفوق عليه.
أقبل سعيد على جواده مشهرًا سيفه وأقبل مقبل كذلك، وحين
التقيا، تصادم سيفاهما وجواداهما يشرئبان بقوائمهما إلى أعلى،
ورغم أن مقبل بدا متفوقًا وسيفه يجعل سيف سعيد أسفله
بحيث بدا وكأنه سيجعل سعيد يتخلى عنه، إلا أن حركة سريعة
من سعيد جعلته يرفع سيف مقبل إلى أعلى ليثني عليه بضربة
قوية قذفته بعيدًا من يد مقبل ليصبح أعزلًًا دون سيفه. انطلق
أكثر من مائة زغرودة من الفتيات والنساء وسعيد يضع رأس
108
نصل سيفه على نحر مقبل في محاولة لتأكيد انتصاره عليه، وما
لبث أن تركه ليعدو بجواده إلى حيث سقط سيفه. انحنى عن
الجواد وأخذ السيف ليعيده إلى مقبل قذفًا. تلقّف مقبل سيفه
وانثنى بجواده ليخرج من ساحة المبارزة مطأطئًا رأسه. فقد
هزمه الغلام شر هزيمة.
علق أحد رجالات القبيلة قائلًًا للشيخ:
- هذا الفتى نصر للقبيلة ياشيخ ليتك لم تخصه لنستفيد من
نسله!
رد الشيخ قائلا:
- وهل نترك نساء القبيلة يقعن في غرامه؟
- كنا سنزوجه فتاة ما.
- هل كنت تقبل أن تزوجه ابنتك؟
تردد الرجل قبل أن يجيب:
- كنا سنعثر على ابنة عبد نزوجه إياها.
- وإذا لم نعثر؟
- نبحث عن بنات عبيد خارج القبيلة.
أطرق الشيخ للحظات قبل أن يقول:
- لقد خصينا الغلام وانتهى الأمر والندم لا يفيد!
اختار المدرب فارسًا آخر ليبارز سعيد بالسيف وقوفا على
الأرض.
راح سعيد يتلقى ضربات الرجل بترسه دون أن يهاجمه، فاحتار
الناس بالأمروخاصة حين راح يتصدى بالترس لثلاث ضربات
109
أخرى. لم يدرك المهاجم أن حد سيفه قد تثلم وأن ساعده تعب
دون أن ينال من سعيد، ما أتاح لسعيد أن يضربه بعرض سيفه
على خصره وهو يتلقى ضربة منه على الدرع ليسقطه على
الأرض واضعًا رأس نصل سيفه أسفل ذقنه، ليتركه بعد ذلك.
نهض الرجل يجرجر أذيال خيبته ليعود إلى مكانه لدى ملحم
والفرسان، فيما كانت زغاريد سجاح تتوالي مع زبيدة لتتبعهما
مئات النساء بالزغردة.
تبع المبارزة ضرب الرمح والسهم على درايا من أكياس خيش
مُلئت بالتبن. أصاب سعيد الكيس في موضع القلب من الرجل
وهو ما فعله برمحه أيضًا، ومن مسافة لم يستطع أحد من
الخريجين أن ينافس سعيد عليها، بل إن معظمهم أطلقوا
سهامهم ورماحهم من مسافة لا تزيد عن نصف المسافة التي
أطلق منها سعيد رمحه وسهمه.
انتهى اختبار التخرج وأتيح للنساء أن يهنّئن أبناءَهن بالمناسبة.
هرعت سجاح على سعيد لتمسح عرقه وتقبله غيرأنها فوجئت
بزبيدة تسبقها وتشرع في تجفيف عرق سعيد بمنديل، قبّلت
سجاح سعيد وراحت تشكر زبيدة لتجفيفها عرقه، غير أنها
فوجئت بحليمة تنقض على ابنتها وتشرع في صفعها وتقودها
لتبعدها عن سعيد.. جرى الأمر على مرأى من الشيخ ورجال
ونساء القبيلة. ظل الجميع صامتين ولم يعلق الشيخ بكلمة
“ابنة الشيخ تمسح عرق العبد“ ولولا أن الجميع يعرفون أن
العبد غلام خصي لقالوا إن في الأمر إنّ!
110
“ اتركيها! “
صرخ الشيخ على أمل أن تسمعه حليمة، وقد سمعته بالفعل
وتوقفت عن دفع زبيدة أمامها. وضربها.
لم يعلق الشيخ ولو بكلمة على ما جرى موحيًا للجميع أنه راض
عن سلوك طفلته! رغم أنها حسب العُرف القبلي لم تعد طفلة،
ولم يعد سعيد غلامًا حتى لو كان خصيًا!
قلد الشيخ المتفوقين من الخريجين وسام القبيلة ووشاحها،
بينما اكتفى الآخرون بالوشاح. وكان ماجد ابن الشيخ أحد
المتفوقين. وزاد الشيخ منحة سعيد بأن قدم له حصانًا من أجود
الخيول يدعى حجلان وسيفًا دمشقيًا من أفضل السيوف، لأنه
كان الأول بلا منازع على كافة الخريجين.
تفرق الجمع عائدين إلى بيوتهم مبتهجين بأبنائهم .
****
في المساء استدعى الشيخ حليمة وزبيدة لتمثلا أمامه.
خاطب الأم أولًًا متسائلا:
- لماذا ضربت الطفلة!؟
- إنها عروس يا بو جهم ولم تعد طفلة كما لم يعد سعيد غلامًا!
وكان عليها ألا تندفع إليه لتجفف عرقه، حتى لا يعيّّرنا الناس
بأن ابنتنا تعشق عبدًا خصيًا وتجفف عرقه. ما ارتكبته إثم لا
يغتفر!
- هكذا اذن!
- أجل يا شيخ!
111
- وأنت ياصغيرتي ماذا تقولين؟
- أمي تدرك يا أبي أنني تربيت مع سعيد منذ بداية طفولتنا،
حين شاء القدر أن نولد في اليوم نفسه. وكانت تتيح لي اللعب
معه دائمًا، ولم تحتج يوما على ذلك، بل كانت راضية، وها هي
اليوم تفعل عكس قناعتها.
- لكنك فعلت ذلك أمام الناس وكثيرون منهم يعرفون أنك
ابنتي.
- وماذا في الأمر يا أبي؟ لم أستطع كبح عواطفي تجاه الطفل
الذي تربيت معه فشفقت عليه حين رأيت عرقه يهطل لكثرة ما
بذل في النزال.
- وأخوك كان متعبًا أيضًا فلماذا لم تجففي عرقه؟
- أخي جففت أمه عرقه!
- هل تحبين سعيد!
وأحنت زبيدة رأسها وهي تهتف:
- أجل يا أبي.
- لكنه عبد وابن جارية.
- وإذا كان عبدًا وابن جارية يا أبي؟ لم تمنعونا يومًا من
الاختلاط بأبناء العبيد واللعب معهم، حتى أنك تبنيت سعيد.
صمت الشيخ للحظات مدركا أن ما تقوله الطفلة صحيح، غير
أنه أردف قائلا:
-الطفولة شيئ والكبر شيئ آخر، فابن العبد يظل عبدًا حتى
لو تبناه السيد، وابن السيد يظل سيدأ في صغره وفي كبره ولا
112
يمكن مقارنته بابن العبد. وأنت الآن عروس ويجب عليك أن
تبتعدي عن سعيد ولا تلتقيه. أنت ابنة شيخ مشايخ القبيلة وكل
العيون عليك، وبدأ الخطاب يطلبون يدك مني، لكن بعد عملتك
مع سعيد قد يتوقفون عن التقدم إليك. هل فهمت؟
أحنت زبيدة رأسها دون أن تتكلم.
- هيا انصرفي إلى البيت الآن.
وما أن خرجت زبيدة حتى خاطب أمها:
-لا تسمحي لها أن تلتقي سعيد. وإذا كان لا بد من ذلك لتكن
برفقتك، لكن ليس وحدها.
- لن أدعها تلتقيه أبدا.
- لكن لا تضربيها.
*****
113
) 12 ( ليل القبيلة!
ليل القبيلة ليس كنهارها.. في النهار يسرح الرعاة بالأغنام
لتنتشر قطعانهم من المعز والنعاج على سفوح الجبال والأودية
والهضاب وهم يعزفون على أراغيلهم وناياتهم ومجاوزهم،
أو يغنون للقطعان.. وتهرع نساء ورجال وعبيد إلى الكروم
والبساتين ليجنوا ثمار الصيف عن الأشجار والدوالي ويذهب
بعض الرجال إلى العمل في أعمال مختلفة في المدينة والبلدة
والقرى المجاورة، وأخرون يحصدون حقول القمح والشعير
من الحقول، ونساء وجوارٍ يحتطبن في الأودية والسفوح بحثًا
عن وقود للطهي، أو يكنسن مهاجع الأغنام من الزبل لتجفيفه
واستخدامه كوقود أو لتزبيل الأرض، وأخريات يردن إلى الآبار
ممتطيات الحمير المحملة بالقرب ليستقين الماء من الآبار،
بعضهن يصطحبن عبيدا معهن.
أما في الليل فالأمر مختلف، رغم أن النهار لا يخلو من مغامرة
ما لشاب مع امرأة تحتطب في أخدود ما منعزل. فبينما يخلد
كثيرون إلى النوم طالبين الراحة، ينهض العشاق ليفجروا
آهاتهم تحت جنح الظلام، نساء يخن أزواجهن وفتيات عاشقات
يتسللن من بيوتهن بستر الليل ليلتقين عشاقهن في رحاب
الشعاب وبين الأخاديد وتحت الأشجار وبين الصخور وخلف
الترع وفي حظائرالأغنام حيث تخون بعض زوجات الأسياد
وبعض الجواري أسيادهن مع العبيد أو مع شباب من القبيلة.
عالم الليل عالم آخرلا يعرفه إلا الليل نفسه ورواده ومن
114
يتسامرون ويمارسون الغرام تحت نجومه. وفي حي الشيخ
عاقب يجري ما لا يعرفه الشيخ، وربما لن يعرفه، فلو عرفه
لأقام القيامة. فللشيخ عبيد كثرأربعة منهم من الرعاة، اثنان مع
قطيعي ماعزوإثنان مع قطيعي نعاج، ويبلغ مجموع القطعان
قرابة سبعة آلاف وخمسمائة رأس، لا يستطيع راع وحده أن
يرعاها ويتدبرأمرها، فقسمها الشيخ على أربعة قطعان، أقام
لكل قطيع حظيرة وكوخًا صغيرًا للعبد. وكل عبد من هؤلاء
وغيرهم من العبيد قد يتعرض لمراودة امرأة من نساء الشيخ
أو لمراودة جارية من جواريه دون أن يستطيع الرفض إذا
لايريد، ونادرًا ما يتأبى عبد على امرأة، فهو يدرك أن العواقب
قد تكون وخيمة! ويكاد هذا الحال أن ينطبق على معظم عبيد
الشيخ، فكل منهم يلبي رغبات غريزته برضاه أو دون ذلك،
فهو عبد مأمور، وفي معظم الأحوال إن لم يكن جميعها النساء
هن من يسعين إلى العبيد قبل أن يسعوا هم إليهن. وهذا الأمر لا
يشمل عشاقًا وعاشقات من أبناء القبيلة، فلهؤلاء عالمهم الخاص
المختلف حين يستغلون ظلام الليل ونوم الناس ليلتقوا.
استيقظت سجاح من نومها في ساعة متأخرة من الليل على أثر
كابوس رأت فيه سعيد يجلد بأمر من الشيخ. وكانت ذلك اليوم
قد رأت مع كثيرين ممن يقيمون في حي الشيخ والأحياء المجاورة
جلد أحد عبيده لأنه شوهد يغازل ابنته نعمه من زوجته ثريا، في
حقل حنطة. فوشى المشاهد به وبالفتاة. فأمر الشيخ بجلده مائة
جلده وخصيه إذا لم يمت وحجَرَ الفتاة في البيت إلى أن ينظر
115
في أمرها. أحُنيَ العبد على قاطع خشبي وقيدت يداه ورأسه إلى
القاطع، وشرع جلاد الشيخ في جلده بسوط سميك على ظهره.
كان مئات الناس يتجمهرون حول الساحة التي جلد فيها العبد
ومع كل صرخة كان يطلقها العبد أثناء جلده كانت النساء
يضعن أيديهن على أفواههن من شدة الهلع. قضى العبد نحبه
قبل أن يكمل الجلاد المائة جلده. فأمر الشيخ بإكمالها وهو
ميت ليدب الرعب والهلع في نفوس المتفرجين، ولم يتدخل أحد
من رجالات القبيلة الحاضرين برجاء إلى الشيخ ليوقف الجلد.
وما أن أكمل الجلاد الجلد حتى أمر الشيخ بعض العبيد بنقل
جثمان العبد إلى واد بعيد عن الحي وقذفه فيه، وترك جثته في
العراء لتنهشها الضباع ليلا. وحذر العبيد من الإقدام على دفنه.
حمل أربعة عبيد جثة العبد وألقوها في مدخل الوادي دون أن
يجرؤوا على دفنه. غير أنهم جلسوا حول جثته صامتين لبعض
الوقت.
لم تستطع سجاح العودة إلى النوم بعد الكابوس الفظيع الذي
شاهدت فيه سعيد يواجه المصير نفسه لحبه لزبيدة.. وصممت
على منعه من لقائها تحت أي ظرف. وخرجت تحت جنح الظلام
لتتبول. فقضاء الحاجات لمعظم من يقيمون في البرية يتم في
الطبيعة المكشوفة. كان الجو لطيفًا وقمرغير مكتمل يلقي
بنور طفيف على المكان، بينما نباح كلاب ينبعث من ناحية
مطلع الوادي الذي ألقيت فيه جثة العبد، إذ يبدو أن ضباعًا قد
اكتشفت وجوده وهرعت تنهش لحمه. سارت بضع عشرات من
116
الأمتار لتصبح على مقربة من حظيرة للمعز. وفيما كانت جالسة
سمعت همسات وتأوهات امرأة في الحظيرة. حفزها الفضول
لأن تقترب أكثر وتتنصت.. نهضت واقتربت من الجدار لتطل
برأسها من فوقه. كان العبد يطرح امرأة ويواقعها بين المعز.
بالكاد حتى رأت فخذي المرأة يلتمعان تحت نور القمر. كان
العبد يطوي جسد المرأة تحته متحكما به. تساءلت في نفسها
عمن تكون عشيقة العبد ، ولم تمر سوى لحظات حتى سمعت
ما لا يصدق:
“ أحبك يا حليمة وما أشبع من غرامك حتى لو جيتك ليل
ونهار“
“ يا حبيبي يا سالم وأنا ما أشبع منك. أحلى لحظات عمري بين
أحضانك وأنت تحتويني بكل عزمك “
ومرت لحظات لم تسمع فيها سجاح أي همس إلى أن انبعثت
آهة من حليمة تبعتها بكلمات متوسلة تطلب فيها من سالم أن
يشد عليها أكثر ليدعها تموت لذة. تبع ذلك تأوهات مسموعة
جيدا ثم تأوهات مكتومة، ما يشير إلى أن سالم وضع يده على
فمها حتى لا تفضحهما تأوهاتها..
مرت لحظات حتى خمد الصوت.. ولحظات أخرى حتى رأت
العبد وحليمة ينهضان ويتبادلان قبل الوداع..
اقتربت سجاح من بوابة الحظيرة.. شاهدت حليمة تخرج من
البوابة، ورغم أنها تعرف أنه لا يوجد في حي الشيخ حليمة
أخرى غير زوجة الشيخ إلا أنها تبعتها لتتأكد من أنها هي.
117
وفعلا كانت هي. فقد تبعتها سجاح ببطء وخفة على مسافة
أمتار إلى أن رأتها تدخل بيتها.
*****
أوشك الفجر على البزوغ.. أوت سجاح إلى فراشها دون أن
يخالج النعاس جفنيها. وفكرت لأول مرة أن تفعل ما تفعله
حليمة إنما مع زوجها قعدان الذي حرمها الشيخ منه وحرمه
منها. المشكلة أن قعدان بعيد في ضواحي المدينة وهي في البرية
والذهاب إليه قد يستغرق ساعة ونصف على الأقل، والعودة
تحتاج إلى الوقت نفسه، غير الوقت الذي ستمضيه معه. وهذا
يعني قضاء وقت طويل غير ممكن. فكرت بامتطاء حصان
سعيد والعدو به لاختصار الزمن، لكن عدو الحصان في الليل
قد لا يكون يسيرًا كما أنها لا تعرف موقع قعدان بالضبط هل
ستبحث عنه بين البساتين والكروم في الليل؟ وكيف ستبحث؟
فهي لا تستطيع أن تسأل أحدًا خوفًا من افتضاح أمرها. لا بد
من معرفة مكانه ليلا، إن كان في بستان أم على مسافة منه،
ويجب أن يكون على علم مسبق بقدومها.. وجدت أن المسألة
معقدة من كل النواحي، فتخلت عنها، وفكرت في إخبار قعدان
أنها تريد أن تلتقيه، فقد يسعى هو إلى لقائها بطريقة ما، وقد
يكون اللقاء على مقربة من الحي أو على مسافة غير بعيدة كثيرًا.
فهو أسرع منها بالتأكيد. لكن كيف ستخبره، فهل هناك من هو
أهل للثقة لتطلب إليه أن يخبر قعدان؟ أرعبها الأمر وتخيلت
نفسها تجلد بأمرمن الشيخ لافتضاح سرها.. راحت تتقلب في
118
الفراش في محاولة لطرد الفكرة من رأسها، ليزداد بذلك قلقها
دون أن تجد إلى النوم سبيلا. ألقت نظرة على سعيد النائم على
مقربة منها، فهو أملها الوحيد في الحياة بعد أن قتل الشيخ
ذكوريته، وتمنت أن تتوقف نبوءات عرافة حوران على هذا الحد،
فلن تستطيع تحمل ما هو أكثر، تحمّلت فراقها عن زوجها دون
عناء يذكر، وعانت كثيرًا من خصي سعيد، إلى أن تغلبت عليه
بمهارة سعيد وفروسيته وذكائه.. وقريبًا سيصبح شابًا بالغًا
بعد أن أصبح في السابعة عشرة من عمره.. دنت منه وقبلته على
جبينه وهو نائم..
لم تستطع سجاح الخروج من دوامة أفكارها، فحادثة حليمة
جعلتها تشك في أن جواريَ وربما زوجات للشيخ أيضًا يفعلن
ما تفعله حليمة وأكثر، والشيخ في عالم آخريتمتع بصغيراته من
الجواري متخليًا عن نسائه وجواريه الكبار.. لم تفكر سجاح
إطلاقًا في كشف سر حليمة أو الوشاية بها، غير أن رغبة فضولية
جارفة قد اجتاحتها لمعرفة بعض ما يجري في ليل حي الشيخ،
فهذا الليل لا بد وأن ينطوي على أسرار فظيعة تحتاج معرفتها
إلى سُبل مختلفة.
لم تفكرسجاح في البحث عن عبد أو رجل تعشقه وتلتقي به
ليلًًا، وإن لمست أن مزيود أحد مرافقي الشيخ حاول أن يتقرب
إليها ذات يوم، غير أنها لم تعطه وجهًا!
****
ها هو النهار يبزغ. وسعيد ينهض. وكلاب الحي تتوقف عن
119
النباح، وكثيرون ينهضون لأعمالهم.. وقريبًا سيسرح الرعاة
بقطعانهم طلبًا للكلأ، لتدب حياة ثانية في القبيلة غير الحياة
التي عاشتها في الليل. جميل هذا الليل! لا يبوح بأسراره يا
سجاح! يا إلهي ماذا لو باح الليل بأسراره.. كم من الدماء
ستزهق؟
- صباح الخير يمّه!
- يصبحك بأنوار النبي يا حبيبي!
- استيقظت باكرًا هذا اليوم.
- قلقت يا حبيبي ولم أستطع العودة إلى النوم.
- ماذا أقلقك.
وفجأة وجدت سجاح نفسها تخرج عن المألوف:
- تذكرت أباك!
- أبي؟
هتف سعيد متسائلا؟
- أجل أبوك يا حبيبي؟
- تتذكرينه بعد كل هذا العمرعلى غيابه. هل شعرت أن تبني
الشيخ لي لن يغنيك عن أبوة أبي.
كان ما يجري في وعي أو لا وعي سجاح أن سعيد هو الوحيد
القادرعلى حفظ سرها إذا ما صممت على لقاء قعدان، فقررت أن
تطلع سعيد على الحقيقة:
- لن يغنيني شيوخ القبيلة كلهم عن أبيك يا حبيبي.أبوك لم
يذهب بعيدًا بحثًا عن عمل، إنه في ضواحي المدينة يعمل في كروم
120
وبساتين الشيخ مع عبيد آخرين. الشيخ هو الذي فرق بيننا
ومنعنا من اللقاء لأنه اتخذني حين ذاك محظية له. اضطررت
أن أكذب عليك يا حبيبي حتى لا تقلق حين تكبر.
كان سعيد يجلس ذاهلًًا لِما يسمع وقد احتضن رأسه بيديه..
- يا إلهي! اذن هو الرجل الذي التقيته ذات يوم وأخبرني أنه
أبي ولم أصدقه. بل وقلت له إن الشيخ أبي؟
- أجل يا حبيبي إنه أبوك قعدان الرجل الطيب.
ظل سعيد واجمًا للحظات يداري دموعًا كادت أن تنزل من
عينية. لم يعرف إن كان سيبكي قدره أم سيبكي قدَر أبيه وأمه.
- أريد أن ألتقيه يا أمي.
- وأنا أيضا يا حبيبي لكن يجب أن يتم ذلك سرًا حتى لا يعرف
الشيخ.
- ماذا لو عرف؟
- ستكون نهايتنا جميعًا يا حبيبي..
وزفر سعيد نفسًا طويلًًا في محاولة يائسة للتخفيف من آلامه
وآلام أمه وأبيه.
- سأفكر في الأمر يا أمي وسأجد وسيلة التقي بها أبي خاصة
وأن الشيخ يتيح لي التجول على جوادي ومواصلة التدريب على
الفروسية لأكون جاهزًا عند الحاجة إليّ إذا ما تعرضت القبيلة
إلى غزو.
****
حين كانت الشمس تتألق فوق قمم الجبال والرعاة يسرحون
121
بقطعانهم على السفوح والحطابات يحتطبن في جوانب الأودية
وأخاديد الجبال، والورادات يردن الآبار ليستقين. شاهد بعض
الرعاة فتاة تعدو في طريق يؤدي إلى أحد الآبارالمنعزلة في البرّية..
لم يعرف الرعاة ما هي غاية الفتاة من الركض نحو البئر، لكنهم
تبينوا بعد لحظات فواز ابن الشيخ يتبعها جريًا على جواده،
فعرفوا هويتها... وصلت الفتاة إلى البئر وصعدت إلى فوهته، لم
تكن الفوهة مغلقة.. جلست للحظات تتلفت إلى ما حولها، وحين
شاهدت أخاها يعدو في أثرها نظرت إلى عمق البئرللحظة ثم
دلت رجليها وألقت نفسها فيه..
لم تكن الفتاة إلا نعمة ابنة الشيخ عاقب من زوجته ثريا، التي
جُلد العبد الذي اتهم بمغازلتها إلى أن مات.. كانت على علاقة حب
معه بعد أن عنّست دون أن تتزوج، فلم تكن على قدرمن الجمال
يكفي لأن تُحب من بعض أبناء القبيلة، ولم تجد غير ذاك العبد
يعلن عن حبه لها. شُك في أمرها بعد المغازلة وسُجنت في البيت.
وحين عرفت أنه مات تحت الجلد، قررت أن تضع حدًا لحياتها،
تذرعت بالخروج من البيت لقضاء حاجتها وولت الأدبار.
تنبهت أمها إلى أنها لم تعد من قضاء حاجتها بعد مروربعض
الوقت.. أدركت أنها هربت فأخبرت أخويها. نهض أخوها الأكبر
فواز ليبحث عنها ويعيدها إلى البيت، امتطى جواده وهرع في
الاتجاه الذي غادرت فيه.. رآها من بعيد تعدو في الطريق المؤدية
إلى البئر. لم يتمكن من اللحاق بها قبل آن تصل البئر، ولم يفكر
في أنها كانت تنوي الانتحار. وصل البئر. لم يكن يجيد السباحة،
122
صعد إلى الفوهة وراح ينظر إلى عمق البئردون أن يرى أو يسمع
شيئا. فقد فارقت أخته الحياة.
راح الرعاة يتنادون من السفوح معلنين انتحار“نعمة “ بنت
الشيخ، بعد أن عرف معظمهم هويتها، وهرع آخرون إلى
البئر فيما كان بعض أبناء الشيخ وآخرون يهرعون من أحياء
ومضارب القبيلة.
لم يذهب الشيخ إلى البئرحين سمع الخبر، واكتفى بتكليف أبنائه
لإخراج جثتها من البئر ودفنها..
نزل جُهم ابن الشيخ إلى البئر. انتظر لحظات إلى أن تمكن من
الرؤية داخل البئر. شاهد جثة أخته تطفو على مسافة قريبة
منه. دنا منها ولف الحبل الذي نزل به تحت ابطيها. لينشل
فواز وماجد جثتها، وليخرج جهم بعد ذلك متسلقًا الحبل ذاته.
حملوا جثتها على نعش بسيط. واتجهوا إلى مقبرة القبيلة حسب
أوامر الشيخ التي قضت بدفنها فورًا ودون أن يشارك هوفي
جنازتها، كما أنه منع نساءه وجواريه من المشاركة في تشييعها،
الذي لم يكن تشييعًا، بل مجرد نقل إلى قبر، غير أن هروع
كثيرين للسير خلف الجنازة، حوّل النقل إلى تشييع. وكان سعيد
من بين المشيعين.
ووريت نعمة الثرى بثيابها دون كفن ودون أن يصلّّى على
جثمانها ودون أن يغطى قبرها ببلاطة بناء على أوامر الشيخ
- فقد أهيل التراب فوق جسدها مباشرة..
تفرق الناس إلى بيوتهم.. وكان الشيخ عاقب في حال لا يحسد
123
عليها وقد تجاوزعمره السبعين ببضع سنين. حب إحدى بناته
لعبد نغص عليه عيشته، وانتحار البنت زاد الطين بلة، فحب
البنت للعبد وجلد العبد حتى الموت وانتحار البنت سيكون
حديث القبيلة لأشهر قادمة،وربما لسنين. وقد ينتشر الخبر في
القدس وكل القرى المحيطة بها ليصل إلى كل فلسطين وربما إلى
بلاد الشام بأسرها.. اطمأن إلى خصي سعيد، فهذا الولد لو لم
يقم بخصيه لوقعت في حبه معظم بنات القبيلة. وتعلق زبيدة
به منذ الطفولة المبكرة لن ينتج عنه أي نتيجة طالما هو خصي.
والحق إن الشيخ لم يكن يعرف أنه يحدث لدى الخصي انتصاب
ولو عرف لقام بجب قضيب سعيد مع خصيتية.
*****
124
) 13 ( سعيد يبحث عن أبيه
وهو يقبل على الثامنة عشرة من عمره قرر سعيد أن يتعرف إلى
أبيه بعد كل هذه السنين. ما تزال صورة ذاك الرجل الذي قال
له أنه أبوه حين التقاه منطبعة في مخيلته بحدود، بحيث فكرأنه
سيعرفه إذا ما رآه. كان لديه ميزة عن باقي العبيد أنه يستطيع
التجول بحرية على الجواد حجلان الذي منحه إياه الشيخ
ليواصل تدريبه عليه. أخبر أمه بنيته. أوصته أن يجد حيلة ما
ليستطيع الوصول إلى أبيه. وأن يحرص على أن لا يعرف أحد
ذلك، وليخبره أنها تريد أن تراه وتلتقيه. عانقته مقبلة متمنية
له النجاح في مهمته وهو يتقلد سيفه ويمتطي جواده وينطلق
غربًا. رأته حليمه. دفعها الفضول لأن تسأل سجاح عن وجهته.
قالت لها أنًه يريد أن يزور المسجد الأقصى والقدس. ويبدو أن
حليمة صدّقت ولم تعلق على الأمر.
للشيخ ستة كروم وبساتين في مواقع متفرقة في ضواحي المدينة
ولا يعرف في أي منها سيعثر على أبيه. ثم كيف سيتصرف إذا
ما رآه أحد العبيد الآخرين، لا شك أن العبيد لا يعرفونه لكنهم
ربما سمعوا عن فروسيته ومهاراته وقد يشكون في أنه سعيد.
لكن هل عرف العبيد الذين يعملون مع أبيه أن سعيد هو ابنه. لا
شك أن أباه أخبرهم أن سعيدًا هو ابنه، منذ زمن. وربما أخبرهم
أن الشيخ أبعده لأنه اتخذ من زوجته محظية. إذن ما العمل يا
سعيد. كيف ستلتقي أباك دون أن يعرف أحد، حتى لا يصل
الخبر إلى مسامع الشيخ. قد تكون علاقة أبيك مع العبيد قوية
125
ويكتمون أسراره.
كان الجواد ينطلق سريعًا عبر طرق جبلية، ليلحق سعيد ببعض
الذاهبين إلى المدينة لبيع اللبن المجمّد والجبن والحليب.. كان
سعيد يرد التحية عليهم ويتجاوزهم ليزيد من سرعة جواده.
وهو يقترب من ضواحي المدينة رأى راعيًا يسرح مع قطيع
صغير من الماعز على مقربة من بعض البساتين. فكّر أن يسأل
الراعي ما إذا يعرف أين تقع بساتين الشيخ عاقب.
اتجه نحوه. رأى الراعي الفارس يترك الطريق الذي يسلكه
ويصعد نحوه في سفح الجبل. انحدر من وسط القطيع ليقف
في استقبال الفارس.
-السلام عليكم!
- وعليكم السلام!
- يعطيك العافية.
- الله يعافيك.
- اريد أن أسألك لعلك تفيدني.
- تفضل يا خال!
-هل تعرف أين تقع بساتين الشيخ عاقب؟
- أيه! وصلت ومن لا يعرف بساتين الشيخ عاقب، شيخ مشايخ
قبيلتنا. من أين أنت؟
لم يكن يبدو على سعيد أنه عبد فهو يتقلد سيفًا ويمتطي جوادًا،
وهذه مسألة لا تحدث مع أي عبد إلا نادرًا. وسؤال الراعي عن
هوية السائل للتأكد من أنه لا يضمر سوءًا كمعرفة موقع بساتين
126
الشيخ لسرقتها. أدرك سعيد بذكائه ما ينطوي عليه السؤال:
- أنا من قبيلة العقايبة وأحمل رسالة من الشيخ عاقب للعاملين
في البساتين!
- يا هلا يا هلا ورحب والله. أكيد تعرف أبو الفوارس سعيد
ابن الشيخ عاقب!
فوجئ سعيد بالأمر.
- إي والله أعرفه.
لم يبد على سعيد أنه صغير في السن، فكل من ينظر إليه يتوقع
أن يكون عمره فوق العشرين ببضعة أعوام.
- والله لو لم تكن كبيرًا لتوقعت أن تكون هو.
- لا لست هو.
- ولو أعرف أنك لست على عجلة من أمرك لطلبت إليك أن
تحدثني عن سعيد.
- مشكور يا لخو!
- وش اسمك يا خال؟
- مسعود!
-عاشت الأسامي والله!
وراح الراعي ينظر إلى مختلف الاتجاهات بحثًا عن بساتين
الشيخ.
- تشوف الوادي ذاك المقابل لنا؟
- أشوفه.
- هذا كله كرم زيتون للشيخ. وفي الوادي تحت يوجد بستان لوز
127
وجوز ومشمش وبرقوق. وفوق الهضبة تلك غربًا يوجد كرم
عنب. وفي الوادي غرباّ أيضًا يوجد بستان تفاح وبرتقال وليمون
وفي أعلى سفح هذا الجبل يوجد بستان لا أعرف ماذا فيه، وعلى
مسافة غير بعيدة عنه يوجد أخدود كبير فيه بستان آخر. هذه
بساتين الشيخ التي أعرفها يا خال.
- مشكور يا خال. ألا تعرف أين يقيم العبيد لأذهب إليهم.
- أكيد في النهار يتفرقون للعمل في البساتين لكن هناك أكواخ
لهم على مقربة من بيت الشيخ على مسافة أمتار من كرم العنب
هناك فوق الهضبة، فقد تجد أحدهم فيها. يقولون إنّ عبدًا
اسمه قعدان هو المسؤول عن العبيد والبساتين.
- مشكور يا لخو.
- العفو يا خال.
هبط سعيد إلى الطريق الذي كان يسير فيه واتجه غربًا إلى بستان
البرتقال والليمون..دار على أطراف البستان. لم يرأحدًا فيه.
ربما في عمق البستان. لم يفكر في أن يدخل البستان بجواده.
نزل عنه وربط زمامه إلى جذع شجرة. دخل إلى البستان وراح
يتوغل بين أشجاره. شاهد رجلًًا يقوم بتقليم شجرة ليمون..
اقترب منه وحياه مسلمًا. رد الرجل التحية وتساءل:
- تريد شي يا خال؟
كان سعيد يدقق النظر في وجه الرجل لعله أبوه. وقد قرر أن
يغير السؤال هذه المرة.
- إي والله يا لخو ابحث عن أخت لي ضربها أبي وهربت من
128
البيت أمس. لعلك شفتها أو سمعت عنها.
- لا والله يا خال ما شفت وما سمعت.
- لم يستطع سعيد أن يجزم إن كان الرجل أباه، وجاهد لأن
يتذكر ملامح الرجل الذي التقاه في صغره، ارتسمت في مخيلته
صورة مشوشة لم يخرج منها بنتيجة.
- مشكور يا لخو.. تعرف حدا في هالمنطقة ممكن أسأله؟
- فيه ناس كثريا خال لكن ممكن تسأل العبد كعدان فهو
يتجول دائما بين الكروم والبساتين ويلتقي آخرين.
تفاءل سعيد خيرًا. تساءل:
- أين يمكن أن أجده يا لخو؟
- على الأغلب في كرم الزيتون قال أنه سيطمئن عليه هذا اليوم.
- مشكور يا لخو.
- الله يزيدك شكر وعافية.
- خاطرك.
- مع السلامة.
كان على سعيد أن يعود إلى الوراء قرابة ألفي متر عبر طريق
يخترق سفح جبلي ليصل إلى وادي الزيتون.
حين بلغ الكرم وجد أنه يمكن أن يدخله على جواده. فثمة
مسافات بين الأشجار غير مزروعة. وبدا مطمئنًا لحكاية البحث
عن أخته. فقد يمررها على كل من يلتقيه.
لم يتوغل كثيرًا حين رأى رجلًًا يحفر حول جذع شجرة زيتون.
اقترب على جواده. تنبه الرجل لقدومه فتوقف عن الحفر
129
وانتظر. اقترب سعيد بجواده إلى أن أصبح على مسافة أمتار
قليلة من الرجل. حياه مسلمًا. رد الرجل السلام فيما كان سعيد
ينزل عن الجواد ويقترب منه.
- يعطيك العافية.
- الله يعافيك.
شعر سعيد أن ملامح وجه الرجل مألوفة إلى حد ما له. لكنه لم
يتأكد.
- ممكن أجلس.
- تفضل.
جلس سعيد على حجر فيما جلس الرجل على الأرض في مواجهته.
كان سعيد يدقق النظر في وجه الرجل وبدا الآخر كذلك. غير أن
أيًا منهما لم يجزم بمعرفة الآخر رغم وجود ملامح قريبة من
بعضها في الوجهين.
- أعتذر لأنه لا يوجد لدي شيء هنا أضيفك يا خال. هل لديك
حاجة يمكن أن أساعدك فيها.
- اي والله يا لخو أبحث عن أخت لي هربت من بيت أبي لعلك
شاهدتها أو سمعت عنها. - لا والله يا خال ما شاهدت وما
سمعت.
وقرر سعيد أن يدخل في الأمر مباشرة:
- هل حضرتك السيد قعدان؟
- إي والله أنا قعدان، من أين عرفت اسمي؟
تمالك سعيد أعصابه.
130
قال لي رجل في بستان البرتقال أنك يمكن أن تعرف شيئا عن
البنت ودلني على المكان الذي يمكن أن تكون فيه.
وصلت يا وليدي. ليتني أعرف لأقول لك.
لم تكن كلمة وليدي عفوية فقد بات قعدان يشعر أنه أمام ابنه
سعيد دون أن يجزم بالأمر.
- هل يرانا أحد هنا يا لخو؟
- لا لسنا على مرأى من أعين أحد. لكن ليش يا وليدي؟
لم يعد سعيد قادرًا على كبت مشاعره، فقال وهو يفتح ذراعيه
ويلقي بنفسه على أبيه:
- لكي لا يعرف أحد أننا التقينا يا أبي ويخبر الشيخ عاقب.
انفجرت دموعهما مدرارًا وهما يتعانقان ويتبادلان القبل،
وقعدان يردد “ سعيد وليدي حبيبي“ ليردد سعيد “ أبي أبي “
****
مرت بضع دقائق وهما يتعانقان، ثم شرعا يتحدثان. قال
قعدان.
- كيف عرفت الحقيقة يا وليدي.
- أخبرتني أمي.
- كيف قررت ذلك ألم تعد تخاف الشيخ؟
- اشتاقت لك يا أبي وتريد أن تراك.
- ييه.. بعد هالعمر؟ سلم عليها يا وليدي. اللقاء ستكون
عواقبه وخيمة إذا ما عرف الشيخ. ومع ذلك سأحاول في ليلة ما
أن أتسلل إليكم. المشكلة مع الكلاب لا أعرف كيف أتلافى نباحها.
131
- لن ندع الشيخ يعرف. أمي تقترح أن تلتقيا ليلا في منتصف
الطريق لاختصار الزمن.
- فكرة زينة لكن يصعب على أمك السير ليلا وحدها.
- لا تخف عليها هي شجاعة وسأجعلها تمتطي جوادي وتتقلد
سيفي.
- تظل الطريق بعيدة عليها. سأفكر في حل آخر. هل هذا الجواد
لك؟
- لي يا أبي منحني إياه الشيخ لتفوقي في دورة الفروسية.
-هل يعاملك زين هذه الأيام.
- هذه الأيام نعم، لكن لا أعرف ماذا سيحدث بعد ذلك. الشيخ
متقلب المزاج والعواطف. أحيانا يكون لطيفًا وطيبًا وأحيانًا قد
لا تتخيل من هو أكثر منه ظلمًا.
- سمعت إنه خصاك يا وليدي وتألمت كثيرًا لذلك!
- صحيح يا أبي خصاني مخافة أن تعشقني بنات القبيلة. بعد
أن رآني أتفوق على جميع الأولاد في المصارعة.
- وكيف أنت الآن يا وليدي؟
- أنا بخير يا أبي تجاوزت المسألة ولا أفكر في النساء، ولا أعرف
إن كنت سأتغير. أحب زبيدة ابنة الشيخ لأننا ولدنا في يوم
واحد وتربينا معا وعشنا طفولتنا معا.. لم تنقطع علاقتنا بعد
الخصي، لكنها اليوم شبه مقطوعة بعد أن عرف الشيخ.
- عرف الشيخ ولم يفعل لكما شيئا؟
- هو يعرف أنني خصي ولن أفعل شيئا، لكنه منع زبيدة من
132
مقابلتي إلا للضرورة وبحضور أمها، أو أحد ما. لكن أمها
منعتها نهائيا من مقابلتي وهددتها بسجنها في البيت إن حاولت.
خجل قعدان من أن يطرح على سعيد أسئلة أخرى تتعلق
بالمسألة.
- زين يا ولدي عندي فكره. في الأيام القريبة القادمة وعلى الأغلب
ليل الخميس على الجمعة. سأنطلق ليلًًا إلى أن أصبح على مسافة
غير بعيدة كثيرًا عن حي الشيخ. سأعتلي قمة الهضبة المطلّة
على الحي وأقلد عواء الذئب خمس مرات بصوت عال. يفترض
أن أمك تكون قد سمعت العواء. تكون محضرة حالها لتنطلق
نحوي. سأنتظر قرابة ساعة على الأكثر، إن لم تأت فسأفهم
أن ظرفها لم يسمح. وسأعود إلى موقعي لأكرر الأمر مساء
الخميس اللاحق، وهكذا أيضًا، إذا لم تسمعوا عواءً في خميس
ما، فهذا يعني أنني لم أتمكن من القدوم.
- أحسنت يا أبي وإن كان الأمر متعبًا لك.
- لا عليك يا ولدي أنا قوي وسريع المشي وحتى العدْو. وهالساع
شو تريد تسوي؟
- أريد أن أزور الأقصى وأتجول في المدينة قبل العودة.
- انتظر لأجيب لك شيء تأكله يا وليدي.
- لا أريد. يجب أن أذهب حتى لا يرانا أحد.
نهضا وتعانقا ثانية.
- في حفظ الله يا وليدي. سلم لي كثير على أمك.
- الله يسلمك.
133
امتطى سعيد جواده وانطلق.. ظل قعدان يلاحقه بنظراته إلى
أن لاذ بسفح الجبل.
استلقى في ظل الشجرة وقد غمرته سعادة لم يشعر بها يومًا.
****
لم يعرف سعيد أين يربط الحصان. كان هناك اسطبل للخيول
في سوق الجمعة، غير أن وضع الحصان فيه يحتاج إلى أجرة،
وسعيد لم يحمل نقودًا في حياته.. ومع ذلك سأل صاحب
الإسطبل إذا كان في مقدوره أن يترك الحصان لبعض الوقت
عنده إلى أن يزور الاقصى ويعود، فهولا يحمل نقودًا. تردد
صاحب الإسطبل غيرأن وسامة سعيد جعلته يسأله:
- ابن من أنت؟
وقرر سعيد أن يستغل شهرة الشيخ.
- أنا ابن الشيخ عاقب شيخ مشايخ العقايبة!
- يوه! يا هلا ياهلا تفضل تفضل!
- تشكر أريد الذهاب للمسجد.
- أعطني الحصان وتيسر. بالسلامة إن شاء الله.
استلم صاحب الاسطبل رسن الحصان فيما انطلق سعيد نحو
باب الأسباط ليدخل منه إلى الأقصى.
اجتاز الساحة الفسيحة ليتوقف أمام الصخرة ويقرأ بعض
الكتابات على جدرانها. دار حولها مرة واحدة ثم نزع حذاءه
ودخل إلى الداخل.. دار حول الصخرة التي تتوسط القبة. كان
قد سمع أن الصخرة معلقة في السماء لأن النبي محمد أشار
134
إليها أن تتوقف حين صعدت خلفه ليلة أن صعد إلى السماء،
فتوقفت وظلت واقفة بين السماء والأرض. لم ير سعيد أنها
معلّقة، وتأكد من الأمر حين نزل إلى كهف أسفلها، قيل أنه
الكهف الذي استقبل فيه الأنبياء ابراهيم وعيسى وموسى النبي
محمد، ليقدّم له ثلاثة أقداح من اللبن والخمر والماء، فاختار
قدح اللبن ولم يشرب من قدحي الماء والخمر، فنجا بذلك ونجت
أمته حسب قول جبريل، ولو أنه اختار الماء لغرق وغرقت أمته،
ولو اختار الخمر لضلّ وضلّت أمته. كان الكهف صغيرًا نسبيًا
مقارنة بحجم الصخرة من الخارج. خرج سعيد ليدور حول
الصخرة من جديد لكن لتأمل الجدران والقبة من الداخل
ومحاولة قراءة بعض الكتابات على الجدران. ظل مندهشًا
للحظات لروعة الهندسة والزخرفة والألوان. ثم خرج لينطلق
نحو المسجد. تجول داخل المسجد الفسيح متأملا النقوش
والزخارف والكتابات الجميلة التي تزين الجدران. لم يمكث
بقدر ما مكث في الصخرة، فخرج ليدخل إلى أسواق المدينة ليعبر
منها إلى كنيسة القيامة. فلا يعقل أن يزور القدس دون أن يزور
كنيسة القيامة.
اجتاز بعض أسواق اللحامين والعطارين والحدادين وأسواق
الأقمشة والحلويات ليصل إلى حارة النصارى ويمر بمسجد
عمر إلى الكنيسة.
رأى بعض مرتديي الكوفيات والعقل ينزعون عقلهم عن
رؤوسهم حين يدخلون إلى الكنيسة. نزع عقاله ودخل. توقف
135
عند الجلجلة حيث قبرالمسيح الذي قام منه ليصعد إلى السماء.
بدت له ردهات وقاعات الكنيسة ضيقة مقارنة بردهات وقاعات
المسجد. توقف أمام أيقونة للعذراء في حجرة صغيرة تحيط بها
شموع مشتعلة، بدا له المشهد في غاية الجمال. تجول قليلا
ليدخل إلى قاعة أكبر.. هاله منظر المسيح مصلوبًا على جدارها.
مرت في مخيلته للحظات صورة خصيه وهو يتأمل المسامير
المغروسة في يدي ورجلي المسيح. اجتاحته رهبة لم تحدث معه
في المسجد الأقصى. تأمل الجدران الأخرى للقاعة وخرج.. دار
دورة واحدة حول أرضية الكنيسة ليعود إلى الباب الذي دخل
منه. ويخرج.
لم يعد من الطريق الذي جاء منه هذه المرة. اجتاز سوق خان
الزيت إلى باب العمود ومنه مارًا بباب الساهرة ليواصل سيره
خارج السورإلى سوق الجمعة حيث. اسطبل الخيول.
استلم جواده من الاسطبل وانطلق عائدًا إلى البريّة.
*****
فرحت سجاح بلقائهما واطمأنت حين عرفت أن قعدان ما يزال
بصحة جيدة، وراحت تعد الليالي في انتظار ليل الجمعة الذي بدا
لها أنه أبعد الليالي عنها لما سيشكله من بداية جديدة في حياتها
وهي على مشارف الخمسين من عمرها.
*****
136
) 14 ( أسرارما بعد منتصف الليل!
سجاح وجدت في التجول ليلًًا في الحي والتنصت على ما يجري
خلف جدران الحظائر
والأكواخ، والتلصص على العشاق متعة فريدة كانت في حاجة
إليها، ورغم أنها لم تكتشف إلا القليل مما يجري غيرأن مخيلتها
راحت ترسم الكثير، حين وجدت أن العجوزوطفاء زوجة الشيخ
وأم أكبرأولاده تعاشرراعي المعزالثاني “ عمر“ وتعاشرراعي
إحدى قطيعي النعاج “ مطلق“ وحين كانت تمر ذات ليلة من
جانب الكوخ الذي تقيم فيه ظفيرة وسارة وزينب سمعت
تأوهات وتغنجات دون أن تسمع أي صوت لرجل، فتوقعت أن
تكون الجواري في حالة سحاقية، واستدرجت ظفيرة في اليوم
التالي إلى البوح بما لا تعرفه، حين زارتها في كوخها. ابتدأت
متسائلة عن وضعها كجارية تخلى الشيخ عن مضاجعتها
لتعلقه بالصغيرات:
- أصبحت في وضع مزر يا صديقتي بعد أن تخلى الشيخ عن
مواقعتي..
- الشيخ مغرم بالصغيرات وكل جارية أو امرأة تقترب من
الأربعين أو تتجاوزها يتخلى عن معاشرتها.
- هل تخلى عن معاشرتك أيضًا؟
- من أكثر من سنتين!
- معقول؟
- لماذا غير معقول ألا تعرفين الشيخ؟ أنا الآن في الثالثة وأربعين!
137
وهنا قررت سجاح أن تدخل في الموضوع بعمق أكثر:
- هل هذا يعني أن وضعك مثل وضعي!
تلفتت ظفيرة حولها لتتأكد من عدم وجود أحد يتنصت عليهما،
ومع ذلك قربت رأسها لتهمس لسجاح:
- لا!
- شو؟
- الحق عليك!عاملة من حالك راهبة من هبلك! لازم تدبري
حالك!
همست سجاح بدورها:
- يعني أنت مدبرة حالك!
- طبعا.. كيفك والسر؟
- سرك في بئر!
- أولاد الشيخ نكحوا معظم الجواري ما عدا الصغيرتين
الأخيرتين.
لم تصدق سجاح ما سمعته!
- معقول؟ كيف عرفتِ؟
- الجواري يكشفن أسرارهن لمن يثقن به، وأنا كسبت ثقتهن. ثم
إن جهم وفواز ضاجعاني..
لم تخف سجاح دهشتها. فكانت تفتح فمها دهشة مع ندة عن
آهة تعجب، ثم تضع يدها عليه! فيما ظفيرة تتابع:
- جهم يحب أن يضاجعني أنا وسارة معًا. ليلة الأمس أركعنا
أنا وسارة على ركبنا واحدة فوق الأخرى، وراح يوغل فينا دون
138
هوادة ونحن نتأوه!
وبعد لحظة صمت وسجاح تغلق فمها وأنفها لما تسمعه،
همست ظفيرة:
- وهذا ليس كل شيء!
- ماذا هناك أيضا:
- زوجات الشيخ يضاجعن الرعاة وبعض العبيد!
- لا!
- العجوز وطفاء ضاجعت الرعاة الأربعة! سالم وعمرومطلق
ومنير! وحليمة تضاجع سالم وعمر. ثريا تضاجع مزيود مرافق
الشيخ وحامد خادم المضيفة!
- لا غير معقول. وطي صوتك لحدا يسمع! كيف عرفت كل هذا؟
- الرعاة يكشفون أسرارهم لبعضهم وللجواري. إنهم يكرهون
مضاجعة العجوز لكنها ترغمهم وإلا..
وقربت ظفيرة رأسها من أذن سجاح:
- مهووسة وممحونة! تريد أن تودع الحياة بأكبر قدرمن النكاح!
- يا إلهي شيء لا يصدق! لكن لماذا لم يتحرش بي أحد من أبناء
الشيخ!
- فرضت هيبتك على الجميع بثقافتك وحين اختارك الشيخ
محظية، ولأنك أم سعيد الذي يعلق عليه الشيخ أملًًا كبيرًا للدفاع
عن القبيلة إذا ما تعرضت لغزو ما! كما إنهم يخافون أن تخبري
الشيخ.
- وأنتن ألا يخافون أن تخبرن الشيخ؟
139
- هددونا بالقتل إذا ما خبّّرنا ثم إننا حرمنا من الجنس بعد
أن غرق الشيخ مع صغيرتيه، والأمر يشكل فرصة لنا..وهو
الآن يبحث عن صغيرة جديدة وربما يجد. الجواري الصغيرات
نادرات.
وكان الشيخ قد ذهب إلى سوق الجواري ذلك اليوم ولم يجد
صغيرة حتى دون الثلاثين، فابتاع واحدة تجاوزت الثلاثين
بقليل اسمها عفراء. هذا ما عرفته سجاح فيما بعد. ولم تكن
هذه سوى الطفلة التي ابتاعها سيد سجاح الحوراني من
تاجرالعبيد الدمشقي.
أقبل سعيد ممتطيًا جواده بعد جولة فروسية في البريّة، فتوقفت
ظفيرة وسجاح عن الكلام المباح.
****
“أصبحت رجلًًا وفارسًا وعازفًا ماهرًا يا سعيد ما شاء الله؟“
هتفت ظفيرة وهي تصافح سعيد وتتأمل قوامه الفذ وجمال
وجهه وشعره الطويل المنسدل على كتفيه والسيف المزين
خصره، وتتابع:
- يخزي العين عنك كما تقول سارة الشامية!
- تشكري ظفيرة!
وراح يعتذر عن قطع خلوتهما:
- معذرة ربما قطعت عليكما خلوتكما. سأدخل إلى الكوخ
لأستريح ويمكنكما أن تتابعا خلوتكما.
- خذ راحتك يا حبيبي لم تقطع شيئا تحدثنا وخلصنا!
140
همست ظفيرة لسجاح مستعيرة كلمات سارة للمرة الثانية:
- يخزي العين عنه لو لم..
ولم تجد كلمة مناسبة للتعبير عن الخصي الذي لا تريد ذكره
مباشرة، فقالت:
لو لم يقم الشيخ بفعلته لجنت كل فتيات القبيلة حبًا به. الله
يحفظه إلك ويبعد كل شر عنه.
- الله يسلمك يا اختي.
- سأنصرف قبل أن تبحث عني العجوز وطفاء للقيام بعمل ما،
بالأمس كنست حظيرتي النعاج.. انقطع ظهري!
- وأنا كنست حظيرتي المعز وجمعت الزبل.
- صغيرتا الشيخ معفيتان من العمل وخاصة الشاق منه، فهما
ما تزالان محظيتيه!
- قد يتغير وضعهما أو وضع أكبرهما على الأقل بعد قدوم
الجارية الجديدة.
كانتا تجلسان على الأرض دون فراش. نهضت ظفيرة وهي
تنفض ما علق من تراب على ثوبها.. ومن ثم عانقت سجاح
وانصرفت..
****
في اليوم التالي فوجئت سجاح بالشيخ يستدعيها ويطلب إليها
تدريب الجارية الجديدة على فنون الغرام.
- لكنها ليست صغيرة يا شيخ ولا يعقل أن لا تعرف بعض
فنون الغرام على الأقل!
141
- لم تعجبني حركاتها، تمارس دون رغبة في الممارسة، أشعر
أنها مشمئزة من العملية كلها.
شعرت سجاح أن الفتاة على حق فمن لا تشمئز من الرجال بعد
أن تعرف الكثيرين منهم وتتحمل سوء ممارساتهم.
- الم تحاول أن ترشدها لما يرضيك ويمتعك؟
- أشعر أنها هبلاء!
راحت سجاح تضحك ليضحك الشيخ بدوره.
- سأحاول معها يا شيخ لأجعلها تمتعك كما تريد.
- الله يحفظك يا سجاح لولاك لما تمتعت بالنساء. هرمت وأريد
من تتفهم وضعي وتبذل كل ما لديها من مواهب لتمتعني. ثم
إن لدي هذه المشكلة مع الكبيرات، كلما صغرت الجارية كان
شوقي لها أكثر، حلمي أن أجد جارية صغيرة في حدود الثانية
عشرة على الأكثر، حتى لو لم تفهم شيئا في السرير، صغرها
وحده كاف لأن يهيجني!
- لن تجد جارية بسهولة بهذا السن يا شيخ، ثم إن الأمر قد
يكون حرامًا!
- لا حرام ولا منّه! أجدادنا كانوا يفعلون ذلك. ألم يطأ النبي
صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وهي في التاسعة أو
العاشرة.. مضى العمر ولم تحقق لي هذه الرغبة يا سجاح!
- كان ذاك في الزمن القديم يا شيخ ونحن الآن في زمن آخر!
- لكن النفوس لا تتغير مهما تغيرت الأزمان!
لم تصدق سجاح أن رغبات الشيخ تذهب إلى هذا الحد! أخفت
142
دهشتها ونهضت.
- دع وطفاء ترسلها لي يا شيخ وسأعمل جهدي معها.
****
لم تكد سجاح تأخذ قسطًا من الراحة حتى جاءت عفراء. رحبت
بها سجاح وأجلستها على بساط من شعر الماعز. تساءلت
والفتاة تأخذ مكانها:
- الست الطفلة عفراء التي ابتاعها السيد الحوراني من التاجر
الدمشقي؟
- أجل أنا هي يا سيدتي!
- وكيف دارت بك الأيام حتى وصلت إلى هنا؟
- آه يا سيدتي مررت بأيام وسنين وآلام تهد الحيل. تحملت
صلف الأسياد وكل الجور الذي كان يقع علي إلى أن وصلت إلى
هنا. قرابة تسعة عشرعامًا من ذلك اليوم ذقت فيها الأمرين!
- كم مكثت لدى الحوراني؟
- مكثت لديه سبع سنين. وهو أرحم سيد اقتناني من بين جميع
الأسياد. كبر وشاخ وأصيب بالتهاب البروستاتا والمسالك البولية.
وبدأ ببيع أملاكه وعبيده وجواريه. باعني مع جملة من العبيد
للتاجر الدمشقي نفسه الذي باعني بعد بضعة أسابيع لسيد
يهودي من صفد. كان ساديًا يا سيدتي ولا يمارس الجنس
بشكله الطبيعي اطلاقًا. يقيدني بالحبال ويضربني بسوط على
مؤخرتي ويتوجب علي أن أصرخ بالكلمات المحببة إليه، كأن
أرجوه أن يلجني حتى أموت! وأن روحي فداه! حين باعني بعد
143
ثلاثة أعوام لسيد يهودي آخر، رأيت الفرج، فهذا كان رومانسيًا
فوق العادة، غيرأنه يعشق الشذوذ أيضا كمعظم الأسياد الذين
عرفتهم، ولم أستغرب حين أطلعني على سِفر توراتي يتطرق إلى
قوم لوط الذين أرادوا نكاح ضيوف لوط من الملائكة! أمضيت
عنده أكثر من ثلاثة أعوام ليبيعني إلى تاجر مسلم من نابلس.
كان ذاك يقرف من كل الممارسات الطبيعي منها والشاذ، عدا
الفموي الذي يتقبله بشروط خاصة تتطلب إجادة نوعية! وهذا
ما لمسته عند السيد الحالي بحدود. أمضيت عند ذاك بضعة
أعوام إلى أن باعني لتاجر مقدسي متدين، لا يمارس الجنس مع
الجواري إلا بعقد نكاح، لذلك لم يعقد علي ولم يطأني، إلى أن
باعني للشيخ عاقب في سوق الجمعة.
- آه يا ابنتي! ماذا في مقدوري أن أفعل لك، يفترض أنك تجيدين
كل فنون السرير بعد كل ما مررت به من أسياد، وبوسعك إمتاع
الشيخ إن أردت.
- صرت أكره الممارسة يا سيدتي، أًقبل عليها بقرف، حظي مع
أسياد كبار ومسنين معظمهم لا أحتمل مجرد مجالستهم.
وفي هذه اللحظة كان سعيد يصل من جولاته الفروسية وينزل
عن جواده.. ويدنو نحوهما.. راحت عفراء تنظر إليه بعينين
نهمتين متأملة جماله.. تنهدت من أعماقها..
سلم سعيد واعتذر كعادته عن قطع الخلوة وهو يصافح عفراء
التي نهضت لتسلم عليه. فوجئ بها تنحني لتقبل يده غيرأنه لم
يتح لها ذلك.
144
دخل سعيد إلى الكوخ وعادت سجاح وعفراء إلى الحديث.
- هذا ما شكا الشيخ منه يا عفراء. حاولي أن تمثلي قدر الإمكان
لعل الشيخ يرضى عنك. ليس أمامك خيارات أخرى.
- سأحاول يا سيدتي سأحاول رغم أنني مللت من التمثيل مع
الأسياد.
تحملي يا ابنتي كلها ساعة زمان وينتهي الأمر.. أوهمي الشيخ
أنك متيمة به، وأنك لم تعرفي مثيلا له من بين الرجال..
*****
145
) 15 ( عواء الذئب!
حين سمعت سجاح عواء الذئب ينطلق للمرة الثانية من قمة
الجبل المطل على الحي، أدركت أن قعدان جاء، انفرجت أسارير
وجهها وابتسمت وهي تنظر إلى سعيد الذي ابتسم بدوره. لم
تنتظرحتى يطلق قعدان عواءه الخامس، تقلدت بسيف سعيد
وامتطت جواده، وكانت قد أمضت بعض الوقت في الاستحمام
والتزين. ودعها سعيد وهي تنطلق متمنيًا لها لقاءً سعيدًا مع
أبيه، فيما كانت كلاب الحي والأحياء المجاورة تعوي بدورها
تجاوبًا مع عواء الذئب.
ما أن ابتعدت قليلًًا عن الحي حتى أرخت العنان للجواد لينطلق
بسرعة. كان الليل هادئًا وقمرغير مكتمل يلقي نورًا ساحرًا على
المنطقة.
تبادلا العناق طويلًًا وبثا أوجاعهما لبعضهما، ليختتما لقاءهما
بأجمل ليلة حب عاشاها في حياتهما.. ليلة تأججت فيها
مشاعرهما لترسم أفقًا جديدًا لمسارحياتهما وسط منغصات
العبودية.
انطلق قعدان عائدا إلى كوخه تحف به كلمات سجاح وقبلاتها
الحارة.. وامتطت سجاح الجواد وعادت فرحة مطمئنة.
****
كانت خيوط الفجر تتأهب للبزوغ في الأفق الشرقي حين هرعت
الكلاب نحو حظيرة المعزالأبعد بين حظائرالأغنام وراحت تنبح
بشراسة، ما يشير إلى أمر ما يحدث. استيقظ سعيد وجهم
146
وفواز وماجد أبناء الشيخ كما استيقظ الرعاة ومعظم العبيد..
ولم تمرسوى لحظات حين سمع صراخ عمر راعي قطيع المعز
يستغيث طالبا النجدة، غير أن صوته خمد بعد ذلك لينطلق
صراخ سالم راعي قطيع المعز الثاني وليخمد صوته بعد ذلك..
وسمعت جلبة ووقع حوافر وصهيل خيول.. أدرك الجميع أن
حي الشيخ يتعرض لغزو.. كان سعيد قد نهض وانتعل حذاءه
وامتشق سيفه وهم للخروج من الكوخ غير أن أمه وقفت في
وجهه قائلة:
- ماذا ستفعل في هذا الظلام يا ولدي!
- وهل نترك الغزاة ينهبون القطعان يا أمي!
- لن يستطيع أحد صدهم بسهولة في هذا الليل، واضح أنهم
خططوا لغزوهم.
- دعيني على الأقل أخرج من الكوخ لأعرف ماذا يجري، فربما
يهاجمون البيوت ولن يكتفوا بالقطعان.
- لكن لا تبتعد عن الباب.
استيقظ الشيخ ووقف على شرفة شقته. لم يستطع أن يرى
غير أن جلبة الخيول وصهيلها توحي أن الغزاة بالعشرات. كان
بعض العبيد قد هرعوا نحوالحظائر ليسقطوا صرعى بسيوف
الغزاة..
أقنع سعيد أمه بالذهاب نحو بيت الشيخ فقط ليرى ماذا يمكن
أن يفعلوا.. كما قدم أبناء الشيخ إليه ممتشقين سيوفهم، وقدم
بعض العبيد. أمرهم بالبقاء متأهبين للدفاع دون أن يهاجموا.
147
كان فرسان من الغزاة قد أخرجوا قطيعي المعز من حظيرتيهما
وساقوهما أمامهم، فيما ظل عشرات أخرون حماية لهم حتى لا
يلحقهم أحد.
بعد لحظات بدأت الجلبة تبتعد ويتوقف صهيل الخيول. ما
يشير إلى أن الغزاة اكتفوا بنهب القطعان.. أوعز الشيخ إلى
عبدين أن يتتبعا أثر الغزاة ليعرف إلى أين سينصرفون، وأرسل
سعيدًا وأبناءه ليروا ماذا نهب من القطعان، ليجدوا أن الغزاة
اكتفوا بقطيعي المعز، غير أنهم قتلوا الراعيين إضافة إلى مطلق
راعي النعاج وعبدين آخرين. وسمع صراخ في هدأة الليل يأتي
من أحياء مجاورة، ما يشير إلى أن الغزو شمل أحياء أخرى
للقبيلة.
****
حين بدأ الظلام يتبدد أخذ العشرات من أبناء القبيلة يتوافدون
على حي الشيخ عاقب، ليخبروا عن ستة قطعان أخرى من
المعزلبعض أسر القبيلة قد استولى الغزاة عليها. وحين سأل
الشيخ عما إذا كان الغزاة قد هاجموا البيوت وأخذوا سبايا من
النساء والرجال، أجاب المتحدثون أن ذلك لم يحدث، فقد اكتفى
الغزاة بالاستيلاء على قطعان المعز دون النعاج. غير أن سبعة
رجال في أحياء مختلفة قد حاولوا الدفاع فقتلوا جميعًا.
وحين بزغت الشمس كان قرابة ثلاثمائة فارس قد تجمعوا في
الساحة أمام بيت الشيخ. قسمهم الشيخ إلى ثلاث فرق وعين
ابنه جُهم قائدا للجيش، وابنه فواز قائد مئة، والعبد سعيد قائد
148
مائة أيضًا وعلى المائة الثالثة عين الفارس ملحم وجعل ابنه
ماجد نائبًا له. تجمعت نساء وفتيات وجوار أمام البيوت وعلى
سطوحها وبين الأحياء وشرعن في الزغاريد لتشجيع الجيش،
فيما كان الشيخ يخاطب الجيش مؤكدًا أن اليوم يومهم لتأديب
هؤلاء الغزاة. اليوم يومك يا ولدي يا جُهم ويومكم يا فواز ويا
ملحم ويا ولدي يا ماجد، ثم نظر إلى سعيد وأمعن النظرإليه
وهو يردد مقولته: اليوم يومك يا وليدي يا سعيد، الأمل معقود
عليك يا وليدي تُري هؤلاء القوم الموت الأحمر.. هم على الأغلب
من قبائل الجنوب الذين لهم معنا ثارات قديمة , يجب أن تلحقوا
بهم قبل أن يبتعدوا. سيرهم سيكون بطيئا مع قطعان المعز
وستلحقون بهم قبل أن يبتعدوا. أرسلت عبدين لتتبع أثرهم.
حين ترونهم ريّحوا خيولكم قبل الانقضاض عليهم، وإذا لم
يكن المكان مناسبًا للقتال عليكم أن تقودوهم إلى منطقة يسهل
القتال فيها. الله معكم..
قدم أحد العبدين اللذين تتبعا الغزاة ليعلن أن الغزاة اتجهوا
جنوبًا وأن تعدادهم قرابة ثلاثمائة فارس. تفاجأ الشيخ بعدد
الغزاة ومع ذلك لم يحاول أن يزيد عدد الجيش لثقته بفرسان
القبيلة. وأمر بانطلاق الجيش، لتعلوا الزغاريد وينطلق الفرسان
على خيولهم بسرعة فوق خببية، تقارب العدْو المتمهل.
انتاب سجاح شعور بالغبطة والفرح حين رأت الشيخ يعين
سعيدًا قائدًا لفرقة.اقتربت من الشيخ وهي تهتف:
- ليسمح لي سيدي الشيخ بجواد لرغبتي في مرافقة الجيش
149
كمشجعة!
- لك ما أردت يا سجاح ولك سيف أيضًا، فقد تحتاجين إليه.
- جزاك الله خيرًا يا سيدي.
وهرعت زبيدة وهي تردد: وأنا يا أبي! ولتهرع فتيات ونسوة
ممن لدى أسرهن خيول، ليسمح لهن الشيخ بمرافقة سجاح..
وخلال لحظات كانت قرابة خمسين امرأة وفتاة يتأهبن لمرافقة
الجيش. طلب إليهن الشيخ أن يتزودن بما يمكنهن من مساعدة
الجرحى. وهذا ما تم.. امتطين خيولهن وانطلقن في أثر الجيش.
****
لم يكن تتبع الغزاة صعبًا على جيش العقايبة، لأن متتبعي الأثر
كانا على صواب. فبعد قرابة ساعة تمكنوا من رؤيتهم يسيرون
من سفح هضبة منحدرين نحو سهل ليتابعوا طريقهم عبره
جنوبًا. كان جزء كبير منهم يسوقون القطعان أمامهم فيما
باقي الجيش يسير خلفهم. استشارجُهم قادة فرقه فأجمعوا
على رأي اقترحه سعيد، وهو تقسيم الجيش إلى فرقه الثلاث،
فرقته تسبق الغزاة إلى الجنوب لتهجم عليهم من الجنوب حين
يبلغون السهل، وفرقة تنتظرهم في الشرق لتلتحم معهم من
الشرق، وفرقة تبقى في الشمال لتهجم عليهم من الشمال، وبهذا
يطوقون جيش الغزاة من ثلاث جهات.
انطلق سعيد بفرقته بسرعة متجاوزًا بعض التلال والأخاديد
ليبلغ السهل ويعبره بسرعة في اتجاه الجنوب على مرأى من
جيش الغزاة الذي كان ينحدر مع السفح، ما دفع هؤلاء إلى
150
الاعتقاد أن هذه الفرقة قد لا تنوي محاربتهم ، لكن حين رأوا
فرقة ثانية تعبر السهل، احتاروا في أمرهم خاصة حين تفرقت
الفرقة وأخذت صفوفها في مواجهة المنطقة التي سيهبطون
فيها.. وكانت الفرقة الثالثة بقيادة فواز ومرافقة قائد الجيش
جُهم قد بقيت كامنة خلف تلة إلى أن تبدأ المعركة..
أصبح جيش الغزاة على مقربة من السهل. وكان قادته يدركون
أن العقايبة سيلحقون بهم لكن ليس بهذه السرعة، ومع ذلك
لم يكن الأمر مستغربًا لهم. ما حيرهم هو هذه الفرقة التي
تجاوزت السهل إلى الجنوب، فهل ستعود لمهاجمتهم من هناك؟
لا شك في ذلك؟ جيش يحاربهم بخطط مكشوفة! سيتفوقون
عليه بالتأكيد حتى لو كان هناك جيش آخر يكمن شمال السهل.
كانوا مضطرين لأن يبقوا على الأغنام في السفح مع بعض
الفرسان لينحدرالجيش وحده إلى السهل ليخوض المعركة.
كانوا مسلحين بالسيوف دون غيرها. أما جيش العقايبة فكان
مسلحًا إضافة إلى السيوف بما يقرب من عشرة أقواس. نظم
قائد جيش الغزاة صفوف جيشه على أطراف السهل في المواجهة
دون أن يراعي احتمال هجوم من الجنوب أو من الشمال، فقد
وضع ثقل الجيش كله في الانقضاض نحو الأمام، منتظرًا هجوم
فرقة العقايبة، غير أن الفرقة لم تهجم، وقسمها ملحم إلى خمسة
أقسام شبه متساوية جاعلًًا رماة السهام في الوسط وفي الأمام.
أمر قائد الغزاة ببدء الهجوم. استل فرسانه سيوفهم وانطلقت
خيولهم بأقصى سرعة، وفي الوقت نفسه هيأ فرسان فرقة ملحم
151
سيوفهم وسهامهم، فيما كان سعيد يظهر منقضًا بفرقته من
الجنوب وفواز يظهر منقضًا من الشمال وحين اقترب جيش
الغزاة أطلق فرسان ملحم سهامهم ليصيبوا عشرة فرسان
وقبل أن يلتحم جيش الغزاة بالفرقة أطلق رماة السهام دفعة
ثانية منها ليطيحوا بعشرة آخرين. ليبدأ بعد ذلك الإلتحام. كان
على فرسان فرقة ملحم أن يصمدوا لبضع دقائق إلى أن تصل
فرقتا سعيد وفوازمن الجنوب والشمال. تنبه قائد الغزاة إلى
الهجوم القادم من الشمال والجنوب فراح يصرخ بجيشه منبهًا
ليتصدى له، فدبت فوضى في جيش الغزاة وفرسانه يترددون بين
محاربة من هم في الأمام أو من يقدمون من الشمال والجنوب..
وفي تلك اللحظات العصيبة على جيش الغزاة وصل سعيد في
مقدمة فرقته. انحنى قليلًًا على ظهر جواده واضعًا ترسه
بيده اليسرى أمامه واخترق جيش الغزاة وراح يضرب بسيفه
يمينًا وشمالاٌ ليطيح ببضعة رؤوس، وحين يشتد الهجوم عليه
من اليمين يخرج رجله من الركاب ويميل إلى جانب الحصان
الأيسرليضرب بسيفه دون هواده، وما يلبث أن يعود إلى الوضع
الطبيعي ويضرب من يواجهه ليميل إلى االيمين ويطيح ببضعة
رؤوس ليخترق الجيش من جنوبه إلى شماله ليجد نفسه أمام
جيش فواز فيكرعائدأ ليخترق الجيش من شماله إلى جنوبه،
وحين رآه قائد جيش الغزاة ظن أنه جني أو شيطان فدب الهلع
في نفسه فيما كانت سجاح وزبيدة ومجموعة الفتيات والنساء
يطلقن زغاريدهن من على التلة الشمالية. وجعجعة السلاح
152
وصهيل الخيول وصليل السيوف وصراخ الفرسان يضج في
السهل، ومعنويات جيش الغزاة تنهارحين رأوا هجوم سعيد
وهو يخترق صفوفهم شمالًًا وجنوبًا، فبدأ بعضهم يهربون من
ساحة المعركة، وسط صراخ قائدهم بالثبات دون جدوى، فقد
راح عدد الهاربين يزداد وسعيد يقترب منه مطيحًا برؤوس كل
من يعترض طريقه، وما أن وصل إليه حتى بدا منهارًا من شدة
الرعب، وبضربة خاطفة أطار سعيد سيفه من يده وبضربة
أخرى أسقطه عن جواده، وفيما كان سعيد يهم ليغرس سيفه
في نحره صرخ قائلًًا “ أنا في عرضك لا تقتلني “ فتوقف سعيد
عن قتله وأمر بعض الفرسان أن يقيدوا يديه. شاهد من بقي
من فرسان جيش الغزاة قائدهم أسيرًا مهزومًا فتوقفوا عن
القتال وولوا الأدبار لينقذوا أنفسهم. غير أن بعضهم لم ينجحوا
في الهروب فوقعوا أسرى، عدا بعض الجرحى الذين لم تمكنهم
جراحهم من الهرب. كانت سجاح ومن معها من النساء والفتيات
قد وصلن إلى أرض المعركة وهن يزغردن.. وشرعن في تضميد
جراح الجرحى من الجيش. كما أمر جهيم بتضميد جراح
فرسان الغزاة ممن بقوا في أرض المعركة وكانوا ثلاثة عشر. أما
عدد القتلى من الغزاة فكان واحدًا وستين قتيلًًا. ولم يقتل من
جيش العقايبة إلا سبعة فرسان وجرح تسعة. وتم أسر تسعة
عشر فارسًا مع القائد. ومن الغنائم غنم العقايبة قرابة مائة
جواد ومائة سيف. وقرابة مئتي درع وترس. وأعادوا قطعان
المعز كلها بعد أن هرب الفرسان جميعًا لينجوا بأنفسهم.
153
حمّلوا القتلى والجرحى على الخيول، حتى الغزاة منهم، فهم
أسرى أيضًا. فيما ساق آخرون الأسرى أمامهم، وآخرون ساقوا
قطعان الأغنام وخيول الغنيمة، وانطلقوا عائدين تتبعهم
فصيلة النساء.. ليستقبلوا بالزغاريد والأهازيج في ربوع القبيلة
ابتهاجًا بالنصر الذي حققوه على الغزاة.
****
عرف الشيخ من قائد جيش الغزاة أنهم من قبائل بدو الجنوب
الذين لهم ثارات قديمة مع قبيلة العقايبة.. وحين تحدث جُهم
لأبيه عن مهارات سعيد في القتال استدعاه ليثني عليه ويعانقه
مقبلًًا لأول مرة في حياته ويخاطبه قائلًًا:
- حياك الله يا وليدي يا سعيد، يسلم النهد الذي أرضعك لتكون
فارسًا مغوارًا تهابه القبائل. أنت منذ اليوم يا وليدي فارس
القبيلة وقائد جيشها.
وحين رأى الشيخ وجه ابنه جهم يتجهم بادر إلى القول:
- أنت يا وليدي ستكون القائد إن كلفتك بمرافقة الجيش وسعيد
سيكون نائبك في القيادة.
وعاد للتحدث إلى سعيد:
- ارتاح بضعة أيام يا وليدي ومن ثم سأكلفك بقيادة حملة
من ثلاثمائة فارس لتلاحق هؤلاء الأوغاد وتداهمهم في أحيائهم
في الجنوب والنقب، ولا تكف عنهم قبل أن يعلنوا الولاء المطلق
لقبيلة العقايبة ويقدموا فدية لأسراهم ثلاثين عبدًا وعشر
جواردون سن الثلاثين وخمسمائة عصملية. هيبة القبيلة
154
ضعفت بعد سنين من الهدوء ما دفع هؤلاء لغزوها.. أريدك
يا وليدي أن تعيد للقبيلة هيبتها في كافة انحاء المنطقة شمالًًا
وجنوبًا وغربًا وشرقًا ليعرف هؤلاء جميعا أن العقايبة أسياد
المنطقة كلها، بل أسياد فلسطين.
- أنت تأمر يا سيدي، لكن لدي سؤال!
- ما هو؟
- هل سنأخذ سبايا من نسائهم ورجالهم وعبيدهم وجواريهم.
أطرق الشيخ للحظة ثم قال:
- لا! طالما أنهم لم يأخذوا منا سبايا! لا نريد للحرب بيننا
وبينهم أن تشمل الأعراض. كما إننا لسنا في حاجة إلى أسرى
نطعمهم ونسقيهم إلى أن يفدوهم ، يكفينا من هم عندنا من
أسراهم وجرحاهم، لكن إن اضطررت، ليكن! وسأجعلهم
يدفعون معظم ما يملكون فدية لهم! هالساع روح ارتاح يا
وليدي. الله يعطيك العافية.
وحين كان سعيد يغادر مجلس الشيخ لتستقبله أمه بحضنها
وتقبله، كانت الأحاديث تنتقل بين الناس لما فعله الشيخ بتعيين
سعيد فارسًا للقبيلة وقائدًا لجيشها. ما أغاظ بعض الفرسان
وشيوخ العشائر، فلا يعقل أن يعيّّن الشيخ غلامًا عبدًا فارسًا
للقبيلة وقائدًا لفرسانها، غير أن آخرين وخاصة من بين النساء
راحوا يدافعون عن سعيد ويتحدثون عن بطولته ومهارته
بحيث لا يتفوق عليه فارس حتى في ربوع بلاد الشام كلها،
وحتى في بلاد السلطنة العثمانية. وحين سمع الشيخ بردود فعل
155
الناس أعلن عن عتق سعيد من العبوديه، واعتباره سيدًا حرًا،
غيرأن تعليقات المعارضين ازدادت فلا يعقل أن يكون خصي
سيدأ والأدهى فارسًا وقائدًا، لو أن الشيخ لم يخصه بيديه،
لقلنا كان به!! أما أن يفعل الشيخ كل ما فعله لعبد خصاه فهذا
أمرغير معقول ولا يصدق. ماذا سيقال للناس وللقبائل الأخرى
حين تعرف أن فارس فرسان العقايبة ولدعبد خصي!
لم يكترث الشيخ لكل هذه الأقاويل وبعد بضعة أيام أمر بإعداد
جيش من ثلاثمائة فارس يقوده سعيد، وعيّّن الفارس ملحم
نائبًا له. وحين جرى تداول أمر الحملة مع بعض شيوخ القبيلة
وفرسانها بحضور سعيد أبدى بعضهم تخوفه من أن عدد
فرسان الحملة قليل، فبدو النقب قادرون على تشكيل جيش من
ألف فارس على الأقل.. ثم إن المسافة طويلة ولا يعقل أن يقوم
الجيش بهجوم قبل أن يأخذ استراحه من عناء السير الحثيث. عدا
ذلك يحتاج الجيش إلى نساء وفتيات مرافقات لتشجيع الجيش
ولتضميد جراح الجرحى من الفرسان كما يحتاج إلى مؤن وماء
حتى لا يضطر إلى اللجوء لبعض القرى في طريقه للحصول على
طعام وماء، وأعلاف للخيول، ما قد ينتج عنه معارك مع سكان
هذه القرى.. طالت المداولات إلى أن خلصت إلى أن عدد الجيش
كاف بوجود ابطال مثل سعيد وغيره من الفرسان المغاوير،
وليرافقه أربعون امرأة وفتاة للتشجيع وتضميد الجراح.. أما
عن المؤن فقد أتفق على تسيير قافلة مؤونة بمرافقة أربعين
عبدًا وعشر جوار، وبعض أبناء وبنات القبيلة، إضافة إلى مائة
156
عصملية كاحتياط مالي لأية مسائل طارئة!
بعد قرابة أسبوع جُهز الجيش وكل ما يلزمه من طعام وشراب
وعلف للخيول.. وانطلق قبل طلوع الشمس مودعًا بزغاريد
النساء.
*****
توقف الجيش بعد قرابة ست ساعات من السير لتناول الغداء
وإطعام الخيول. وانطلق بعد ذلك ليتوقف قبيل الأصيل على
مشارف مضارب البدو ليبيت ليلته ويقوم بالهجوم في الصباح..
وقام سعيد وملحم بوضع مراقبين على قمم الجبال والتلال حتى
لا تقوم القبائل بمهاجمتهم على حين غرّة.
قبائل البدو عرفت من قبل مراقبين ورعاة أن جيشًا للعقايبة
قادم لمهاجمتهم، فتم عقد اجتماع في بيت شيخ مشايخ القبائل
مناور بن جدعان لتداول أمرالدفاع عن مضارب القبائل. كان
جميع المشايخ قد عرفوا أن لدى جيش العقايبة فارسًا ليس له
مثيل بين الفرسان لمهارته وشجاعته، حتى قيل لهم أنه جني
أو شيطان أو أن أحدهما يتلبسه، فالذين شاهدوه في معركة
الغزو لم يصدّقوا أنه إنسان عادي، عدا شجاعة ومهارة فرسان
العقايبة الآخرين المشهود لهم بالفروسية، ما يعني أن هزيمتهم
تحتاج إلى جيش كبير يكون تعداده قرابة ثلاثة أضعاف تعداد
المهاجمين لضمان النصر. غيرأن بعض المشايخ بدوا مترددين
في الأمر حتى بوجود جيش بهذا العدد، فإذا كان لدى جيش
العقايبة فارس بهذه الصفات التي تحدث عنها الفرسان الذين
157
نجوا من المعركة السابقة، فلن يهزمهم أي جيش مهما كان
عدده، وأن أفضل حل هو حقن الدماء وإعلان الإستسلام لجيش
العقايبة دون قتال، ودفع الفدية التي يطلبها الشيخ عاقب
لإطلاق سراح الأسرى، وإعلان الولاء لقبيلة العقايبة.
دب الهرج والمرج بين شيوخ القبيلة بين مؤيد ومعارض، غير أن
رأي المعارضين كان الأقوى، إنما وفق معايير جديدة، وهي كما
قال أحد الشيوخ تتلخص في:
“ أن نقوم بإعداد جيش من 600 فارس، وأن ندفع أمامه
ستمائة امرأة وفتاة. وعلى مشارف مضارب القبيلة يتوقف
الجيش في صفوف منتظمة، لتتقدمه النساء والفتيات بمسافة لا
تقل عن مائتي متر. تقف النساء في صفوف منتظمة لتفصل بين
المرأة والأخرى مسافة لا تقل عن مترين.. ثم تقوم النساء بنزع
ثيابهن بالكامل ليقفن عاريات “
زاد الصخب بين الشيوخ ليأمر الشيخ بالسكوت وليتكلم واحد
فقط. قال أحدهم:
- ماذا يعني هذا؟
قال المتحدث:
- هذا يعني للعقايبة أننا سنقاتل حتى آخر رجل في القبائل كلها
دفاعًا عن عرضنا وديارنا إذا ما أصرّوا على مهاجمتنا.
- لكن تعرية النساء عار علينا!
- ليس عارًا إذا ما عرف مقصدنا.
- وهل سيعرف؟
158
- العقايبة ليسوا أغبياء إلى هذا الحد!
- وإذا لم يكن هذا التصرف استسلامًا فماذا يمكن أن يكون؟
- دعوة للسلام وحقن الدماء من موقع قوة!
ورغم أن بعض الشيوخ ظلوا معارضين إلا أنهم اضطروا
للخضوع لرأي الأكثرية.
وانفض الاجتماع ليشرع الجميع في تحضير النساء والجيش.
*****
حين صعد جيش العقايبة بقيادة سعيد إلى أعلى الهضبة
الفسيحة المطلّة على بعض مضارب القبائل البدوية رأى ما لم
يكن في الحسبان. على مسافة تقارب المائتي متر تقف مئات
النساء العاريات في ثلاثة صفوف منتظمة، وعلى مسافة منهن
يقف جيش بكامل أسلحته في صفوف منتظمة أيضًا، لا يقل
تعداده عن ستمائة فارس.. أشار سعيد إلى جيشه بالتوقف
وأخذ صفوفه. نظر إلى مساعده في القيادة متسائلا.
لم يعرف ملحم بماذا يجيب فلأول مرة في حياته يرى جيشًا
تتقدمه نساء عاريات على مسافة أمتارمنه، غير أنه توقع أن
يكون للأمرعلاقة بحرب طاحنة إذا ما تم اجتياح صفوف
النساء.
قال سعيد:
- ألا يعني هذا أنهم لا يريدون القتال إلا إذا اجتحنا صفوف
نسائهم، فحينئذ سيقاتلون بكل ما لديهم من قوة.
- هذا ممكن، لكن ماذا سنفعل؟
159
- لن ننتهك أعراضهم وسنبقى واقفين على هذه المسافة من
النساء، وننتظر ردة فعلهم!
- أظن أنك أحسنت التصرف يا سيدي!
فوجئ سعيد بمن دربه على الفروسية يخاطبه قائلًًا سيدي!
- أرجوك أخي ملحم خاطبني باسمي وليس كسيد!
وقبل أن يسمع رد ملحم أمرالصفوف الأولى من الجيش بأن
تستدير إلى الخلف لتصبح ظهورالفرسان وأعقاب الخيول في
مواجهة صفوف النساء. قدّر الشيخ مناور هذا التصرّف من
قائد جيش العقايبة فأمر برفع البيارق الخضر كبادرة للسلام،
ولم تمر سوى لحظات حتى ارتفعت راية خضراء كبيرة في
مقدمة جيش القبائل، ليتبعها عشرات الرايات. وشرعت النساء
في ارتداء ملابسهن والتراجع يمينًا وشمالًًا ليقفن في صفوف
منتظمة إلى جانبي المسافة الفاصلة بين الجيشين، ليصبح
الجيشان أحدهما في مواجهة الآخر دون فاصل بينهما. أمر
سعيد الصف الأول من جيشه بالعودة إلى وضعه الطبيعي.
تقدم الشيخ مناورممتطيًا جواده متقلدًا سيفه يتبعه قائد
جيشه وفارس آخر، وتقدم سعيد يتبعه ملحم ومقبل وفارس
آخر أيضًا.
التقى الطرفان في منتصف المسافة بين الجيشين. قدم الشيخ
مناور نفسه من على ظهر جواده، قائلا:
“ الشيخ مناوربن جدعان شيخ مشايخ بدو الجنوب والنقب“
رد سعيد قائلا:
160
- حيّاك الله يا شيخ!
تردد سعيد للحظات قبل أن يقدم نفسه، فهل يقول أنه ابن
الشيخ عاقب أم ابن العبد قعدان؟ أم فقط سعيد قائد جيش
العقايبة، وحسم أمره قائلا:
- أنا سعيد ابن الشيخ عاقب شيخ مشايخ قبيلة العقايبة وقائد
جيشها.
- حياك الله أيها القائد. لقد قررنا حقن الدماء بيننا وبينكم
وتلبية مطالبكم لإقامة سلام دائم بيننا..
ردّ سعيد قائلا:
- وإن استكثرتم المطالب لفدية أسراكم ولم تلبوها يا شيخ
سيكون السيف وحده بيننا!
- سنلبيها بإذن الله أيها القائد، فما هي مطالبكم؟
- مطالبنا يا شيخ. الولاء المطلق لقبيلة العقايبة. وتقديم فدية
لأسراكم ثلاثين عبدًا وعشر جواردون سن الثلاثين وخمسمائة
عصملية.
لم يفاجأ الشيخ بحجم الطلب فهو كان يدرك أن طلب العقايبة
سيكون كبيرًا لكن ليس أكبر من قدرة القبائل على دفعه.
- أعلن موافقتي على الفدية أيها القائد.. ولتتفضلوا وجيشكم إلى
المضارب ضيوفًا عندنا إلى أن نجهز لكم الفدية وتتناولوا طعام
الغداء.
وافق سعيد على الدعوة فيما أمر الشيخ برفع الرايات الخضر
احتفالًًا بالسلام لتضج النساء بين الجيشين وفي المضارب
161
بالزغاريد وليوعز سعيد إلى مرافقات جيشه ليزغردن بدورهن،
ليتحول اليوم إلى يوم فرح لم تشهد قبائل الجنوب يوما مثله،
وليتبادل الفرسان المصافحة ويقوم بعضهم بالعاب الفروسية
والمبارزة وسط زغردة النساء والفتيات وذبح العشرات من
صغارالإبل والمعز، ولتشتعل المواقد بين المضارب لطهي اللحم
والأرز، فيما انصرف آخرون لجمع العبيد والجواري من أنحاء
مختلفة.. جلس سعيد وملحم وبعض كبار فرسان جيشهما في
مضيفة الشيخ مناور برفقة عشرات الشيوخ إلى أن جهز طعام
الغداء وأحضِِر العبيد والجواري، ودفع الشيخ مناور خمسمائة
عصملية لسعيد، وزاد على ذلك بأن قدم جارية صغيرة تدعى
رهام، لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، هدية للشيخ
عاقب!
شكر سعيد الشيخ مناور على حسن التصرف في الظروف
العصيبة وعلى حسن الضيافة وانصرف عائدًا بجيشه إلى
مضارب العقايبة ليستقبل بالزغاريد ولتقم الافراح والليالي
الملاح لحكمة سعيد في تحقيق كل ما يريده الشيخ دون إراقة
نقطة دم واحده، ليكبر سعيد في عيني الشيخ إلى حد ليس له
مثيل، وفكر لأول مرة في حب ابنته زبيده لسعيد التي رفضت
الزواج من كل من تقدم إليها وهددت بالإنتحار إذا ما أرغمها
على الزواج، من أي من هؤلاء الخطاب، وتمنى في نفسه لو أنه لم
يخص سعيد لوافق على تزويجها له، لكن كيف بعد أن خصاه،
هل يعقل أن يزوج ابنته من خصي معدوم النسل مهما بلغت
162
فروسيته وشجاعته وحكمته ومكانته؟
فرح الشيخ بالجواري العشر اللواتي كن على قدر من الجمال، أما
هذه الصغيرة رهام فكانت على جمال أخاذ، فهي ستسعده في ما
بقي له من أيام في هذا العمر. ولا شك أنها في حاجة إلى دروس في
الغرام من سجاح. منح بعض العبيد ونصف الجواري للأقرب
إليه من شيوخ العشائرفي القبيلة، كما وزع بعض الخيول
والغنائم من المعركة الاولى على أخرين، وقام بإطلاق سراح
الأسرى، وأهدى كل واحد منهم جوادًا وسيفًا ودرعًا وترسًا وأمر
بأن يرافقهم عشرة فرسان إلى أن يصلوا إلى ديارهم.
سجاح استقبلت سعيدًا بأحضانها وراحت تقبله دون أن
تكتفي من تقبيله، ولم تعد تنبؤات عرافة حوران تخطر ببالها،
بعد أن رسخ لديها اعتقاد أن الخصي هو أول وآخر المصائب،
ويا ليت الأمر كان كذلك، فقادم السنين قد يحمل ما هو أسوأ!
وربما أسوأ بكثير..
سعيد قرر أخذ استراحة ليمارس هواياته الموسيقية بالعزف
على العود والناي والأرغول والمجوزوالربابة.. يختلي بنفسه في
مكان بعيد عن الأحياء ويشرع في العزف على آلة ما ووجه زبيدة
يتراءى له في خياله بين لحظة وأخرى ليمعن في العزف.. كان
الناي والأرغول والمجوز من أحب الآلات إليه... وما أن يستغرق
في العزف على المجوز ليتردد صداه بين الأودية ومن سفوح
الجبال حتى تشرع بعض الطيور في التحليق فوق رأسه أو تحط
على مقربة منه.. أما ما لايصدق على الإطلاق فإن بعض النساء
163
اللواتي كن يحتطبن في واد أوأخدود أو سفح أو حتى ترعة
ما، فكن ما أن يسمعن العزف حتى ينزعن ثيابهن ويجلسن
عاريات خاشعات.
*****
164
) 16 ( لقاء سعيد وزبيدة بعد طول فراق!
الشيخ استدعى سعيد لأمرين يشغلان باله، هيبة القبيلة وزبيدة
التي أصبحت صبية فائقة الجمال وترفض الزواج. أرسل عبدًا
ليبلغ سعيد فحضر.. صافح سعيد الشيخ مصافحة الرجال
دون أي إشارة لعبودية، بعد أن رفض الشيخ أن يدع سعيد
يقبل يده. وما أن جلس حتى أمر الشيخ له بالقهوة.
- كيف حالك يا وليدي؟
- سلمك الله يا شيخ.
أريدك يا وليدي أن تقود مائتي فارس من خيرة فرسان القبيلة
وتجوب المنطقة شمالًًا وجنوبًا وغربًا وشرقًا لنشرهيبة القبيلة
في البلاد ولا يعود أحد للتفكيرفي مهاجمتها حتى لو كانت
حكومة السلطنة نفسها، مع أننا يا وليدي لسنا معادين للباب
العالي وولاة السلطنة وحامياتها وقد نقف مع أي محمية تابعة
للسلطنة إذا ما طلبت مساعدتنا في أمر ما.
- وماذا يتوجب علي أن أفعل في القرى والمدن التي أمر منها؟
-لا شيء يا وليدي. استعراض للقوة لا غيركي تعرف كل
قرية ومدينة أنها أمام فرقة من جيش العقايبة الذي لا يقهر.
تخصص بضعة أيام لتجوب المنطقة من كل الجهات مارًا من
المدن والقرى أو على مقربة منها ليري الجميع الجيش ويسمعوا
عنه. وسأمنحك ألف عصملية لشراء طعام وشراب للجيش.
- وماذا عن القدس والقرى الواقعة حولها؟
- القدس مدينتنا يا وليدي والدفاع عنها وعن القرى المحيطة
165
بها من قبلنا واجب علينا، إذا ما تعرضت لأي هجوم، ولا مانع
من أن تشيع بين الناس أن جيش العقايبة هو جيش القدس
والمقدسيين!
- وإذا ما اعترضت جماعة ما طريقنا؟
- تحاورها بالتي هي أحسن وإن أصرت على الشر تحاربها يا
وليدي لتعلن الولاء لنا!
- أمرك يا شيخ سأشرع في التنفيذ حين تطلب ذلك.
- من الغد يا وليدي. اختر أنت الفرسان الذين تريدهم. وعيّّن
أنت نائبًا لك كما تريد.
- أشكرك يا شيخ لهذه الثقة التي تمنحني إياها.
- أنت تستحق هذه الثقة يا وليدي.
وصمت الشيخ للحظة وتابع:
- وهالساع أريد منك خدمة خاصة يا وليدي!
أصغى سعيد باهتمام لمعرفة ماهية هذه الخدمة الخاصة.
- زبيدة يا وليدي رفضت كل الخطاب الذين طلبوا يدها مني
وهددت بالانتحار إذا أرغمتها على الزواج من أحدهم. لزبيدة
معزة خاصة عندي يا وليدي وإلا لأرغمتها على الزواج ممن أريد.
هي الآن تجاوزت العشرين من عمرها ولا أريدها أن تعنّس.
مأساة أختها نعمة قتلتني ولا أريد أن أعيشها ثانية مع زبيدة.
المشكلة أنها ما تزال متعلقة بك ولا تريد أن تنسى طفولتكما. إن
شئت الحقيقة يا وليدي أنني اليوم نادم على ما فعلته لك، نادم
كثيرًا يا وليدي، ولو لم أقم بما قمت به لزوجتها لك.. لكن ماذا
166
في وسعي أن أفعل اليوم وأنت لست قادرًا على الزواج والإنجاب..
أريدك يا وليدي أن تجتمع بها وتقنعها أنك لست أهلا للزواج،
وغير قادرعلى أن تمنحها نسلًًا. اقنعها يا وليدي أن لا أمل منك،
ولتتزوج من تريد. فأنتما اليوم بمثابة أخوين، بعد أن تبنيتك.
- سأفعل ما بوسعي لأقنعها يا شيخ!
- الله يحفظك يا وليدي. عد إلى بيتك الآن وسلم لي على الوالدة
العزيزة. وسأرسل لك زبيدة بعد قليل.
انصرف سعيد فيما استدعى الشيخ زبيدة لتمثل أمامه..
- يا هلا بزينة الزينات.. اشلونك يوبا!
- الله يسلمك يوبا!
- بعدك ما تريدين تتزوجي!
- ما أريد يوبا!
- وتعنسين طول عمرك؟
- اعنّس أتسخم هذا قدري!
- تريدين تتزوجين من سعيد؟!
وأحنت رأسها وهي تهتف بصوت خفيض:
- إيه يوبا!
- لكن سعيد شاب عاجز!
- وأنا أريده!
- يوه! وإذا هو ما يريدك؟
صمتت للحظة لإدراكها أن سعيد يحبها، لكنها افترضت أنه لن
يقدم على الزواج منها نظرًا لوضعه الذكوري. قالت:
167
- ما أتزوج!
- ما تتزوجين؟
- إيه يوبا!
- طيب عالساع يا ابنيتي أسمح لك أن تجتمعي بسعيد وأن تري
رأيه في الأمر! عسى أن تتفقا على أمر. اذهبي إليه إنه ينتظرك!
منذ أن منعت زبيدة من لقاء سعيد وهي لا تراه إلا عن بعد، غير
أنها لم تفقد محبتها الشديدة له. وكان سعيد بدوره قد تجاهل
اللقاء بها دون أن يفقد محبته لها،لإدراكه أن لا أمل مستقبلي
لهكذا حب بين خصي وابنة شيخ. كما أن علاقته بالمرأة كأنثى
اضمحلت بعد أن أصبح نصف رجل وبلا ذكورة كاملة. غير أنها
كانت تختزن في لا وعيه دون أن يدري.. فعلاقته بزبيدة التي
شابها ممارسات جنسية طفولية لم تكن لتتلاشى بهذه السهولة
فاختزنت في لا وعيه دون أن يعرف. وهذا ما كان يتفجر في عزفه
حين يختلي بنفسه ويتراءى له وجهها في خياله.. فألحانه كانت
تتوغل عميقًا في بعدها الإنساني االعشقي، لتبدو وكأنها نداء
لممارسة الحب لا يشعربه إلا النساء وبعض العشاق!
تعطرت زبيدة وتجملت قدر الامكان بعد أن أخبرت أمها أن
أباها سمح لها بلقاء سعيد.
أرادت أمها “حليمة“ أن ترافقها غير أنها رفضت مرافقتها
قائلة “ أبي من أمر بأن أذهب وحدي “ أذعنت لها و تركتها
تذهب وحدها. انطلقت مسرعة نحو كوخ سجاح وسعيد وهي
تدرك أن أباها دفع سعيد ليقنعها بالزواج من غيره، وإلا لما
168
سمح لها أن تقابله.
استقبلتها سجاح بباب الكوخ معانقة فيما وقف سعيد
لاستقبالها، وما أن أخلت سجاح لها الطريق قائلة “ تفضلي يا
بنتي“حتى خطت بسرعة نحو سعيد فاتحة ذراعيها لتلقي
نفسها بحضنه وتشرع بتقبيله على خديه والدموع تنزلق من
عينيها لشدة فرحها.. احتضنها سعيد بكل ما في قلبه من محبة
لها ولم يستطع أن يكبح دموعه هو الآخر، وظلا يتعانقان
لقرابة خمس دقائق، إلى أن ألقت وجهها على عنقه وتوقفت عن
التقبيل لتبقى محتنضة له ويبقى هو محتضنًا لها.. غير أنه
ما لبث أن احتضن رأسها ورفعه عن عنقه لينظر إلى عينيها
ويهتف “زبيدة“ ويشرع في مسح دموعها بيده دون أن يمسح
دموعه، لتهتف بدورها “ سعيد“ وتلقي وجهها ثانية على عنقه.
ملس بيده على شعرها ودعاها إلى الجلوس.
أخلت سجاح لهما الغرفة وخرجت لتجلس في ساحة الكوخ.
أخذت مكانها على فراش أرضي من البسط ليجلس سعيد إلى
جانبها.
- كيف حالك يا زبيدة!
- حالي دونك يا حبيبي لا معنى لها. السجن وحتى الموت أفضل
منها.
أدرك سعيد أن إقناعها بالزواج لن يكون مسألة سهلة، فهي
تدرك أنه خصي ولا أمل في الزواج منه، ومع ذلك تصر على حبه!
- حبيبتي!
169
- حبيبي!
- محبتي لك هي التي دفعتني لأن أجعلك تبحثين عن مستقبلك
بعيدًا عني. أبوك رسم لنا مستقبلنا منذ أن استلب ذكوريتي
ليحرمني من الزواج. وأنت في حاجة لأن تتزوجي من رجل سليم
ومعافى يحبك وتحبينه وتنجبين منه نسلًًا تفرحين به ويكون
إلى جانبك في شيخوختك. وليس إلى رجل فاقد لذكوريته.
- كل الذين تقدموا لي لم يلتقوا بي من قبل وحتى بعضهم لا
يعرفونني، سمعوا أنني فتاة جميلة وأنني ابنة شيخ القبيلة،
وأنا بدوري لا أعرفهم فكيف سأحب من لا أعرفه.
- يا حبيبتي يمكن أن ينشأ الحب فيما بعد!
- وهل أتخلى عن حب رافقني منذ طفولتي لأقامر بحب ممكن
أن ينشأ؟
- لكن هذا الحب فقد أهم مقومات وجوده!
- هذا قدرنا يا حبيبي ولن أهرب منه مهما كان الثمن. لن أتزوج
إلا منك حتى لو لم تقم إلا بضمي إلى حضنك!
- حبيبتي. تدركين أن الشيخ لن يوافق على زيجة كهذه.
ولنفترض أنه وافق هل تعلمين ما مدى العارالذي سيطاله من
أقوال الناس وربما شماتتهم.“ الشيخ عاقب يزوج ابنته من
عبده الخصي“
- لكنك فارس القبيلة وقائد جيشها!
- وهذا لا ينفي عني الخصي والعبودية!
- اذن نهرب أنا وأنت!
170
- يا حبيبتي أين سنهرب سيكلف أبوك جيشًا لمطاردتنا أينما
حللنا..
- إذن نبقى كما نحن.
وتبقين عانسًا مدى حياتك؟
- هذا قدري!
- ليس قدرك! هذا ما اخترته أنت!
- بل أبي الذي اختاره منذ أن أقدم على فعلته معك.
- والآن؟
- ليس لدي ما أضيفه. أنت حياتي ولا أريد من الدنيا غير أن
أكون بقربك. وإذا لم تسمح لنا الظروف سأبقى عانسًا مدى
حياتي.
- وإذا أرغمك أبوك على الزواج من أحدهم!
- سأنتحرقبل أن يتزوجني، لا أريد لأحد أن يدنس جسدًا لم
يمسه غير طهارتك!!!
أطبق سعيد براحتيه على وجهه وتنهد بعمق وهو يتمثل مدى
الحب العميق الذي تكنه زبيدة له، وراح يردد “ يا لهذا القدر
اللعين، يا لهذا القدر اللعين“
صمتا للحظات.. قال سعيد:
- يجب أن لا تتأخري يا حبيبتي أبوك في انتظار ما أسفرعنه
لقاؤنا!
- سأنصرف! وسأعمل على أن نلتقي ليلًًا بين فترة وأخرى.
لم يجب سعيد، فهو لا يحبذ اللقاء لعلها تغير رأيها وتتزوج
171
ليضمن مستقبلها بعيدًا عنه. مد يده ليحتضنها مودعًا.
احتضنته بدورها وراحت تقبله. وانصرفت عائدة إلى بيتها.
سألتها أمها عما أسفرعنه لقاؤهما. قالت لها لا شيء. بقينا على
ما نحن عليه.
ذهبت وأخبرت الشيخ ليضع يده على جبينه ويتأوه مرددا “ لا
حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله “
****
172
) 17 ( سعيد يجوب المنطقة.
أمضى سعيد قرابة عشرة أيام في انتقاء أهم مائتي فارس في
القبيلة، فقد أقام لهم مبارزات ليعرف أمهرهم في الصراع
بالسيوف. وعيّّن ملحم ومقبل نائبين له. وعيّّن قائدا لكل خمسين
فارسًا. ولم يطلب الشيخ إلى أي من أبنائه الإشتراك في الحملة.
وكان جهم يعد نفسه لخلافة أبيه في تزعم القبيلة. فالشيخ كبر
وقد يقضي نحبه في أي لحظة.
لم يفكر الشيخ وكذالك سعيد في أي صدام مع محميات ومقرات
الدولة العثمانية فقد كانت الأخيرة منشغلة بحروب يائسة مع
الروس والنمساويين وشعوب البلقان بعد أن فقدت الكثير من
أراضي الامبراطورية الشاسعة، لتبقى بلاد الشام الخاضعة
لحاميات متعددة أشهرها في حلب ودمشق، تعيش أوضاعًا
مزرية وتدورفيها صراعات قبلية وعشائرية وطائفية وقروية
أعقبت تمردات قامت بها فئات وأفراد ضد السلطنة كان من
أشهرها تمرد ظاهر العمر في الشمال. ولا شك أن أية قوة
ستعترض جيش العقايبة في جولاته سيكون مصيرها الهلاك.
جهز الجيش خلال عشرة أيام وانطلق شمالا مودعًا بزغاريد
سجاح وزبيدة وعشرات النساء. وقد حرص سعيد على رفع بيرق
القبيلة ذي اللونين الأحمر والأخضر، وأصطحب معه قطعة من
بيرق الدولة العثمانية بناء على أوامر الشيخ الذي حرص على
عدم الظهوربمعارضة السلطة، وقد يضطرسعيد إلى رفعه إلى
جانب بيرق القبيلة إذا ما واجهه أمرما.. اجتاز مناطق العبيدية
173
والتعامره ليتوقف في بيت لحم لبعض الوقت ليزور كنيسة المهد
ويتناول طعام الغداء، دون أن يعترض طريقه أحد أويعارض
وجوده في المدينة، فقد حرص سعيد على أن يشيع بين الناس
أن جيشه قبلي وغير معاد للدولة العثمانية بل نصير لها. وهكذا
استقبل بحفاوة من قبل بعض مراكز الدولة التي كان يخدم
فيها قلة من الفرسان لا هيبة لهم في نظرمعظم الناس. وإن كان
آخرون يرون هيبة لهم فقد كانت هيبة محدودة جدًا. شارك في
إعداد طعام الغداء للجيش جميع مطاعم المدينة ودفع سعيد
الثمن كاملًًا مع إكرامية للعاملين جميعًا.
كانت الشائعات التي تسبق الجيش تتحدث عن أصغر
قائد جيش في التاريخ، حتى قيل أنه أصغر من ذي القرنين
الإسكندرالمقدوني فاتح البلدان!، وأن مهارته في الفروسية
لا مثيل لها، رغم أنه لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره،
وتحدثت شائعات أخرى عن جنّي وأخرى عن ملاك، وغيرها
عن شخص باركه الله منذ ولادته وحفه ببركته، ولم يصدق
أحد شائعة تقول إنه خصي وكان عبدًا لشيخ مشايخ العقايبة.
لذلك ليس غريبًا أن يستقبل الجيش عند اقترابه من مدينة
أو بلدة بمئات البشر يقفون في صفين منتظمين، ليمر الجيش
من بينهما وسط تصفيق الناس وزغاريد النساء. وهم يتأملون
وسامة وجمال هذا الشاب الذي يمتطي جواده ويتقلد سيفه
وشعره الطويل ينسدل على ظهره وهو يحيي الناس بتلويحة
من يده دون أن تفارق ابتسامته الساحرة شفتيه.
174
انصرف الجيش من بيت لحم ليجتاز بعض القرى ويحط رحاله
في ضواحي مدينة الخليل ويقضي ليلته فيها.. وليتناول فطوره
في المدينة ويزور المسجد الابراهيمي ويتابع سيره جنوبًا مارًا
ببعض القرى ليبلغ مضارب بدو الجنوب والنقب وليستقبل
هناك استقبال الفاتحين من قبل مئات الفرسان بقيادة الشيخ
مناور ومئات النساء اللواتي شرعن في االزغاريد..
أمضى الجيش ثلاثة أيام في ضيافة الشيخ مناور ومشايخ
المنطقة، بعد أن أقسم الشيخ أنه لن يسمح للجيش بالمغادرة
قبل ثلاثة أيام، ذبح خلالها عشرات صغار الإبل والجداء
والخراف، وأقيم سباق للخيول ومبارزات بالسيف، تألق فيها
فرسان الطرفين. وعرض الشيخ مناورعلى سعيد أن يرافق
جيشه خمسون من فرسان القبائل، فشكره سعيد على ذلك
وأخبره أنهم ليسوا في حاجة طالما لم يعترض تجوالهم أحد.
وحين قدم الشيخ جارية خارقة الجمال في العشرين من عمرها
تدعى “ليئة“ هدية لسعيد، لم يجد سعيد مفرًا من ذلك، فقبلها
ممتنًا وشاكرًا الشيخ على كرمه، ولم يتوقف كرم الشيخ مناور
على ذلك، فقد قام بتقديم جاريتين دون سن الثلاثين لنائبي
سعيد في قيادة الجيش ملحم ومقبل. وقدم الشيخ ثلاثة جياد
مسرجة وثلاثة سيوف وثلاثة دروع وثلاثة تروس للجواري، ما
أشعر سعيد بالحرج أمام كرم الشيخ الفائض,
في اليوم الرابع انطلق الجيش عائدًا متلافيًا المرور بالقرى والمدن
ليصل إلى الضواحي الغربية لمدينة القدس ليتناول عشاءه
175
ويبيت ليلته هناك، استدعى سعيد الجواري الثلاث ليتعرف
إليهن. كان لا يعرف إلّّا اسم جاريته “ ليئة “ وكان اسم جارية
ملحم “زينة“ أما اسم جارية مقبل فكان“ طرفه “ وكانت
الجاريتان على قدرمن الجمال. طلب إليهن سعيد أن يخلدن
إلى النوم بجوار بعضهن، ويتوجب على زينة وطرفة ألا تمارسا
الحب مع ملحم ومقبل إن أرادا ذلك. وعليهما الاستمرار على هذا
الوضع إلى حين الانتهاء من جولة الجيش والعودة إلى الديار.
وصرفهن إلى النوم ليستدعي نائبيه ويبلغهما الأمر نفسه. غير
أن مقبل اعترض قائلا:
- لماذا تمنعنا من الاقتراب من جاريتينا خلال الحملة؟
- لا يعقل أن تنعم وحدك بالمتعة مع جاريتك يا مقبل، بينما
الجيش كله دون جوار يتمتع معهن. حين نعود إلى الديار تمتع
بجاريتك كما تشاء أما خلال الحملة فما ينطبق على فرسان
الحملة ينطبق عليك، لا أريد لاي فارس أن يشعربالغبن.
لم يتفوه ملحم بكلمة فسأله سعيد:
- ما رأيك يا ملحم؟
- الحق معك لا يصح أن نميز أنفسنا عن فرسان القبيلة.
- بإمكانكما أن تذهبا إلى النوم بعيدًا عن الجواري.
****
في صباح اليوم التالي انطلق الجيش ليصل إلى رام الله ويتناول
طعامه فيها، ويتابع طريقه شمالًًا مارًا بالعديد من القرى،
ليستقبل كالعادة استقبال الفاتحين. توقف على مشارف نابلس
176
وبات ليلته هناك.
في الصباح انطلق الجيش نحو مدينة نابلس بعد تناول القليل
من الطعام أحضره جنود من قرى مجاورة. مرالجيش بأطراف
المدينة رافعًا بيرق الامبرطورية العثمانية وبيرق القبيلة، ما دفع
حامية المدينة إلى الوقوف مع الجماهير لمشاهدة هذا الجيش
الذي سبقته أخباره.
توقف الجيش في ضواحي المدينة وتناول طعام الغداء لينطلق
بعد ذلك في اتجاه الشرق الجنوبي قاصدًا مدينة أريحا.. لتوشك
دورة الحملة على الاكتمال، ولتعم شهرة العقايبة فلسطين
كلها وبعض أنحاء بلاد الشام وسط أحاديث عن شاب خارق
الفروسية والجمال يقود جيشهم. وما أن قطع الجيش قرابة
نصف المسافة إلى أريحا حتى شاهد فارسًا يقدم من ناحية
أريحا يعدو بجواده نحوه.أدرك سعيد أن في الأمر شيئًا وأمر
بإسراع السير ليلتقي ذاك الفارس. كان سعيد يتقدم الجيش
فتوقف والفارس يقترب منه. توقف الفارس على مقربة من
سعيد وحياه قائلا:
- السلام على فارس الفرسان سعيد بن عاقب!
- وعليك السلام يا أخ ماذا لديك.
- تعرضت أريحا إلى غزو قبلي كبير قادم من الشرق قتل فيه
عشرات الرجال إضافة إلى جميع فرسان الحامية العثمانية
وسبيت عشرات الفتيات والنساء ووضع مئات الرجال في سجن
المدينة ونهبت المدينة بالكامل، وهي الآن خاضعة لاحتلال
177
الغزاة. تمكنت أنا وأربعة من الفرسان من النجاة والخروج من
المدينة، لعلنا نستطيع أن نستنجد بجهة ما تساعدنا على صد
الغزو. كنا قد سمعنا أنكم تجوبون المنطقة بجيشكم، فأرسلني
رفاقي لأبلغم لنجدتنا، كما أرسلنا رسولًًا إلى الشيخ عاقب ليبلغه
بالأمر.
- ما اسمك أيها الفارس؟
- رشيد يا سيدي.
- أبشر يا رشيد. لقد وصلت وسنعمل على صد الغزاة وتحرير
المدينة. كم تعداد جيشهم؟
- قرابة ألف وخمسمائة!
فوجئ سعيد بالكم الهائل لجيش الغزاة، ما يشير إلى إمكانية أن
يهزم جيشه في مواجهته. وتمنى أن يكون الشيخ عاقب قد أمر
بتجهيز جيش لمساندته. وهو ما حدث بالفعل فقد كلف الشيخ
ابنه فواز بتجهيز جيش لمساندة سعيد حين عرف من الرسول
القادم إليه أن جيش الغزاة كبير..وأرسل رسلًًا إلى القدس
وضواحيها وبيت لحم والخليل وبدو الجنوب ليمدوا الجيش
بالمزيد من الفرسان. وخلال ما يقرب من أربعة أيام كان لدى
الشيخ جيش من ألف وثلاثمائة فارس. وكان من أبرز الجيوش
الوافدة للمشاركة جيش بدو الجنوب، فقد أرسل الشيخ مناور
جيشا من 300 فارس. وأرسلت مدن وقرى المنطقة خمسمائة
فارس وجهز فواز من القبيلة جيشًا من خمسمائة فارس. وقد
حرص الشيخ على أن يخبر ابنه بأن يتقيد بتوجيهات سعيد في
178
إدارة المعركة. لم يكن سعيد قد عرف بما قام به الشيخ فسارع
إلى إخبار مدن وقرى الشمال لإمداده بفرسان، وخلال الفترة
نفسها التحق به قرابة أربعمائة فارس من مدن وقرى الشمال
من رام الله حتى نابلس مرورا بسلفيت.، ليعرف فيما بعد أنه
أصبح يقود جيشًا من ألف وتسعمائة فارس.
كان سعيد قد توقف بجيشه على مشارف أريحا دون أن يكون
ظاهرًا لها، فقد جعل جيشه يكمن في أخاديد خلفية لهضبة
على مقربة من المدينة، بعد أن وصله رسول من الشيخ عاقب
يبلغه أن يؤخر المعركة إلى أن يصل جيش فواز. استغل سعيد
الوقت وأرسل فارسين بزي شعبي ودون سيفين ليدخلا المدينة
كعابري سبيل ليرصدا تموضع جيش الغزاة، وفعلًًا ذهب
الفارسان ودخلا المدينة وتجولا فيها ورصدا مواقع الجيش
دون أن يتنبه أحد لغايتهما.
****
179
) 18 ( معركة أريحا
قدم جيش فواز من الجنوب الغربي، فكان من الطبيعي أن يأتي
إلى أريحا من الجنوب، بينما جيش سعيد سيأتي من الشمال.
وكان على سعيد أن يضع خطته ويرسل من يبلغ فواز بها.
كانت خطة سعيد تنطوي على أن يقوم ستمائة فارس من
جيش فوازبمداهمة المدينة قبيل شروق الشمس، والاشتباك مع
من سيقومون بالدفاع من جيش الغزاة، بينما يظل باقي جيش
فواز كامنًا في الأخاديد خلف التلال، وكذلك جيش سعيد، وحين
يتكاثر فرسان الغزاة على الجيش المداهم، بحيث لا يعود في
مقدوره الدفاع عن نفسه، عليه أن يتراجع منهزمًا إلى خارج
المدينة شرقًا، ويفترض أن جيش الغزاة سيلحق بالمنهزمين وهنا
ينقض باقي جيش فواز من الجنوب وجيش سعيد من الشمال
ويهجم على جيش الغزاة من جانبين. وحين ينشغل جيش الغزاة
في موجهة الجيشين يرتد جيش المنهزمين ليستأنف القتال. ولن
يتغير شيء في الخطة إذا ما تمكنت القوة المهاجمة من البقاء في
أرض المعركة دون أن تنهزم. وفي هذه الحال ينقض الجيشان
للوقوف معها في مواجهة جيش الغزاة.
****
قسم فواز الجيش المهاجم إلى ست فرق. كل فرقة يقودها
فارس. واختار هُديل بن مسلط قائدًا للفرقة الاولى وعدي بن
تغلب قائدًا للفرقة الثانية وظريف بن سرحان قائدًا للفرقة
الثالثة وذياب ولد طعان قائدًا للفرقة الرابعة وزيد الحسيني
180
قائدًا للفرقة الخامسة وهشام المقدسي قائدأ للفرقة السادسة.
ورأى أن تهاجم فرقتا هُديل وعُدي المدينة من الوسط وفرقتا
ظريف وذياب من الجنوب عبر حي من المدينة أما فرقتا زيد
وهشام فعليهما أن تجتازا مدخل المدينة إلى الشمال ومن ثم
تنحرفان لتدخلا المدينة من حي شمالي.. وعين صخر بن مزهر
قائدًا عامًا للفرق الست كما قام فواز بتقسيم باقي الجيش
إلى فرقتين كبيرتين يقود الاولى حسام بن غراب والثانية سيف
الديسي. ويقود الفرقتين عمرو بن هدبه كقائد عام لهما.
بدأ الهجوم قبل شروق الشمس بقليل وحين كانت الشمس تطل
من أفق الجبال الشرقية كان جيشا هديل وعدي يعبران مدخل
المدينة.. كان فرسان الغزاة متفرقين في أحياء المدينة وبعض
بيوتها وحدائقها وملاعبها ومسرحها ولم يستيقظوا من نومهم
بعد، وقد أمضوا ليلهم في اغتصاب النساء والفتيات والأطفال
وشرب الخمر..وحين سمع بعضهم وقع حوافر الخيول راحوا
ينهضون من نومهم مذعورين، غير أن معظمهم لم يتمكنوا
من إسراج خيولهم وارتداء عدة الحرب وحمل السيوف، فراحوا
يحاربون راجلين أو من على ظهور خيول غير مسرجة ليسقطوا
مدرجين بدمائهم، وحين شعر الناس بأن جيشا منقذًا يهاجم
المدينة شرعت نساء في الزغاريد وراح آخرون يصرخون فرحين
وهم ينظرون إلى فرسان الغزاة يهبون من نومهم مذعورين
ليداهمهم فرسان في البيوت أو على مداخلها ليسقطوا جرحى
أو قتلى. لترتفع معنويات سكان أريحا وتزداد زغاريد النساء
181
لنصرة الجيش المنقذ وسط أقوال تتردد بن الناس تشير إلى أن
الجيش المنقذ هو جيش القدس، جيش فلسطين يتقدمه جيش
العقايبة المقدسيين.! وهذا ما أمر به سعيد وطلب إلى فوازأن
يبلغ جيشه بذلك ليخبرفرسانه الناس بهوية الجيش المنقذ حين
يسألون عن ذلك.
استيقظ علقم بن شهاب قائد جيش الغزاة على صهيل الخيول
وصليل السيوف وصراخ الناس وزغاريد النساء. كان أمضى
ليله بتناول الخمر وممارسة الجنس مع فتاتين صغيرتين من
المدينة. وقف بباب مخدعه شبه عار ليرى ماذا يجري، أخبره
فارس من مرافقيه أن جيشًا داهم المدينة، أدرك علقم بدهائه أن
معركة حسب هذا الوضع سيهلكون فيها، أفراد جيشه يحاربون
راجلين ودون عدّة أو على خيول غير مسرجة، وأن لا أمل إلا
بالتراجع أمام المهاجمين وحتى الهرب من أمامهم نحو غرب
المدينة والتجمع هناك. أصدر أوامره لبعض الفرسان فراحوا
يجوبون الأحياء وينادون بالإنسحاب والتوجه إلى غرب المدينة..
وسارع هو إلى ارتداء ملابسه والتقلد بسيفه وعدته ليمتطي
جواده وينطلق غربًا قبل أن يصله أحد من الجيش المهاجم. راح
بعض فرسان الغزاة ممن كانت خيولهم مسرجة يهربون إلى
غرب المدينة أما من لم تكن خيولهم كذلك فكانوا يهربون بها
دون سروج حاملين أسلحتهم وعدتهم، وآخرون لم يتمكنوا إلا
من حمل سيوفهم والهرب راجلين.. وخلال ما يقرب من ساعة
كانت الفرق الست لجيش العقايبة تلتقي لتتجمع في ساحة
182
تتوسط البلدة لتكون بذلك قد حررت نصف المدينة.
أرسل صخر رسولًًا إلى سعيد كقائد للجيوش كلها يخبره أن
جيش الغزاة انسحب إلى غرب المدينة ليتجمع هناك وأنه
يستشيره في ملاحقتهم ومتابعة الهجوم أوالانتظار إلى أن
يهجموا أو الانسحاب.. وجاءه رد سعيد مشيرًا إليه بإخفاء ما
يستطيع من الجنود بين الأحياء لتبقى قلة في الساحة ليرى
مستطلعو جيش الغزاة أن عدد الجيش قليل فيهجمون عليهم
لتسير الخطة كما هو متفق عليها. وهذا ما تم بالفعل، فقد
أشار صخر إلى أربع فرق من فرق جيشه أن يكمن قرابة ثلثي
فرسانها بين أحياء مختلفة في االمدينة، وأبقى على فرقتي هديل
وعدي وقرابة مائة من الفرق الأخرى في وسط الساحة.. وبينما
كان علقم بن شهاب يعيد لملمة جيشه وتنظيم صفوفه وحمل
عدته كان جواسيسه ومستطلعو جيشه يخبرونه أن عدد فرسان
الجيش قرابة ثلاثمئة فارس لا غير.. ما طمأن علقم وجعله
يعتقد أنه سيعود إلى الاستيلاء على كامل المدينة في أسرع وقت،
فأعلن النفير. قسم جيشه إلى ثلاث فرق كل فرقة تضم قرابة
خمسمائة فارس، وجعل كل فرقة تتقدم عبرحي من الأحياء
الغربية ، وقد سار في مقدمة الفرقة التي انطلقت من الوسط.
وحين خرج من الحي توقف في مواجهة الجيش الذي يقوده
هديل وعدي، ويقف أمامهما صخربن مزهر قائد الفرق الست.
توقف علقم في مواجهة مزهر وقد اصطف جيشه خلفه، وظهر
جيشا علقم الآخران وهما يخرجان أحدهما من حي جنوبي
183
والآخر من حي شمالي ليأخذا أماكنهما في صفوف منتظمة
إلى جانبي الفرقة التي يقف علقم أمامها. ليصبح جيش علقم
الكبير في مواجهة جيش صغير، ما أدهش، علقم كيف لم يهرب
هذا الجيش الصغيروهو يرى في مواجهته جيشًا عرمرمًا تعداده
قرابة ألف وخمسمائة فارس. انتابه شك، لا بد أن في الأمر خدعة
ما، وربما يوجد جيش آخر ينتظر الهجوم ما أن تبدأ المعركة.
راودته فكرة يؤخر فيها اندلاع المعركة لعل الأمر ينجلي عمّا لا
تحمد عقباه ويكون في مقدوره التراجع إلى الأحياء الغربية التي
انطلق منها. صرخ بأعلى صوته مخاطبًا صخر“هل من مبارز
بينكم“؟ ألقى صخر نظرة على هديل فاختار فارسا يدعى
شجاع بن مقطم للمبارزة وهو فارس من قبائل بدو الجنوب
مشهود له بالفروسية. تقدم إلى وسط الساحة مقدمًا نفسه:
“ شجاع بن مقطم فارس البيداء يطلب المبارزة’“
اختار علقم واحدًا من أمهر فرسان جيشه، يدعى ورد بن عامر“
تقدم ليقف في مواجهة شجاع ويعلن متحديأ:
“ ورد بن عامرسبع البوادي يتحداك أيها الجيفة.. من أنت
لتطلب مبارزة فارس من جيش يقوده علقم بن شهاب“
رد شجاع قائلًًا:
“ لو كنت فارسًا لاحترمت نفسك وهذّبت ألفاظك ما أنت إلا نعل
حذاء تأبى الأقدام أن تنتعله“!
وحين سمع ورد هذا التحقير الذي لم يسمع مثله من قبل
كرنحوشجاع شاهرًا سيفه. لم يبرح شجاع مكانه وحين اقترب
184
منه ورد لكز جواده وهو يشد عنانه فوثب الجواد على قائمتيه
الخلفيتين رافعًا أماميتيه إلى أعلى ليهوي بهما على رأس جواد
ورد دون أن يتمكن ورد من الاقتراب بسيفه من شجاع، ولم
يكن أمامه إلا أن يتراجع ويحاول أن يهجم على شجاع من جانبه
الأيمن ليفاجأ بحصان شجاع يشرئب ثانية رافعًا رأسه معليًّا
قوائمه ليكاد يطير دون أن تطأ قائمتاه الخلفيتان الأرض،
ورغم أن جواد ورد حاول أن يثب ويعلوغيرأنه ظل على مستوى
منخفض من جواد شجاع، لينهال الآخر بقائمتيه الأماميتين على
رأسه ويكرر ذلك مرتين دون أن تطأ قوائمه الأرض، ليتراجع
جواد ورد إلى الخلف وهو يهز رأسه من شدة الألم، فيما كان
شجاع يقهقه بملء فيه وجيشه يصفق له للطريقة الفريدة في
مواجهة ورد، وكان علقم وأفراد جيشه يقفون في ذهول لمهارة
هذا الفارس في القتال، إذا يبدو أنه درب جواده على الفروسية
أيضًا. راح ورد يدور بجواده حول شجاع، إلا أن الآخر ظل في
مكانه متهيئًا لكل كرّة يقوم بها ورد، ليجد حصانه في مواجهته،
إلى أن أنهك حصان ورد من كثرة الدوران حول مكان شجاع.
ما دفعه لأن يصرخ:
“ لماذا لا تشهر سيفك وتقاتل أيها الجيفة، هل تظن أن حصانك
سيهزمني بهزيمة حصاني؟ “
“ سيفي لا يشهر للقتال إلا للقضاء على النعال أمثالك من
الضربة الأولى“
كادت معنويات ورد أن تنهار وهو يستمع إلى كلام فارس
185
يبدو أنه واثق من نفسه إلى حد كبير. وقبل أن يلكز ورد جواده
ليكرمن جديد فوجئ بشجاع يميل إلى جانب حصانه الأيمن
مشهرأً سيفه موحيًا لورد أن جنبه الأيسر غير محمي ليقوم
بالهجوم عليه. وهذا ما تم بالفعل، فقد أيقن ورد أنه سيقضي
على شجاع بضربة واحده على خصره الأيسر أسفل الدرع الواقي،
دون أن يتمكن شجاع من استعادة جسمه على الحصان ليدافع،
والترس الذي يحمله شجاع بيسراه لن يتيسر له أن يستقيم
ليستخدمه بالشكل المطلوب ليتلقى ضربة سيفه، غير أنه فات
على ورد أن يفكر في أن ضربة سيف شجاع قد تكون الأسبق إلى
جسده. وفيما كان الجوادان يلتقيان وورد يرفع سيفه ليهوي
به على خاصرة شجاع، كان سيف شجاع يمضي بنصله في جسد
ورد من الخاصرة ليقطعه إلى نصفين، نصف هوى على الأرض
ونصف ظل على ظهر الجواد.
ارتفعت سيوف جيش شجاع وعلت صرخاته احتفاء بنصر
فارسهم. وهذا ما أجج غضب علقم فرفع سيفه صارخًا وآمرًا
جيشه بالهجوم مرددًا “هجوم هجوم هجوم “ ثلاث مرات. ولم
يهجم هو بدوره، فقد راح يدير المعركة وهو يقف في خلفية
الجيش. متناسيا مهلته المخترعة ليتبين ما قد يكون مخفيًا وراء
هذا الجيش الصغير. داست خيول علقم نصف جسد ورد الملقى
أرضًا، فتمزق تحت وقع حوافرها، فيما كان حصانه يصهل لا
يعرف إلى أين يتجه بالنصف الآخر الباقي على ظهره، وقدما
ورد ما تزالان عالقتين بالركابين. ولم يجد غير أن ينجرف مع
186
تيار الخيول الهاجمة.
*****
راح جيش صخر يتقهقر متراجعًا في الوقت الذي بدأ فيه باقي
الجيش يخرج من الأحياء الجنوبية والشمالية للمدينة ويقاتل
بشراسة ليوقع علقم في حيرة وارتباك ليصرخ بأعلى صوته
مطالبا بعض كتائب جيشه بالتصدي للهجمات الخارجة من
الأحياء على الجانبين. وهكذا صار جيش علقم يحارب في الأمام
وعلى الجانبين، وقد أخّر صخر تراجع مقدمة جيشه وجعله
يحارب لمساعدة الفرق المهاجمة من الجانبين، ما جعل مقدمة
جيش علقم تتراجع حين وجدت نفسها بين فكي كماشة، ما
أتاح لجميع فرق جيش صخر أن تصبح في الميدان وتطيح
بعشرات رؤوس جيش علقم الذي تابع تراجعه ليخرج من فكًي
الكماشة.. وما أن تكامل تجمع فرق جيش صخر حتى أمر
بالتراجع بأقصى سرعة والانسحاب ليتيح لجيش علقم اللحاق
به.
أدرك علقم أن انسحاب الجيش المهاجم ناجم عن تصورقادته
لعدم قدرته على الصمود إلى آخر المعركة فأمروا بالانسحاب
السريع، ولذلك أمرعلقم جيشه بالهجوم السريع ليلحق
بالجيش المنهزم إلى خارج أحياء المدينة، وقد بات على يقين
أنه لم يعد هناك كمائن غير التي ظهرت حتى حينه، وأنه أمام
جيش صغير مقارنة بجيشه، وسيلحق به ليسحقه.. غير أن
توقعاته خابت وانهارت معنوياته حين أصبح خارج المدينة،
187
وعلى مسافة تقارب أربعين مترًا من الجيش المنهزم ليرى جيشًا
عرمرمًا ينحدر من السفوح الجنوبية، وجيشًا آخر ينحدر من
السفوح الشمالية، ولم يجد غير أن يصرخ بأعلى صوته مطالبًا
فرق جيشه بالتهيؤ لمواجهة الجيوش المهاجمة من الجنوب
والشمال وأبقى على فرقة تواجه الجيش المنهزم الذي بدا أنه
أوقف انهزامه وارتد ليقاتل!
صرخ علقم بأعلى صوته شاتمًا وقد أدرك أن هزيمته واقعة لا
محالة “ يا أولاد الكلب متى تسنى لكم إعداد هذه الجيوش“؟
وهو يرى جيشه يلتحم بالجيوش المنقضة من الجانبين، ليقع
للمرة الثانية بين فكًي كماشة أدهى وأمر، ليصرخ بأعلى صوته
“ الصمود الصمود يا أبطال البوادي “ غيرأن دعوته للصمود
انهارت تمامًا وهو يرى إلى فارس كان يتقدم الجيش المنقض
من الشمال، يخترق جيش أبطال البوادي وشعره يلوح على
كتفيه من تحت الخوذة ويشرع بجز الرؤوس عن يمينه
وشماله وكأنها قوالب جبن أو رؤوس من البطيخ! اعتقد علقم
أن هذا الفارس جنّي بالتأكيد وتمنى أن لا يكون سعيد بن
عاقب الذي ذاع صيته، ولم يكد ينهي تمنيه إلا وأصوات بعض
قادة جيوشه تصرخ بين المتقاتلين سعيد بن عاقب اهربوا أو
استسلموا! اهربوا أو استسلموا “ فخارت قوى علقم تمامًا، ولم
يجد غير أن يصرخ مطالبًا جيشه بالصمود، لكن ما أن رأى
سعيد ينحرف في اتجاهه ويقدم نحوه جازًّا الرؤوس من أمامه
حتى لوى رأس جواده وولًًى هاربًا. غير أن سعيد تمكن من قتل
188
كل من كان يقف في طريقه ولحق به على ظهر حجلان.. أدركه
على بعد قرابة مائتي متر، صرخ به توقف أيها الجبان. وحين
أدرك علقم أن سعيدًا لم يقتله وطلب إليه التوقف، بات يأمل
بالنجاة برأسه، فتوقف.
- من أنت وما اسمك؟ قال سعيد.
- أنا علقم بن شهاب سيد هذه المنطقة!
- من أي قبيلة أنت؟
- لا أعرف.
- هل لك عمل غير الغزو والسلب والنهب؟
- لا هذا هو عملي..
- وأين مجال عملك؟
- منطقة وادي الأردن كلها والقرى والمدن الواقعة شرقها
وغربها..
- ولا شك أنك تجعل سكان هذه المناطق يعيشون في رعب دائم.
- أجل! لذلك يدفع معظمهم ضريبة لي. مدينة أريحا رفضت
دفع الضرائب فغزوتها.
- وتجعل الناس يرزحون تحت نيرضريبتين للدولة ولك، وهم
بالكاد يحصلون على قوتهم.
- هل تعتقد أنك تقوم بعمل مشروع وأنك لست لصًا وقاطع
طريق وقاتلًًا؟
- في أعرافنا هناك غزو وسلب ونهب، وعملي قد يتفق مع ذلك
العرف!
189
- الله يخرب بيتك وبيت أعرافك.
- ماذا تحكم على نفسك ؟
- أن لا تقتلني!
- وهل أترك من قتل مئات الرجال وسبى مئات النساء ونهب
المدن والقرى دون عقاب؟
- رحمتك ايها الفارس سعيد!
- الرحمة لمن يستحقها. هيا أشهر سيفك حتى لا يقال إنني
قتلت مستسلمًا!
وكانت هذه فرصة لعلقم ليؤكد استسلامه لعله ينجو من
العقاب!
- أنا مستسلم فكيف أشهر سيفي؟
وألقى بسيفه أرضًا وهم بالنزول عن ظهر جواده. غير أن سعيد
رأى في نفسه أن قتل هذا الرجل واجب لإنقاذ الناس من شره.
فلكزه برأس سيفه ليعدّل جلوسه على حصانه. عاد علقم إلى
الاستواء على ظهر جواده ليعاجله سعيد بضربة تطيّّر رأسه
بعيدًا عن جسده، وليمسح سيفه من الدم بثياب علقم وينثني
عائدًا إلى الجيش.
كانت جيوش سعيد قد أحاطت بجيش علقم من كل الجهات
وأوغلت قتلًًا فيه فقتلت وجرحت قرابة خمسمائة منه. لينحشر
الباقون في دائرة وسط جيش سعيد ويعلنوا استسلامهم ملقين
سيوفهم وتروسهم خالعين خوذهم ودروعهم مترجلين عن
خيولهم. جالسين على الأرض خالعين ملابسهم العلوية وأيديهم
190
على رؤوسهم، حسب ما أمر به القائد فواز ابن الشيخ عاقب.
حيّا سعيد جيشه لبطولته وهنأه بالنصر وهو يقف إلى جوار
فواز ابن الشيخ وقادة الفرق. فارتفعت السيوف والقبضات
وانطلقت صرخات البطولة ثلاث مرات.هتف فواز مخاطبًا
سعيد:
- ماذا نفعل بقطاع الطرق هؤلاء؟
- خذوا عهدًا منهم أن لا يعودوا إلى قطع الطرق والسلب والنهب
ودعوهم يحملون قتلاهم وجرحاهم وينصرفون.
- وهل يحفظ أمثال هؤلاء عهدًا، أشك في أنهم سيتركون عاداتهم
إن تركناهم وسيعودون إلى تشكيل جيش للغزو والسلب والنهب.
- ماذا تقترح؟
- أن نعدمهم كلهم؟
- يا رجل هذه مجزرة لقرابة الف انسان؟
- وهؤلاء مجرمون وقتلة يستحقون الموت. وبقتلهم يعم الأمن
في البلاد إلى الأفضل، فالدولة منشغلة بحروبها وتاركة البلاد في
فوضى عارمة.
فكر سعيد للحظات في إمكانية أن يكون بين هؤلاء من لم يقتل
أحدًا في الغزوات، واكتفى بحصته من السلب والنهب، وقد لا
يستحق الموت! طرح الفكرة على فواز،، فقال:
- لو أعلنا لهم من لم يقتل أحدًا منكم ليخرج ويقف جانبًا
لخرج معظمهم.
- طيب اخدعهم وأمربأن يخرج من لم يقتل إلا رجلين ليخرج،
191
ليشعروا أننا لن نعدم إلا من قتل أكثر من اثنين.
استشار فواز القادة الآخرين في الجيش الذين كانوا يقفون إلى
جانبيهما ويستمعون إلى الحوار، فوافقوا على رأي سعيد.
خاطب فارس حشد الأسرى بصوت عال:
“ من لم يقتل منكم إلا شخصين لينهض ويخرج ليقف جانبًا!“
احتار أسرى الغزاة في أمرهم فهل يعني هذا أنهم لن يعدموا من
قتل اثنين فقط! حبذ بعضهم تنفيذ الأمر لعل فيه خيرًا، فرا حوا
يقفون من بين الجالسين ويخرجون. ووقف واحد ليقسم بالله
أنه لم يقتل أحدًا. أشار إليه فواز أن يخرج ويقدم نحوهم. وقف
الجندي وهو يردد قسمه ويصف حاله:
“ والله لم أقتل أحدًا ولم أشارك إلا في هذه الغزوة لفقر حالي،
فخلفي زوجة وأربعة أطفال“
أشار سعيد إليه أن يقف جانبًا لإحساسه بصدقه. وقد خرج
قرابة خمسين ممن لم يقتلوا إلا اثنين. فأمروا بالجلوس جانبا
دون رفع أيديهم. وخرج عشرون ليعلن كل منهم أنه لم يقتل إلا
واحدًا! فأمروا بالجلوس في جانب آخر دون رفع أيديهم.. وخرج
قرابة ثلاثين ليقسموا ويعلنوا أنهم لم يقتلوا أحدًا ولن يعودوا
إلى السلب والنهب ثانية.
توقف الخروج والجميع ينتظرون النهاية. نظر فواز إلى سعيد
مستشيرا.. قال:
- أشعر أن بين الثلاثين هؤلاء الذين أعلنوا عدم قتل أحد أن
بينهم صادقين. فاطلق سراحهم حتى لو كان بينهم كذابون.
192
وهكذا تمكن سعيد من انقاذ حياة ثلاثين فارسًا. أمرفواز
بإعدام الباقين جميعًا بقطع رؤوسهم بالسيوف. اختار ثلاثين
فارسًا كسيافين. واصطفوا واقفين ليتقدم الأسرى أيضا في
ثلاثين ثلاثين، وكان أول من قدموا إلى الاعدام من ادعوا أنهم لم
يقتلوا إلا واحدًا أو اثنين.
لم يحبذ سعيد رؤية مشاهد الاعدام فأمر بأن تنتظم باقي
الجيوش للإنسحاب من أرض المعركة لدخول المدينة محررين.
كان قد قتل من جيش سعيد في المعركة قرابة أربعين وجرح
قرابة خمسين.. فحملوا على خيول، فيما راح آخرون يجمعون
غنائم الحرب ويحمّلونها على خيول، ويسوقون باقي الخيول في
مؤخرة الجيش.
أنهت فرقة الاعدام عملها وانطلقت بانتظام خلف الجيش تاركة
ساحة المعركة مكتظة بجثث المئات من القتلى والذين أعدموا عدا
مئات الجرحى.
كان سعيد يتقدم فرق الجيش داخلًًا المدينة وإلى جانبه فواز
ابن الشيخ عاقب وخلفهما قادة الجيش، وكان قائد كل فرقة
يتقدمها، ليدخلوا المدينة بانتظام فائق، وسط استقبال المحررين
من سجن الغزاة وآلاف الرجال والنساء والشباب وهم يلقون
الورود على الجيش وتطلق النساء مئات الزغاريد وينثرن الأرز
على رؤوس الفرسان من على جنبات الطريق ومن فوق سطوح
المنازل.
حط الجيش رحاله وسط المدينة وأدخل الجرحى والقتلى إلى
193
المارستانات وقام أهل المدينة بذبح الإبل والبقر والأغنام لإطعام
الجيش، وسط احتفالات وابتهاج الناس بتحرير المدينة. ورفعت
بيارق مختلفة في الساحات وعلى سطوح المنازل تمثل جميع
الفرق والكتائب التي شاركت في تحرير المدينة وقد حرص
سعيد على أن يرفع بيرق السلطنة إلى جانب بيرق العقايبة.
استدعى سعيد وجهاء المدينة وأشار عليهم بانتخاب واحدًا
من بينهم ليكون واليًا على المدينة بدل الوالي الذي قتل من قبل
الغزاة. انتخب الوجهاء كبيرهم المدعو منعم بن سلمان، وسط
اعجابهم بهذا الشاب الجميل الوسيم الذي سمعوا بفروسيته
دون أن يسمعوا عن جماله. وقد انتشرت أخبار النصر في معظم
المدن والقرى ليبتهج الناس بهذا النصر المؤزر الذي قلّ نظيره
في بلاد الشام كلها. وليصل صيته بعد أيام إلى الباب العالي في
اسطنبول ليباركه السلطان ويثني على قائده الشاب الذي سمع
عن فروسيته.
بعد تناول طعام الغداء أمر سعيد بأن يعود الفرسان إلى القرى
والمدن التي جاءوا منها وخاصة من الشمال والشمال الغربي،
كون طرقهم لا تتفق مع وجهة الجيش إلى الجنوب الغربي. وأن
يصطحب كل واحد منهم جوادًا وسيفًا ودرعًا وخوذة وترسًا
من غنائم الحرب، وأن يصحبوا معهم جرحاهم وجثث قتلاهم
ليدفنوا في مدنهم وقراهم.
أبقى سعيد على مائة فارس بقيادة بشر بن سرحان تحت إمرة
والي المدينة، ليحافظوا على الأمن في المدينة وما حولها. وانطلق
194
عائدًا بجيشه إلى الجنوب ليكمل دورته في المنطقة، ويكمل
مهمته على أكمل وجه، وينشر صيت القبيلة في بلاد الشام كلها
كقبيلة مقدسية وجيشها جيش فلسطيني مقدسي! وبشر بن
سرحان الذي عينه سعيد قائدًا لفرقة أريحا فارس مشهود له
بالنزاهة والشجاعة وحسن الأخلاق والسلوك.
ودع سعيد وجيشه بالزغاريد ونثر الورود والأرز على الجيش،
ليستقبل في مضارب قبيلة العقايبة بمثل ما ودع به وسط فرحة
وبهجة الشيخ عاقب وزغاريد سجاح وزبيدة ومئات النساء
والفتيات. وشيعت جنازات تسعة قتلى من القبيلة إضافة إلى
خمسة قتلى من بدو الجنوب في موكب مهيب. تتقدمه بيارق
القبائل وتحف به زغاريد النساء ويسير إلى جانبيه عشرات
الفرسان..
كان فرسان بعض مناطق القدس وبيت لحم قد افترقوا عن
الجيش مصطحبين قتلاهم وجرحاهم وغنائمهم من الخيول
والعدّة ولم يبق في القبيلة إلا جيش بدو الجنوب والنقب، فقد
استضافه الشيخ عاقب لثلاثة أيام لينصرف بعد ذلك مصطحبًا
غنائمه مودعًا بزغاريد النساء.
****
195
) 19 ( سعيد يعتق ليئة!
سعيد أسكن جاريته ليئة في الكوخ مع أمه. فرحت سجاح بها
وشملتها برعايتها وأفردت لها ركنًا في الكوخ تقيم فيه. لم
يجالسها سعيد مطولًًا حتى حينه. كان بين فينة وأخرى خلال
قيادته للجيش يستدعيها ليطمئن عليها ويصرفها، وكانت
الحال نفسها حين أسكنها مع أمّه. فباتت في حيرة من أمر
سيدها الفارس الجميل الذي لم يبادلها ولو مجرّد قبلة. ولم
يشعرها يومًا أنها جارية مملوكة له، تأكل مما يأكل وتشرب مما
يشرب وتنام على فراش لا يختلف عن فراشه. فكرت في أن تسأل
أمه غير أنها تخوفت من عواقب السؤال فلم تفعل، كما فكرت
في أن تقوم بغوايته ولم تفعل أيضًا حين وجدت أنه غير مهتم
بما يشير إلى رغبة جنسية لديه. وبالفعل كان سعيد كذلك فهو
لم يعد مهيئًا نفسيًا لأية علاقة جنسية مع المرأة، لإحساسه أنه
لم يعد قادرًا على ممارسة الجنس، ولم يفكر يومًا في أن يختبر
نفسه، ليرى ما إذا يحدث لديه انتصاب. كان ما أن يخطر الأمر
بباله حتى يصرف عقله عنه حتى لا ينزعج ويتوترويصبح في
حالة نفسية سيئة. وبعد أن عرفت سجاح أنه لا يحاول ولو
لمجرد المحاولة مع جاريته، اختلت به وسألته لماذا لا يحاول
“ فالخصي يمكن أن يحدث لديه انتصاب ويمارس الجنس،
شريطة أن يكون مهيئًا نفسيًا لذلك “ أجابها أن الأمر انتهى
بالنسبة إليه ولا يفكر فيه ولن يفكر إطلاقًا، لإدراكه أنه سيكون
جنسًا سخيفًا ناقصًا وغير كامل، وقد يفاقم وضعه النفسي!
196
تقبلت سجاح الامر ولم تعد تطرقه معه.
وحين كان يعزف على العود ذات أمسية كانت ليئة تصغي
باهتمام إلى عزفه الجميل. وحين أنهى اللحن راحت تصفق له
مبتهجة بما سمعت. ليخاطبها بعد ذلك قائلًًا:
- هل أعجبك اللحن يا ليئة؟
- كثيرًا يا سيدي ويا ليتني أستطيع أن أتعلم العزف.
- ولماذا لا؟ يمكنك أن تبدأي من اليوم!
- هل تسمح لي يا سيدي؟
- هذا حقك ولست في حاجة لأن أسمح لك. ويا ليتك تخاطبينني
باسمي دون سيادة عليك!
تساءلت بدهشة:
- باسمك يا سيدي؟
- أجل باسمي!
- أنا جاريتك يا سيدي وهذا أمر صعب علي لم أعتده.
- أنت لست جاريتي ولست جارية أيضًا أنت فتاة حرّة ويمكنك
أن تعيشي حريتك حسب أعراف وعادات القبيلة.
- هل يعني هذا أنك تعتقني يا سيدي؟
- أنا لم أتملكك يومًا لأعتقكك فأنت حرة منذ أن رافقتني
وشاركتني حياتي. وإذا كنت تعتبرين نفسك جارية فأنا أعتقك!
وودت أن تسأله لماذا لا يعاشرها كحق له. غير أنها تجاهلت
الأمر وقالت:
- وأين سأذهب يا سيدي فأنا منذ أن سبيت من بيت أهلي طفلة
197
وأنا أتنقل من حضن إلى حضن آخر. وإذا خرجت من بيتك لن
أعرف إلى أين سأذهب.
- تعودين إلى أهلك مثلًًا.
- لا أضمن أن يتقبلني أهلي بعد أن عرفني أكثر من سيد. هذا إذا
استطعت العثور عليهم، فهم دائمًا في رحيل وترحال!
- تبحثين عن عمل في المدينة وتعيشين حريتك!
- لم أعرف عيشة الحريّة يا سيدي.
- أن تعيشي حياتك كما تحبين أن تعيشيها.
- أظن أن حريتي سلبت منذ أن سبيت في غزو يا سيدي وليس
في الإمكان استعادتها.
- لم يسلب كل شيء يا ليئة. تستطيعين أن تعملي وتعيشي دون
أن يتحكم بك أحد.
- لا أريد أن أتشرد يا سيدي، كما أنني في حاجة إلى رجل
يحميني.. إذا في الامكان أن تبقيني معكم لأعمل لديكم سأكون
سعيدة.
- ليس لدينا غير عمل البيت وربما مساعدة أمي في أعمال الشيخ.
- سأعمل ذلك بكل سرور.
وهنا دخلت سجاح وقد سمعت آخر الحوار لتقول:
- أهلا بك يا بنتي. البيت بيتك. تعيشين معنا لن ندعك تتشردين.
وهمّت لتأخذ يد سجاح وتقبلها وهي تردد “ شكرًا لك يا سيدتي
“ غير أن سجاح لم تتح لها أن تقبل يدها. وجلست إلى جانبها
وضمتها إليها. ألقت نفسها على صدر سجاح والدموع تنحدر
198
فرحًا من عينيها.. ضمتها سجاح بحنان وراحت تربت على
ظهرها. لا عليك يا بنتي أنت منذ اليوم ابنتي فقد حرمت من
أخت لسعيد.
تأثر سعيد لما جرى وذرفت عيناه بعض الدموع!
- شكرًا يا أمي وأنا كنت أفضل أن تبقى ليئة معنا على أن تتشرد
في عالم لا يرحم.
ويسرني كثيرًا أن تكون بمثابة أخت لي. وسأضعها في عيني!
وهنا لم تعرف ليئة كيف وجدت نفسها تقترب من سعيد وتلقي
نفسها على صدره وتحتضنه، ليحتضنها بدوره ويقبلها على
جبينها وهو يربت على ظهرها كما فعلت أمه.
أحست ليئة بما لم تشعر به في حياتها، وبدت في غاية السعادة
وشرعت في تقبيل خدي سعيد والتمليس على شعره الطويل.
نهضت سجاح وانصرفت إلى شأنها لتتركهما متعانقين. مدّ
سعيد يده إلى العود وهو يهتف بصوت خفيض “ هيّا يا ليئة،
سأعلمك العزف على العود“
- صحيح؟
- أكيد وراح يشرح لها عن العود وأوتاره ونغماته.
*****
الشيخ عرف بالتآخي بين ليئة وسعيد ولم يعلّق، وتقبل أن
تكون ليئة بمثابة أخت حرة له كما هو حر، وإن كان يفضل
لو أنها ظلت جارية لربما ساعدت على إبعاد زبيدة عن سعيد
لتتزوج.
199
زبيدة التقت ليئة أيضًا وفرحت بها كثيرًا، وخاصة بعد أن عرفت
أنها أصبحت أختًا لسعيد. أوصتها بأن تهتم بسعيد وتعتني به
قدر استطاعتها.. لمست ليئة أن زبيدة تحب سعيدًا حبًا لا مثيل
له، فهي لا تحلف إلا باسمه، وما أن تلتقي بها حتى تسارع إلى
طرح مجموعة أسئلة عن سعيد “ كيف صحته؟هل يأكل جيدًا؟
هل يشكو من شيء؟ هل يزعجه أحد؟ هل تغسلين ثيابه، هل.. “
وكانت ليئة تجيب أنها لا تدعه يحتاج شيئاّ وأنها تسر بعزفه
وأنها قطعت شوطًا مقبولًًا في تعلم العزف على العود بفضله..
ولأول مرة قررت ليئة أن تطرح الاسئلة التي كانت تتحاشى
طرحها حتى لا يقال إنها فضولية أكثر من المعتاد.
- هل يمكن أن أسألك حبيبتي زبيدة؟
- اسألي!
- طالما تحبين سعيد وهو يحبك ما الذي يمنع أن تتزوجا؟
أدركت زبيدة أن ليئة لا تعرف شيئًا عن سعيد وأمّه. أطرقت
للحظات لتهطل دمعتان من عينيها.
أحست ليئة أنها نكأت جرحًا عميقًا في نفس زبيدة. فراحت
تعتذر:
“ أنا آسفة حبيبتي.. أنا آسفة “
مسحت زبيدة دموعها بأصابع يدها وهمست:
- لا تتأسفي يا عزيزتي.. سعيد لم يكن حرًا، كان ابنًا لجارية
وعبد، الجارية هي سجاح أما العبد فلا أعرفه. عرفت أننا ولدنا
أنا وسعيد في يوم واحد، وعشنا طفولتنا معًا. وأحببنا بعضنا.
200
وحين بلغ حدود العاشرة لم يكن أحد من أبناء القبيلة يفوقه
وسامة وجمالًًا وقوة. كان يهزم كافة الأطفال في المصارعة
والجري وغير ذلك.. وحين رآه أبي يهزم جميع الأطفال قرر أن..
وهنا توقفت زبيدة ولم تستطع لفظ الكلمة، وقد عادت دموعها
إلى الانزلاق، غير أنها هتفت بصعوبة:
.. قرر أن يخصيه خوفًا من أن تهيم بنات ونساء القبيلة بحبه
حين يكبر. وهذا ما تم!
دمعت عينا ليئة بدورها وهي تسمع ما لم تتوقعه على الاطلاق،
بينما زبيدة تتابع:
- وحين كبر سعيد وأصبح فتى دخل دورة فروسية ولم يتغلب
عليه أحد، وحين أصبح شابًا خاض أول حرب مع الغزاة، ونظرًا
لمهارته وبطولته قررأبي أن يعتقه ويعينه قائدًا لفرسان القبيلة!
هذا ما يمنعنا من الزواج.. رغم أنني رفضت الزواج من كل من
تقدموا إلي من أبناء الشيوخ، وأعلنت لأبي حبي لسعيد وأنني
سأنتحركما انتحرت أخت لي، إذا ما أرغمني على الزواج من غير
سعيد.. هذا هو وضعنا أنا وسعيد يا حبيبتي.
ولم تجد ليئة إلا أن تضم زبيدة إليها وتعانقها بحنان غامربعد
أن عرفت الحقيقة. وحين عادت إلى الكوخ راحت تعانق سجاح
وتقبلها بحرارة ثم تهرع نحو سعيد لتحتويه وتقبله كما لم
تقبله من قبل!وقد شعر أنها عرفت الحقيقة من زبيدة.
****
سجاح جلست إلى جانب سعيد ومدت يدها على كتفيه وعانقته.
201
- ماذا يا أمي، يبدو أن لديك امرًا ما!
- صحيح يا حبيبي؟
- ما هو؟
- عواء الذئب هذا لم يعد يعجبني؟
- تقصدين لقاء أبي؟
- ليس هناك غيره.
- ماذا بإمكاني أن أفعل؟
- مكانتك لدى الشيخ أصبحت كبيرة بعد أن أصبحت قائدًا
لجيش القبيلة وفعلت ما لم يفعله غيرك ولن يرفض لك طلبًا.
- هل تظنين ذلك؟
- أجل!
- ماذا تريدين أن أطلب منه؟
- أن يعيدني أنا وأبوك إلى بعضنا!
فوجئ سعيد بما لم يتوقعه.
- ألن يغضب طلب كهذا الشيخ؟
- لن يغضبه يا حبيبي فالشيخ لم يقربني منذ سنين ولم ولن
يعود إلي بعد أن شخت. فهو مغرم بالصغيرات ولديه بعضهن
كهذه الصغيرة رهام المهداة من الشيخ مناور. كما أنّه هرم
بدوره.
صمت سعيد للحظات..
- سأفعل يا أمي وسأكون سعيدًا إذا ما التأم شملكما أنت وأبي.
- هيا يا حبيبي!
202
*****
ارتدى سعيد ما يليق بمقابلة الشيخ. وحين بلغ المضيفة التي
يجلس فيها تحدث إلى العبد حامد الواقف إلى جانب الباب بعد
أن حياه:
- أخبر الشيخ أنني أريد مقابلته.
دخل حامد وعاد ليقول: تفضل الشيخ في انتظارك.
ما لم يتوقعه سعيد أن الشيخ نهض لمصافحته.. حاول سعيد
الانحناء لتقبيل يده غير أنه سحبها ومنعه من تقبيلها كعادته
حين يحاول سعيد ذلك احترامًا للشيخ.
- تفضل يا وليدي.. القهوة يا حامد!
وما أن شرب سعيد القهوة حتى تساءل الشيخ:
- خير يا وليدي؟
- ما فيه غير الخير يا شيخ!
- اطلب يا وليدي!
- أخاف أن أحرجك بطلبي يا شيخ.
- ما فيه طلبات تحرجني يا وليدي، أطلب وما عليك!
- عرفت من أمي أن أبي ما يزال على قيد الحياة وأنها تود لو
أنك تسمح لهما بالعودة إلى بعضهما إذا لم تعد في حاجة إليها.
أطرق الشيخ مطولًًا وهو يمرر سبابته اليسرى أسفل شفته
السفلى دون أن يعرف سعيد في ماذا يفكر، وما لبث أن هتف:
- ابشر يا وليدي.. خلهم يعودوا لبعظهم!!
- عاجز عن شكرك يا شيخ!
203
- وكمان يا وليدي أعلن عتقهما ليعيشا حريتهما، وليعملا
بأجر وليعيشا كأي أسرة في القبيلة لا فرق بينهما وبينها..
وأعلن لك منذ الآن تقديم مائة رأس من المعزلكم تعتاشون منها
حين تحتاجون إليها، أما وأنتم في حمايتي فستأكلون مما نأكل
وتشربون مما نشرب. وسأقدم لكم كوخا أكبر من ثلاث غرف.
غرفة لك وغرفة لوالديك وغرفة لليئة.
- إلهي يطول عمرك ويحفظك لنا يا شيخ!
- لكن لي طلب عندك يا وليدي!
- أنت تأمر يا شيخ!
- أنت ما تزال ابني بالتبني واريدك حين تضطر إلى الاعلان عن
هويتك أن تقول أنك سعيد ولد الشيخ عاقب كما كنت تقول
حتى اليوم!
- ولن يكون غير هذا يا شيخ فأبوتك تشرفني!
- الله يزيدك شرف يا وليدي، يله هالساع روح زف الخبر لأمك
خليها تفرح، ولازم نعمل إلهم عرس من جديد وننقلهم إلى كوخ
أكبركما أخبرتك.
لم تتسع الدنيا لفرحة سجاح وسعيد يزف لها الخبر، ولم تتسع
لها أيضًا حين أمرالشيخ بنقلهم إلى كوخ أكبروإقامة حفل زفاف
لها هي وقعدان، ليكون أول حفل زفاف من نوعه في تاريخ
العبودية.
سارع سعيد إلى امتطاء جواده ليزف الخبر لأبيه. لم تتسع
الدنيا لفرح قعدان وهو يودع رفاقه العبيد ويتمنى لهم الخير،
204
وقد يعود إلى العمل معهم في البساتين إن وافق الشيخ، فهو لا
يستطيع أن يبقى دون عمل. أركبه سعيد على جواده وسارهو
راجلًًا.. استقبلتهما سجاح بالزغاريد، لترافقها ليئة بزغاريد
قل مثيلها. وأمر الشيخ بإقامة الأفراح لحفل الزواج، فاقيمت
الأفراح والليالي الملاح كالعادة، وغنت النساء وزغردن ورقصن،
ودبك الرجال وأقاموا سوامر الأهازيج، وعزفت النايات والأراغيل
لثلاثة أيام بلياليها.
*****
205
) 20 ( القحط!
مرعامان من الخصب واستقرار الأمن في ربوع البلاد،غير أن
العام الثالث أنذر بقدوم سنة قحط، لقلّة الأمطار فيه، ولم ينبت
الزرع كما ينبغي، وخاف الناس عليه من الموت حين راحت
أوراقه تصفر، ففضل الناس أن ترعاه قطعان الأغنام على أن
يموت. وهكذا أطلق رعاة الشيخ وكثيرون قطعان أغنامهم
في حقول القمح والشعير بعد أن أصبحت المراعي شبه جافة
وقاحلة، وكثرت هجمات الذئاب على القطعان حتى في وضح
النهار، ما دفع الشيخ لأن يستنجد بسعيد قائلا:
“ سعيد يا وليدي رافق هؤلاء الرعاة الكسالى وساعدهم على
حماية القطعان من هجمات الذئاب، ألا يكفينا ما يخلفه القحط
حتى تقع أغنامنا فريسة للذئاب“
“ ابشر يا شيخ والله لن أتيح لذئب الاقتراب من القطعان طالما
أنا حي “
وهكذا رافق سعيد الرعاة لحماية القطعان دون أن يكون
راعيًا. وحين واجه أول هجوم لذئب راح يعدو خلفه إلى أن
لحق به وأمسك من إحدى رجليه الخلفيتين ورفعه ليطوح به
في الهواء ويضربه بالأرض، ويدوس بقدمه على عنقه، ويخرج
مقصًا ليقص قطعة من عرض أذني الذئب على شكل قوس
وهو وسم قطعان الشيخ، ليطلق سراح الذئب بعد ذلك لينهض
متهالكًا موليًا الأدباروالدماء تهطل من أذنيه..
راح سعيد يبحث عن الذئاب والضباع في الأودية وحتى في
206
أوكارها.. في اليوم الأول ألقى سعيد القبض على ثلاثة ذئاب
ووسمها بوسم القطيع وأطلق سبيلها، وفي اليوم الثاني ثلاثة
أخرى وفي اليوم الثالث واحدًا وضبعًا.. وراح سعيد يمعن في
اصطياد الذئاب والضباع وحتى الأرانب والغزلان، ليسم بعضها
بوسم القطيع ويطلق سبيلها.. عدا الأرانب التي رجته زبيدة أن
لا يطلق سبيلها لأنها تحب لحمها وشاركتها ليئة الطلب نفسه،
وهكذا صار سعيد يحضر الأرانب لزبيدة وليئة وأمه ولم يخل
الأمر من طيور الحجل التي كان يصطادها بالحجارة، فقد كان
سعيد ماهراّ بضرب الحجارة أيضًا، وروى الرعاة عنه أنه كان
يصيب هدفه من مسافة تقارب مائة متر. وحين اصطاد غزالًًا
ذات يوم فكرفي زبيدة فلم يطلق سبيله، وقاده بحبل إلى أن بلغ
المضارب لتستقبله زبيدة وليئة. تأملت زبيدة جمال الغزال
وبدت معجبة به.. وفضلت اطلاق سبيله على ذبحه، وشاركتها
ليئة الرأي فأطلق سبيله دون أن يسمه. وبعد ذلك اليوم لم تأكل
زبيدة من لحم الغزال قط، كما لم يعد سعيد يصطاده، وقد
روى بعض الرعاة أن الغزلان كانت ترعى على مقربة من سعيد
وهو يعزف في البريّة.
وحين طلبت إليه زبيدة أن ترى ضبعًا غاب بضع ساعات ليعود
جارًا ضبعًا من عنقه بحبل وقد كمم فمه! فيما كانت مجموعة
من الكلاب تحيط بالضبع وتنبح بشراسة محاولة نهشه، غير
أن سعيد صدها. لم يرق شكل الضبع لزبيدة فطلبت إليه أن
يقتله أو يطلق سبيله. أخرج سعيد مقصه ووسم الضبع بوسم
207
القطيع وأطلق سبيله دون أن يفك كمامته، ليهرب بأقصى
سرعه لتلحقه الكلاب دون أن تتمكن من الاقتراب منه. نفق
الضبع بعد بضعة أيام لأنه لم يعرف كيف يصطاد ويأكل وفمه
مكمم.. عثر بعض الرعاه على جثته أمام وكر للضباع كان خاليًا
إلا منه. وحين سمع الشيخ أن سعيد يسم الذئاب والضباع بوسم
القطيع ويطلق سبيلها علق قائلا “ ليفعل سعيد ما يشاء فهو
حر في ما يفعله “
بعد قرابة شهر كان سعيد قد ألقى القبض على قرابة عشرين
ذئبًا وسبعة ضباع.. وسم معظمها بوسم القطيع وأطلق
سبيلها..ولم تعد القطعان تتعرض لأية هجمات ذئبية، وقد
دهش الرعاة لقوة سعيد وسرعته الهائلة في الجري ومهارته في
قذف الحجارة والصيد بها.. وتناقل الناس مهاراته وشجاعته
لتبلغا مسامع الشيخ عاقب ليزداد اعجابه الشديد به وتسمو
مكانته رفعة لديه. وفكرلأول مرة في أن يطلب إليه الزواج من
زبيدة بعد أن أتاح لها أن تلتقيه، ضاربًا عرض الحائط بكل ما
سيشاع في القبيلة عن هذه الزيجة، غير أن الأمر ظل في حدود
التفكير، فسعيد نفسه قد يرفض هذه الزيجة حرصًا منه على
مستقبل زبيدة.
أقبل العام التالي محمّلًًا بنذر الشؤم، فلم ينزل إلا القليل جدًا
من الأمطار لم تكن كافية لإرواء الارض ليقدِم الناس على زراعة
الحبوب.. ودب الهزال في بعض الأغنام ونفقت من جراء الجوع،
فاضطر بعض الناس إلى تناول لحمها درءًا للجوع.
208
احتارالشيخ في الأمر وطلب إلى نساء القبيلة أن يقمن بمسيرة أم
الغيث طلبا للمطر من الله. وأم الغيث هذه يقال إنها ربة قديمة
مسؤولة عن الخصب ونزول المطر. فاحتشدت مئات النساء
مساء في ساحة وسط الأحياء ورفعن شعبتين على شكل صليب،
ألبسنه ثيابًا مهترئة ليبدو في شكل انسان فقير، ورفعن مشاعل
من نار ورحن يجبن الأحياء يتقدمهن مجموعة من الأطفال في
ثياب رثة، فيما تنثر نساء من أمام البيوت حبات الأرزوحفنات
الطحين وقطرات الماء عليهن، وهن يرددن بغناء حزين خالجه
التضرع والحزن:
ويا أم الغيث أغيثينا وجيبي المطر واسقينا
ويا أم الغيث ويا دنّة... وقربتنا غدت شنّة!
وقربتنا غدت شنة... من بعد المواريدي
ويا أم الغيث ويا دايم... بلّّي زرعنا النايم
يا أم الغيث أغيثينا..... واسقي زرع أهالينا
يا أم الغيث يا رحمن... اسقي زرعنا العطشان
راحت ام الغيث تجيب الرعود.. ما أجت إلا والزرع طول الكعود
راحت أم الغيث تجيب المطر،، ما أجت إلا والزرع طول الشجر
اصطحبت زبيدة ليئة وبعض فتيات القبيلة وصعدن إلى سطح
المنزل.. شققن ثيابهن عن صدورهن وجثون على ركبهن
واحتضن نهودهن بأيديهن ورفعنها إلى السماء متوسلات إلى
الله أن ينزل المطر وهو يرى إلى نهودهن العارية تشرئب إليه!
طافت المسيرة كافة أحياء القبيلة دون أن ينزل المطر، رغم
209
ظهور غيمات متفرقة في السماء، غير أن ذلك لم يضع الناس في
يأس، فلا بد أن تستجيب ربة المطر “ أم الغيث “ إلى التضرعات
ويأمرها الله بإنزال المطرولو بعد حين.
مرت بضعة أيام دون أن ينزل المطر، لينفق المزيد من الأغنام،
فكان لا بد من البحث عن مراع جديدة للأغنام والماشية.
استدعى الشيخ أبناءه وسعيد وطلب إليهم أن يستطلعوا مناطق
في الشمال للرعي.. وهكذا انطلق الثلاثة الأكبر من أبناء الشيخ
“جهم وفواز وماجد“ بصحبة سعيد وبعض فرسان القبيلة إلى
شمال القدس بحثًا عن الكلأ والخصب.
عاد الروّاد بعد يومين وقد وجدوا مناطق خصبة بعض الشيء
شمال وغرب رام الله، وكذلك في شرقها.. أمر الشيخ بالرحيل
طلبًا للكلأ، فهدمت بعض بيوت الشَّعر ليحملها أصحابها على
ظهور الخيول والحمير والبغال، فيما اصطحب آخرون خيامًا
لتنطلق في الصباح الباكرقوافل القبيلة مصطحبة أغنامها
ومواشيها ورعاتها وبعض أبنائها وجواريها ونسائها وفتياتها
وحتى كلابها، مودعة بالزغاريد والتمنيات بالتوفيق، يتقدم
الجميع ظعون الشيخ عاقب وقطعان مواشيه بمرافقة جميع
الرعاة وبعض العبيد والجواري دون أي من نساء الشيخ،
ورافق ظعون القبيلة ومواشيها سعيد وماجد ابن الشيخ
وثمانية فرسان من القبيلة.وأوصاهم الشيخ بتعامل أخلاقي
حسن مع فلاحي الشمال وعدم الاقتراب من بساتينهم وكرومهم
وأن لا يرعوا في مراع لأي بلدة إلا بموافقة أهلها وخاصة إذا
210
كان لدى سكان البلدة مواش وأغنام تحتاج إلى مراع.. لذلك كان
على سعيد والفرسان المرافقين له أن يسبقوا الظعون ليأخذوا
موافقة سكان القرى بالرعي في مراعيهم..
استقبل سعيد ومرافقوه من الفرسان بترحاب كبير لدى جميع
سكان القرى التي قصدوها، ومعظم هذه القرى تعتمد على
الزراعة وخاصة زراعة الزيتون والفواكه والخضار وليس
على رعي الاغنام والماشية، ما عدا القليل منها التي تملك أسر
فيها بعض الأبقار. وكان لديها أراض شاسعة للرعي، لذلك
حطت القبيلة رحالها في شعاب وأودية وأخاديد كثيرة. ونصبت
خيامها وبيوتها لتنتشر قطعان الأغنام على الهضاب وسفوح
الجبال والأودية، وسط عزف الرعاة على ناياتهم وأراغيلهم.. اما
السهول فكان معظمها مستثمرًا ببساتين الخضار والفواكه،
فلم يقترب منها الرعاة، وكان سعيد قد هدد بمعاقبة كل راع
تدخل أغنامه بستانًا ولو دون قصد. غيرأن القبيلة فوجئت
بقبائل أخرى قادمة من الجنوب بحثًا عن الكلأ.. فكان على
سعيد أن يحاور مسؤوليها ورعاتها ليعبروا المنطقة إلى مناطق
أخرى، لتكتظ معظم أراضي الشمال الأوسط بالقطعان القادمة
من الجنوب..
مرت أشهر الربيع وبعض أشهر الصيف والخريف إلى أن
بدأت بعض أسر القبيلة تعود بأغنامها إلى الديار، بعد أن
هطلت الأمطار بغزارة فيها، ليقوم الناس بحراثة الأرض وزرع
الحبوب.
211
كانت قطعان الشيخ آخر القطعان العائدة إلى الديار.. فلم تعد
إلا بعد أن بدأ العشب ينبت هناك..
استدعى الشيخ سعيد وأثنى عليه بعد أن مرّوجود القبيلة في
أراضي الشمال بسلام دون حدوث أي مشاكل تذكر مع سكان
القرى والمدن. غيرأن خيوط القدر المرسومة لسعيد قد عادت
إلى الظهور.. فأبناء الشيخ الكبار جهيم وفواز وماجد باتوا
يتذمرون من محبة أبيهم لسعيد، فلا يعقل أن يظل سعيد يحتل
المكانة المرموقة لدى أبيهم، ليصبح ليس فارس القبيلة وحسب
بل شبه نائب للشيخ في إدارة شؤونها، بعد أن نجح نجاحًا باهرًا
خلال تزعمه لها في موسم الهجرة إلى الشمال. فجُهيم عينه على
تزعم القبيلة وفواز عينه على قيادة جيشها بدلا من سعيد،
وماجد عينه على نيابة فواز في القيادة، وبعد قرابة عام على
استتباب الأمن وعودة سني الخصب والهرَم يدهم الشيخ ليقرّب
سني رحيله، بات جُهيم متخوفًا من أن يتزعم سعيد القبيلة
بعد رحيله، مع أن الأمر لم يكن واردًا في بال الشيخ، وكان كل
مراده أن يريح أبناءه من عناء القيادة طالما أن سعيد أهل لها.
وزوجات الشيخ لديهن التخوف ذاته، من أن يأخذ سعيد مكانة
أبنائهن، فرحن يحثثنهم على مواجهة العجوز ) الشيخ( قبل أن
يحتل سعيد مكانهم إلى الأبد.
عقد ثلاثتهم اجتماعًا وقرروا مواجهة الأب للحد من صلاحيات
سعيد. فوجئ الشيخ بطلب أبنائه مقابلته في لقاء أسري خاص.
استقبلهم في مضيفته وما أن جلسوا حتى بادر الشيخ إلى السؤال
212
موجهًا كلامه إلى جهيم، كونه ابنه البكر:
- خير يوبه وش تريدون!
تردد جُهيم قليلا قبل أن يجرؤ على مواجهة الأب بما لا يغضبه “
- يوبه الله يطول عمرك ما خليت النا شي وأنت تجعل من سعيد
يدك اليمنى في كل شيء.
أدرك الشيخ ماذا يريدون. قال:
- تراك خايف يا وليدي من أن يحتل سعيد زعامة القبيلة بدلًًا
منك بعد رحيلي.
- إيه يوبه!
ضحك الشيخ حتى استلقى على قفاه!
- تراك تخبلت يا وليدي لتصل بك الظنون إلى هذا الحد؟
لم يتفوه جهيم بكلمة فيما الشيخ يتابع:
- كل غايتي إنّي أريحكم من أعباء القيادة والمسؤولية طالما
هناك من هو أهل لها..ولا تخافون من سعيد الطيب، سيترك
لكم كل شيء.
- ومن يضمن لنا ذلك يوبه! سعيد محبوب من الناس وصيته
صار معروف في الدنيا كلها، وقد يحرّض الناس علينا ويلغي
حتى وجودنا!
أطرق الشيخ قليلًًا وهو يفكر في كلام جُهم. ربما معه حق. فمن
يضمن أن لا يحاول سعيد الاحتفاظ بالمكانة التي وضعه فيها.
قال:
- وش تريدوني أعمل؟
213
- تبعد سعيد عن كل المراكز القيادية!
- وأتركه بلا عمل!
- لا، تخليه يرعى الغنم مثلًًا.
- ما تشوف في الرعي ظلم لسعيد بعد ما كان فارس وقائد
جيش وخاض حروبًا انتصر فيها بيسر.؟
- لا تنس يوبة أن سعيد عبد وابن عبد! والرعي ليس ظلمًا له،
ومعظم رعاتنا لا يجيدون الرعي الزين! وهاهي الذئاب عادت
لتنشط بوجود مثل هؤلاء الرعاة، وليس غريبا أن يأتي يوم
تفتك الذئاب ببعض قطعاننا وربما بها كلها! سعيد رجل قوي
ويمكنه أن يحمي القطعان على أكمل وجه، وقد يكون أفضل
راع عرفته الأغنام. ألم تر حين أوكلنا إليه مرافقة الرعاة كيف
فتك بالذئاب والضباع وحمى الأغنام من هجماتها..
صمت الشيخ للحظات ثم هتف:
- طيب خلوني أفكروما رايح يصير إلا إلّّي يعجبكم.
- الله يخلّّي لنا إياك يوبه!
******
214
) 21 ( سعيد راعيًا!
استغل الشيخ فرصة سطو الذئاب على قطيع معز والفتك
بخمسة رؤوس، ليستدعي سعيد ويبلغه رغبته في أن يقوم هو
برعي الأغنام، وحتى لا يشك سعيد أن الأمر مدبرلإبعاده عن
مراكز القيادة. تم الأمر بعد أن أمر الشيخ بجلد الراعي خمسين
جلده، لفشله في انقاذ المعز من هجوم الذئاب.
استقبل الشيخ سعيد وأجلسه إلى جانبه دون أن يسمح له
بتقبيل يده.
- اشلونك يا وليدي!
- بخير يا شيخ وما أريد إلا سلامتك!
- الله يسلمك يا وليدي. العمرولّّى وما ظل إلا القبر.
- بعد طول عمر إن شاء الله.
- بعد الثمانين ما عاد فيه عمر حتى يطول يا وليدي.
وبعد لحظة صمت قال الشيخ:
- استدعيتك يا وليدي بعد هجوم الذئاب على قطيع المعز والفتك
ببعض المعز، هؤلاء الرعاة أغبياء وضعفاء ولا يستطيعون
حماية الأغنام كما أنهم لا يجيدون الرعي. قلت لحالي ما فيه غير
سعيد، هو الوحيد القادر على الرعي الزين وحماية الأغنام من
الذئاب واللصوص.. اريدك يا وليدي أن ترعى الأغنام ويمكن أن
يكون الرعاة مساعدين لك إن أحببت. ومكانتك كفارس تظل
محفوظة يا وليدي، إن تعرضت القبيلة إلى غزو أو سلب ونهب،
يمكنك أن تلتحق بالفرسان في أسرع وقت ونترك القطعان مع
215
آخرين..
توقف الشيخ عن الكلام ليهتف سعيد بالعبارة المعتادة:
- أنت تأمر يا شيخ.
- الله يديمك يا وليدي. وخلّّي جوادك حجلان وسيفك وعدتك
الحربية لك، تكون تحت ايدك لمّا تحتاج إلها. فيك تباشرعملك
من بكرة يا وليدي. سلم لي على الوالدة والوالد.
- الله يسلمك ويحفظك يا شيخ.
وعاد سعيد ليخبر أمه وأباه ما أراده الشيخ له. تقبل الأب قعدان
الأمر قائلا“ إلّّي يريده الله جايز“ غيرأن سجاح توقعت أن يكون
وراء الأكمة ما وراءها، وتمنت ألا تكون خيوط القدَرقد عادت
لتشق طريقها إلى سعيد:
- راعٍ؟ من فارس قبيلة وقائد جيش إلى راعٍ!؟ هذه مكيدة من
أبناء الشيخ يا ابني لتحجيمك. وقد أذعن الشيخ لهم.
قال سعيد وهو يتوقع ذلك أيضًا:
- حتى لو كان الأمر كذلك يا أمي، هذه مهنة أحبها كثيرًا لأنها
تتيح لي البقاء في الطبيعة أكبر قدر ممكن لأعزف كما أريد، كما
أن الشيخ لم يجردني من جوادي وعدة الحرب، وأبقى على كل
شيء لدي.
ولم تجد سجاح إلا أن تقول:
- الله يوفقك يا ابني وييسر خطاك، ويبعد عنك كل مكروه!
ليئة لم تكن راضية أيضًا غير أنها لم تجد إلا أن تتمنى التوفيق
لسعيد.
216
أبناء الشيخ جميعًا وأمهاتهم فرحوا بالنبأ حين سمعوا به وقد
أدركوا أن نجم سعيد قد أفل إلى غير رجعة.
زبيدة وحدها صدمها النبأ إلى حد كبير فهي لا تريد لحبيبها
إلا أن يظل فارسًا وقائدًا تفخر به القبيلة والبلاد كلها. لكن لم
يكن في مقدورها فعل شيء. غير أنها تمنت أن يفعل سعيد ما
لم يفعله راع قط، ويسمو بمهنة الرعي ويرقى بها إلى ذرى
الجمال.
*****
نهض سعيد باكرًا.. تناول فطورًا أعدته له ليئة، من الخبز
والشاي والزعتر وزيت الزيتون والبيض المسلوق وبعض قطع
الخيار والبندورة والزيتون. ارتدى ملابسه. وضع مجوزًا ونايًا
تحت حزامه عند الخاصرة. وأخذ أرغولا بيده وخرج.. ودعته
ليئة بالتمنيات“ إلهي يرعاك يا خوي ويحفظ خطاك، ويبعد
عنك عداك “
كانت الشمس على وشك البزوغ. اقترب سعيد من أول حظيرة
للمعز.. جهز الأرغول وشرع يعزف لحنًا توقع أن تحبه الأغنام..
وراح يتقدم نحو باب الحظيرة وهو يعزف ليتوقف ببابها ويتابع
العزف.. أخذت الأغنام تنهض من مهجعها وتهز أجسادها
متهيئة للخروج. أخذ سعيد يتقدم نهو الحظيرة الثانية للمعز
ثم الحظيرة الاولى للنعاج والحظيرة الثانية، ليتوقف بباب كل
حظيرة وهو يعزف إلى أن يرى الأغنام تنهض من مهجعها،
وحين بزغت الشمس كان الحي كله قد استيقظ على صدى
217
أرغول سعيد تتسلل إلى بيوته وتلج مخادعة.. حتى الشيخ نفسه
استيقظ وهو يردد “ الله عليك يا وليدي يا سعيد هيك يكون
الرعي ولّّا بلا “ وكان الشيخ قد أخبر الرعاة أن سعيد هو من
سيتولى الرعي، وعليهم أن يطيعوه في كل ما يأمر به، حتى إذا ما
أراد سعيد أن يصرفهم جميعًا ويرعى القطعان الأربعة وحده.
خرجت القطعان الأربعة من مراحها وسعيد يتقدم أمامها وهو
يعزف على أرغوله لتتبعه في أربعة أسراب، وقد أدركت جميع
الأغنام أنها أمام راع جديد مختلف لتتبعه أينما اتجه. لم يعرف
الرعاة ماذا يفعلون أمام ما يجري فما يرونه مسألة تطيّّرالعقل،
فوقفوا في حيرة من أمرهم مع أربعة كلاب كانت ترافقهم أحيانًا
في الرعي.. وحين رأوا الأغنام تتبع سعيد أينما اتجه لم يجدوا إلا
أن يسيروا كل واحد خلف قطيعه..
تابع سعيد سيره لقرابة ميلين وهو يعزف والقطعان تتبعه إلى
أن بلغ المرعى الذي قصده، ليجلس على صخرة. ويضع الأرغول
تحت حزامة ويأخذ الناي ويشرع في العزف عليه لتنتشر الأغنام
من حوله وتشرع في الرعي وألحان الناي تشغف آذانها بما
تسمعه لترعى بهدوء وهي تستكين إلى حالة راحة نفسية لا
مثيل لها.
استدعى سعيد الرعاة والأغنام تنتشر من حوله مالئة البطاح
والسفوح. وقف الرعاة أمامه برفقة كلابهم.. تأملهم سعيد
للحظات كما تأمل الكلاب.. قال:
- رعاة وكلاب وتنجح الذئاب في السطو على القطعان. هل
218
تكونوا نائمين أنتم والكلاب؟
رد أحد الرعاة:
- القطعان كبيرة، وحين يكون القطيع منتشرًا ويهجم الذئب
من ناحية تكون المسافة بين الراعي والذئب كبيرة فلا يستطيع
الراعي أن يلحق به فيقوم بالفتك بكل شاة يلحقها بأن يعضها
من حنجرتها. أو من أسفلها. وعضة واحدة من أنياب الذئب
القوية كافية لأن تقضي على الشاة.
ورغم أن سعيد كان يعرف بقدرما كيف تنقض الذئاب على
القطيع إلا أنه راح يستفسر منهم عن الطريقة التي تتبعها
الذئاب في هجماتها لعله يكتشف ما لا يعرفه.
قال الراعي نفسه:
إذا سطا ذئب واحد أو مجموعة ذئاب فالطريقة هي ذاتها. تأتي
الذئاب من ناحية يسهل على الذئاب الانقضاض منها ومطاردة
القطيع. مثلا لا يمكن لذئب أن يأتي من أسفل جبل ليهاجم
القطيع من أسفل لأن القطيع سيهرب إلى أعلى فيصعب على
الذئب مطاردته. الذئب يستند إلى هرب القطيع أمامه، وفي العادة
إذا كان الذئب المهاجم واحدًا فإنه يركز هجومة على شاة واحدة
أو مجموعة شياه، ولا يعير كثيرانتباه لشياه متطرفة تحاول
الهروب يمينًا أو شمالًًا حتى لا يفقد السيطرة على قلب الهجوم
ليظل هاربًا أمامه حتى يبتعد به عن مكان الرعي ويشرع في
الفتك بكل شاة يلحق بها، وإذا كان الهجوم من مجموعة ذئاب
فقد تفتك بالقطيع كله إذا لم يكن هناك من يحميه ويدافع عنه.
219
شكر سعيد الراعي للمعلومة وتساءل:
- هل من عادة الذئاب أن تسطو نهارًا على المراعي!
- يفترض أنها لا تسطو نهارًا، فهي تفضل الليل وعلى مهاجع
ليست محصنة، لكن تحصين معظم الحظائرليلا جعل الذئاب
تبحث عن فرائسها نهارًا! ومع ذلك تظل سطوات النهار قليلة
جدًا مقارنة مع سطوات الليل.
- حسنا يا أصدقائي أنا سأرعى القطعان وحدي ولست في
حاجة إلى رعاة مساعدين، كما أنني لست في حاجة إلى كلاب،
يمكنكم أن تصحبوها معكم وتبقوها لتحرس الحظائر ليلًًا..
واذهبوا إلى الشيخ أو جُهم أوأمّه، فقد يجدون لكم عملًًا آخر في
البساتين أوغيرها.
استغرب الرعاة كلام سعيد فلا يعقل أن يرعى أربعة قطعان
وحده. ستفتك الذئاب بها.
- لن تستطيع صد الذئاب عن أربعة قطعان اذا ما هاجمتك؟
- لا عليكم سأحاول.. وإن فشلت قد أستعين برعاة مساعدين
منكم.
انصرف الرعاة الأربعة ليفاجأ الشيخ بصرفهم من قبل سعيد.
فهل يعقل أن يرعى سعيد أربعة قطعان، يزيد تعدادها على
سبعة آلاف رأس؟! أي إنسان هذا؟ لا يتفوق عليه أحد في شيء.
صرف الرعاة إلى أعمال الزراعة والبستنة.
حين علمت سجاح أن سعيد سيرعى القطعان وحده تضرعت إلى
الله أن يكون معه في كل خطوة يخطوها.. وأن يبعد الشر عنه..
220
سعيد اهتم بمعرفة أوكار الذئاب والضباع وحتى الأفاعي،
ليقضي عليها في أوكارها أويسمها بوسم القطيع ويطلق
سبيلها.. كان يدخل إلى الوكر إن كان واسعًا ويصارع الذئب أو
الضبع مستعينًا بسيفه إلى أن يفتك به.. أما إذا كان الوكر ضيقًا
فكان يضع كمية من الحطب في الوكر ويشعل فيه النار، فإما
أن يختنق الذئب داخل الوكر من جراء الدخان وإما أن يقتحم
النارويخرج دائخًا لتهوي عصا سعيد أو سيفه على رأسه. وخلال
بضعة أسابع قضى سعيد على معظم الذئاب والضباع في المنطقة
وندرأن هاجمت الذئاب قطعانه. كما حدث ذات يوم وغامر ذئب
وهجم على قطيع لسعيد قبيل الأصيل، فوجئ سعيد بالقطيع
يجفل على مسافة عشرات الأمتار منه، هرع واثبًا بأقصى سرعة
ليرى الذئب يهجم على القطيع لتهرب بعض الأغنام أمامه، فيما
أخرى تهرب في اتجاهين إلى أن لم يبق أمام الذئب إلا ثلاثة نعاج،
كانت النعاج تهرب بأقصى سرعتها وكلما حاولت نعجة أن تغير
اتجاهها كانت تجد الذئب يصدها،غير أن صراخ سعيد وهو
يعدو خلف الذئب جعل نعجتين تكرران محاولة الإفلات من
قلب الهجوم إلى أن نجحت إحداهما في الهرب، لتنجح الأخرى
بعد لحظات، وسعيد يكاد يلحق بالذئب الذي لم يبق أمامه إلا
نعجة واحدة، أحست أن سعيد سينقذها ولن يدع الذئب يفتك
بها فغيرت اتجاهها من أمامه، وحين حاول الذئب أن يهجم
عليها ليصدها لتعود إلى الهروب أمامه، فوجئ بسعيد يقبضه
من قائمته اليسرى الخلفية ويرفعه ليطوح به في الهواء ويضرب
221
به الأرض ليضع قدمه على عنقه ويتوقف لالتقاط أنفاسه.
عادت النعجة إلى القطيع فيما كان الذئب يرفس بقوائمه في
محاولة يائسة للإفلات من تحت قدم سعيد التي كانت تضغط
على عنقه بقوة. فكر سعيد للحظات ليعرف ما إذا كان الذئب
من الذئاب التي سبق له أن وسمها بوسم القطيع وأطلق سبيلها.
انحنى ناظرًا إلى أذنيه. كانتا سليمتين ولا يحملان أي وسم. إنه
ذئب آخر يضاف إلى قائمة ذئابه وضباعه. هل يسمه ويطلق
سبيله أم يقتله.. تغلب الحافز الثاني على الأول، فراح يضغط
بكل قوت قدمه على عنق الذئب إلى أن اختنق ولفظ أنفاسه. ولم
يكتف سعيد بذلك، بل حمله من إحدى قائمتيه الخلفيتين ولوّح
به في الهواء وقذف به قرابة أربعين مترًا.
لم تسلم الحيوانات الأخرى التي يؤكل لحمها من صيد سعيد،
كالقنافذ والنَّيَاص فكان يصطادها لزبيدة وليئة وأمه وأبيه. أما
الثعالب فكان يفتك بها لأن لحمها لا يؤكل، وحتى لا تسطو على
أقنان الدجاج في القبيلة. بعض الرعاة كانوا إن اصطادوا ثعلبًا
يشوونه ويأكلون لحمه، غير عابئين بما هو حلال وما هو حرام.
جنحت الشمس إلى المغيب. أخذ الرعاة يعودون بقطعانهم إلى
أحيائهم ومضاربهم، عازفين على ناياتهم وأراغيلهم.
أخذ سعيد أرغوله وشرع في العزف عليه لحنًا خاصًا، راحت
الأغنام تتهاطل من السفوح والهضاب وتدنو منه وتسير خلفه
في أسراب شبه منتظمة.. طارعقل الشيخ وهو يرى من شرفة
مضيفته سعيد يعزف على أرغوله والأغنام تتبعه بانتظام عائدة
222
إلى حظائرها بعد يوم رعي.. ووقفت نساء وفتيات وشباب
ورجال ينظرون إلى سعيد من أمام أكواخهم وبيوتهم كيف
يعود بقطعانه بانتظام إلى الحي والمهاجع، مستمتعين بعزفه.
وغدا خروج سعيد بالأغنام من مراحها والعودة بها إليها، مشهدًا
يطيب لكثيرين التمتع بمشاهدته والاستماع إلى الألحان الفريدة.
******
223
) 22 ( سحر الألحان!
أقبل الربيع حاملًًا معه بشائرالفرح والخصب لتتفتح زهور
الأقحوان وشقائق النعمان والعديد من الزهور والنباتات البرية،
وتشرئب سنابل القمح والذرة والشعير، وتتماوج السنابل
كشعر حوريات والريح تهب عليها مشتتة رهام المطر، وبدأت
معظم الأشجار بحمل ثمارها لتتدلى كنهود صغار أينعت لتوها
أو كأظلاف الظباء، وغردت الطيور وأسرابها تجتاح الفضاء
في جماعات بالمئات، وزقزقت العصافير على الأشجار، لتبدو
السفوح متألقة بجمالها والأغنام تنتشر في أخاديدها، وعشرات
النساء يبقلن الخبيزة والبابونج أو يحتطبن في أنحاء مختلفة
منها.
كان سعيد يجلس دائمًا على رابية عالية والقطعان تنتشر من
حوله في الأودية وفي الجبال وبين الشعاب، ويشرع في العزف
على المجوز لحنه الخاص وبعض صور خصيه ولعبه مع زبيدة
تمر في مخيلته. يوغل في مد اللحن وكأنه يريد له أن يخترق
سفوح الجبال ليرتد إليه مدويًا ليتردد رجع صداه من أعماق
الأودية، وهو ينحني عليه صابًا فيه كل مشاعره لتخرج من
شغاف قلبه ومسامات شرايين جسده ليبدو اللحن صارخًا باكيًا
مستنجدًا غاضبًا مقبلًًا مدبرًا متماوجًا متكسرًا صاخبًا هادئًا
عاليًا متبعثرًا متفرقًا متجمعًا، وليرى سعيد الجبال والسفوح
تنتفض مرددة سجع اللحن معه.. تثبت كل شاة في مرعاها.
تتوقف الظباء عن الرعي وتستكين إلى الهدوء.. تتوقف الطيور
224
عن تغريدها.. تمر أسراب القطا عبر الفضاء وتحلق فوق رأسه
ثم تحط على مقربة منه.. تتوقف النساء في الحقول والشعاب
عن قطع الحطب وتعشيب الزرع، وقطف الخبيزة والبابونج
ويجلسن يتنصتن في خشوع.
تداعب أصابعه ثقوب المجوز بخفة.. ينتقل الصوت عبر الأودية
والشعاب ليتردد رجع صداه من قفرإلى قفرمحمولا على أجنحة
الريح! تخرس كل نايات الرعاة وأراغيلهم ومجاوزهم.. تتجه
أغنامهم إلى الناحية التي يسمع فيها صوت مجوزسعيد.
تدور النشوة في رؤوس النساء اللواتي يحتطبن أو يبقلن أو
يغسلن الثياب أو يعشبن، فيتسللن إلى سعيد وينزعن ثيابهن
أمامه، إذا لم يكن في مرأى من أعين الناس، وإذا كان كذلك فكن
ينزعن ثيابهن في أماكن تقيهن العيون! أو في داخل خدورهن
ويجلسن مصغيات خاشعات.
وذات يوم حين كان يعزف جالسًا على تلة والأغنام تنتشر من
حوله، وبعض الطيور تحط على مقربة منه، فوجئ بزبيدة تقف
أمامه وتشرع في نزع ثيابها، وتجلس عارية خاشعة أمامه!
لم يتوقف عن العزف، وخلال لحظات كانت نسوة وفتيات
كثيرات يظهرن فجأة ويتعرين ويجلسن أمامه خاشعات بين
الحجارة والصخور، فيما كانت مئات النساء والفتيات يتعرين
داخل خدورهن ويجلسن صامتات مصغيات وهن يستمعن
إلى صدى الألحان يتردد من الأودية والسفوح، وكأنهن يؤدين
واجبهن في طقس صلاة سرّي يتطلب أن تكون الصلاة بجسد
225
عار من كل شيء. وما أن توقف عن العزف حتى شرعت زبيدة
والنساء والفتيات في ارتداء ملابسهن على عجل والانصراف عدوًا
في اتجاهات مختلفة.. لم يعرف سعيد ما إذا كان يتخيل إلى
حد يرى فيه ما يتخيله مجسدًا، أم أن ما يراه هو حقيقة فعلًًا،
فصرخ بأعلى صوته مناديًا زبيده “ زبيداه “ وحين واصلت
عدوها بين الحقول دون أن تجيب صرخ ثانية مناديًا “ زبيداه “
غير أن زبيدة لم تتوقف ولم ترد وتابعت طريقها عبر الحقول،
تعدو تارة وتسير بخطى سريعة تارة أخرى عائدة إلى الحي.
ظل سعيد في حيرة من أمره لم يعرف ماذا يجري، دون أن
يصدق على الإطلاق أن ما جرى هو حقيقة وليس مجرد تجسيد
لما يمكن أنه دار في خياله، فقصة الخيال تلك لم يكن مقتنعا
بها، فهو لا يذكر أنه تخيل ما رآه قط، ولم يشعر بذلك، بل إن
الصور التي كانت تمر في مخيلته وهو يعزف صور تتناقض
بالمطلق مع ما شاهده حسب اعتقاده. فصمم على مواجهة زبيدة
حين يعود بالقطعان في المساء.
****
بدأت الشمس بحط رحالها في الأفق الغربي مرسلة خيوط أشعة
ذهبية تمتد خلفها إلى مسافات بعيدة صابغة السهول والهضاب
بألوانها الأخاذة. لتبدأ قطعان الأغنام العودة من المراعي إلى
المراح والحظائر والمهاجع.. أقبل سعيد يعزف على أرغوله
والأغنام تتبعه في أربعة أسراب، سربا معز في المقدمة أحدهما
إلى جوارالآخر، ثم سربا نعاج في الوضع نفسه.. ومئات البشر
226
ينظرون من أمام منازلهم أو من أمام بيوتهم إلى هذا الانتظام
في العودة وهم يستمعون إلى ألحان فريدة من أرغول سعيد لم
يسمعوها من قبل.. فجميع رعاة المنطقة الذين يجيدون العزف
على بعض الآلات الشعبية لا يعزفون إلا الألحان المعروفة التي
تترجم كلمات تغنّى من قبل عامة الناس.. ويندر أن يأتي راع
بلحن غير مغنّى.
ما أن اطمأن سعيد إلى جميع الأغنام تدخل إلى مراحها حتى
أطبق الأبواب عليها وعاد إلى كوخ أهله. سلم على أمه وأبيه
وليئة. وجلس.
هتفت أمه لتؤكد ما توقعته حين عينه الشيخ راعيًا:
- هل سمعت بما أقدم الشيخ عليه؟
- لا يا أمي من أين سأسمع.
- عيّّن الشيخ ابنه جُهيم نائبًا له ووليًا لعهده. وعين ابنه فواز
فارسًا للقبيلة وقائدًا لجيشها. وعين ابنه ماجد فارسًا نائبًا له؟
بدا على سعيد وكأنه كان يتوقع ذلك:
- ليعين الشيخ من يعين يا أمي.. أولاده وقبيلته وهو حر في ما
يفعله.
- ونحن؟
ضحك سعيد شبه ساخر!
- نحن عبيد يا أمي. لا تنسي ذلك. وإن كان الشيخ قد منحنا
بعض الحرية والمكانة فلأننا خدمناه وما نزال نخدمه كما لم
يخدمه أحد. بعد أن فعل بكما أنت وأبي ما فعل، وبعد أن فعل
227
بي ما هو أسوأ، الشيخ يعمل بدافع مصالحه أولًًا ومصالح
العشيرة ثانيًا ومصالح القبيلة ثالثًا، فلا تتوقعي غير ذلك.. أمر
حسن أنه منحنا بعض المكانة والحرية دون غيرنا.. وأظن أن
هذا أقصى ما يمكنه أن يقدمه لنا. فلا تتوقعي غيرذلك.
وافق قعدان على ما قاله:
- الحق معك يا ابني. كلامك صحيح.
وافقت سجاح حين لم تجد أمامها غير ذلك.
- لنا الله ياولدي.
ومرت في مخيلتها تنبؤات عرافة حوران، فتابعت، ونأمل أن لا
تخبئ لنا الأيام ما ينغص عيشنا أكثر ويقض مضاجعنا.
- توكلي على الله يا أمي، فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا..
وودت أن تقول “ هذا ما أنا متخوفة منه “ غير أنها لم تقل
ذلك مخافة أن يسألها سعيد إن كانت تخفي شيئًا عنه، فهي لم
تخبر سعيد يومًا بما تنبأت به عرافة حوران، والأب قعدان كان
يظن أن تنبؤات العرافة ستتوقف على الخصي الذي تم وانتهى
أمره. قالت:
- لله الأمر يا ابني فليس لنا غيره.
استأذن سعيد منهما آخذًا ليئة من يدها ليجلسا في غرفته.
فقصة التعري ما تزال تشغل دماغه، فلا يعقل أن يكون قد
جن ليرى النساء عاريات كما رآهن، أو أن لدى مخيلته قدرة على
التصويرشبه الطبيعي.
قال لها قبل أن يجلسا “ أريدك أن تذهبي إلى زبيدة ولا تعودين
228
إلا معها“
انصرفت ليئة في الحال؟ استقبلتها زبيدة بالقبل.قالت وهي
تجلس:
- سعيد يريد أن يراك حالًًا!
- كيف هو؟
- بخير.
- هل رأيت شيئًا غريبًا في سلوكه؟
- أبدًا وإن فاجأني بأن طلب مني أن أذهب وأحضرك.
- انتظري سأخبر أمي ونذهب.
وفي هذه اللحظة دخلت حليمة عليهما.
قالت زبيدة:
- سأذهب إلى بيت سجاح يا أمي!
- تريدين أن تشاهدي الخصي!؟
- أحست زبيدة وكأن سكينًا اخترق قلبها. انتفضت غاضبة:
- سأذهب لمشاهدة سعيد شئتِ أم أبيتِ، لقد سمح أبي لي بذلك.
ونهضت آخذة ليئة من يدها.. لتنصرفا..
*****
دخلت زبيدة على سعيد بينما أخلت ليئة الجو لهما.
صافحت زبيدة سعيد مقبلة خديه دون أن ينهض. جلست.
بدت ما تزال منفعلة من كلام أمها.
- ما بك؟
- أغضبتني أمي.
229
- يجب أن تتحملي فهي أمك.
- إذا كان الأمر قابلًًا للإحتمال. أما إذا كان غير ذلك فالامرمختلف.
- هل حاولت منعك من القدوم؟
- أجل. جئت رغمًا عنها.
- ايه. خبريني.
- عن ايش؟
- أين كنت ظهيرة هذا اليوم؟
كانت زبيدة متخوفة من أن تقول له الحقيقة، مخافة أن يذهب
عقله ويجن فلا يعقل أن تتعرى هي والنساء لمجرد سماع لحن
على آلة موسيقية من قبل عازف مخصي! ثم ماذا سيحدث إن
عرف أبوها بالأمر وهو خصاه حتى لا تفتتن به نساء القبيلة،
وها هي تفتتن به وهي أقرب الناس إليه، فماذا إن عرف أنها
تتعرى له هي ومعظم فتيات ونساء القبيلة؟
- كنت في البيت يا حبيبي.
أدرك سعيد أنها تخفي الحقيقة؟
- زبيدة لا تخفي عنيّ! لن يحدث لي شيئ. يجب أن أعرف
الحقيقة. لا أصدق أن ما جرى هو مجرد خيال مهما كان قد
تجسد.
وأمعنت زبيدة في تجاهل الأمر؟
- ما الذي جرى يا حبيبي؟
- اوه أرجوك زبيدة، أنت تعرفين ماذا جرى؟
- طيب يا حبيبي انس الأمر؟
230
وانفجر صارخًا وهو يغلق الباب:
- كيف أنساه برب السماء وقد تركني في حيرة من أمري؟ ألم
تجلسي أنت وعشرات النساء والفتيات عاريات أمامي هذا اليوم
وأنا أعزف؟
ترددت زبيدة في الإجابة، فأمسك بيديه الاثنتين بكتفيها وهزها،
وهو يطلب إليها أن تقول الصحيح.. حاولت زبيدة أن تهدّئه
وهي تمسك بمعصميه:
- اهدأ حبيبي، سأقول لك الحقيقة.
- هيّا.
- أجل ما رأيته صحيح .. تعريت لك هذا اليوم مع عشرات
الفتيات والنساء.
- لكن كيف حدث ذلك ولماذا؟
- أنا كنت أتجوّل في المكان قريبًا منك لأنني أريد ذلك، وكذلك
معظم الفتيات والنساء اللواتي كن يبقلن في الحقول أو يبحثن
عن نباتات تؤكل أو تشرب أو يحتطبن.
- لكن لماذا أقدمتن على التعرّي؟
- لأن ما سمعناه أوحى لنا بنداء مفجوع من أعماق القلب
يتوسل لممارسة الحب، خاصة وأن جميع الفتيات والنساء
يعرفن وضعك فأحببن أن يبدين تعاطفهن معك، وأن يرينك
بعض ما حرمت منه، أجسادهن!!
فتح سعيد فمه على وسعه وهو يشهق ويتأوه من أعماقه.. وما
لبث أن راح يردد “ لا لا، غير معقول! لن أعزف هذا اللحن ثانية
231
ما حييت.. لن أعزفه أبدًا. ليشهد علي الله. ولتشهدي أنت.. لن
أعزفه ثانية.. سأكسر كل آلاتي الموسيقية إن ألح علي لعزفه“
راحت زبيدة تملس على رأسه ووجهه طالبة إليه أن يهدأ وينسى
الأمر.. استلقى على ظهره وهو يتأوه في محاولة لتمالك نفسه
وتقبل الصدمة. وطلب إلى زبيدة أن تعود إلى بيتها.
****
232
) 23 ( عودة القدَر
أمر القدر مسألة حيّّرت سجاح، فإن كان القدر من الله فكيف
لامرأة بدوية أن تتنبأ به؟ فهل هي على اتصال مع الله؟ ولماذا
يحتاج الله لأن يطلعها بوسيلة ما على مصيرانسان ما أيضًا؟
ثم لماذا يرسم الله له مصيرًا فظيعًا في الأصل، فما الذي ارتكبه
جنين في بطن أمًه، كما هي الحال مع سعيد، ليرسم الله له
مصيرًا مظلمًا؟ تشعر أنها ستكفرإذا ما استمرت في طرح هذه
التساؤلات - التي لا تجد لها أجوبة - على نفسها، وخاصة منذ
أن أعاد الشيخ سعيد إلى رعي الأغنام، لتعود نذرالشؤم تراود
مخيلتها. مر في ذاكرتها البرق الذي قيل إنه أنارالمنطقة لحظة
ولادة سعيد، وقالت الداية وقعدان والناس فيما بعد إن سعيد
طفل مبارك من الله، فكيف يكون ما يجري لسعيد من الله
وقد باركه؟ إنه أمرالأسياد دون شك وليس قدرالله، الذي راحت
تتضرع إليه في سرّها “ إلهي لا تفجعني بابني حبيبي الذي لا
يوجد في الدنيا من هو أعز منه لدي، أكثر مما فجعتني يا إلهي،
إنك سميع مجيب “.
زبيدة وقد عرفت أن النساء يتعرين عندما يسمعن لحن سعيد،
باتت متخوفة أن يعرف الناس الأمر وتصل أخبار التعرّي إلى
أبيها ليقوم بإعدام سعيد. شكرت الله كون النساء استطعن
الحفاظ على هذا السِِّّر وكأنه صلاة سريّة مقدسة. عكس ما
يقول الناس إنّ المرأة لا تؤتمن على سِِر. فهاهن نساء القبيلة
يحتفظن بهذا السِِّّر لأنفسهن.. حتى المتعرّيات يتجاهلن معرفة
233
الأخريات بتعرّيهن..وربما تعرّت معظم نساء القبيلة على لحنه
ولو داخل خدورهن. وأيقنت أن السِِّّر سيندفن ولن يعرف به
أحد طالما أعلن سعيد أنه سيتوقف عن عزف هذا اللحن ولو
اضطره إلى تكسير آلاته. وتمنت أن لا تقوم النساء بالتعري
أمامه أو في خدورهن لأمرآخريصدرعنه.. وهي بدورها صممت
ألّّا تقدم على الامر ثانية مهما كان الظرف الذي يبدو سعيد فيه.
وجاء اليوم الذي لم يتمناه أحد. فقد جاء عشرة فرسان من
حامية القدس ليجمعوا ضرائب الماشية لخزينة الباب العالي.
كان معظمهم من العرب يقودهم مأمورمن أب تركي وأم
عربية، وله نائب عربي كمعاون. كانوا يجوبون الأودية والجبال
متقلدين سيوفهم وكأنهم ذاهبون إلى حرب، وليس بحثًا عن
القطعان لتعداد كل قطيع ومعرفة حجم الضريبة المترتبة على
صاحبه.
أقبلوا على سعيد.. كانت قطعانه تنتشر على مساحات كبيرة بين
الأودية وعلى سفوح الجبال وقممها..
كان سعيد يجلس على مرتفع في سفح جبل يتوسط القطعان.
توقف الفرسان على مقربة منه دون أن يحيوه. وراحوا ينظرون
إلى كافة الجهات لتبدو لهم الأغنام أكثر من النمل.
قال له مأمور الفرسان:
- أنت الذي ترعى كل هذه االأغنام؟
- نعم يا سيدي المأمور.
- وحدك؟
234
- نعم وحدي يا سيدي!
- وهل تستطيع حمايتها من الذئاب؟
- نعم يا سيدي. أستطيع.
- حتى وهي تنتشرهكذا؟
- أجل يا سيدي!
- وكيف تتركها تنتشر بين حقول الزرع هكذا، ألا يمكن أن
تدخل الحقول؟
- لا لا تدخل، لقد طوعت قطعاني على عدم الإقتراب من الزرع!
وهنا صمت المأمور للحظات مخفيًا دهشته من قول سعيد،
وراح يجوب بنظراته مختلف الجهات فبدت له الأغنام في
وضع يستحيل معه أن يقوموا بتعدادها، لقد بدت له أكثر من
النمل فعلًًا، ثم إنه لا يراها كلّها، فبعضها ينتشر في الاودية وفي
الأخاديد والسفوح وخلف التلال، فاحتار في أمره ولم يعرف
كيف سيقومون بعدّها.. نظر إلى سعيد:
- قل لي أيها العبد!!
- نعم يا سيدي المأمور.
- ألا تتفقد قطعانك كل يوم؟
- نعم إنني أتفقدها يا سيدي.
- كيف؟
- أقوم بعدّها يا سيدي!
- ألم يسبق ووجدتها تنقص شاة أو أكثر؟
- لم يسبق يا سيدي!
235
- وكم تعداد قطعانك؟
- سبعة آلاف وخمسمائة شاة يا سيدي!!
- وهل كلها لسيدك؟
- إنها لكل العائلة يا سيدي لكن سيدي يملك أكثرها.
وصمت المأمور قليلًًا.. نظر إلى وجوه الفرسان، ثم نظر إلى
سعيد:
- اسمع أيها العبد!
- نعم يا سيدي.
- أنا أصدقك ولن نقوم بعد القطعان، لكننا لن نبرح مكاننا
هذا قبل أن نرى كيف تجمعها وتعدها، ما رأيك؟
صمت سعيد للحظة موجسًا أن يحدث له شيء، لإدراكه أن ما
يقوم به هو أمرشبه خارق للطبيعة قد لا يقدرعليه بشر. قال:
- هل يحلف سيدي المأمور بالله ورأس السلطان أن لا يمسني
بسوء إذا ما فعلت ذلك؟
فكر المأمور للحظات “لماذا يفترض العبد أنني سأمسه بسوء إذا
ما فعل، هل سيقوم بشيء خارق قد يثير حسَدي أو غيرتي أو
يدفعني إلى أن أفعل له شيئًا لا يرضاه“
- إنني أحلف أيها العبد!
وهنا اعتلى سعيد صخرة عالية، هيّأ أرغوله وشرع يعزف لحنًا
خاصًا..
نزل الفرسان عن خيولهم حين أدركوا أنهم سيسمعون عزفًا
فريدًا ومشهدًا أكثر فراده، وجلسوا على الحجارة ينصتون
236
وينظرون إلى القطعان..
أخذت الأغنام تهرع من كل صوب وتقف في طوابير منتظمة
أمام سعيد حيث تمتد مساحة كبيرة من الأرض المستوية، عكس
المكان الذي يجلس فيه وما خلفه من سفح الجبل... ولم تمر
سوى بضع دقائق حتى انتظمت النعاج في طابور والمعز في
طابور آخر.. لتصل كافة الأغنام وتنضم إلى الطابورين.
توقف سعيد عن العزف لكنه لم ينزل عن الصخرة. وظل
المأمور ومساعده ومن معهما من الفرسان مشدوهين للحظات
لغرابة وأعجوبة ما رأوا. والمأمور يردد أمامهم “ غير معقول
هذا، يبدو أنه ساحر وليس مجرد راع ولهذا كان متخوفًا وطلب
منّي الأمان “ وكون المأموريعاني من كبت جنسي فظيع وعقد
جنسية مختلفة لعدم إقدام أي فتاة جميلة أو امرأة على حبه في
حياته، فإن أول ما خطر بباله وهو يتأمل جمال سعيد ويستمع
إلى عزفة المدهش، تأثير كل ذلك على النساء والفتيات اللواتي
حرم من محبتهن. وما لبث أن سأل معاونه العربي:
- قل لي برب الكائنات؟!
- ماذا يا حضرة المأمور؟
- إذا كان هذا فعل العبد بالأغنام، فما بالك بالنساء بالله عليك؟!
قال المعاون دون تردد:
- أعتقد أنهن يشمرن له عن أفخاذهن يا حضرة المأمور!!
نكأ المعاون بإجابته كل العُقد النفسية والجنسية الكامنة في
نفس المأمور. فهو لا يعرف أن سعيد مخصي، وربما لو عرف
237
ذلك لما أقدم على ما فكر فيه هو ومعاونه العربي قال:
- الوغد لن يترك امرأة أو فتاة دون أن تقع في غرامه! ما رأيك؟
رد المعاون:
- أظن أنه انتهك أعراض عشرات الفتيات والنساء، لا بد من
وضع حد لكل هذا!
نظر المأمور إلى سعيد نظرة ماكرة:
- ألا تنزل أيها العبد؟
تنبه سعيد بفطنته إلى أن المأمور يبطن له الشر!!
- لن أنزل يا سيدي!!
اعتلى المأمور جواده وحاول أن يصعد إلى سعيد، لكنه لم يظفر
به، فقد وثب سعيد عدة وثبات وراح يتسلق صخور الجبل،
فلم يستطع الجواد أن يلحق به، لكن المعاون تنبه إلى أمر هام،
فالتفت إلى المأمور:
- جاءتني فكرة يا حضرة المأمور!
- ما هي قل؟
- أعرف أن هؤلاء العبيد يحرصون على القطعان التي يرعونها
أكثر من حرصهم على أنفسهم، فإذا ما أوهمنا هذا العبد أننا
سنأخذ قطعانه، فسيلحق بنا لاستردادها.
- أنت مدهش يا حضرة المعاون، هيا بسرعة ولننهل على الأغنام
بالسياط.
- أحاط الفرسان بالمعز والنعاج وانهالوا عليها بسياطهم
وساقوها أمامهم. جن جنون سعيد فأخذ يصرخ من على صخرة
238
مناديًا:
“ألم تحلف بالله ورأس السلطان أنك لن تمسني بسوء يا سيدي
المأمور فلماذا تأخذ قطعان سيدي “؟
خاطبه المأمور بأعلى صوته:
“ لن نفلت الأغنام إلا إذا سلمت نفسك لنا ايها العبد “!
شاهد الرعاة والناس الفرسان يسوقون القطعان فأخذوا
ينظرون من السفوح ومن على قمم الجبال..
هرع سعيد خلف الفرسان وهو يدرك في قرارة نفسه أنه يسلم
نفسه إلى قدره .. لحق بهم.. لم يكن خائفًا.. نزل الفرسان عن
خيولهم. أمسكوا به.. قيدوا قدميه وطرحوه أرضًا. جلس اثنان
منهم على بطنه وساقيه، فيما مدّ آخريده اليمنى على الأرض،
ليمسك المعاون بمعصمه ويأمره بفتح يده. استل المأمور سيفه
وأهوى به على أصابعها فبترها. صرخ سعيد بأعلى صوته فيما
فارس آخر يمدّ يده اليسرى أيضًا ليهوي المأمور بسيفه على
أصابعها ويبترها. صرخ سعيد للمرة الثانية وخرّ مغشيًا عليه.
انصرف الفرسان بعد ذلك بأقصى سرعة متخوفين مما لا تحمد
عقباه رغم اعتقادهم أن ما فعلوه هو لصالح الناس وحماية
لأعراضهم.. هرع الرعاة من السفوح وراحوا يجهدون لقطع
النزيف من يدي سعيد، وعم الصراخ والنداءت من قمم الجبال
والتلال معلنة أن فرسان الحامية قطعوا أصابع يدي سعيد..
فهرع كثيرون من الأحياء القريبة، وبلغ الخبرمسامع الناس
في حي الشيخ فهرعت سجاح وقعدان وليئة وزبيدة وبعض
239
الجواري وبعض أبناء الشيخ إلى المراعي وسط صراخ عشرات
النساء . وبات الشيخ في حال لا يحسد عليها ليشتم الباب العالي
لأول مرة في حياته. ويأمر بعض العبيد بالذهاب لرعي الأغنام.
تم قطع النزيف وتضميد يدي سعيد ونقله إلى مستشفى في
مدينة القدس وهو شبه غائب عن الوعي. وقيل أن ثلاث فتيات
قد انتحرن حزنًا على قطع أصابع يدي سعيد.
****
240
) 24 ( الوداع!
نقل سعيد إلى المستشفى في القدس وظل فيه لبضعة أيام إلى
أن التأمت جراحه. وشاع خبر قطع أصابع يديه بأيدي فرسان
السلطنة إلى الباب العالي في اسطنبول، ولم تكن الأخبار تتحدث
عن قطع أصابع راع عبد، بل عن قطع أصابع فارس الفرسان
قائد جيش العقايبة، الذي هو بمثابة جيش للقدس وفلسطين
وحتى للسلطنة نفسها، فعلق السلطان بكلمة واحدة فقط “
خسارة “ بينما فاجأت المعلومة المأمور وفرسانه فظلّوا على
موقفهم أن من قطعوا أصابعه كان عبدًا راعيًا ولم يكن فارسًا
على الإطلاق، وأنهم لم يقطعوا أصابعه إلا خوفًا على نساء
وبنات القبائل والعائلات من أن يغويهن بسحرعزفه وجماله،
ويقدمن على عشقه. وحين سمع المأمور أن العبد كان مخصيًا
لم يصدق أيضًا، وحتى لو كان كذلك فلديه قدرة على الانتصاب
والمضاجعة! ولن يندم اطلاقًا على ما فعله بموافقة معاونه
وكوكبة الفرسان المرافقين لهما.
خرج سعيد من المستشفى برفقة أمه وأبيه وليئة. وهم جميعًا
في حال من الكآبة والحزن لم يسبق لها مثيل، وإن كان سعيد
يحاول قدرالامكان أن يتقبل وضعه ويتفوق عليه بجبروته
ولو إلى حين.. وقد أدركت سجاح أن تنبؤات عرافة حوران قد
تحققت كلها ولم يبق أمام سعيد وحتى أمامها وأمام قعدان إلا
الموت، فلا يعقل أن يخبّئ القدر أمرًا آخر غير كل الذي جرى..
كان الحزن يخيم على أحياء القبيلة كلها وحتى على معظم أنحاء
241
فلسطين لما كان يتمتع به سعيد من سمعة وشجاعة ومهارة
وأخلاق حسنة فاقت كل تصور. وكانت الفتيات والنساء أكثر
الناس حزنًا لما آلت إليه حاله، وخاصة زبيدة، التي لم يعد لها
رغبة في تناول الطعام والشراب، ولم تكن قادرة على رؤية سعيد
ليس لأنها مُنعت، بل لأنها تخوفت من أن تنهار أمام سعيد
وتؤثرعلى معنوياته. وحين رأت أمُّها أن البنت قد تفقد حياتها
إذا ما ظلت على هذه الحال أخبرت الشيخ، ليذهب للإطمئنان
على سعيد ويعلن عن أسفه لما جرى ويطلب إليه المساعدة في
إقناع زبيدة بتناول الطعام.
راح الشيخ يجر خطواته متكئًا على عصا، وقد نال الكبرمنه،
ليستقبله قعدان بباب الكوخ مرحبًا به، ويدخله إلى غرفة سعيد.
حاول سعيد أن ينهض عن فراشه غير أن الشيخ سارع إلى وضع
يده على كتفه طالبا إليه الراحة.
كان سعيد يمد يديه على بطنه فبدتا للشيخ أنهما ما تزالان
محتفظتين بالإبهامين، فلم يقدم المأمور على قطعهما.
- أنا آسف لما جرى لك يا وليدي. لعنة الله عليهم هؤلاء القتلة.
لهم جهنم وبئس المصير.
- لا عليك يا شيخ هذا أمر الله!
- عليه توكلنا وإليه المصير.
كان لدى سعيد رغبة شديدة في أن يسأله عن زبيدة، غير أنه
أحجم عن الامر ليبادر الشيخ إلى الكلام.
- زبيدة يا وليدي امتنعت عن الطعام والشراب ونخاف أن
242
تقضي نحبها إذا ظلت ممتنعة.
وهنا وجد سعيد فرصة لأن يطلب رؤيتها:
- أرسلها لي يا شيخ وبإذن الله سأقنعها أن تأكل.
- وهي لا شك تريد أن تراك لتطمئن عليك يا وليدي. الله يوفقك
ويحفظك ويكون معك.
وانصرف الشيخ ليخبر زبيدة أن سعيد يريد أن يراها، لتدب
نسمة الحياة في جسدها.
تمضمضت بقليل من الماء دون أن تبتلعه. وغسلت وجهها.
وخرجت. وما أن فتحت ليئة لها باب الكوخ حتى هرعت إلى
غرفة سعيد وألقت نفسها عليه وهو مستلق في فراشه، وراحت
تمطر جبينه وخديه ثم يديه الاثنتين بعشرات القبل وتغرقهما
بدموعها باكية من أعماق روحها.
تركوهما وحدهما لتقبل سعيد كما لم تقبله في حياتها، وهو
يحاول أن يضم رأسها بيديه ويملس على رأسها بما بقي له من
كف في يده اليمنى. ويشرع في مسح دموعها بإبهاميه وراحتي
يديه. همس لها:
- كيف حالك؟
- من حالك يا حبيبي.
- سمعت أنك محجمة عن الطعام!
- وكيف أستطيع أن آكل وأنت لم تعد قادرًا على تناول الطعام
وتحتاج إلى من يطعمك!
- بل أستطيع لكن ليئة وأمي تصران على مساعدتي وقريبًا
243
سأحاول أن أتناول الطعام وحدي! يجب أن نواجه قدرنا
بشجاعة ولا نجعله يهزمنا.
- وهل بقي للشجاعة دور بعد كل هذا الظلم يا حبيبي؟
كان سعيد يدرك في أعماق نفسه أن حياته انتهت وأنه يكابرأمام
زبيدة كما يفعل أمام والديه وليئة ليرفع من معنوياتهم.
- لقد بقي يا حبيبتي يجب أن نعيش.هيّا سنأكل أنا وأنت معًا.
وسارع إلى مناداة أمه لتحضر لهما طعامًا.
- لكن لا رغبة لي في الطعام.
- حبيبتي إذا تحبينني يجب أن تأكلي لا تجعليني أزعل منك.
أحضرت ليئة لهما ثريدًا من اللحم والأرز. وشرعت زبيدة في
إطعام سعيد بملعقة.. كانت تطعمه ملعقتي طعام لتضع في
فمها نصف ملعقة.. ورغب سعيد في أن يريها كيف يمكنه أن
يستخدم الملعقة وحده. مد يده اليمنى لتضع الملعقة في راحتها،
ليطبق عليها براحة يده اليسرى، وليعالجها بأن يضع عقبها
تحت ابهامه ويضغط عليه ليمسكها ويمد يده إلى المنسف ليأخذ
قليلا من الأرز، ويحاول بصعوبة وضع الملعقة في فمه. لم يرق
المشهد لزبيدة بل زادها حزنًا على حزن، وأخذت الملعقة لتتابع
إطعامه بيديها، دون أن تتوقف عينيها عن ذرف الدموع بين
لحظة وأخرى، رغم رجاء سعيد لها.
نجح سعيد في اقناع زبيدة بتناول الطعام غير أنه لم ينجح في
وأد الجراح العميقة في نفسها وفي نفسه، بحيث لم يعد الطعام
وحده قادرًا على أن يزيل أثر هذه الجراح..وعبثًا حاول أن
244
يقنعها بالبحث عن مستقبلها بعيدًا عنه. فاستسلم للأمر
الواقع وأتاح لها أن تزوره متى تشاء.. كان يقضي أيامه واجمًا
وبعض صور الماضي تلوح في مخيلته. ولا يمكن تصور مدى
الحسرة التي تنتاب نفسه وهو ينظر إلى آلاته الموسيقية وسيفه
من حوله دون أن يكون قادرًا على العودة إلى أي منها.. فقد
راح جسمه يضمر لتبرز عظام صدغية، وتغورعيناه في رأسه،
وتتهدل هدباه وتخور قواه، وصاريهمل الاعتناء بنفسه ويهمل
كل شيء. وحين ينتابه حنين ما إلى أيام الفروسية أو أيام الرعي
ومحبته للأغنام، أوتراوده لحظات الاستغراق في العزف على
آلة ما، كان يحاول الهرب من هذا الحنين دون جدوى فراح
يسيطرعليه. وحين كان يتجول في الحي بعض الأحيان ليحرك
ساقيه، كان الناس لا يصدقون أن هذا هو سعيد الأمس. الفتى
الأسمر الجميل فارع الطول. ذوالشعر الذي يلوح على ظهره
وكتفيه، وهو يعدو بجواده متقلدأً سيفه، أو وهو يعزف ألحانًا
تسحرمن يسمعها. يتحسّّر بعضهم حزنًا عليه وتذرف بعض
الفتيات والنساء الدموع.
وكانت هذه هي حال زبيدة وكأن القدر كتب لها أن تعاني مما
يعاني منه سعيد، فبقدر ما كان يهزل هو، كانت تهزل هي..
الشيخ أعاد بعض الرعاة االسابقين إلى القطعان وعين رعاة
جددًا مساعدين أيضًا، ومع ذلك كانت الذئاب التي عادت
تشعر بالأمان في غياب سعيد، تنجح في السطو أغلب الأحيان
وتفترس بعض الأغنام، إلى أن داهم جمع منها ذات يوم قطيع
245
نعاج للشيخ حين كان الراعي نائمًا، فقد أمضى الراعي ليلته في
مضاجعة الجارية سارة الشامية التي تسللت إليه قبيل منتصف
الليل في حظيرة الأغنام وامتطته لتوقظه، ولم يتح له النوم إلى ما
بعد الفجر، فنام في المرعى بينما كان القطيع يسرح ويبتعد عنه.
حاولت الأغنام الهرب دون جدوى، فرقتها الذئاب في الأودية
والشعاب وكلما لحقت شاة فتكت بها، لتلحق أخرى إلى أن أتت
على مئات النعاج.. ولولا هروع رعاة وبعض الناس من الأحياء
لأتت على القطيع كله..
حين بلغ الخبر مسامع الشيخ جن جنونه، وتحسرعلى أيام سعيد
وأمر بجلد الراعي حتى الموت، فجلد!
****
تدهورت حال سعيد وأصبح نحيفًا إلى حد غيرمعقول، وسجاح
وليئة وأبوه يحرضانه على أن يأكل أكثردون جدوى، والحال
نفسها تكاد تكون مع زبيدة. فلا تجد إلا أن تضم رأس سعيد
إلى صدرها وتذرف الدموع بصمت، وقد سمح لها الشيخ بعد
أن استسلم للأمر الواقع هوالآخر أن ترى سعيد متى تشاء وأن
تبقى معه كما تشاء، فيما ليئة تجلس صامتة بدورها وقد نالها
قدرمن الهزال هي أيضًا.. حتى سجاح وقعدان لم يسلما من
الهزال والقدر يكمل رسم خيوطة حولهما ليستسلما له.
كانت زبيدة تضم رأس سعيد إلى صدرها وتملس على شعره
حين شعرت بأنفاسه تتوقف عن ملامسة صدرها. ألقت نظرة
على وجهه كانت عيناه مغمضتين.مسحت بيدها على خده ثم
246
ربتت عليه. لم يبدرعن سعيد أي ردة فعل.. همست “ سعيد،
سعيد حبيبي“ لم يجب. أدركت أنه مات. كانت تتوقع ذلك
حين قبلها قبل أن يلقي رأسه على صدرها. لم تصرخ. لقد مات
الحبيب. مات رفيق الطفولة. مات فارس الفرسان. مات أجمل
الشباب وأجمل الرعاة. مات الفتى الأسمر الوسيم. مات ساحر
النساء والرجال.. مات العازف العبقري الجميل. مات سعيد.
أزاحت رأسه عن صدرها ووضعته على المخدة. قبلته على جبينه
قبلة الوداع ونهضت. أخذت سيفه وسحبته من غمده. وضعت
عقبه على الأرض ورأس نصله بين نهديها، وانحنت عليه بقوة
ليخرج من ظهرها، وليتهاوى جسدها إلى جانب فراش سعيد.
استيقظت ليئة التي كانت غافية في نوم خفيف إلى جانبيهما.
لترى جسد زبيدة ملقى والسيف يخترقه، وسعيد ميتًا! صرخت
بأعلى صوتها، ليستيقظ قعدان وسجاح ويهرعا ليصرخا
بدورهما، ليستيقظ الحي كله على الصراخ، وتشرع بعض
النساء والجواري بالصراخ، ليعم الصراخ أحياء القبيلة كلها في
الأماكن المختلفة، بعد أن عرف معظم الناس أن سعيدًا مات،
وانتحرت زبيدة إلى جانبه. وحين طلع النهار كانت عشر فتيات
وامرأتان قد انتحرن حزنًا على سعيد وزبيدة.
بدا الشيخ في غاية الحزن وهو يأمر أبناءه أن يقيموا أكبر جنازة
في تاريخ القبيلة لسعيد وزبيدة. وأن يشيع سعيد وزبيدة في
نعش واحد إلى جوار بعضهما، وأن يدفنا في قبر واحد. وأن
تشيع خلف نعشهما نعوش الفتيات والنساء المنتحرات.
247
تقدم موكب التشييع شباب وشابات يحملون أكاليل الورد، كما
وضعت فوق النعش أكاليل أخرى، وحمله ثمانية فرسان من
فرسان القبيلة ساروا وسط صفين من خمسين فارسًا على ظهر
خيولهم، منكسي السيوف وأعلام القبيلة. وتبعه اثناعشرنعشًا
للفتيات والنساء المنتحرات في أربعة صفوف، كل نعش يقله
ستة فرسان وتعلوه أكاليل الورد. ثم جمهورالمشيعين يتقدمه
الشيخ عاقب وستة من أولاده وقعدان وبعض وجهاء وشيوخ
القبيلة ومدينة القدس ومحيطها. ومئات الرجال، ثم موكب
النساء تتقدمه سجاح وزوجات الشيخ وبعض نساء القبيلة
وبعض جواري الشيخ ثم مئات النساء والفتيات وهن يندبن
الراحلين، ويشقق بعضهن ثيابهن عن صدورهن ويلطمن
خدودهن وينتفن شعورهن، وقيد خيّم الحزن على كافة أحياء
القبيلة وبعض القرى المجاورة وحارات المدينة المقدسة.
نهاية.
5/9/2022
****
248
الروائي والفنان والفيلسوف محمود شاهين في سطور
من مواليد السواحرة- القدس 1946
درس الصحافة في القاهرة ) في معاهد إعلامية وصحفية (
ودرس الأدب العالمي والعربي والأسطورة والعقائد البشرية
والفلسفة دراسة خاصة.
روائي. قاص. فنان تشكيلي. باحث. ناقد.مفكر. ويكتب الشعر
كهواية.
*أعمال أدبية:
. 1نار البراءة – قصص – دار ابن رشد – 79 ) ترجم منها إلى
الانكليزية: نار البراءة. ضمن مختارات من الأدب العربي.
والنهر المقدس. ضمن مختارات من الأدب الفلسطيني.
الترجمتان بإشراف الدكتورة سلمى الجيوسي.
. 2الخطار – قصص – دار القدس – بيروت – 79 . ترجم منها
قصة “العبد سعيد “ إلى الانكليزية والويلزية والفرنسية
والألمانية وغيرها.
. 3الأرض الحرام – رواية – وزارة الثقافة – دمشق – 83
)ترجمت إلى التركية عام 2002 (
. 4الهجرة إلى الجحيم – رواية – المؤسسة الجامعة – بيروت
– 84 . طبعة ثانية 87
. 5الأرض المغتصبة – رواية – دار الشيخ – دمشق – 89
. 6غوايات شيطانية – رواية ملحمية - نثر وشعر )ترجمت
إلى الألمانية عام 99 ( ) نشرت بالعربية على شبكة الإنترنت(
249
وصدرت عن دار نينوى في دمشق عام 2008 (
. 7موتى وقط لوسيان – قصص – وزارة الثقافة الفلسطينية
– رام الله – 98
. 8رسائل حب إلى ميلينا. دار البيروني -عمان . بدعم من
وزارة الثقافة الأردنية
. 9ألملك لقمان. ملحمة روائية.جزءان.نشرت على شبكة
الإنترنت أولا ثم صدرت عن دار نينوى في دمشق 2009 (
. 10أبناء الشيطان – رواية قصيرة دار البيروني. عمان 2014
. 11 أديب في الجنة. ملحمة روائية فلسفية تكمل ملحمة الملك
لقمان. مكتبة كل شيء. حيفا أب 2017
. 12 أيوب التوراتي وفاوست جوته. بحث مقارن. مكتبة كل
شيء.حيفا. 2018
. -13 عديقي اليهودي. رواية. مكتبة كل شيئ. حيفا. 2018
. 14زمن الخراب. رواية. مكتبة كل شيئ. حيفا. 2019
. 15قصة الخلق. رواية. مكتبة كل شيء 2021
. 16ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة. مكتبة كل شيء حيفا. 2022
. 17أسبوع الآلام عشر روايات قصار. مكتبة كل شيء حيفا
2022
. 18أم محمود أم الشهداء. ست روايات قصار. دار الفاروق
نابلس. 2022
. 19مقالات نقدية في الرواية. دار شهرزاد عمان. 2022
*****
250
* منشورات على النت:
. 20الخالق. الخلق. الغاية. دراسات في العقائد والأساطير
الشرقية.وتقديم فهم معاصر لماهية وجوهر الخالق، والغاية
من الخلق.. نشرت في الحوار المتمدن.
. 21شاهينيات: مقولات وخواطر في الفكر الإنساني والمعرفة
والخلق والخالق،تكمل موضوع شاهين عن الخلق والخالق
والغاية من الخلق: 1545 مقولة ومقالة منشورة حتى آب
2022
نشرت في خمسة أجزاء في دار كتابات جديدة للنشر الالكتروني
. 22قراءة نقدية للتوراة. عشرة أجزاء.
. 23دفاعا عن محمد )رد على كتاب العفيف الأخضر - 35 “ من
محمد الإيمان إلى محمد التاريخ “(
. 24السلام على محمود درويش. )أشعار عن ديوان محمود
درويش، لماذا تركت الحصان وحيدا (
مقالات في الألم الإنساني والمعرفة منها:
. 25تحولات الألوهة من الأنوثة إلى الذكورة
. 26التحالف بين يهوة والشيطان
. 27فصول من روايات
. 28قصص قصيرة وأشعار.
. 29صلاة الفذاذة العظمى. رواية قصيرة
* أبحاث أخرى نشرت في مجلات وعلى النت:
. 30هيكل سليمان بين الحقيقة التاريخية والخيال الأدبي.
251
. 31القدس تاريخيا بين منطق العقل ومنطق الجهل والخرافة.
. 32القدس مدينة السماء في بعض النثر قديمه وحديثه.
*أعمال صحفية:
. 33فلسطين أرض وحضارة – الدار الجماهرية – طرابلس – 85
. 34حرب المواجهة في لبنان – الاعلام الموحد – دمشق – 83
* دراسات ومقالات نقدية في صحف ومجلات شهرية
وفصلية أهمها:
. 35التحول من البداوة إلى النفط في مدن الملح
. 36الحزن الدفين - دراسة في قصص الأديبة الفلسطينية
سميرة عزام
. 37مقالات في الرواية الفلسطينية
. 38مقالات في الرواية العربية
. 39مقالات في الرواية العالمية
. 40مقالات في القصة الفلسطينية
مخطوطات لم تنشر:
. 41الأرض المغتصبة – جبل المنطار, رواية
. 42الأحزان المتعانقة – رواية
. 43كما ترجمت بعض قصصه إلى الانكليزية والألمانية
والفرنسية والإيطالية والاسبانية والروسية وغيرها, وبيعت
بعض قصصه إلى السينما والتلفزيون.
. 44حولت قصته “نارة البراءة“ إلى المسرح وعرضت في عمان
عام 1991
252
*أقام محمود شاهين خلال سني حياته الفنية ما لا يقل عن
ثلاثين معرضا شخصيا في العديد من مدن العالم منها باريس
وبرلين وفينا والقاهرة ودمشق والناصرة والشارقة وعمان
ووارسو،عدا معرضه الدائم في دمشق لقرابة خمسة عشر عاما،
بحيث أصبح له قرابة ثمانية آلاف لوحة في أكثر من ثمانين بلدا
في العالم. و أقام معرضه الشخصي االرابع في عمان منذ أن عاد
إليها منذ تموز 2012 ، في منتدى الرواد الكبار خلال شهري
تموز وآب 2016
*مر شاهين بأكثر من مدرسة فنية خلال مشواره الفني إلى
أن انتهى إلى أساليبه التي تنتمي إليه وحده. وأصبحت تقنيته
في الرسم الجداري مميزة جدا، فهو يمارس الرسم والحفر
والزخرفة في معظم أعماله المستوحاة من الأساطير والتراث
القديم والشعبي الحديث. وتزخر بعض لوحاته الكبيرة بما لا
يقل عن أربعة وعشرين تشكيلا مختلفا ‘ فيما يزخر بعضها
بقرابة أربعين.
لجأ شاهين إلى الرسم الذي كان هوايته،حين تعثر نشر بعض
أعماله الروائية لجرأتها وصداميتها مع الواقع. وقد نشر بعض
أعماله التي كانت ممنوعة فيما بعد، ك“ غوايات شيطانية،
سهرة مع ابليس “و ملحمة ) الملك لقمان ( عن دار نينوى
في دمشق.وبعد أن غادر دمشق إلى عمان نشر معظم أعماله
الجديدة عن مكتبة كل شيء في حيفا. وبعض الأعمال في عمان
عن دار البيروني.
253
*مقتنيات عامة لبعض الأعمال الفنية:
المتحف الوطني بدمشق – لوحتان ) 70 * 100 (
وزارة الثقافة الفلسطينية
صحيفة الأخبار – مصر
سفارة فلسطين – دمشق
المركز الثقافي السوري - باريس
متحف القدس
المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة – عمان
******
254
255
الفهرست
ملحمة اسمها “سعيد وزبيدة“ 5
) 1( القدَر! 11
) 2( سوق العبيد! 18
) 3( ليلة سمر! 29
) 4( الرحيل 38
) 5( قبيلة العقايبة 49
) 6( ولادة سعيد وزبيدة! 59
) 7( ما لم تتنبأ به عرّافة حوران! 69
) 8( زبيدة وسعيد! 77
) 9( نبوغ سعيد! 86
) 10 ( دروس في الغرام! 93
) 11 ( فروسية! 102
) 12 ( ليل القبيلة! 113
) 13 ( سعيد يبحث عن أبيه 124
) 14 ( أسرارما بعد منتصف الليل! 136
) 15 ( عواء الذئب! 145
) 16 ( لقاء سعيد وزبيدة بعد طول فراق! 164
) 17 ( سعيد يجوب المنطقة. 172
) 18 ( معركة أريح ا 179
) 19 ( سعيد يعتق ليئة! 195
) 20 ( القحط! 205
256
) 21 ( سعيد راعيًا! 214
) 22 ( سحر الألحان! 223
) 23 ( عودة القدَر 232
) 24 ( الوداع! 240
الروائي والفنان والفيلسوف محمود شاهين في سطور 248
257
258



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لقمانيات غزة(17)
- لقمانيات غزة (16)
- لقمانيات (15) حرب غزة!
- محمود شقير في - أنا والكتابة - سرد ممتع وبوح متألق!
- لقمانيات (14) في الفهم والعقل والمعرفة والأنظمة والدين!
- الصوفية الحديثة . لقمانيات (13)
- خير ما يقال في زمن القتل والحروب والخراب!
- لقمانيات (12) ليس هناك امرأة تملأ حياة رجل!
- الصوفية الحديثة. لقمانيات (11)
- الخالق خلق الانسان ليكون خالقا بدوره ليبني الحضارة
- إحياء الموتى في جهنم داجون:
- لحالة النفسية في قصة -جسدي بين صبرا وبسمة- لمحمود شاهين
- مسيرة آلام الفلسطيني في قصة -أم محمود أم الشهداء-
- لقمانيات (9) في ماهية الخالق والخلق!
- الرواية الملحمة -الملك لقمان-
- لقمانيات (8)
- لقمانيات (6)
- لقمانيات (5)
- لقمانيات (4)
- لقمانيات 3


المزيد.....




- “نزلها لعيالك هيزقططوا” .. تردد قناة وناسة 2024 لمتابعة الأغ ...
- تونس.. مهرجان الحصان البربري بتالة يعود بعد توقف دام 19 عاما ...
- مصر.. القضاء يحدد موعد الاستئناف في قضية فنانة سورية شهيرة ب ...
- المغربية اليافعة نوار أكنيس تصدر روايتها الاولى -أحاسيس ملتب ...
- هنيدي ومنى زكي وتامر حسني وأحمد عز.. نجوم أفلام صيف 2024
- “نزلها حالًا للأولاد وابسطهم” .. تردد قناة ميكي الجديد الناق ...
- مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا يطالب بوقف الحرب عل ...
- فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي ...
- انقاذ سيران مُتابعة مسلسل طائر الرفراف الحلقة  68 Yal? Capk? ...
- فيلم السرب 2024 بطولة احمد السقا كامل HD علي ايجي بست | EgyB ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - سعيد وزبيدة . رواية