أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جدو سامى - رواية تشريح الفتاة المجهولة – الجزء الاول















المزيد.....



رواية تشريح الفتاة المجهولة – الجزء الاول


جدو سامى
كاتب وباحث وروائى متنور ومؤمن بالحريات الجنسيةوالدينية والابداعية والفكرية كاملة


الحوار المتمدن-العدد: 7834 - 2023 / 12 / 23 - 18:55
المحور: الادب والفن
    


مستوحاة من فيلم تشريح جين دو Autopsy of Jane Doe

العم فراج


امتاز عم فراج بصفتين رئيسيتين .. الأولى أن الرجل هو أهم شخص طوال العامين الأولين في كلية الطب لغالبية الطلاب، إن لم يكن جميعهم.. ولما لا، وهو خازن قلعة الأسرار ..
,
, المشرحة ..
,
, الرعب والصدمة الأولى التي تنتظرها، وتتلقاها في أول عهدك بدراسة الطب .. اللحظة التي تتخيلها كثيراً قبل أن تلتحق بالكلية .. ربما لأن دراسة الطب تعني للكثيرين عالم من الجثث الممزقة والأشلاء الدامية..
,
, يحدثك صديقك حين تعود من الكلية، بعد يوم واحد من التحاقك بها بانبهار عن عدد الجثث التي قمت بتشريحها .. وتنظر إليك أمك بتوجس فور أن تعود من الكلية، وعيناها لاتفارقان يديك بتأفف متسائلة :
,
, - ألن تستحم أو تغتسل ؟.. ظناً منها أنك ربما تسبح في الكلية في بحر من الجثث والدماء والأشلاء .. وتتأفف أختك حين تجلس بجوارها الى المائدة، متسائلة باستنكار..
,
, -هل تظن أنك ستأكل معنا؟.. طبعا ستجيب من بين أسنانك، وأنت تجاهد نفسك ألاتقضم رقبتها:
,
, - بالطبع لا .. من قال هذا؟.. أنا فقط أجلس بجواركم كي أستمتع برؤيتكم، وأنتم تتناولون الطعام .. إن هذا هو مايشبعني.
,
, لاتغضب ياصديقي لو حدث هذا لك، وغالباً سوف يحدث .. ستتحول في أعينهم الى كائن موبوء مصاب بالجرب، وسيستمر هذا بعض الوقت إلى أن يعتادوا عليك مرة أخرى، أو تعتاد أنت على اشمئزازهم منك، فلاتبالي بعد ذلك ..
,
, لذا من الصعب أن تتخيل أن هناك أشياء كثيرة مهمة في دراسة الطب، بل وربما تستحق ذعراً أكبر بكثير مما تتنظره من المشرحة والجثث ..
,
, كلمني عن عوالم علم دراسة الأنسجة (الهستولوجي) وشرائحها المتشابهة، وصبغياتها القاتمة اللعينة.. حدثني عن الكيمياء الحيوية بمعادلاتها الشيطانية التي لا تنتهي ..
,
, حدثني عن الامتحانات الشفهية .. رعب قوطي يستحق الاهتمام والدراسة، ولايعلمه إلا من عايشه .. صدقني لو أدركت عوالم هذه الاشياء المخيفة، لما سببت لك المشرحة بجثثها كل هذا الرعب..
,
, الشيء الآخر المميز في عم فراج، هو شراهته المتناهية في التدخين..
,
, فلم أره أبداً إلا وكان يدخن .. سجائر .. شيشة .. وبالتأكيد ذلك الملك المتوج لأصحاب المزاج العالي، المدعو الحشيش ..كان الرجل يدخن كمرجل بخاري نهم ..
,
, كان ابن مزاج حقيقي كما نقول..
,
, اعتدنا حين كنا طلاباً في المرحلة الأولى من كلية الطب على هيئته التى لم تتغير أبداً ، دوماً كنا نراه أمام باب المشرحة الخشبي ذو الزجاج المدهون بطلاء أبيض باهت سقيم .. يجلس على كرسي خشبي عتيق متهالك، ويضع على مسنده الخلفي وسادة قطنية؛ لتريح ظهره من قسوة الخشب..
,
, يثير في نفسك الكثير من التوتر بهيئته الضخمة وملامحه الغليظة، وجبهته العريضة الناتئة ..كان دوماً يذكرني بمسخ فرانكشتين، لو كنت قد شاهدت الفيلم يوماً ما، وتذكر كيف كان المسخ..
,
, كان عليك أن تحرص على أن تعلن له احترامك .. إياك أن تعامله على أنه مجرد عامل في المشرحة .. لن ينسى لك هذا أبداً لو فعلت ..
,
, بالتأكيد لن يتطاول عليك أبداً .. لكن حين يقترب ميعاد امتحان منتصف العام أو آخره، وتتداخل في ذهنك عشرات الأعصاب ومئات العضلات، والأوردة، والأوتار، ولاتدري من أين يبدأ هذا، وكيف ينتهي ذاك، وتحتاج لمن يعيد ترتيب هذه الأشياء في ذهنك مرة أخرى، ستتذكر المشرحة وتتذكره .. حينها لا تلومن إلا نفسك حين يرفض أن تدخل المشرحة في غير أوقاتها المحددة لك ،ولاتتذمر حين تعلم من أحد أصدقائك أن عم فراج ساعده بالأمس، وأعطاة أحد أطراف الجثث الطازجة التى لم تتدهور بعد من مباضع التشريح الكثيرة التى جرت عليها، أو تناقلها بين أيدي الطلاب مئات المرات ..
,
, طبعاً لا يقدم عم فراج هذه الخدمات مجاناً .. فهناك دوماً الدخان، والشاي الذي لايمل منه .. لكن أي قيمة لمثل تلك الأشياء الصغيرة أمام مغارة علي بابا التي باستطاعته أن يفتحها لك ؟..
,
,
,
, عرفته في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، حين التحقت بكلية الطب .. كنت غارقاً حينها في أنشودة البدايات السوداء، التى يعرفها كل طالب التحق بكلية الطب يوماً ما .. من الصعب أن تنسى المصطحات الكئيبة التى كنت تسمع عنها لأول مرة، ولاتدري كيف تنطقها أو تكتبها .. وهناك المذاكرة التي تشعرك في البداية أنك جاهل أحمق، ولم تكن لتصلح لأن تكون أكثر من صبي كواء ..
,
, هذه ذكريات تنسيك بهجة الحياة نفسها، في وقت كان عليك أن تعيش فيه هذه المباهج ..
,
, عرفت عم فراج بقامته الضخمة للغاية، ووجهه ذو الفك البارز والعينين الجاحظتين دائماً ، كأنما تزمعان مغادرة رأسه يوماً ما، وأطرافه الطويلة العريضة الهائلة الحجم .. فيما بعد علمت أنها حالة متقدمة لفرط إفراز هرمون النمو أثناء الطفولة .. لكن في ذلك الوقت كان من المستحيل إصلاح مثل هذا الخلل فعاش به..
,
, وحين عرفته، وتنفيذاً لنصائح أحد زملائي من الطلاب الأقدم سنّاً حرصت على أن تكون علاقتي به طيبة .. اقتربت منه، فساعدني الرجل بصورة كبيرة، فحين تقترب الامتحانات، كان يكفيني أن أذهب الى المشرحة ليخرج لي حينها أجزا ء طازجة من جثث جديدة لم تُمس بعد، كان يحتفظ بها للامتحانات .. كنت دوماً كريماً معه، لم أنسَ سجائره أو معاملته بصورة لائقة ..
,
, وكان خدوماً لي بالرغم من الفظاظة التي كثيراً ما يظهرها للطلاب..
,
, كان الرجل صورةً حية للمقولة التي تدعوك لئلا تربط بين شكل الرجل وقلبه .. فبالرغم من ملامحه الغليظة، وفظاظته التي كثيراً ماكان يبديها للطلاب، إلا أنه كان يمتلك طيبة شديدة ..طيبة تذكرك بحنو جدّك الراحل والتي تتذكرها بين طيّات ذكرياتك المبهمة عنه..
,
, ومرت الأعوام الدراسية سريعاً ، كما يُنتظر منها أن تمر ،وبالرغم من انتهاء حاجتي للمشرحة بعد عامين فقط من الدراسة ؛لا نتهاء دراستي حينها لمادة التشريح، إلا أنني حرصت على استمرار زيارته بحجرته بالمشرحة من حين لآخر، حيث لاحظت سعادته بمثل هذه الزيارات ..
,
, كان دوماً يرى أن الطلاب يعاملونه بصورة جيدة، ويتوددون إليه طالما هم في حاجة إليه .. أما بعد ذلك ،فكثير منهم يتجاهلونه، وإن قابلهم مصادفة ، فالكثير منهم قد يشيحون بوجوهم بعيداً عنه بشيء من التعالي، أو يحيونه بصورة باردة بلا ودّ حقيقي في الغالب، كأنما يتذكرون فجأة أنهم سيصيرون أطباء بعد أعوام قليلة، أما هو فسيظل دوماً عامل المشرحة البسيط وليس أكثر..
,
, كنت أطيب خاطره حينها بكلمات طيبة، فيهز رأسه بغير اقتناع، وهو يسحب دفقة كبيرة من دخان سيجارته التي لاتفارق يده، ليقول بعد أن يزفرها، وهو يرنو للسقف بعينين تسعان الفراغ كله:
,
, -لا تؤاخذني يادكتور ولا تغضب مما سأقوله الآن، إن مايقوم به زملائك ندعوه في عرفنا قلة أصل.
,
, بالطبع لم أكن أدري بما أجيبه، لذا كنت أكتفِ بهز رأسي بحركات مبهمة لاتوحي بشئ، وإن وافقته بداخلي على مايدعيه .. إن مايقومون به هو نوع من نكران الجميل والتعالي لا مبرر له، فليس ذنب الرجل أن مهنته بسيطة، ولا يجب أن نشعر الرجل بأنه لاقيمة له إلا باحتياجنا له.
,
, وتخرجت بعد حين من الكلية .. وتباعدت زياراتي لها، إلا أنني حرصت على زيارته بالمشرحة حين كنت أزورها..
,
, كنت ألاحظ أن الرجل - عاماً بعد عام - يزداد هرماً ، وتتكاثف بصورة مخيفة التجاعيد في وجهه، وحول فمه و عينيه .. كما لاحظت في الأعوام الأخيرة أن صدره لم يعد على مايرام .. صار يعاني من نوبات ربو حادة تستدعي أحيانا أن يتم تنويمه بعناية الصدر بالمستشفى بضعة أيام ..
,
, صار صدره يعمل كصافرة لاتكف أبدا عن الصراخ والشكوى .. المشكلة هاهنا أن الرجل كان أسوأ مريض من الممكن أن يقابله طبيب يوماً ما.. فبالرغم من خطورة حالته ،وسوء حالة رئتيه، فإنة ظلَّ يدخن كـ قطار بخاري .. حاولت مراراً أن أُثنيه وأُقنعه بتقليل مرات التدخين بلا أمل في استجابة منه .. كان دوماً يضحك ضحكته المشروخة المصحوبة بسعال عنيف، ثم يقول ،وهو يمسح بيده الغليظة قطرتين من الدموع أفرزتهم عيناه بعد نوبة السعال العنيفة التي تنتابه:
,
, -يادكتور دعك مما تقوله .. الدخان هو الشيء الوحيد الذي لن يضر الصدر أبداً .. إياك وتصديق كلام الكتب التي درستها هنا ..كلنا يعلم أن الصدر في حاجة للتدفئة، والدخان هو أفضل من يقوم بتدفئة الصدر..
,
, ثم يقطع حكمته تلك، ليدخل بعدها في سُعال عنيف مرة أخرى، حتى أظن أنه سيبصق روحه نفسها بعد قليل .. فأرمقه مشفقاً صامتاً ، لكني أفاجأ به يقول بعد أن يهمد سعاله ويسكن :
,
, -هل تعلم يادكتور أن الدخان الذي نشربه مفيد للصحة جداً ؟.. نعم إنه مفيد للغايه، أنت لا تصدقني فيما أقوله لكنني لا أمزح وأقول الحق.
,
, وابتسمت رغماً عني لطرافة كلماته، وسألته متصنعاً الجد :
,
, -وكيف هذا برأيك أيها الحكيم ؟.. إنبعث حينها بعض البريق من عينيه، قبل أن يجيب بصوته الخشن بجديّة حقيقية:
,
, -نعم يادكتور .. الدخان شيء صحي جداً أكثر من الهواء نفسه .. هل تعتقد يا دكتور أن هناك ميكروباً ما يستطيع العيش وسط سحب الدخان التى نستنشقها حين ندخن .. بالطبع هذا مستحيل .. الدخان يادكتور قادر على قتل أي ميكروب مهما كان، ولابد أنه يقوم بفعل هذا الشيء حين تتنشقه الرئتان .. إنه بلاشك يطهرهما من الميكروبات التي قد تعلق بهما.. ألا يُعد هذا أمراً صحياً يادكتور؟
,
, أطلقت حينها ضحكة عالية ، مدركا أنه من العبث أن أجادله .. الرجل له قناعاته التي عاش عليها، ولن يتركها بعد كل هذا العمر، كي يصدق هذا الهراء الذي يطلقه أمثالنا من الأطباء على آذانه..
,
, كان الأمر عجيباً عبثياً .. رجل يعمل في كلية الطب لأعوام طوال .. فيرى أن مايلقنونه من علوم لأطباء المستقبل هو الهراء ،ولا يؤمن إلا بآرائه .. كان من المستحيل إقناعه بخطأ ما يعتقده، لذا قلت له باستسلام متنهداً :
,
, -ربما كان الدخان مفيداً كما تقول، فمن يدري ياعم فراج؟!
,
,
,
, مرت أعوام كثيرة بعدها، سافرت خلالها إلى إحدى بلاد النفط الاوروبية والنقود، كما يفعل أغلب الأطباء، ولم أعد أتردد مرة أخرى إلى الكلية .. وتوارى حينها عم فراج في ثنايا ذكرياتى المتناثرة، كالكثير من الذكريات الأخرى التي عشتها من قبل يوماً ما ونسيتها.
,
, لم أتذكره إلا حين أردت الحصول على بعض الكتب الطبية الحديثة، وذهبت إلى الكلية لأبتاعهم من إحدى مكتباتها، قررت حينها زيارته متوقعاً أن أجده بعد كل هذه الأعوام الكثيرة، قابعاً في مكانه الأزلي، على كرسيه الخشبي العتيق أمام المشرحة ..
,
, وكنت واهماً !.. عرفت هذا حين وجدت شاباً آخر يجلس على كرسي خشبي مختلف أمام المشرحة .. سألته عن عم فراج فأجابني بتعجب، وهو يتفحصني بشيء من اللزوجة في نظراته :
,
, - وهل كنت تعرفه ؟.
,
, وأجبته بتحفظ اعتراضاً مني على تطفله :
,
, -نعم أعرفه .. لكن أين يمكنني أن أجده الآن ؟
,
, - عم فراج تعيش أنت يا أستاذ .. مات بالمستشفى في حادث منذ خمسة أعوام .. إننى أتعجب أنك لا تعرف هذا بالرغم من انك تزعم انك تعرفه.
,
, وغادرته شاعراً بالصدمة والضيق دون أن أجيبه، فهاهو جزء آخر من ذكرياتي قد انتهى للأبد .. لا أدري لماذا سطعت في رأسي الكثير من الذكريات مع الرجل ؟.. بعض دعاباته ذات الإيحاءت الجنسية غالباً ، والتي كان يستمتع بروايتها، والضحك عليها دون ان ينتظر ليرى هل أعجبت مثل هذه النكات من يلقيها عليه أم لا ؟..كان يضحك عندئذٍ كأنما كان يلقيها لنفسه ليضحك هو عليها ..
,
, وهنا طفت على سطح ذاكرتي، ذكرى أخرى حكاها لي الرجل في مرة من المرات التي جمعتنا سويّاً .. كنت قد سألته يومها عن عالم الجثث الذي يعيش فيه .. فالرجل منذ عرفته لايغادر المشرحة تقريباً أبداً ، كما أنه لم يتزوج؛ ولهذا فإنه قد اتخذ المشرحة بيتاً له .. ولأنه أقدم العمال فقد سمحت له إدارة الكلية أن يعيش في حجرة بداخل المشرحة في شيء استثنائي .. وسألته يومها بشيء من الجد ،والكثير من المداعبة :
,
, -ألا تخشى الجثث ياعم فراج ؟.. ألاتخاف أن يظهر لك عفريت جثة ما في أي لحظة، وأنت تنام على بعد خطوات منها ؟.. ألاتخشى أن تنتقم أشباحها منك لما تفعله بها ؟..لوكنت مكانك لاهتممت بهذا الأمر، وخشيت على نفسي .. إن أرواح الموتى كما أعلم لا تعرف المزاح.
,
, هذه المرة رأيت عيني الرجل ولأول مرة، زائغتين مرتعشتين .. شحب وجهه كثيراً ، قبل أن يجيب بصوت مضطرب معاتباً :
,
, -هذه أشيا ء لا يصح السخرية منها أو الضحك فيها يادكتور .
,
, شعرت بالدهشة من رد فعله البادي على وجهه .. بدا واضحاً أن الرجل يهاب شيئاً ما ..كانت هذه أول مرة أرى تعبيراً كهذا في صفحة وجهه، ولم أكن لأتركه حينها حتى يُفصح عما يخفيه، فقلت مُلحاً :
,
, - هل تعني كلماتك هذده أنك قد صادفت شيئاً من هذه الأشياء من قبل؟.. أشعر أن هذا قد حدث بالفعل، وأرى الإجابات في عينيك تقفز مؤكدة ما أعتقده .
,
, أخذ حينها نفساً عميقاً من سيجارته التى بيده، وكتمه للحظات داخل صدره كأنما يلتمس به بث الطمائنينة في صدره، ثم أطلقه ببطء ناثراً سحباً من الدخان الكثيفة حولنا، وأجاب ببطء، وبصوت هامس:
,
, - هل تصدقني يا دكتور لو أخبرتك أنهم حولنا طوال الوقت، بل وإنني كثيراً ما أراهم، وأسمع أصواتهم،وصرخاتهم وبكائهم .. نعم أسمع بكائهم، ونحيبهم كأنما هناك ما يحزنهم ويسوءهم .. إنني لست واهماً فيما أدعيه، ولن أكذبك الحديث أبداً بعد هذا العمر..
,
, نعم، في البداية كنت أخشاهم ،وأشعر بالرعب والهلع منهم حين أشعر بهم، لكنني بعد حين اعتدت عليهم، فلم أعد أكترث بهذا كالسابق .. فبعد أن قضيت أكثر من أربعين عاماً من العمل مع الموتى، لاتتوقع أن تجد مايخيفني .. حتى الموت نفسه صرت لا أخافه كالسابق .. إننى أراه، وأعايشه كل يوم..
,
, -أتعني بما تقوله أن هناك بالفعل أشباحاً للموتى و عفاريت لهم ؟.. إذاً هذه الأشياء موجودة بالفعل .. أليس كذلك ؟!.
,
, -إنني لا أدري ماذا يكونون بالضبط ؟.. هل هم أشباح أم عفاريت أم أنهم قرين الموتى من الجان ..صدقني لا أدري ما حقيقتهم .. لكن هناك بالفعل أشياء مرعبة تدور دوماً حول الجثث .. أشياء شاب لها شعري مُذْ كنت شاباً صغيراً .. لكني كما ذكرت لك لم أعد أعبأ بها الآن، وقد صرت شيخاً كبيراً ، على أعتاب الموت .. ليكونوا مايكونون، فعمّا قريب سألحق بهم، وحينها حتماً سأعرف الإجابات كلها.
,
, كان مايقوله مثيراً ، وشعرت بنشوة هائلة مما أسمعه ..كانت هذه أول مرة أرى فيها من يُجزْم بوجود أشباح عايشها .. خبرة تمنيت أن أعايشها، ولو مرة واحدة في عمري، وإن كنت أخشى حدوثها بشدة .. ولا أدري حقاً ماذا سأفعل لو واجهت شبحاً في يوم ما .. هل سأعدو هارباً منه ؟.. أم تراني سأتفحصه ثابت الجنان ؟.. لن أعرف حقاً إلا لو واجهتهتم.
,
, لذا ملت نحوه متسائلاً بحماس :
,
, -إذاً أخبرني كيف تراهم ؟ .. وكيف يبدون لك ؟.. هل تراهم كطيف مثلاً .. أو ضباب كما يصفهم البعض، أم أنهم يتخذون شكلاً مادياً محسوساً ؟
,
, -إنني لا أراهم بعيني بصورة واحدة متشابهة .. أحياناً هم كالظلال، وأحياناً أُخرى أراهم كالأحياء يحومون حول الطاولات التي تحوي جثثهم .. لكن في الكثير من الأحيان لا أراهم بعيني، بل أشعر بوجودهم حولي .. إن لهم حضوراً مميزاً لا شك فيه، ولو كنت دقيق الملاحظة، فسوف تشعر بهم حتماً حين يكونون حولك.
,
, صمت بعدها، وأخد نفساً عميقاً وأخيراً من الجزء الباقي من سيجارته،كأنما يعتصر دخانها المتبقي كله، قبل أن يلقيها أسفل قدمه ويسحقها، ثم سعل مرة أخرى بشدة ، وبصق على الأرض، قبل أن يُكمل:
,
, -لا أتكلم عن الأصوات والصرخات والأشياء التي تتحرك بلاسبب .. كل هذا يحدث كثيراً .. لكنني أتحدث عن الإحساس بهم وهم يحيطون بك .. دوماً هناك ذلك البرد الذي يتسلل إلى جسدك، فتكون تلك الارتجافة التى تخترق نخاع عظامك نفسه .. هناك ذلك الإحساس المريب أن هناك من يقف خلفك، فإذا ما التفت لاتجد أحداً .. أحياناً ترى تلك الظلال المنعكسة على الحوائط، والتى لاتمت بصلة للموجود بداخلها .. إنها أمور غريبة تحدث، وتنبئك بأن شيئاً ما غامضاً يدور حولك ولاتراه .. لكن في أحيان قليلة أخرى، قد أرى صاحب الجثة نفسه في الفراغ شاخصاً نحوي بعيون جامدة مفزعة .. هذه المرات النادرة هي ما أهابها بشدة وأخشاها.
,
, وبدت حركة ما مفاجئة حينها، فالتفت كالملسوع ونظرت حولي بتوتر ..كنا حينها في المشرحة، ولا أحد حولنا الآن على الإطلاق .. لم يكن اليوم يوماً دراسياً فلا محاضرات هناك أو طلاب، لذا بدا المكان مهجوراً تقريباً .. وشعرت بالرهبة للحظة ،واعتراني هاجس سخيف أن عم فراج يراقب هلعي المفاجئ هذا باستمتاع ..لم أرغب في أن أراه يرمقني هكذا ساخراً ، لذا قلت بتوتر :
,
, - ومع كل هذا مازالت تنام بالمشرحة بمفردك .. من العسير أن أتخيل نفسي مكانك .. أنت تمتلك قلباً فولاذياً لتفعل هذا.
,
, أطلق ضحكته المشروخة حينها، مجيباً بشيء من اللامبالاة:
,
, -أكل العيش يادكتور.. أكل العيش الذي لا يرحم.
,
, صمَتُ لوهلة متخيلاً أكل العيش الذي قد يدفع صاحبه للجنون أو الموت رعباً .. هذا مالا يمكنني ان أفهمه .. ما لذة الطعام أو الشراب أو الأموال لو عشت دوماً في فزع أو خوف ؟.. وكيف تتذوق حلاوة هذه الأشياء دون أن تحيا مطمئناً ؟.. ورمقته بحيرة وأنا لا أدري كيف أكمل حديثي، بينما أشعل هو سيجارة جديدة، وقال لي باسماً :
,
, -هل ترغب في تناول كوب من الشاى معي ؟
,
, أفقت من تأملاتي قائلاً على الفور:
,
, -لاداعي لهذا.. أشكرك.. لكن أخبرني، هل حاولت هذه الأشباح يوماً أن تؤذيك، أوتعترضك وتخيفك مثلاً، أم أنها تكتفى بالتواجد فقط.
,
, بدت نظرة شاردة على عينيه، وأخذ في التدخين بشيء من العصبية، لاحظتها في ارتجافة خفيفة سرت في أصابع يده الممسكة بلفافة التبغ ، وعيناه اللتان ارتفعت مقلتاهما نحو سقف الحجرة .. شعرت بأن هناك ذكرى ما يتذكرها الآن .. ذكرى ربما ذكره كلامي بها .. وبدت تلك الذكرى وكأنها غير سعيدة أبداً .. بدا هذا بشدة في ملامحه التى تقلصت بتوتر ، ويده التى واصلت الارتجاف..
,
, إلا أن فضولي كان عاتياً .. وأردت أن أسمع منه ماعاشه أو رآه في تلك المنطقة الغامضة .. عالم الأشباح والأرواح .. هذه خبرات قد لايعايشها المرء في حياته كلها .. والغالبية من البشر قد لاتصدق بوجودها، وترفض الإيمان بها.
,
, أنا شخصياً ، وبالرغم من قراءاتي لم أعايش مثل هذه الخبرات إلا بين صفحات الكتب أو عوالم السينما .. لا أرفض وجودها كلية، ولا أقبلها كذلك.. المشكلة الحقيقية أن الأفاقين من شهود هذه الأحداث كثيرون للغاية، حتى لتختفي الروايات الصادقة بين أمواج الروايات الهزلية الملفقة .. لهذا أردت أن أسمع من عم فراج ماحدث له .. فالرجل مع طيبته هذه محدود التعليم، وقليل الخيال بالتأكيد، كما أنه غير كاذب .. هذا شيء عرفته عنه منذ زمن، ولهذا فمن الصعب أن أكذب ما سيقوله لي .. ربما لايكون دقيقاً تماماً فيما يذكره، إلا أنه حتماً لن يلفقه.
,
, وطال صمته حينها فقلت له مداعباً ، محاولاً حثه على البوح بما يخفيه عني:
,
, -أين ذهبت بعقلك أيها العجوز ؟!.
,
, بدت انتفاضة خافتة في وجهه، وقد أفاق من تأملاته .. قال بعدها راسماً ابتسامة باهتة على وجهه :
,
, -مازلت معك يادكتور .. لقد سبح عقلي نحو أحداث، جرت هاهنا منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً .. أحداثاً مخيفة، وشريرة لأقصى حد .. إن الكثير من شعيرات رأسي البيضاء التى تراها الأن حدثت حينها .. ذكريات طالما تمنيت أن أنساها، وطالما تمنيت كثيراً ألا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى .. فلم يعد قلبي كالسابق، قادراً على احتمال مثل هذه الأحداث الشيطانية، ولا شيخوختي عادت لتسمح للإثارة أن يكون لها دور في أيامي المتبقية.
,
, وسحب النفس الأخير في بقايا السيجارة الثانية التى يدخنها، تاركاً إياي أتطلع إليه مترقباً، ثم قال بصوت خافت كأنما يخشى أن يسمعه أحد ما:
,
, -هل تعلم أنني طالما كنت أحاول أن أتناسى هذه الأيام المشئومة .. وحين كانت بعض أحداثها تراودني في يقظتي أو ككوابيس في أحلامي، كنت أحاول أن أنساها بالقيام بالكثير من الأعمال أو..
,
, وارتسمت ابتسامة باهتة على وجهه، زادت تجاعيده، وأكمل:
,
, -هل تعلم يادكتور أنني لجأت للحشيش حينها كي أنسى ..كنت في حاجة لأن أغيب أحياناً عن الواقع ، وأن أنسى ما حدث .. هذه الذكريات لم تحمل لي الرعب فحسب، بل فقدت خلالها أحد ما كنت أعده ابناً لي.
,
, شعرت بالشفقة نحوه .. بدا لي الآن أنى أخطأت حين أيقظت بداخله تلك الذكريات الأليمة .. تمنيت لو كنت قد كتمت فضولي، لذا قلت معتذراً :
,
, -أنا آسف بحق ياعم فراج لو كنت قد أزعجتك بفضولي .. وأرجو أن تسامحني على هذا، فلم أقصد أن أذكرك بتلك الذكرى السيئة .. لو كنت أعلم أن هذا سيقلب عليك آلام مدفونة لما تحدثت أبداً .. لذا تجاهل أسئلتي كلها، ولا تحاول أن تتذكر أو تحكي أي شيء .. بل إنني سأنصرف الأن كي لا أضايقك أكثر من هذا.
,
, ونهضت حينهاً مبدياً جديتي في الانصراف، إلا أنه أسرع قائلا لي، وهو يجذبني من ذراعي داعياً إياي لأن أنتظر:
,
, - لا بأس أبداً بما قلته يادكتور .. أنت لا تزعجني بالفعل ، لذا اجلس أرجوك.. ربما يدهشك أني أريد الآن أن أحكي لك ماحدث .. إن هذه أول مرة أحكي فيها ماحدث لأحد ما .. فالكثير من الأشخاص الذين عايشوا ما حدث قد ماتوا، ومن عاش منهم ربما لم يعد يتذكرها الآن .. إنني مازلت أذكر كل شيء .. أذكر أشياءً أردت أن احتفظ بها لنفسي، وكنت أنتوى أن آخذها معي حتى قبري .. لكنني الآن أريد أن أحكي .. إن ماكتمته لأعوام طوال ليموج في صدري الآن ملحاً عليّ أن يرى النور ثانية، لذا فلا بأس من أن اقصَّ عليك ما جرى.
,
, - صدقني ياعم محروس أنا لا أريد مطلقاً أن أثقل عليك .. لقد كنت فقط أداعبك قليلاً .. لايهم كثيراً أن تقص عليّ أي شيء .. مايهمني هو ألا أوقظ في نفسك ما قد يؤلمك أو يضايقك.
,
, قلتها صادقاً مشفقاً ، شاعراً بالأسف الحقيقي نحوه .. لكنه قال مصرّاً :
,
, -كلا يادكتور .. أنت دوماً على الرحب والسعة .. ولكن هل لديك الوقت الكافي كي أقص عليك ماحدث، أم أن وقتك محدود؟..إن حديثنا سيطول.
,
, نظرت إلى ساعتي .. كانت مازالت الحادية عشر صباحاً ، ولم يكن هناك أي موعد لي قبل الرابعة عصراً ، فقلت له مطمئناً :
,
, - لاتقلق بشأني أيها العجوز .. فمازال أمامي مُتسع من الوقت لأسمعك .. يمكنك أن تحكي كما تشاء.
,
, وتنهد بإرتياح ونهض متجهاً إلى -سبرتاية- عتيقة قابعة على طاولة خشبية بجوار أحد جدران حجرته ،وهو يقول:
,
, -حسناً ليكن ذلك ..لكن دعني أولاً أعد بعض الشاي الثقيل من أجلنا.
,
, أخذ يعد الشاي بشرود كأنما يرتب ذكرياته ويصنفها في عقله ،ورحت أراقبه بلهفة، وأنا أنتظر ما سيلقيه على أذناي ..كنت متحمساً بشدة كي أسمع، يومها حكى لي الأحداث التى مر بها منذ أعوام بعيدة .. وكالعادة كنت مبهوراً كثيراً بما حكى .. بالطبع كانت الأحداث مرعبة ومخيفة وعسيرة التصديق .. إلا إنني لم أستطع أن أكذبه .. وقلت لنفسي حينها "مالذي يدفع رجل مثل هذا، وقد بلغ من الكبر عِتيا ، أن يختلق مثل هذه الأحداث؟.. لاشيء بالتأكيد..إن ماقصه علي لابد أنه قد حدث بالفعل، أو على الأقل هو يؤمن أنه قد حدث، لكنه لايكذب."
,
, بالطبع كنت محظوظاً ؛ فقد استطعت بعدها الحصول على الكثير من تفاصيل القصة من أهم أبطالها الذين عايشوها ..
,
, الدكتور عدلي راغب.. كان له دور رئيسي بالقصة ،وحكى لي فيما بعد ما يتذكره عن تلك القصة..
,
, واكتملت حينها خيوط القصة بأكملها في رأسي.. وكان عليّ أن أحكيها لكم ..
,
, وها أنا أفعل..


١


كانت البداية قبل أسبوع واحد من بداية العام الدراسي .. كانت هذه هي أيام التعب الفعلية في العمل بالمشرحة .. فالعمل كان حينها كثيراً بحق .. كانت هناك الكثير من أعمال الصيانة للمشرحة .. وهناك الكثير من الزيارات إلى مشرحة زينهم، وغيرها لجلب الجثث التي يحتاجها الطلاب في دراستهم .. أيضا كان هناك تحضير الجثث، وحفظها بالفورمالين كى لاتتحلل أو تتلف .. والعمل على جلب الكثير من العظام، والهياكل العظمية للطلاب لبيعها لهم أو إعارتها إياهم .
,
, كان هذا صيف 2223 م، تلك الأيام السعيدة الهنيئة التي عاشتها مصر بأكملها بعودة السفور والتبرج أخيرا وزوال خمينية ايران وال سعود وحكام ممالك الخليج واخوانهم وسلفييهم وازهرهم ودواعشهم وتكفيرهم وتحريمهم وحجابهم ونقابهم ولحاهم وحدود شريعتهم الخ وانتصار العلمانية والقيم الاوروبية والحريات الجنسية والدينية والابداعية والفكرية والتنوير والسلام والتسامح الكامل والمحبة الشاملة وعودة الاشتراكية وتحول مصر ومن حولها لدول علمانية عظمى مكتفية ذاتيا اقتصاديا زراعيا وصناعيا وعسكريا
,
, كان عم فراج قد أمضى في عمله بالمشرحة أكثر من عشرة أعوام .. تعلم خلالها كل أسرارها حتى صار كبير العمال بها .. لم يكن يعمل بمفرده بالطبع، فقد كان هناك ثلاثة عمال آخريين للمساعدة ..
,
, كان الأول هو عبد الوهاب النوبي .. نوبي أسمر البشرة .. كان نحيل الجسم كعود ثقاب، لكنه كان نشيطاً كنحلة، كان في بداية العشرينات من عمره، وكان فيه كل ما في أبناء النوبة من طيبة ووداعة، ولهذا كان عم فراج يشعر نحوه بالراحة ويحبه ..
,
, كان هناك – أيضاً - مرزوق شتا .. فلاح من البحيرة، أدرك بفطنة أن أعمال الفلاحة والزراعة لن تغني شهوته للمال الذي يرغب فيه بشدة، فقرر هجرها، وباع القراريط القليلة التي يملكها في بلده، ليهاجر بزوجته، وابنيه إلى القاهرة ..
,
, كانت العاصمة قاسية معه في البداية، ولم تعانقه مرحبةً بهِ كما ظن.. وأدرك أن عليه أن يلتحق بعمل ما حتى يعرف طريقه، ويختار طريقاً ما يهيئ له أن يصير ثرياً يوماً ما كما يحلم .. لهذا لم يتردد في أن يعمل في المشرحة حين أخبره أحد جيرانه بالحي الشعبي الذي انتقل إليه للعيش فيه، أن كلية الطب تطلب عمالا للمشرحة ..
,
, تقدم بأوراقه، وتم قبوله في الحال .. كان لئيماً ماكراً، وإن لم يكن خبيثاً .. أدرك هذا عم فراج منذ النظرة الأولى، فلم يرتح له كثيراً .. لكن ماجدوى مشاعره هذه ؟.. إنه لن يتزوج أخته بالطبع، ومايربطه به هو العمل فقط .. كان مرزوق قد مضى على عمله بالمشرحة في ذلك الحين عامين كامليين، والحق يُقال، أنه قد تعلم بسرعة أسرار العمل ،وصار مفيداً بصورة ما.
,
, فى العام الماضي تحدث لعم فراج عن قدرته على إحضار مايلزم المكان من عظام الموتى التي يحتاجها الطلاب .. طبعاً مِنَ العبث أَنْ يسأله عم فراج عن مصدرها..
,
, سيسرقها بالتأكيد من المقابر .. بالتأكيد هذا ما كان يفعله.
,
, ولم يشأ عم فراج أن يتورط معه في أمر كهذا، لهذا أخبره أن لاحاجة به إلى ما يجلبه من تلك العظام..
,
, لكنه راح يلحظ من بعيد كيف صار مرزوق يغيب عن العمل، من حين لآخر ليومين أو ثلاثة، ليعود بعدها بالكثير من العظام .. لابد أنه يجلبها من مقابر قريته أو مقابر قرى المجاورة لها ..بالطبع صار الأمر أكثر بهجة لمرزوق وقد ابتسمت الدنيا له .. وفي شهور قليلة صار مقصد الكثير من الطلاب، حيث يشترون منه مايحتاجونه من العظام .. كما ثناثرت- أيضاً - بعض الأقوال عن قدرته على جلب بعض الجثث الكاملة أو أجزاء منها لمن يريد مادام قادراً على الدفع ..
,
, كان عم فراج قد سمع، ورأى من قبل، مثل هذه النوعيات من البشر، التى لاتتردد في فعل أي شيء من أجل المال .. في الغالب لن يمضي وقت طويل قبل أن يكون مرزوق في السجن بتهمة نبش المقابر، هذا بالطبع إن لم يفتك به أصحاب تلك المقابر التى ينتهكها، ويسرقها لو نجحوا في اصيطاده يوماً ما..
,
, كان العامل الأخير هو حسن عبد الهادي ..بَدِين، أخرق، وكسول .. كان من القاهرة، وكان لا يفعل شيئاً إلا النوم،والأكل،والنميمة، والشكوى من زوجته التي تسيء معاملته بلسانها السليط حتى أحالت حياته لجهنم صالية، كما يحب أن يقول..
,
, هؤلاء كانوا عمال المشرحة ..
,
, وقبل أن يبدأ العام ظهرت المشكلة...
,
, لم يكن هناك إلا جثث ثلاث فقط بالمشرحة .. كان هذا العدد ضئيلاً للغاية، ولم يكن هذا العدد كافياً لمتطلبات الدراسة .. كان المعتاد أن يتوافر بالمشرحة عشر جثث على الأقل في بدء العام الدراسي، كي تكفي أعداد الطلاب المتزايدة .. ولم يتوافر إلا تلك الجثث الثلاث، وهنا كانت المشكلة.
,
, ذهب عم فراج أكثر من مرة لمشرحة زينهم، عسى أن يحصل منها على المزيد من الجثث، لكنها كانت تعاني من قلة الجثث الواردة إليها في ذلك الحين .. بدا الأمر حينها كأنما كف الناس عن الموت .
,
, بالطبع كان هناك الكثير من الاتصالات من الدكتور فهمي، رئيس قسم التشريح في ذلك الوقت، وغيره من الأساتذة بالمسؤولين بمشرحة زينهم، لكن كل هذا كان بلا جدوى، فالمشرحة بالفعل لم تحوي أي جثث لتذهب لكلية الطب.
,
, وفي قاعة المشرحة قال الدكتور فهمي، وهو ينفث دخان سيجارته بحنق، وعيناه تتأمل الجثث الثلاث باستنكار:
,
, -لست أصدق ما أراه .. ثلاث جثث فقط هي كل مالدينا .. هذا مستحيل .. لن يبدأ العام الدراسي بهذا العدد القليل أبداً .. علينا أن نفعل شيئا ما.
,
, وتبعه عم فراج، وهو يقول محاولاً تهدئته:
,
, -لاتقلق يادكتور .. مازال أمامنا بعض الوقت .. وأعدك أن أبذل قصارى جهدي كي أوفر الجثث المطلوبة .. لقد طلبت من عبد الكريم كبير العمال بمشرحة زينهم أن يعلمني لو توافرت أي جثث جديدة لديهم، ووعدني أن يفعل.
,
, -أعطه يافراج بعض الأموال لو تطلب الأمر، ليهتم .. أمامنا أقل من أسبوع واحد على بدء الدراسة، ولابد أن نحصل على جثتين آخرتين على الأقل قبل ذلك.
,
, -لقد وعدته بإكرامية معقولة يا دكتور فاطمئن .. ولن أتركه إلا بعد أن يمدنا بما نحتاجه من الجثث.
,
, -هذا ما أنتظره منك يا فراج .. إننى أعتمد عليك في هذا.
,
, وغادر المشرحة في عصبية، وهو يتمتم بكلمات مبهمة غير مفهومة، بينما اتجه عم فراج إلى الداخل حيث انهمك العمال الثلاثة في تحضير الجثث الثلاث، لحقنها بالفورمالين ..
,
, هناك كانت الرائحة الشيطانية التي لاتطاق .. إنه الفورمالين لمن لايعلم .. الكثير من الدموع والنيران الملتهبة بالعين والأنف، ونيران أخرى تشتعل طوال الوقت بالحلق، ولا يُجدي معها السعال أو أي شيءآخر .. إنه جحيم حقيقي يافتى لايمكنك أن تهرب منه أو تتجنبه.
,
, هنا اقترب منه مرزوق، وهو يمسح عينيه الدامعتين المحتقنتين بطرف كمه، وقال راسماً ابتسامة تعبق بالسماجة على وجهه:
,
, - لماذا كان الدكتور فهمي عصبياً هكذا .. هل هناك ما يغضبه؟
,
, - إنه حانق لقلة الجثث بالمشرحة، إن الجثث الثلاث لاتكفيه ويرغب في توفير المزيد منها.
,
, -لكنك قد ذهبت بالأمس إلى مشرحة زينهم من اجل هذا كما أعتقد .. لماذا إذا لم تجلب المزيد من الجثث من هناك ؟
,
, -لايوجد لديهم جثثاً تصلح لنا .. الجثة الوحيدة المتوافرة بها الآن محترقة تماماً، ولاتصلح للدراسة عليها.
,
, -وماذا تنوي أن تفعل ؟
,
, -لا أدري !.. لكنني بالتأكيد لن أهبط إلى السوق مثلاً لأجلبها .. ليس بيدنا أي شيء إلا أن ننتظر.
,
, هنا سعل مرزوق للحظة كأنما يطرد شيء ما من حلقه، قبل أن يميل نحو عم فراج، ويهمس في أذنه بصوت كالفحيح وعيناه تبرقان:
,
, -وماذا لو كنت أستطيع توفير جثث طازجة للمشرحة، وبأي عدد ترغبون فيه .. يمكنني أن أقوم بهذا الأمر بالطبع لو شئتم.
,
, واتسعت عينا عم فراج بالكثير من الامتعاض والدهشة، وقد أدرك مايلمح به مرزوق .. بالطبع لم يكن ليقبل بشيء كهذا .. لذا قال له بحدة:
,
, -اصمت يا رجل .. إننا لا نرغب في جثثك المشبوهة تلك..احتفظ بها لزبائنك، وحين أحتاج إليك سأخبرك.
,
, تجاهل مرزوق نظرة الامتعاض التي رمقه به عم فراج كعادته، ومضى مبتعداً ببساطة، وبرود،كأنما لم يحدث شيء، وشعر عم فراج بالغيظ .. هل صُنِعَ هذا الرجل من الثلج؟.. كان يحنقه بروده الشديد .. إنه رجل لا تنتظر منه أن يخجل منك لأي سبب ما، أو يتأثر برأيك فيه، أو نظرتك عنه .. هذه أشياء لاتترجم لديه إلى أموال، لهذا لا يعبأ بها ..
,
, وسمع مرزوق يقول ،وهو يبتعد متجهاً إلى الطاولة التي رقدت عليها الجثة التي يعمل عليها.
,
, -لقد كنت أعرض خدماتي فقط .. لا أدري لماذا تغضب ؟!..
,
, - لكننا لانحتاجها .. ظننت هذا واضحاً.
,
, أجابه عم فراج ببرود ، وعقله يفكر فيما يمكنه أن يفعله لحل هذه المشكلة ..لكنه لم يصل لحل يرضيه ..فقرر أن يترك الأمر ،فربما يأتي الفرج قريبا ..


٢


وظل الأمر هكذا إلى يوم الأربعاء، ولم يعد متبقياً غير أيام ثلاث، قبل أن تبدأ الدراسة .. لم ينجحوا إلا في توفير جثة أخرى .. لكن بالرغم من هذا مازال عدد الجثث بالمشرحة غير كافٍ .. ومازال الدكتور فهمي في جنون.
,
, وراح الدكتور فهمي يتجول بالمشرحة بعصيبة وحنق، ووجهه محتقن؛ حتى تخال أن الدماء المحتشدة في أوردتهِ سوف تنفجر منها في أي لحظة، كان بصحبته اثنان من أستاذة القسم الكبار، وعلى مقربة منهم بالخلف تبعهم عم فراج ..
,
, كان الرجل كعادته يدخن بشراهة وحنق، وهو يتطلع الى الجثث الأربعة الراقدة أمامه على طاولاتها الرخامية، وعيناه لاتصدق أن يبدأ العام الدراسى بهذه الجثث الأربع فقط .. كانت الجثث مغطاة بغطاء بلاستيكى قاتم، ومازلت رائحة الفورماليين الطازجة تفوح منها بصورة خانقة أدمعت العيون كافة، وأشعلت نيرانها، وهيجت أغشية الأنوف فأسالتها .. وتوقف في منتصف القاعة، وصاح بعصبية وهو يضرب كفاً بكف:
,
, -لا أدري كيف سنبدأ الدراسة بأربع جثث فقط .. هذا عبث !.. سوف يتكدس الطلاب حول الجثث، ونصفهم على الأقل لن يرى أي شيء .. إننا نرتكب جريمة حقيقة بحق الطلاب، لو قبلنا بهذا و لم نجد حلاً ما.
,
, قال الدكتور أنيس رئيس القسم السابق محاولاً تهدئته، وقد كان يسير إلى يمينه:
,
, - إنها ورطة بالفعل .. لكنني أرى أن نلجأ لحلول مؤقتة حتى نحصل على باقي الجثث التى نحتاجها .. يمكننا مثلاً أن نقسم الطلاب إلى عدد أكبر من المجموعات .. هذا سيقلل عددهم في المجموعة الواحدة، مما يتيح لهم الفرصة لاستيعاب مايدرسونه.
,
, صمت الدكتور فهمي مفكراً للحظة، وهو يطلق من أنفه وفمه سحباً رمادية كثيفة من دخان سيجارته، قبل أن يهز رأسه رافضاً الفكرة، ويقول:
,
, -ومن أين سنجد الوقت الكافي لكل هذه المجموعات التي سوف نصنعها يا دكتور أنيس ؟.. إن ساعات اليوم الدراسي محدودة للغاية كما تعلم .
,
, هنا قال الطبيب الآخر ، وهو الدكتور فؤاد، مقترحاً حلا آخر:
,
, -ما رأيكم لو قسمنا الطلاب إلى مجموعتين .. المجموعة الأولى تكتفي بالدراسة النظرية في أسبوع، والأخرى تقوم بالدراسة العملية بالمشرحة في هذا الأسبوع، وفي الأسبوع التالي نقوم بتبديل المجموعتين .. أظن أن هذا قد ينفع مؤقتاً.
,
, لكن هذا الاقتراح هو الآخر لم يرق للدكتور فهمي ، فغمغم معترضاً :
,
, - لكن هذا سيقلل من فترة احتكاك الطالب بالجثث في المشرحة، وهذا سيؤثر حتماً على استيعابهم .. على الطالب في البداية أن يمكث بالمشرحة حول الجثث أطول وقت ممكن، حتى يعتادها ويتعلم منها.
,
, وافقه الدكتور أنيس قائلاً :
,
, -بالتاكيد يجب أن يفعل الطلاب هذا .. لكن الحلول التى نقترحها هى حلول مؤقتة، ريثما يتوافر العدد الكافي من الجثث .. لا أظن أن المشرحة ستعاني من نقص الجثث طوال الوقت .. لقد واجهنا نقصاً كهذا من قبل، ولم يدم الأمر لفترة طويلة .. هناك دوماً جثث جديدة .. فالناس لايكفون عن الموت أبداً .. وقال الدكتور فهمي، وهو يشعل سيجارة جديدة ، كانت الثالثة في أقل من عشر دقائق :
,
, -هذا صحيح، لكن هذا العام يختلف عما مضى .. طلاب الدفعة الجديدة سيزيدون خمسين طالباً عن طلاب الدفعة السابقة .. وهذا يعني حتما الحاجة للمزيد من الجثث، فما بالك، ونحن لم نستطع توفير الحد الأدنى من الجثث اللازمة للدراسة حتى الأن.
,
, وصمت الثلاثة بعدها، وراحت عقولهم تبحث عن حل ما، وهم يدركون فداحة الأمر .. راحت عيونهم تتفحص جوانب المشرحة بشرود، بينما كان عم فراج يتبعهم دون أن يتدخل .. وهنا فوجئ بالدكتور فؤاد يلتفت إليه، ويقول له مداعباً :
,
, -مارأيك في ما يحدث يا فراج .. ألديك اقتراح ما ؟!... أجابه عم فراج مبتسماً :
,
, - صدقني أنا لا أكف عن البحث يادكتور .. إنني أرتاد كل المستشفيات بحثاً عن جثة ما دون جدوى .. أتمنى لو كان هناك شيء ما أستطيع أن أفعله، كي أتمكن من جلب الجثث المطلوبة، وحل هذه المشكلة.
,
, ابتسم الدكتور أنيس، وغمزة بعينه اليسرى، وهو يقول بلهجه غامضة غريبة لم يألفها منه عم فراج :
,
, -يمكنك أن تجلب إحدى الجثث من مقبرة ما .. هذا ليس بالأمر العسير هذه الأيام .. في الماضي كان عم عبد العليم الراحل يعرف ما عليه أن يفعله، حين نواجه مثل هذه المواقف .. لقد كان أريبا في هذه الأمور.
,
, شعر عم فراج بالدهشة مما يسمعه .. هذه أول مرة يطالبه الدكتور أنيس بشيء كهذا .. أطلق بعدها ضحكة قصيرة ، وقال محاولاً أن يستشف إن كان الدكتور أنيس يداعبه، أم أنه جاد في حديثه :
,
, -يمكنني أن أسرق عشرات الجثث لوشئتم .. لكن ماذا لو قبضوا عليّ ؟!.. حينها لن يكون هناك غير السجن بلاريب، ولا أظن أن طقسه الحار وأمراضه تناسبني هذه الأيام .. ربما لم أكن لأمانع لو كان الوقت شتاء.
,
, وضحك الثلاثة لدعابته، إلا أن الدكتور فهمي أسرع يقول، مستعيداً عصبيته التى تلازمه كظله:
,
, -ولماذا يمسك بك أحد ما أو يكون هناك سجن ؟.. كل ماعليك أن تفعله هو أن تراقب مقابر أحد النجوع أو القرى البعيدة عن القاهرة، و تأتي منها بجثة طازجة .. عم عبد العليم كان قد فعلها من قبل مراراً كما أخبرناك .. ولو كنت تخشى أن تفعلها بنفسك، يمكنك أن تستأجر من يفعلها بدلاً منك .. خذ ما تشاء من مال وأفعل!.
,
, وعقب عليه الدكتور فؤاد مؤيداً ، بينما الذهول قد عقد لسان عم فراج فلم يجد جواباً :
,
, -ثم إن هذه لاتسمى سرقة أبداً .. إنك تفعل هذا من أجل العلم ومن أجل أن يتعلم الطلاب .. عمل عظيم من أجل الطلاب الذين سيتعلمون عليها ويدرسونها.
,
, ولم يكن هناك مايجيب به عم فراج، وقد صدمه طلبهم هذا، فاكتفى بتحريك رأسه بلا معنى، وقال الدكتور فهمي بلهجة آمرة، كأنما يرغب في إنهاء الأمر، وتوريط عم فراج بالموافقة:
,
, -اسمع يا فراج ..لو استطعت توفير جثة قبل يوم السبت فسوف أمنحك مكافأة طيبة .. كما أن كافة التكاليف، والمصاريف اللازمه لجلب الجثث سوف يتحملها القسم .. اجلبها مهما كانت التكلفة، وسوف أكافئك.
,
, وغادروا المشرحة بعدها، وتناهى لسمع عم فراج صوت الدكتور فهمي قائلاً قبل أن يخرج:
,
, -إنني في انتظار جثة أو اثنتين يا فراج قبل يوم السبت .. إن مكافأة حقيقية بانتظارك، لو استطعت توفير تلك الجثث.
,
, تركوا عم فراج دون أن يدركوا كيف شعربضيق شديد مما طلبوه منه ومن تورطه بالأمر..
,
, لم يكن يتخيل أن يحدث هذا معه..لكنه لن يقبل أن يكون نباشاً للقبور مهما حدث، كي يجلب لهم الجثث التي يريدونها .. ليفعلونها بأنفسهم لو شاءوا .. لكنه لن يفعل .. وبعد حين عاد ليفكر، هل كانوا يحدثونه بجدية، أم أنه أساء فهمهم، وأنهم فقط كانوا يداعبونه .. تمنى لو كان هذا حقيقاً .. لكنه كان يدرك أنهم جادون في الأمر تماماً .. كانت هذه مصيبة بحق .. كان عليه أن يجد حلاً ما.
,
, وأسند ذراعه إلى إحدى مناضد الجثث الفارغة .. أخرج من جيب بنطاله علبة سجائره، وأشعل سيجارة جديدة ، وأخذ يبصق دخانها بحنق .. لكن وبعد هنيهة - هُنَيْهَةً : وَقْتاً، لَحْظَةً قَصِيرَةً، يَسِيرَةً - قفز إلى عقله مرزوق، وحديثه من قبل عن قدرته على جلب الجثث .. تنهد بإرتياح حينها .. مادام الأمر قد وصل إلى سرقة الجثث من المقابر ، فليقم به إذا من يجيده .. ليخبر مرزوق بما قالوه، وليترك الأمر كله على عاتقه .. لن تكون هذه أول مرة يفعل فيها شيئاً كهذا بالتأكيد .. كما أنه هو الذي عرض خدماته من قبل لتوفير الجثث للمشرحة..
,
, اتجه للحجرات الملحقة بالمشرحة كي يبحث عنه .. وجده جالساً بإحدى غرف المشرحة الجانبية، يتجادل مع حسن الذي علا صوته الغليظ، وراحت ذراعاه الممتلئان تلوحان في الفراغ في كل إتجاه، وهو يحاول أن يثبت أمر ما، بدا متحمساً في حديثه واحتشد عرقه على جبهته زاحفاً عنحو وجنتيهه حتى وصل الى رقبته وتكاثف فيها، وقد بلل القميص من تحت إبطيه في منظر ملفت .. بينما جلس في ركن بعيد عبد الوهاب يحتسي كوباً من الشاي، ويتابعهما باستمتاع، دون أن يشاركهم في الحديث..
,
, توقف عم فراج أمام باب الحجرة، ونادى مرزوق قائلاً باقتضاب :
,
, -مرزوق .. أريدك أن تساعدني في شيء ما بالداخل ؟.. انتبه مرزوق له، فالتفت برأسه نحوه، ورمقه محاولاً سبر غوره - سَبَر غَوْرَه : تبيَّنَ حقيقته وسِرَّه -، وأجاب بشيء من اللزوجة كعادته :
,
, -أساعدك في ماذا ياعم فراج ؟.. وهل مازال هناك عمل ما لم نقم به؟..
,
, -العمل بالمشرحة لاينتهي أبداً .. هيا انهض يارجل وسترى بنفسك.
,
, قال عبد الوهاب بلهجته النوبية المميزة، عارضاً خدماته:
,
, -هل تريدني أنا –أيضا - ياعم فراج ؟.
,
, -لاداعي لهذا .. أكمل أنت شرب الشاي .. إن مرزوق يكفي.
,
, ظل مرزوق يحدق إلى عم فراج بعيون متسائلة، كأنما يرغب في النفاذ إلى عقله دون أن يغير من جلسته أو ينهض .. وتأفف بعدها عم فراج بنفاذ صبر، فنهض مرزوق بتثاقل، وهو يغمغم بضيق مفتعل:
,
, -حسنا يا عم فراج .. كما تحب .. أرني أين هو هذا العمل ؟. لم يجبه، وسار بخطوات سريعة نحو الداخل ، فتبعه مرزوق باستسلام، ولما استيقن عم فراج أنهما ابتعدا مسافة معقولة عن الباقين، التفت إليه، وقال محاولا تحاشى النظر إلى عينيه:
,
, -هل تستطيع إحضار جثة ما بحالة جيدة قبل يوم السبت؟
,
, وارتسمت ابتسامة ماكرة على وجه مرزوق، والتمعت عيناه بشدة، قبل أن يقول بلهجة عجيبة:
,
, -إذاً احتجت خدماتي..
,
, -لست أنا من يحتاجك .. لقد طلب الدكتور فهمي أن نفعل هذا ففكرت فيك .. والآن أخبرني هل يمكنك أن تفعل ؟.
,
, -يمكنني بالطبع ..لكن هذا يتوقف على النقود .
,
, - وكم تريد؟..
,
, حكَّ مرزوق رأسه بيده متصنعاً التفكير، وقال :
,
, -أخبرني أولاً .. كم جثة تريدون ؟.
,
, -جثة واحدة فقط.
,
, - سأقبل بخمسين جنيها فقط في تلك الجثة .. إن هذا من أجلك أنت.
,
, تجمدت نظرات عم مرزوق ذهولاً .. خمسون جنيهاً مرة واحدة .. مبلغ كهذا كان ضخماً بحق في تلك الأيام .. كان أكبر من راتب شهرين كامليين له .. لهذا قال معترضاً بغيظ :
,
, -أنت تحلم .. لست أنا من سيدفع .. إنه الدكتور فهمي، وهو لن يقبل أبداً أن يدفع لك مثل هذا المبلغ .. لن يدفع أكثر من خمس وعشرين جنيهاً .. أنت واهم لو ظننت أن هناك من يدفع في جثة سعر كهذا.
,
, هنا صاح مرزوق معترضاً ، وهو يلوح بكلتا يديه، راسماً الامتعاض على وجهه :
,
, -لكن هذا قليل للغاية، هناك من يساعدني، وهناك السيارة التى ستنقل الجثة، ومجهودي و..و..
,
, وهتف به عم فراج ،مقاطعاً :
,
, - إذا سأقنع الدكتور فهمي بأن يدفع ثلاثين جنيهاً بلا أي مليم آخر .. هذا عرضي الأخير .. إما أن تقبل، أو أبحث عن أحد غيرك.
,
, صمت مرزوق مفكراً ، وحكّ رأسه مرة أخرى، وعيناه تبحثان عن شيء وهمي بالسقف، قبل أن يعاود رسم تلك الابتسامة الماكرة على وجهه، وقال باستسلام مفتعل :
,
, -بالطبع لا يمكنني أن أرفض .. لكن هذا من أجلك فقط ياعم فراج .. سأقوم بجلب تلك الجثة، حتى لو كان الأمر بلا مقابل .
,
, تمتم عم فراج بتأفف حقيقي، شاعراً بالإشمئزاز منه :
,
, -بل ستقوم به بمقابل جيد للغايه .. لا شيء مجاني في هذا الزمن .. أريد الجثة هاهنا قبل يوم السبت القادم .. من الأفضل لو أمكنك أن تجلبها الجمعة مساء ؟.. يمكننا أن ندخلها إلى المشرحة دون أن يشعر بنا أحد في هذا الوقت، وسأتولى أنا الأمر مع أمن الكلية .
,
, -لا تخف يارجل ولاتقلق .. يمكنك اعتبار الجثة في المشرحة من الآن.
,
, غادره عم فراج، وهو يتساءل من أين هذا الوغد بكل هذه اللزوجة والجشع، خمسون جنيها في الجثة الواحدة ؟!.. هذا جنون بلا شك.
,
, بينما انصرف مرزوق سعيدا بهذه الصفقة .. لم يكن أيهما يدري أي كارثة مقبلين عليها حينها ..
,
, لو علموا حينها لأنهوا الأمر على الفور وما فعلوه ..


٣


قبل أن تصل عقارب الساعة للعاشرة مساء يوم الجمعة، توقفت سيارة نصف نقل أمام الباب الخلفي للكلية .. هناك كان عم فراج يجلس بجوار خالد الريس حارس الأمن الشاب يدخنان سوياً ، مستمتعين بالنسمات الباردة التى بددت قيظ - أي حر - النهار الصيفي الخانق..
,
, أخبره عم فراج قبلها أنه بانتظار جثة جديدة من أجل المشرحة، فغداً سوف تبدأ الدراسة، ومازالت المشرحة بحاجة للمزيد منها، ولهذا اضطروا أن يأتوا بها ليلاً لضيق الوقت .. بالطبع لم يشك الحارس في شيء، ولم يعقب.
,
, بجوار السائق جلس مرزوق مبتسماً راضياً عن نفسه تماماً .. وتوقف السائق بسيارته أمام الباب، أطلق نفير السيارة لينبهما لقدومه، وفي نفس الوقت لوح مرزوق بيده خارج نافذة السيارة محيياً ، وهو يصيح:
,
, -إفتح الباب يا عم فراج .. إنه أنا.
,
, هرع خالد الريس إليهما كي يفتح الباب للسيارة ،والتي دلفت على الفور نحو فناء الكلية، ثم توقفت على بعد خطوات من الباب، فخرج مرزوق منها، بينما بقى السائق بداخلها منتظراً.
,
, لحق عم فراج بالسيارة، وقال لمرزوق هامساً كي لايسمعه أحد:
,
, -كيف سارت الأمور ؟
,
, -أخبرتك ألا تقلق، كل شيء على مايرام، والأمانة موجودة بالسيارة .
,
, -إذن دعنا لانضيع الوقت، ولندخلها الى المشرحة بسرعة.
,
, قالها عم فراج، ثم سبقه مترجلاً إلى أحد الأبواب الجانبية المطلة على الفناء المتجه للمشرحة، وتبعه مرزوق والسيارة تسير خلفهما ببطء، ثم توقف الجميع أمام الباب.
,
, أسرع السائق بالهبوط، وفتح الباب الخلفي للسيارة .. كان هناك صندوق خشبي يشبه النعوش إلى حد ما يرقد على صندوق السيارة المعدني بطول الصندوق .. صعد السائق فوق صندوق سيارته، وأمسك بالصندوق الخشبي من الخلف، وقام بدفعه نحو الخارج ببطء، بينما تعاون عم فراج ومرزوق على حمل الصندوق الثقيل من الناحية الأخرى ..
,
, اتجه الثلاثة بالصندوق الخشبي نحو المشرحة ،وغمغم مرزوق بقلق محذراً وعيناه معلقتان بالصندوق :
,
, -حاذروا لخطواتكم من فضلكم .. لو سقط الصندوق فقد يتحطم.
,
, صرخ فيه عم فراج بغيظ، شاعراً بثقل الصندوق يكاد أن يخلع كتفيه:
,
, -اصمت يا أحمق وتحرك .. صندوقك اللعين هذا، هو ما سيحطم أذرعنا قبل أن يتحطم.
,
, صمت مرزوق على الفور، وتحرك الموكب الصغير ببطء نحو المشرحة، وقال عم فراج فور أن دلفوا من باب المشرحة، موجهاً إياهما لمكان متسع خلف الباب:
,
, -لننزل هذا الصندوق هنا .. إن هذا يكفي.
,
, أنزلوا الصندوق برفق، وانتصبوا جميعاً ليلتقطوا أنفاسهم اللاهثة من ثقل الصندوق الخشبي، ومايحويه، والتفت عم فراج إلى السائق العجوز مرحباً به مرة أخرى، وهو يقدم له سيجارة من علبته، تناولها السائق بامتنان .. دعاه بعدها لتناول كوب من الشاي بالداخل، إلا أن السائق اعتذر متحججاً بضيق الوقت.
,
, هنا قال مرزوق :
,
, -دعه يذهب ياعم فراج .. مازال أمام عم بلال رحلة عودة طويلة.
,
, وصحبه مرزوق بعدها إلى السيارة .. أخرج من حافظته نقوداً ناولها له، فقام الأخير بعدها بسرعة، قبل أن يقبلها ثم يدسها بحافظة جلدية كبيرة أخرجها من جيبه، ثم رحل بسيارته.. وبالداخل كان عم فراج يتفحص بعينيه الصندوق الخشبي المغلق .. كان خشبه غير مدبوغ، وقد تلوثت جدرانه بالبقع، وبعض الطمي -الطميُ هو عبارة عن تربةٍ - الجاف .. أيقن عم فراج أن مرزوق لابد وأنه قد صنع هذا الصندوق من قبل خصيصاً لمثل هذه المهام القذرة، التي يقوم بها من حين لآخر.
,
, دلف مرزوق الباب وأشار إلى الصندوق بفخر، وابتسامته اللزجة مرة أخرى تملأ وجهه:
,
, -مارأيك ياعم فراج بهذا الصندوق .. لقد كلفني صنعه أكثر من عشرة جنيهات كاملة .. لكنه والحق يقال يستحق .. إنه من الزان.
,
, -لايهمني صندوقك ولا ما دفعته فيه .. إن ما أريده هو الجثة فقط.
,
, -إنها بداخله .. أراهن على أنها سوف تعجبك.
,
, -لا أريدها أن تعجبني .. فقط أريد جثة صالحة.
,
, -إنها كذلك بالفعل .. اطمئن .. إنها سليمة وطازجة .. سترى هذا بنفسك.
,
, وقال عم فراج بضجر، وهو وينحني نحو الصندوق، كي ينتهى الأمر :
,
, -إذا دعنا ندخلها لقاعة التشريح، لنرى هذا بأنفسنا.
,
, تعاونا سوياً وبصعوبه في حمل الصندوق، وإدخاله للقاعة، ثم اتجها به نحو طاولة فارغة، فأرقداه أسفلها، وانحنى مرزوق على الصندوق، وأخرج مفتاحاً صغيراً من جيبه، عالج به القفل الصغير الموضوع بجانب الصندوق، وفتحه، ثم رفع الغطاء العلوي للصندوق، لتظهر الجثة ملفوفة في كفنها الأبيض..
,
, شعر عم فراج بالضيق حين رأى الجثة مستورة بكفنها، وانتابه إحساس ساحق بأنه قد انتهك حرمتها، فهتف في مرزوق غاضباً :
,
, -لماذا لم تنزع الكفن عنها قبل أن تأتي بها ؟.. إنك تفعل أشياء حمقاء.
,
, - ظننت أنه لا بأس من الاحتفاظ به .. لا مبرر هنالك للتخلص منه.
,
, وابتسم مرة أخرى ابتسامته اللزجة مكملاً ، وهو يشير إلى الكفن:
,
, -إنه مازال جديداً كما ترى، يمكننا الانتفاع به مرة أخرى.
,
, رمقه عم فراج بنفور حقيقي، وقال بتأفف، وهو ينظر إليه شذراً - أي نظر بُمؤْخِرِ العين غضباً أو استهانة أو إعراضاً - :
,
, -هل تعلم أنك أكثر من رأيته جشعاً في حياتي كلها .. لا أدري كيف يحيا إنسان ما بتفكيرك وطمعك هذا .. إنك تشعرني بالغثيان يارجل.
,
, لم تختلج عضلة واحدة في وجه مرزوق، وهو يجيب بثبات، دون أن تتعكر ابتسامته لما يسمعه:
,
, -الحياة صعبة يا عم فراج، ولا يصلح لها إلا الشخص (المفتّح) القادر على انتزاع المال من فم الأسد، إننا نحيا من أجل هذا.
,
, وابتلع عم فراج لسانه، ولم يعقب .. لا جدوى من الكلام معه، فلن يتفهم أي منهما منطق الآخر، كلاهما يرى الدنيا من منظار مختلف .. ولن يجني من مثل هذه المجادلات، إلا إثارة أعصابه وحنقه.
,
, لذا صمت وانحنى نحو الجثمان ليرفعه كاتماً غيظه، قائلاً :
,
, -إذن عاونني لنضع الجثة على الطاولة. علينا أن ننتهي من عملنا.
,
, وحمل الجثة فشعر بالعجب حين اكتشف أنها خفيفة للغاية، بالرغم من طولها البادي عليها .. أرقداها على المنضدة برفق، ثم أشار عم مرزوق إلى الجثمان، قائلاً لمرزوق:
,
, -هيّا انزع ذلك الكفن اللعين عنها .. لن أشارك في هذا العمل البغيض.
,
, وعلى الفور امتدت يد مرزوق نحو الكفن، وراح يزيله من جسد الجثة بسرعة، ومهارة من اعتاد فعل هذا عشرات المرات من قبل، في نفس الوقت أدار عم فراج جسده للخلف، كي لايرى ما يفعله مرزوق.
,
, لكنه حين استدار ثانية نحو الجثة، و رأى من تكون، أطلق شهقة عالية، وتراجع للخلف بذهول، كاتماً صرخة عالية كادت أن تفلت من فمه، بينما قال مرزوق، وهو ينظر إلى الجثة ببلاهة وذهول، كأنما يراها للمرة الأولى:
,
, - ما هذا..إنها فتاة ؟!. فتاة ؟!..
,
, كانت الجثة لفتاة بالفعل .. فتاة شابة في مقتبل العمر .. كانت حلوة .. بل أجمل فتاة رآها أحدهما في حياته كلها .. كانت بيضاء البشرة بشدة، وإن شاب شفتيها وخدودها بعض الصفرة والشحوب بتأثير الموت ..وامتلكت وجهها يحوي ملامحاً دقيقة وفاتنة للغاية .. بدت في منتصف العشرينات من عمرها، وحول وجهها إلتفّ شلال حر من الشعر الفاحم الحريري الناعم ..
,
, بدت الفتاة كنموذج للفتنة النائمة .. حسن كهذا لو رآه فنان لجن عقله، ولهام به عشقاً، وصنع من أجله عشرات اللوحات والصور.
,
, شعر الاثنان أنها كائن لاينتمي في روعته وجلاله لعالم البشر الفاني .. فمنذ متى والنساء في هذه الدنيا يحملن حلاوة كهذه ؟!..
,
, وبالرغم من أن عم فراج قد عمل لأكثر من عشرة أعوام مع الموتى ، رأي خلالها مئات الجثث، حتى صار يعرف الموتى بنظرة واحدة .. إلا أنه حين رآها شك بشدة أنها ميتة .. وهتف بصوت مبحوح مختنق، وعيناه مثبتتان عليها بإصرار:
,
, -ما الذى فعلته أيها الأحمق .. من هذه ؟.. وكيف أتيت بها ؟
,
, ابتلع مرزوق ريقه بصعوبة حقيقة، وأجاب بتوتر، وعيناه هو الآخر معلقة بها، وهو لا يصدق ما يراه:
,
, -لم أكن أعلم أنها فتاة .. ما أخبرني به اللحاد - حفّار القبور - أنها جثة طازجة، فظننتها جثة لرجل، لقد اعتدنا دائماً ألا نقرب جثث الإناث .. إنه لم يخبرني أنها لفتاة .. إنه خطأه.
,
, وتصلب عم فراج أمام جثمان الفتاة، وعيناه جاحظتان ترمقها بدهشة ممزوجة بالإشفاق .. فمد يده نحو عنقها متحسساً وريدها السباتي، هل تكون تحت تأثير غيبوبة ما ؟.. علم من قبل أن هذا قد يحدث أحياناً .. وأمام حسنها تمنى أن تكون كذلك.
,
, لكنها كانت باردة بشدة، ولم يشعر بأي نبض لها تحت أصابعه، إنها ميتة بالفعل .. ونظر إلى عينيها المغلقتين للحظات، بأسف متوقعاً أن تفتحهما في أي لحظة، ناظرة إليهما برعب و فزع .. لكنها لم تفعل ..
,
, نظر إلى جسدها العارى متفحصاً، فبدا هو الآخر سليماً تماماً .. حتى علامات الموت التى يراها في الجثث كالزرقة الرمية، وغيرها غابت عنها .. فكرر سؤاله مرة أخرى ،وتوتره يتصاعد بداخله:
,
, -من أين أتيت يارجل بهذه الجثة ؟.
,
, ولاحظ عم فراج أن توتر مرزوق وحيرته، لاتقل عما يشعر به، ومرزوق يجيب بصوت مرتجف:
,
, - أحضرتها من مقابر إحدى القرى المجاورة لقريتي .. لم يكن هناك جثث جديدة بمقابر قريتي فبحثت هناك .. لقد أخبرني اللحاد أنها ماتت صباح اليوم، و دفنت بعد ظهر الجمعة ..
,
, كان هذا يعني أنها ماتت منذ أكثر من خمس عشرة ساعة، وبالرغم من هذا لم يظهر عليها أي من علامات التحلل .. وكان ذلك الوقت هو نهاية شهر سبتمبر، حيث مازال الحر على أشده، ولهذا كان من المستحيل أن تبقى في وقت كهذا، أي جثة على حالها، دون أن تظهر عليها علامات التحلل ..كان هذا مريباً غريباً.
,
, ظلّ يتأمل الجثة بتوتر، ووجد نفسه يغطي جسدها حياء ،كأنما مازالت حية .. لم ينْتابْه في يوم من الأيام شيء من هذه المشاعر التي يحس بها الآن أمام تلك الجثة .. لم يشعر يوماً ما بالأسف نحو جثة ما كما يحدث الآن.
,
, وجد نفسه يفكر في الفتاة .. ترى كيف، ولماذا ماتت هذه الفتاة ؟.. هل قتلها أهلها من أجل الشرف، ودرءاً للعار، كما يحدث في الأرياف كثيراً ؟.. لكنه لم يلحظ على جثتها أي آثار لعنف ما أو عدوان .. بشرتها سليمة رائقة لا غبار عليها ..
,
, هل ماتت لمرض ما ؟.. لكنه عاد واستبعد هذا الاحتمال .. فقد أوحت إليه الجثة أن صاحبتها قد ماتت في عنفوانها .. فلا وجود لآثار المرض ومخالبه على جسده ووجهها.
,
, لو ماتت هذه، فلابد أنها كانت بكامل صحتها وعنفوانها .. نامت في المساء، ولم تستيقظ بعدها قط .. ميتة هادئة، لكنها مؤلمة ومفاجئة لذويها .. وأخرجه مرزوق من شروده قائلاً ، وهو يشير بإصبعه نحو الجثة:
,
, -والآن ماذا سنفعل ؟
,
, -لست أدري .. إنني أشعر بالحيرة.
,
, قالها، وأخرج علبة السجائر من جيبه ليشعل سيجارة جديدة، ليبدد في دخانها توتره وحيرته .. شعر أن هذه الجثة تخصه هو .. جثة تحمل شيئاً من مشاعره وجيناته .. كان إحساساً سخيفاً .. لكنه لم يستطع أن يطرده من عقله ..
,
, كان يتمنى ألا يصيبها مايصيب الجثث هنا من تمزيق وتفكيك .. إن تلك الرقة والفتنة النائمة لخليقة أن تظل هكذا حتى يبتلعها الثرى، دون أن يرى أحد كيف تذهب الأرض بتلك الحلاوة والفتنة .. لذا غمغم بصوت خافت دون أن يتمالك نفسه:
,
, -هذة الفتاة لاتستحق أبداً أن توجد هاهنا .. هذا كله خطأ.
,
, واستدار مرزوق نحوه بغتة بشيء من الاستنكار، وهو يثب كالملسوع:
,
, -هل تعني بكلامك هذا أنك لاتريدها ؟! .. إنني لن أعيدها لقبرها ثانية.
,
, نظر إليه عم فراج، وهو يزفر سحابة كثيفة من الدخان نحو وجهه، وقال ببطء:
,
, -لم أقل هذا .. لقد جاءت إلى هنا .. هذا قدرها إذن.
,
, تنهد مرزوق بارتياح، بعدما ظن أن عم فراج سيطلب منه أن يعيد دفنها ثانية .. لكن عم فراج لم يقلها، وإن تمنى في أعماقه أن يفعل هذا .. كان متوتراً ، وشعر أنه لارغبة لديه في أن يبدأ إجراءات تجهيزها للحفظ بالفورمالين، ريثما يأتي أطباء القسم في الصباح كي يكملوا حفظها بالفورمالين .. وقال لمرزوق وهو يجذبه من ذراعه:
,
, -دعنا نحتسي كوبين من الشاي أولاً، قبل أن نعود إليها، لنبدأ عملنا عليها.
,
, وافقه مرزوق، فانطلقا إلى حجرتيهما واجمين .. ورقد عم فراج على السرير المعدني الصغير، وراح يدخن ومازال يفكر في هذه الفتاة .. كيف ماتت .. وكيف عاشت ؟..
,
, تخيل مصيبة أهلها لفقدها .. لو كانت ابنته هو لَجُنَّ حتماً ..لم تكن المسألة لحسنها الآخاذ البادي عليها، حتى وهي ميتة .. لكنها مسحة الرقة و الجاذبية الخفية التي تنبعث من ملامحها .. راهن أن عشاقها كانوا بالمئات .. لا يظن أن أحداً منهم كان بالجسارة كي يقربها .. مثلها تستحق أن نتأملها من بعيد، خائفين أن نخدشها بنظراتنا، أو آهاتنا ودموعنا .. وغمغم بخفوت محاولاً إخراج نفسه من تأملاته الحزينة: لعله خيرا
,
,
, جلس مرزوق أمامه أمام السبرتاية يعد الشاي .. راقبه عم مرزوق ووجد نفسه في هذه اللحظة، يشعر بمقت هائل نحوه .. لولاه لظلت هذه في قبرها يسترها ويغطيها .. شعر أنه يجلس إلى أحد السفاحين الأقرب إلى الحيوانات منها للبشر .. وتعالى حنقه عليه، حتى تمنى لو مات مرزوق في هذه اللحظة، ليقوم بنفسه بتحنيطه، وحقنه بالفورمالين، مثلما سيحدث معها بعد قليل ..
,
, وأغمض عينيه، ووجد نفسه يتخيل كيف سيقوم بتقطيع مرزوق بالمنشار إلى أجزاء، حين يطلب الأطباء منه هذا .. لن يدع أحدا غيره يقوم بهذا .. سوف يقوم بالامر كله بنفسه .. هذا مخلوق طفيلي يستحق مصيرا كهذا، لا هذه الفتاة.
,
, ولاحت على وجه عم فراج ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيه، وأحس بشيء من الراحة لخواطره تلك.
,
, قدّم له مرزوق كوب الشاى الساخن، فتناوله بصمت، دون أن يشكره عليه .. أخذ يرشفه ببطء، وهو يفكر في المهمه الثقيلة التي عليه أن يقوم بها بعد قليل مع جثة الفتاة .. حينئذ انقطع التيار الكهربائي فجأة فصاح مرزوق بسخط:
,
, -ماهذا النحس ؟.. هذا ليس وقته أبداً ..
,
, قالها وأشعل عود ثقاب، قبل أن يشعل به مصباحاً زيتياً موضوعاً على طرف المنضدة التي أمامه .. كانوا يحتفظون بهذا المصباح لمثل هذه الأوقات التي تنقطع فيها الكهرباء، وقال مرزوق، وهو يعلق المصباح من حلقة معدنية فيه إلى مسمار على الحائط :
,
, -لقد تأخرت على البيت ياعم فراج، ولا أريد أن تشعر زوجتي بالقلق لو تأخرت عليها أكثر من ذلك.
,
, -لاداعي للقلق يارجل، ربما عادت الكهرباء بعد قليل .
,
, قالها له عم فراج شاعراً بالراحة .. هذا سيؤجل الأمر بعض الوقت .. وجد نفسه يتمنى ألا يعود التيار ثانية .. كأن هذا سينقذ جثة الفتاة من مصيرها، ولكن مرزوق هتف بحنق واعتراض:
,
, -بهذه الصورة سأعود للبيت متأخراً .. إننى أكاد أموت إرهاقاً وتعباً ، فأنا لم أنم منذ الأمس .. هذا ليس سعدي بلا شك.
,
, -يمكنك أن تنام اليوم هاهنا معي بالحجرة لو تأخرت .. المكان يتسع لكلينا كما تعلم.
,
, -وماذا عن زوجتي التي أخبرتها أني سوف أعود إليها اليوم .. حتما سيقتلها القلق من أجلي إن لم أعد إليها الآن.
,
, كان محقاً في خوفه .. ففي ذلك الوقت لم تكن التليفونات متاحة إلا للقليلين، لهذا كان من المستحيل أن يُطمئن زوجته عليه، إلا بأن يعود بنفسه إلي بيته، لذا قال عم فراج بإستسلام:
,
, -حسناً .. يمكنك أن تذهب إلى بيتك، وسأتولى أنا تجهيز الفتاة بنفسي حين تعود الكهرباء.
,
, -وماذا لو لم تعد الكهرباء .. هل سنترك الجثة هكذا للصباح ؟..
,
, أخشى أن تفسد الجثة، أو تتصاعد رائحتها .. فالجو هاهنا أكثر دفئاُ من الخارج.
,
, كان هذا شيئاُ محتملاُ .. إلا أن شيئاُ بداخل عم فراج أشعره بأن هذا لن يحدث .. دعك من أن الفتاة ماتت بالفعل منذ الصباح، ولم يحدث لجثتها أي تلف بعد .. والطقس في هذه اللحظة ليس بالشديد الحرارة كما كان في النهار، لذا قال له مطمئناً :
,
, -لا أظن أنها ستتحلل بهذه السرعة، لوتركناها هذه الليلة .. إنها مازالت بحالة جيدة، ولا أعتقد أنها سيضيرها أن تنتظر بضع ساعات أخرى حتى الصباح .. عد لبيتك ولاتقلق.
,
, وانصرف مرزوق تاركاً عم فراج الذي راح يفكر مرة أخرى في الفتاة التي لم تفارق خياله.
,
, وظل النور مقطوعاً طوال الليل،ولهذا لم يجهزها، فانتظر الصباح، شاعراً بالراحة لتأجيل الأمر ..

٤


ماهذا ؟!
,
, قالها الدكتور فهمي بدهشة، وهو يحدق إلى جثة الفتاة التي جلبها مرزوق بالأمس .. لاحظ عم فراج يده المرتعشة الممسكة بالسيجارة المشتعلة، وهو يتطلع لجثة الفتاة بتوتر، فأجابه بسرعة:
,
, -إنها الجثة التي طلبت منا أن نحضرها، لقد جلبناها بالأمس.
,
, -أعلم إنها الجثة التي طلبتها .. إنني أسأل كيف، ومن أين جئتم بها ؟
,
, قالها، دون أن يرفع عينيه عنها، وأجاب عم فراج:
,
, -إن مرزوق هو من جلبها بالأمس، ولقد أتى بها كما أخبرني من مقابر قرية مجاورة لقريته، بالمناسبة إنه يطلب ثلاثين جنيها ثمناً لها .. لقد أخبرته أنك سوف تدفع له.
,
, -ليس هذا وقته يافراج .. سأعطيه مايريده، لكن هل أخبرك متى توفيت هذه الفتاة بالضبط؟.
,
, قالها، وهو يقلب الجثة برفق على جانبيها، وينظر الى جسدها متفقداً، ثم امتدت أصابعه لتتحسس نبضها؛ كأنما يريد أن يتأكد بنفسه أنها جثة حقيقية، وقال عم فراج، وهو يراقب مايفعله:
,
, -يقول إنها ماتت صباح الجمعة ..
,
, -هذا يعني أنه قد مر على وفاتها أكثر من يوم .. إن هذا مستحيل .. لابد أنه قد أخطأ .. إنني لا أرى أي آثار للتحلل بها، ولاوجود للزرقة الرميّة أسفلها .. هذه الفتاة تبدو ،وكأنها قد ماتت منذ ساعة واحدة على الأكثر .. إنني أشعر بالدهشة.
,
, كان عم فراج مازال تائها في حيرته فلم يرد عليه، بينما استمر الدكتور فهمي في فحصها .. أمسك أناملها، وقربها إلى عينيه متأملاً أظفارها اللامعة، ثم أعادها لمكانها برفق، ثم فتح جفنيها فتضاعفت دهشته، وهو يقول :
,
, -إن هذا غريب بحق .. إنني لم أشاهد في حياتي جثة كهذه من قبل، من يراها يظن أنها فتاة نائمة .. لكن جسدها البارد ،ونبضها المفقود يشير إلى موتها ويؤكده.
,
, غطاها بعد ذلك بغطائها البلاستيكي، وأخرج سيجارة من علبة سجائره، وأشعلها قبل أن يقول بشرود:
,
, -احضر لي مرزوق هنا الأن .. أريد أن أعرف منه ما قصة هذه الجثة بالضبط، وكيف أتى بها ؟.
,
, تحرك عم فراج لإحضار مرزوق، تاركا إياه في المشرحة أمام الجثة .. خمّن عم فراج أن بعقل الدكتور فهمي الأن الكثير من الأفكار والهواجس، التي روادته عن الفتاة بالأمس ..
,
, وبعد دقيقة عاد ومرزوق برفقته ..
,
, أخرج الدكتور حافظته الجلديه الأنيقه، وأخرج منها بعض النقود، فعدها ثم مد يده بها نحو مرزوق، الذي التقتطها على الفور ودسها في جيب بنطاله دون أن يعدها، وإن كان قد أحصاها بنظره بصورة خاطفة طمأنته إلى أنها المبلغ الذي ينتظره .. وقال الدكتور فهمي بعدها:
,
, - والأن أخبرني هل كنت تعرف هذه الفتاة من قبل؟
,
, -لا يا دكتور .. لم أكن أعرفها، لكنها من بلدة مجاورة لبلدتنا .. لقد أتيت بها من مقابر تلك القرية.
,
, -إذا لا تعلم كيف ماتت ؟!
,
, -هذا أيضاً لا أعلمه يادكتور .. لكن لوشئت، فمن الممكن أن آتيك بقصتها عن طريق بعض الأصدقاء من بلدتها.
,
, زفر الدكتور فهمي من فمه سحابة من الدخان، وهز رأسه للجانبين رافضا الفكرة، وهو يتمتم:
,
, -كلا .. كلا.. لاداعي لهذا .. هذا لايهم الآن .
,
, ثم التفت إلى عم فراج، وقال وهو يهز كفه الممسك بعقب السيجارة الذي قارب على الزوال:
,
, -عليك أن تبدأ الأن في تجهيزها يافراج، وسوف أرسل الدكتور كمال إلى هنا كي يساعدكم.
,
, قالها، وألقى نظرة أخرى طويلة للجثة الراقدة أمامه تحت غطائها البلاستيكي المليء بالبقع، وهز كتفيه بحركة مبهمة، ثم غادر المشرحة دون أن يعقب.
,
, لم يشعر عم فراج بالراحة، وكره أن يكون هو من يقوم بإعداد جثة الفتاة هذه .. ولأول مرة يشعر بأنه لا يحب أن يقوم بعمله الذي اعتاد عليه منذ أكثر من عشرة أعوام..
,
, لكنه كان عمله الذي عليه أن يقوم به، تنهد للحظة، ثم أزاح غطاءها البلاستيكي عنها، ورمقها بتوتر قبل أن يبدأ في تهيئتها.



٥


فى هذا اليوم كان على عبد الوهاب أن يبيت في المشرحة، ففي تلك الأيام كان النظام المتبع، أن يبيت أحد عمال المشرحة فيها كل ليلة طالما هناك جثث بها .. لذا كان العمال يتناوبون المبيت فيها .. ظل هذا الأمر معمولاً به لسنوات طويلة، حتى انتهى الأمر بعم فراج إلى المكوث بالمشرحة بصورة دائمة، حينها انتهى نظام الدور مكتفين بوجود عم فراج..
,
, كانت ليلة صيفية أخرى، وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مسا ء .. مازالت حرارة الجو مرتفعة، والرطوبة في عنفوانها خانقة لاتمرح .. كان نهار ذلك اليوم شديد الحرارة، ويبدو أن هذا القيظ سيستمر هكذا طوال الليل..
,
, خلع عبد الوهاب جلبابه وصار بملابسه الداخلية .. أخد يدندن بعض الأغاني النوبية، وهو يُعد لنفسه كوباً آخراً من الشاي الثقيل .. انتهى منه، ثم خرج من المشرحة متجهاً نحو الحديقة الصغيرة الموجودة خلف المشرحة، متلمساً في فضائها المفتوح بعض النسمات الباردة ..
,
, بدت السماء حالكة السواد صافية، وتناثرت في أرجائها الكثير من النجوم دون أن يسطع قمرها .. إنه آخر يوم في الشهر العربي فلا تنتظرن قمراً يافتى ..
,
, وجلس عبد الوهاب على كرسي خشبي جلبه من قلب المشرحه .. وضعه في منتصف الحديقة، وأخذ يرشف الشاي الساخن باستمتاع وتلذذ ، دون أن يلتفت إلى الناموس الصغير الذي يلسعه من حين لآخر .. هذه أشياء اعتاد عليها مُذْ كان في بلاده أسفل الشلال، فلم تعد تؤرقه أو تثير انتباهه..
,
, غاب في تأمل السماء الصافية، وهو يتذكر الليالي النوبية الحارة، تذكر جلسات السمر الصيفيه الليلية حول الأخشاب المشتعلة التى كانوا يشوون الذرة الخضراء في قلبها، وعادت لذاكرته الحكايات التي لاتنتهي عن الأجداد وبطولاتهم، وحكاياتهم عن القبائل الزنجية الهمجية القادمة من الجنوب، والتي طالما دارت بين قومه، وتلك القبائل المعارك العظيمة والتي كانت تنتهي في الغالب بانتصار قومه، ودحر الغزاة مرة أخرى نحو الجنوب ..
,
, لقد ولّت أيام البطولات الحقيقة الى الأبد ولم يعد باقياً إلا الشتات.
,
, تذكر داره الطينية الصغيرة التي تلاشت هي وقريته كلها الآن؛ لأن بحيرة السد قد غمرت وأغرقت كل شيء خلفها .. لقد تم ترحيل أبناء النوبة إلى أماكن جديدة شمالاً .. لكن أي مكان، ومهما كان حلواً ، لم يكن ليعوض أي منهم عن بلادهم السمراء الذهبية التي امتدت حكاياتها وجذورها لآلاف الأعوام.
,
, استغرق حيناً في تأملاته .. لكنه خرج منها حين لمح بطرف عينيه ظلاً ما يتحرك خلف الباب الزجاجي للمشرحة.
,
, نبض قلبه بقوة .. ودون أن يشعر حبس أنفاسه بترقب، وهو يتطلع إلى الظل البشري الذي بدا واضحاً من انعكاسه من خلال الزجاج الداكن لباب المشرحة ..
,
, كان ظلاً بشري .. هذا مؤكد .. في البداية فكر أنه قد يكون أحد حراس أمن الكلية الذين يأتون أحياناً الى المشرحة، كي يسألونه دخاناً أو سكراً ، أو أي شيء آخر قد يكونون في حاجة إليه .. لكنه أدرك أن هذا الاحتمال غير ممكن .. فهو يجلس قبالة الباب، ولو جاء أحد من الخارج لرآه أو سمع على الأقل صوت خطواته ..
,
, إذن من يكون هذا؟ ومن أين جاء؟ وماذا يريد ؟..
,
, كلها أسئلة حائرة تبحث عن إجابة ما ..
,
, تحرك الظل فجأة للداخل، فجف ريقه توتراً .. إذاً فهناك شخص ما بالفعل في المشرحة .. لم يكن يتوهم إذاً ..
,
, لكن الشيء العجيب أن خطوات ذلك الشخص الغامض لم تصدر أي جلبة أوصوت .. كان بمفرده في هذه البقعة من الكلية، يحيط به الصمت التام والسكون، الذي لايقطعه إلا بعض هسيس الحشرات ، وبعض الأصوات البعيده للسيارات التي تمر عبر الطريق القائم خلف الكلية .. لذا فلو تحرك فأر صغير في هذا المكان، فسيسمع صوت خطواته بالتاكيد ..
,
, لكنه بالفعل لم يسمع شيئاً ، فكيف يتحرك ذلك الظل بكل تلك الخفة والسكون ؟..
,
, ظل في مكانه للحظات لايدري ماذا يفعل، قبل أن يقرر أن يدخل المشرحة ليرى من هناك ..
,
, اتجة بخطوات مترددة نحو الداخل، ودلف الباب، وتطلع إلى الفناء الطويل والممتد أمامه حتى قاعة التشريح، والذي بدا خالياً مقبضاً تحت أضواء النيون البيضاء الباردة التي تنير المكان ..
,
, كانت حجرته أول الحجرات التي قابلته .. دخلها وفحصها بعينيه بسرعة، لكنها كانت فارغة .. والتقط عصا خشبية غليظة بيديه،كسلاح له لو واجه أحد ما، وقرر أن يفتش المشرحة بأكملها ..
,
, كانت الحجرة التالية هي الحجرة التي يتم إعداد الجثث بها .. المفترض أنها مغلقة بالمفتاح .. تأكد أنها كذلك، وقرر أن لاحاجة لفتحها وتفتيشها ..
,
, اتجه بعد ذلك إلى قاعة المشرحة؛ حيث ترقد الجثث، وأضاءها فبدد الضوء الصادر من لمبات النيون ظلامها ووحشتها .. جالت عيناه القاعة الواسعة، والتى تناثرت في أرجائها المناضد الرخامية المخصصة لوضع الجثث، كان بعضها يحوي جثثاً والباقي فارغاً ..
,
, كان كل شيء في مكانه .. أحصى الجثث بعينيه بسرعة .. كانوا خمسة .. تطلع إلى جوانب المكان بسرعة مرة أخرى .. لكن القاعة بدت بريئة تماماً ، كان من الصعب أن يختبئ أحد ما في القاعة دون أن يراه..
,
, كاد أن يعود أدراجه حين لاحظ شيئاً ما .. إحدى الجثث قد انحسر عنها غطاؤها .. توتر بعض الشيء .. إنه متأكد من أن جميع الجثث كانت مغطاة بغطائها البلاستيكي قبل قليل، فكيف صارت تلك الجثة عارية إذا ؟..
,
, واتجة ببطء نحو الجثة كي يغطيها مرة أخرى ..
,
, هنا أطلق صرخة مكتومة دون أن يملك كتمها ..
,
, كانت جثة الفتاة الجديدة .. وكانت تحدق فيه بعيون لامعة مفتوحة باتسعاها .. عيون حية لا أثر للموت فيها !!.
,
, وثب للخلف بفزع ،وهو يصرخ مستنجداً.. وأخذ قلبهُ يتراقص بهلع في قفصه الصدري .. ما الذى يحدث هاهنا ؟
,
, ظل متجمداً مكانه بإضطراب لايدري ماذا عليه أن يفعل .. قبل أن يحزم أمره محاولاً تشجيع نفسه، وقال هامساً:
,
, -لابد أن شيئاً ما أدى إلى فتح عينيها هكذا .. ربما هي عضلات وجهها قد انقبضت لتيبسها، ففتحت الجفون المغلقة .. لاداعي للهلع يا عبد الوهاب، ولا تكونن جباناً هكذا كالأطفال .. لقد رأيت مثل هذا مراراً ..
,
, ومد يديه بعدها نحو الجثة متحاشياً النظر إليها، أعاد الغطاء البلاستيكي إلى موضعه مغطياً إياها، ثم عاد إلى حجرته دون أن يطفئ أضواء قاعة المشرحة كما كان يفعل في العادة ..
,
, أحكم إغلاق باب حجرته عليه، بل ووجد نفسه يضع كرسياً خلف الباب، ويحشره بإحكام بين الأرضية ومقبض الباب، صانعا عائقا بدائياً لمن يفكر في فتح الباب أو اقتحامه من الخارج ..
,
, لم يكن عبد الوهاب من الجبناء .. فلا يستطيع أحد أن يدعي عليه شيئاً كهذا .. لكن هذه الحقيقة تنطبق على ما يعرفه ..لن يخاف من لص أو من رجل مهما بلغ من القوة، أو حتى ذئب أو حيوان مفترس ما..
,
, لكنه هذه المرة كان مضطرباً خائفاً .. كان يخاف مما يجهله .. ووجد عقلهُ يستعيد مئات القصص عن الجان والعفاريت والنداهات وغيرها .. تلك الحكايات المخيفة التي طالما سمعها في طفولته ببلاد النوبة .. فلم يشعر بالراحة..
,
, حاول أن ينام .. لكن الوصول للنوم كان صعباً .. كانت أذناه يقظتين منتبهتين لأدنى صوت قد يصدر بالمشرحة .. لكن شيئاً لم يحدث ،وبعد ساعة كاملة داعب النوم أجفانه ..ودون أن يشعر راح في سبات عميق.



٦


وقبل أن تبلغ عقارب الساعة الثالثة صباحا استيقظ فجأة ..
,
, كانت هناك خطوات خافتة تتردد في الردهة بالخارج !!..
,
, في المعتاد لم يكن مرور قطار بجوار رأسه ليوقظه .. لكنه وجد نفسه مرة واحدة مستيقظاً .. ومرة أخرى تواثب قلبه في قفصه الصدري مضطربا .. أرهف السمع .. كانت هناك بالفعل خطوات يسمعها تتردد بالخارج، فشعر بالهلع..
,
, كان قد أغلق باب المشرحة من الداخل قبل أن ينام .. وقد فتش المشرحة جيداً قبلها .. فمن يتحرك بالخارج إذاً، وكيف دخل الى المشرحة ؟!..
,
, أيكون جاناً أم عفريتاً لأحد الجثث ؟.. كان خاطراً مرعباً .. وتذكر أن المشرحة تحوي الآن جثتين لشخصين قد أعدما شنقاً، ورفضت أسرتاهما أن تتسلمهما .. هل يكون هذا أحد عفاريتهم ؟..
,
, أراد أن يهتف من هناك ؟.. لكن صوتاً لم يخرج من حنجرته.. كان حلقه جافاً بشدة كرمال الصحراء في ظهيرة الصيف، فاكتفى بالنظر إلى الباب، دون أن يتحرك كاتماً أنفاسه بقوة، كأنما يخشى أن يدرك من بالخارج وجوده من صوت أنفاسه ..
,
, استمرت الخطوات في التردد خارج الحجرة لفترة طالت، حتى ظنّ أنها لن تتوقف، قبل أن تتوقف فجأة .. راح يتنفس ببطء شديد مترقباً أن تعود الخطوات الثقيلة مرة أخرى .. ومضى الوقت بطيئاً دون أن يتناهى لمسامعه أي صوت ..
,
, هل ابتعد هذا الشيء ؟.. تمنى هذا، .. ولما طال الصمت غادر الفراش ببطء، سائراً على أطراف أصابعه كي لا يحدث صوتاً ، واتجه ببطء نحو باب الحجرة، وانتظر لفترة متجمداً بجواره ،ولما اطمئن إلى استمرار الصمت اقترب من الباب بأذنه وألصقها به ..
,
, حينئذ و في نفس اللحظة كان هناك صوت احتكاك بالباب من الخارج، كان الصوت يشبه صوت الخربشات التى تحدثها الأظافر على الخشب .. بعدها بدأت كف قوية تضرب الباب، كأنما هناك من يحاول أن يخترق الباب الخشبي، وتعالى في نفس الوقت صوت حلقي مفزع، في الردهة بالخارج، ذكره بالأصوات التي يصدرها الصم والبكم.
,
, ارتد بعنف للخلف على الفور وعيناه لاتغادر الباب المغلق، وأطلق صرخة عالية دون أن يشعر .. هذه المرة أفلتت دموعه، وثارت هواجسه، وصاح بفزع :
,
, -من هناك بالخارج ؟!. من هناك ؟.. تحدث أرجوك .. من الذى يتحرك؟..
,
, زاده رعباً أن تحرك مقبض الباب ببطء، كأنما يريد الموجود بالخارج أن يفتحه ..
,
, اندفع نحو المقبض النحاسي، وتصلبت أصابعه عليه محاولاً منعه من الدوران .. في الواقع لم يكن في حاجة لهذا،فـ الباب مغلق بإحكام بواسطة المقعد المثبت به .. لكن الرعب لم يترك في عقله أي منطق للتفكير .. وظل يصرخ بلهجة نوبية مذعوراً:
,
, -ابتعد من هنا أرجوك .. ارحل .. ابتعد .. ابتعد.
,
, ومرت اللحظات بطئية ثقيلة، حتى ظن أنها الدهر كله، ثم هدأ كل شيء فجاة .. لم يعد هناك صوت الخربشات على الباب، ولا الصوت الحلقي المخيف .. توقف صوت الخطوات،لكنه مع ذلك ظلّ ممسكاً بالمزلاج بكلتا يديه بإصرار وقوة، وهو يرفع صوته بآية الكرسي التي يتلوها ،ويكررها عسى أن تدفع عنه شر من بالخارج..
,
, طال الصمت والسكون؛ فاطمئن قليلاً ، ولم يعد يسمع إلا صوت أنفاسه اللاهثة، ابتعد عن الباب بحذر، وعاد بخطوات مرتجفة إلى الفراش وألقى بجسده عليه باعياء ..
,
, رنت عيناه الى ساعة الحائط .. كانت تعلن الثالثة والنصف صباحاً .. مضت نصف الساعة منذ بدأ الرعب، ومازال أمامه أربع ساعات أخرى، على الأقل قبل أن يأتي أحد زملائه في الصباح إليه .. وقرر أنه لن يغادر مكانه هذا حتى الصباح مهما حدث ..
,
, شعر بحاجة ماسة للتبول لكنه كتمها بأقصى مايمكنه .. لن يخرج حتى لو بال على نفسه .. وببطء راح يراقب عقارب الساعة التي راحت تتحرك ببطء شديد أمام عينيه المكدودتين ..


٧


لم يدرِ كيف ولا متى نام ،ولكنه استيقظ على طرقات صاخبة دوت في عقله كقرع طبول همجية في أحراش السافانا الإفريقية ..
,
, في البداية ظن أن الشيء بالخارج قد عاد، فاختلج قلبه .. لكنه انتبه بعدها إلى صوت حسن الذى كان يصرخ منادياً باسمه .. انتقلت عيناه إلى النافذة الصغيرة أعلى الفراش، فلاحظ ضوء النهار المتسلل إلى الحجرة من خلالها، فأسرع إلى باب الحجرة ليفتحه.
,
, أزاح الكرسي المثبت إلى مقبض الباب، ثم اتجه إلى باب المشرحة الخارجي وفتحه .. لكنه قبل أن يفعل، أرسل بصره إلى الردهة الطويلة، فاطمأن أن لا أحد هناك..
,
, فتح الباب فوجد أمامه حسن ببدانته وعرقه الغارق فيه دائما واقفاً يحمل إفطاره المكون من شطائر ملفوفة بورق الجرائد ..
,
, وما إن رآه الأخير حتى صاح فيه بغضب مصطنع، وهو يدفعه جانباً ليدخل:
,
, -أين كنت كل هذا أيها الصعيدي الكسول .. إنني أطرق الباب منذ زمن حتى انقطعت أنفاسي ..ظننت أنك قد مت بالداخل..
,
, في العادة كان عبد الوهاب يحتج عليه ويخبره أن ليس صعيدياً .. إنه نوبي، لكنه هذه المرة لم يهتم وقال له وهو يدعك عينيه المرهقتين بكلتا يديه :
,
, -كنت نائماً ، ولم أسمع صوت الطرقات إلا الآن ..
,
, -كل هذه الطرقات لم تسمعها .. أنت تمزح حقاً يارجل .. لقد ظللت أطرق الباب حتى خشيت أن يستقيظ الموتى بالداخل، وأن أجد أحدهم هو من يفتح لي الباب محتجاً على إيقاظه.
,
, لم يعقب عبد الوهاب، واتجه حسن إلى حجرتهم ليتناول الإفطار مع الشاي .. هذه هي الطقوس اليومية له، والتي يحرص على ألا يكسرها منذ عمله بالمشرحة، ولهذا اعتاد أن ياتي كل يوم للعمل قبل موعده بقليل،كي يتناول إفطاره بهدوء، دون أن يطالبه أحد ما بأي عمل ..
,
, فتح لفافات الشطائر داعياً عبد الوهاب الى مشاركته الإفطار .. لكن الأخير كان قد فقد شهيته للطعام، فأزاح جانباً اللفافة التي ناوله إياها حسن، دون أن يقربها.
,
, تساءل حسن بدهشة، وهو يلاحظ مافعله باللفافة ،إن كان مريضاً إلا أنه أسرع مجيباً :
,
, -إنني أشعر ببعض الصداع .. لكنه حتماً سيزول بعد قليل، لا تقلق بشأني.
,
, وتذكر مثانته الممتئلة عن آخرها والتى يمسكها بالكاد، فراحت تصرخ فيه محتجة ومنذرة بالفيضان القادم، فأسرع إلى الحمام ..
,
, وحين عاد كان هناك عم فراج، الذي جلس على طرف الفراش وتناول هو الآخر شطيرة من حسن، وأخذ يأكلها بشهية .. حَيّاه وجلس بجواره صامتاً ، شارداً ..
,
, لاحظ عم فراج توتره وشحوب وجهه، فسأله عما به، فأجابه نفس الإجابة المبهمة التي أجابها لحسن .. كان حسن قد انتهى من إفطارة فحمل إناء الشاي، واتجة به للخارج ليغسله ويملأه بالماء، راقبه عبد الوهاب حتى اختفى، ثم انحنى نحو عم فراج، وقال هامساً :
,
, -هناك ما أريد أن أخبرك به ياعم فراج.
,
, دارت رأس عم فراج ناحيته، ورمقه بعين أزدادت جحوظاً من الدهشة، متفحصاً ، وهو يبتلع ماتبقى من شطيرته، ثم قال باهتمام:
,
, -هل حدث لك مكروه ما يا ولد ؟
,
, -ليس أمام حسن .. دعنا نتحدث بالداخل.
,
, قالها عبد الوهاب، وعيناه ترقبان باب الحجرة، فتطلع إليه عم فراج بشيء من الدهشة، وإن لم يعقب حين تعالى صوت حسن القادم نحوهم .. فصاح عم فراج به، وهو ينهض :
,
, - اهتم أنت بالشاي ياحسن؛ ريثما أحضر بعض الأشياء من الداخل.
,
, قالها والتفت الى عبد الوهاب ،وسحبه ببساطة من يديه قائلاَ :
,
, -تعال معي لتساعدني ياعبد الوهاب.
,
, واتجها بخطوات سريعة إلى داخل المشرحة .. واسترق عبد الوهاب النظر إلى جثة الفتاة، متوقعاً ألا يجد غطاءها عليها كما حدث بالأمس، لكن الجثة كانت تحت غطائها ساكنة بريئة .. توقفا عند حجرة صغيرة تلي قاعة المشرحة، حيث اعتادوا أن يحفظوا بعض أجزاء الجثث بداخلها .. كانت رائحة الفورمالين بها عنيفة للغاية، الا أنهما كانا قد اعتادا عليها فلم يهتما، والتفت عم فراج إلى عبد الوهاب قائلاً :
,
, -والآن أخبرني ماذا بك؟ أرى أنك لست على مايرام اليوم .. ما الذى هناك ياولد ؟..
,
, ازدرد عبد الوهاب لعابه ببطء، وصمت للحظة كأنما يدير الأمر بعقله .. وعينا عم فراج ترقبه، قبل أن يقص عليه ماحدث له بالأمس .
,
, نظر إليه عم فراج بذهول .. كان ما يسمعه الآن لم يحدث بالمشرحة من قبل .. كان قد أمضى عشرة أعوام بالمشرحة، رأى خلالها الكثير من الأشياء الغريبة، ولكن كانت هذه أول مرة يحدث فيها أن يهاجم شيء ما أو شخص ما أحداً بالمشرحة ليلاً ..
,
, طال صمته وشروده، فقال عبد الوهاب متوتراً ، وهو يتطلع الى عينيه الجاحظتين، والتي انعكست عليهما الحيرة :
,
, -ألا تصدقني ياعم فراج .. أقسم أنني لا أكذب، وأن ما قصصته قد ....
,
, هنا قاطعه عم فراج بسرعة، وهو يلوح بكفه الضخم في الهواء، مانعاً إياه من من إكمال قسمه :
,
, -بالطبع أصدقك ياولد .. لو كنت مرزوق لظننت أنها تمثيلية يقصها لهدف ما .. ولو كان حسن لظننت أن هذا تأثير الحشيش الذى يتناوله، أما أنت فإنني أثق بك، وبما تقوله، وما دمت قد رأيت هذا، فلابد أنه قد حدث فعلاً ، وهذا ما يحيرني ويقلقني.
,
, وتنهد عبد الوهاب بارتياح، فقد خشى ألايصدقه عم فراج، أو أن يتهمه باختلاق هذه الأحداث، أو توهمها على الأقل، ولهذا فقد أحجم أن يقص ماحدث له لحسن .. كان يريد أن يحكي لعم فراج أولاً ؛ لأنه توقع أن يصدقه، وقد صدق تخمينه فلم يكذبه الرجل .. ولأنه يرغب في رأيه.
,
, وانتبه إلى عم فراج الذي قال له، وهو يشعل سيجارة بعصبية:
,
, -إن ماتقوله خطير ومحيّر ..أنت بقولك هذا تعني أن أحداً ما قد هاجمك بداخل المشرحة .. وأنت أيضا تجزم أنك قد فتشت المشرحة ، ولم تجد بها أحد ما قبل أن تنام .. إذا فمن الذي هاجمك ؟..وكيف دخل إلى المشرحة المغلقة ؟.. وماذا كان يريد منك ؟.. إن ما حدث لك بالأمس لم يحدث هاهنا من قبل !..
,
, غمغم عبد الوهاب بحيرة وقلق:
,
, -أنا لا أعلم ما الذي واجهته بالضبط .. لقد بدا ظله من خلف الباب بشرياً تماماً .. لكنني فتشت المشرحة بأكملها فلم أجد أحداً بها .. لقد كدت أموت فزعاً ، حين هاجم ذلك الشيء حجرتنا في منتصف الليل .. إنه لم يتكلم، وظل يصدر تلك الأصوات المخيفة، التي أرعبتني حتى الموت، وهو يحاول اقتحام الحجرة .. لقد انتظرتك؛ لأنني ظننت أنك ربما تملك تفسيراً ما لما حدث معي.
,
, ضحك عم فراج ضحكة متوترة ، وهز يده الممسكة بالسيجارة المشتعلة لينفض منها بعض الرماد وأجاب :
,
, -ولماذا تظن أنني أملك تفسيراً ما .. إنني لاأرغب في إخافتك، لكن ماتقوله يوحي بأفعال الجان الاسلاميين الاخوانوسلفيين والعفاريت الخمينيين والسعوديين.
,
, ارتجف عبد الوهاب على الفور، حين ذكر الجان، فقام هو الآخر بالبسملة، وهمس بخفوت، ودقات قلبه تدق بعنف، وبلا إنقطاع:
,
, -هل تظن حقاً أن من هاجمني بالأمس قد يكون جاناً أو عفريتاً .. رحماك يا امون رع .. لقد بدأت أشعر بالرعب من المشرحة .. علينا أن نفعل شيئاً ما، لنعرف مايحدث هاهنا .. ألن نفعل ياعم فراج ؟..
,
, -وماذا تقترح أن نفعل ؟!.. لاشيء يمكننا أن نفعله الآن، فلو قصصنا الامر على أحد ما فلن يصدقنا .. لذا عليك أن تلزم الصمت، ولا تخبر حسن أو مرزوق بما شاهدته .. في الغالب قد تأتي هذه الأشياء وتنتهي فجأة .. فقط لا داعي لأن تثير الفزع بإخبار الجميع .. فطالما لم يقع أي ضرر أو مكروه لك، فمن الأفضل أن نحتفظ بماحدث داخل صدورنا، وأن نتمنى ألا يتكرر الأمر ثانية.
,
, ثم ألقى بعقب سيجارته التي أنهاها على الأرض وسحقها بحذائه العتيق بقوة، كأنما يسحق معها هواجسه، ثم رفع رأسه نحو عبد الوهاب، ووضع كفه الضخم على كتفه ،وقال باشفاق :
,
, - أرى أن عليك أن تستريح اليوم من العمل .. عد للبيت وأخلد للنوم فوراً ، وحاول أن تنسى ماحدث، وفى الصباح سيكون كل شيء على مايرام.
,
, شعر عبد الوهاب بالامتنان له مرة أخرى .. كان عم فراج في عمر أبيه الراحل تقريباً ، ومنذ عمل عبد الوهاب بالمشرحة، راح يعامل عم فراج كأب له، والأخير يعامله كابن له .. ومع توالي الأيام نمت تلك العاطفة بينهما وتأججت .. وكل مرة يختبر فيها تلك العاطفة يتأكد من وجودها.
,
, وهاهو الأن يشعر بتلك العاطفة الأبوية المريحة، وهو يرى النظرات المشفقة في عيني عم فراج، التي يرمقه بها .. تمنى أن يحتضنه، وأن يخبره بما في قلبه .. لكنه لم يفعل .. فقط اكتفى بنظرات الامتنان وشكره، ثم انصرف، تاركاً عم فراج يقلب أفكاره، مفكراً في ماحدث .



٨



وفي المساء اتجه حسن للمشرحة كي يبيت فيها .. كان هذا من أيام الأسبوع الممتعة له .. اليوم لن يكون مضطراً لأن يمكث طوال الليل بجوار حسنات زوجته ..
,
, ويا لها من ليلة سعيدة إذا تستحق الإحتفال بها!
,
, كان أحمقاً غبياً حين تزوجها، هكذا إعتاد أن يتحدث عن نفسه .. وهاهو يدفع في كل يوم ثمن حماقته تلك طوال ثمانية أعوام؛ هي عمر زواجه بها .. قبل زواجه سمع الكثير عن الزواج ومتاعبه ومشاكله، وتبارى رفاقه الذين صارت المقهى ملجأهم الدائم بعد العمل. هرباً من الزوجة والعيال في قص الحكايات والأهوال التي لاقوها في زواجهم .. كانوا يتحدثون إليه عن الحجيم الذي بانتظارهم دوماً بالبيت، لكنه لم يصدقهم حينها أبداً ، ليس لأنه أريب .. لكن لأنه حمار، وبإذنين طويلتين .. فهكذا كان يرى نفسه.
,
, كان يرى أنهم يبالغون في قصصهم هذه حتماً .. وكان يعجب من قولهم أن الزواج لاتستمر حلاوته أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر على الأكثر ، إلى أن تبدأ بطن الزوجة في الاستدارة، معلنة عمن ينمو بداخلها .. حينها تنتهي حلاوته ولذته، لتبدأ متاعبه ومعاناته ..
,
, فهناك الحمل، وما أدراك كيف تتعامل النساء معه كأعجوبة تستحق الكثير من الاهتمام والرعاية من الزوج .. ستبدأ زيارات لاتنتهي للأطباء، حيث تضطر فيها لانتظار دورك أحياناً لساعات طويلة .. وهناك أتعاب الطبيب، والوصفة الطبيبة التي تلتهم في كل مرة جزءاً لابأس به من راتبك .. عليك أيها الرجل الصغير أن تحتمل كل هذا صابراً آملاً ، أن ينتهي كل هذا الهراء بعد الولادة ..
,
, كانوا يبالغون بلاشك ويهزلون .. هكذا كان يحدث نفسه، ومازالوا يحدثونه عن متاعبهم بعد ولادة الأطفال .. كانوا يقولون له بعد أن تسبح عقولهم في كون آخر، بفعل الحشيش والدخان والبيرة أحياناً ..
,
, -ستدرك يا حسن كم كنت مغفلاً حين ظننت أن الولادة ستكون هى النهاية .. فبعد الولادة صار عليك أن تتوارى .. فقد جاء من سيصير جل اهتمام زوجتك للأبد .. وستتحول أنت بعدها لأبي العيال، وهذا ليس تكمالاً لو كنت حصيفاً .. بل يعني أن تعمل وتعمل كالحمار بلاتوقف؛ كي توفر لهم مايحتاجونه .. ومايحتاجونه لاينتهي أبداً .
,
, عليك أن تتنازل عن رفاهيات كثيرة اعتدت عليها؛ لأن البيت صار أولى بكل قرش في جيبك .. ولا تنتظر في المقابل أن توليك زوجتك اهتماماً خاصاً ؛ تقديراً لما تقدمه، وماتنازلت عنه .. فالإسطوانة موجودة تجيد أبجدياتها كل النساء .. ستنكد عليك حياتك، وستندب حظها لزواجها ممن لايرحم .. ستصرخ دوما في وجهك: (إنت عليّ والعيال) .. طبعاً مع الوقت ستتعود على كل هذا، وستتعلم الهروب .. ولن تعدم حينها مقهى ما، تجلس فيها كغيرك هرباً من هذا الجحيم ..
,
, صورة قاتمة بها الكثير من السوداوية .. هكذا كان حسن يفكر قبل أن يتزوج في ما يسمعه ممن سبقوه بالزواج .. لم يذكر أحدهم أبدا الزوجة التي تجيد الطهي ..
,
, الطعام !!.. العشق الأول والأخير لقلبه! ..
,
, فقط أريدها تجيد الطهي .. وحينها ستكون الحياة مبهجة بحق ..
,
, وحين خطب حسنات كان الكثيرون يتحدثون عن براعتها في الطهي .. كانت أكذوبة استطاعت أمها نشرها في محيطها لإقناع أحد المغفلين، بأن يدق باب بيتها لخطبة ابنتها حسنات .. وكان حسن ذلك المغفل كما يحلو له أن يقول عن نفسه .. بالطبع وبعد الزواج اكتشف أن أطنان الطعام الشهي، التي التهمها أثناء الخطوبة ؛والتي زعمت حماته أن حسنات هي من قامت بإعدادها، كانت حماته هي التي تطهوه في الواقع..
,
, إكتشف أن حسنات لاتجيد الطهي على الإطلاق، ولانفس لها في الطعام .. والأكثر إبهاجاً أنها كانت من هواة النكد طوال الوقت، وكانت كذلك سليطة اللسان، ولاتتورع عن سبه أمام الجميع .. كانت زوجة تفوح بالبهجة بحق !..ويالها من بهجة !..
,
, وكان من الممكن أن يطلقها لولا الأولاد .. فقد كانت كالعادة قد أجادت اللعبة الأزلية لجميع السيدات، فقيدته بها بأن أنجبت منه أربعة اولاد في أربعة أعوام متتالية .. هكذا صار الانفصال عنها مستحيلاً ، وتحول أضحى المقعد الذي اتخذه في أحد زوايا المقهى بأول الشارع الذي يقطن فيه، حلاً لا بأس به للهروب منها، ومن سلاطة لسانها ..
,
, كان يظل بالمقهى كل يوم حتى بعد منتصف الليل، إلى أن يطمئن أنها قد نامت، فيعود الى البيت، ليرقد بجوارها في صمت؛ متمنيا ألا يوقظها شيء .. ويظل يرقب شخيرها وتنفسها الثقيل مفكراً إن كان عليه أن يضع على وجها وسادة ما، ويجلس فوقها ليرتاح منها .. كانت أفكاراً ، لكنها ممتعة .. وتمنى لو كان أقل جبناً ليتمكن من تنفذيها.
,
, لهذا كانت الأيام التي يبيت فيها بالمشرحة من الأيام التي يحبها .. إنها بضع ساعات من الليل، لايفعل فيها غير النوم والأكل، ليتسلم في المقابل أجراً لابأس به آخر الشهر .. كان هذا مريحاً.
,
, وكان يعد نفسه لهذا اليوم .. يحضر معه الكثير من الطعام، وكذلك الراديو الصغير الذي يجلبه من البيت ليؤنسه .. ولابأس أحياناً بقرش حشيش أو زجاجة من البيرة .. أشياء لن يعلم بها أحد، لأنه يخفي آثارها في الصباح قبل أن يأتي الجميع،لكنها تؤنس وحدته ..
,
, في هذه الليلة تناول عشاءه، وأعد بعدها كوباً من الشاي، ولف سيجارة محشوة بالحشيش، ثم خرج بعدها الى الباحة الخلفية للمشرحة حيث الحديقة الصغيرة .. وحرص قبل خروجه على رفع صوت المذياع حتى يصل إلى مسامعه .. جلس على الكرسي الخشبي ، وراح يرشف الشاي، والسيجارة معاً باستمتاع، وهو يتأمل السماء المظلمة من فوقه بنجومها اللامعة، شاعراً برضا شديد عن نفسه ..
,
, وتعالى صوت أم كلثوم في المذياع :
,
, "ياحبيبى ..الليل وسماه ونجومه وقمر..قمره وسهره ..وأنت وأنا ..ياحبيبى أنا ..ياحياتى أنا ..كلنا في الحب سوا ..والهوا ..آه منه الهوا ..سهران الهوا ..يسقينا الهنا"
,
, شعر بانتشاء يدغدغ مشاعره؛ كأنما تغني الست الآن من أجله هو ، وصاح بجذل :
,
, -اللـه .. اللـه عليك ياست ..
,
, الحياة أحيانا تكون جميلة بحق .. من قال غير هذا ؟! .. هكذا فكر.
,
, وحانت منه بعد حين التفاتة نحو باب المشرحة، فرأى أن هناك من يقف خلفه متوارياً خلف الزجاج الملون ..
,
, ظل بشري واضح من خلف الباب الزجاجي !..
,
, تدلى فكه الأسفل في بلاهة، واختلج قلبه .. أغمض عينيه للحظة ، ودعكهما بشدة، ولما فتحهما اختفى ذلك الظل الغريب .. ومرت دقائق ثقيلة من الترقب قبل أن يسكن اضطرابه، وراح يفكر .. إنه تأثير الحشيش الذي شربه الآن .. لاشك في هذا .. إنه الحشيش بلاريب !..
,
, وأخذ يختلس النظرات إلى الباب بشك من حين لآخر، لكنه لم يلحظ أي شيء غير طبيعي .. وبعد قليل تناسى الأمر باعتباره أوهام اختلقها عقله بتأثير الحشيش .. ومرة أخرى تعالى صوته مردداً خلف أم كلثوم:
,
, "ياحبيبى .. يلا نعيش في عيون الليل .. ونقول للشمس .. تعالى تعالى .. بعد سنة .. مش قبل سنة .. دى ليلة حب حلوة .. بألف ليلة وليلة.."
,
, هنا شعر بالحاجة لقضاء الحاجة، فقام بتثاقل متجهاً للحمام.
,
, وحين دخل المشرحة لاحظ أن قاعة التشريح صارت مضاءة .. لا يذكر أنه دخل هناك، أو أنه أضاء مصابيحها .. لكنه طرح هذا جانباً ، ودلف إلى الحمام حيث قضى حاجته .. وعندما خرج اتجه إلى القاعة ليغلق النور .. لكنه قبل أن يفعل تطلع لحظة إلى الجثث الراقدة على مناضدها ..
,
, كانت إحدى هذه الجثث دون غطاء .. واتجه إليها ببطء دون أن يعير الأمر اهتماماً .. ربما عمل أحد الأطباء عليها، ونسى تغطيتها .. وحين وصل إلى الجثة وجدها جثة الفتاة وهي ترمقه بعينين، متسعتين براقتين، ورأى بسمة ما ترتسم على شفتيها، بدت وكأن الحياة قد عادت لها، وإنها قد تصرخ في وجهه بعد قليل ..
,
, اضطرب قلبه بشدة، وغامت الدنيا في عينيه ، وترنحت قدماه، حتى كاد أن يسقط، فأمسك بسرعة بقائم حديدي، بجواره كي لايقع ..
,
, لايجب أن يفقد الوعي الآن .. هكذا حدّث نفسه .. يجب ان اخرج من هنا ..
,
, وغادر المشرحة مترنحاً ، دون أن يلتفت إلى جثة الفتاة مرة أخرى، أو يغطيها .. وما إن وصل إلى حجرته ، وبعد حين هدأ روعه قليلاً ..
,
, استلقى بعدها على الفراش، دون أن يفارقه اضطرابه، ودون أن تختفي من خياله عينا الفتاة البراقتين وبسمتها المخيفة .. إنها ميتة ولابد أنه يتوهم ما رآه .. وراح يحاول أن يقنع عقله بهذا.
,
, دوما تشعره هذه الجثة منذ رآها أول مرة بالتوتر .. وكان يشعر بخوف مبهم حين ينظر إليها، أو يسير بجوارها .. لم يدرِ سر هذا، وإن لم يبح بهذا لأحد .. حاول أن يتشاغل بشيء آخر ، كي لا يفكر بالعينين اللتين كانتا تحدقان فيه بثبات، لكنه فشل ..
,
, لكنه بعد حين شعر بخدر لذيذ يغزو عقله تدريجياً، و رويداً رويداً غلبه النعاس، فنام وتعالى شخيره صاخباً .
,
, و في الثالثة صباحا وجد نفسه مستيقظاً منتبهاً، ونيران هائلة تستعر في أحشائه .. كان العرق الغزير يحتشد الأن على جسده، حتى كاد أن يغرقه، وكانت أنفاسه مضطربة لاهثة ..
,
, وكان هناك من يطرق الباب !
,
, كان أبلهاً بالتاكيد .. لأنه فعل أشيا ء كثيرة شديدة الحماقة في الواقع.
,
, أولها - أنه نسي حذره .. فحين تكون بمفردك في المشرحة، وتعلم أنه لا أحد غيرك بها، ثم تسمع طرقات بعد منتصف الليل بباب حجرتك الداخلي، فعليك حينها أن تتوتر أو تفزع، أو حتى تتريث قبل أن تقدم على فعل أي شيء .. لكنه لم يفعل أي من تلك الخيارات ..
,
, ثانيا - عندما تشم هذه الرائحة العطرية المثيرة، تفوح بشدة من خلال الباب، وتملأ فتحتي أنفك متسللة بيسر نحو عقلك لتخدره، فعليك أن تنتبه .. إن هذا عطر أنثوي مثير، لو كان يفهم في الروائح الأنثوية .. لكنه لم يكن يفهم فيها كثيراً ، فزوجته حسنات حين ترغب في التعطر من أجله، كانت تصب على جسدها الكيروسين أو الخل .. فمن أين له أن يميّز الفارق ..
,
, ثالثا - وحين تسأل عن من يطرق الباب، دون أن يكون الجواب أكثر من همهمات الغامضة، وأصوات خافتة غير مفهومة، فعليك أن تكون أكثر حيطة وتعقلاً ، ولاتفتح الباب أبداً ، إلا بعد أن تطمئن وتعلم من الطارق .. لكنه لم يفعل شيء مما سبق، وكان أرعناً، ففتح الباب بلاتفكير ..
,
, وبالتأكيد لم يدرِ ماحدث له بعد ذلك .. وآخر ماشعر به كان العطر الأنثوي القوي .. وبعدها لا شيء ..


٩


بالطبع ماحدث بعدها كان عجيباً .. في الصباح كان عبد الوهاب أول من وصل، ليجد أن باب المشرحة مغلقاً من الداخل .. نادى حسن فلم يرد عليه .. تذكر ماحدث له بالأمس فتداعت آلاف الأفكار السوداء أمام عينيه، فأخذ يطرق باب المشرحة بعنف وتوتر .. لكن دون مجيب .. تسمّر بمكانه ، ولم يدر ماذا يفعل ؟.. هل يكسر الباب ؟!..
,
, لكنه خشى أن يكون نوم حسن الثقيل، والذى اشتهر به، هو مايمنعه من فتح الباب، حينها سيكون كسر الباب ضرباً من الحماقة، ولن تجدي تبريراته حينها ..
,
, لكن الاحتمال الآخر المخيف، أن يكون مكروهاً ما قد حدث لحسن بالداخل .. وربما كان في حاجة للمساعدة الآن ..
,
, كان عليه أن يفعل شيئاً ما .. عليه ان يفكر بسرعة، ويقرر ما ينبغي عليه فعله ..
,
, لم يصل عقله لقرار .. لذا استمر في طرق الباب بضربات قوية للغاية ، وارتفع صوته عالياً منادياً حسن عسى أن يجيبه ويستيقظ لو كان نائماً .. وما من مجيب لندائه ..
,
, ومضى بعض الوقت وأتى مرزوق، الذي بادر بتعجب وصوت الطرقات تدوي صاخبة في ممرات الكلية الفارغة من الطلاب في تلك الساعات المبكرة من الصباح :
,
, -لماذا تصرخ وتطرق الباب هكذا ؟.. إنني أسمع طرقاتك وصراخك هذا منذ دخلت من باب الكلية حتى هنا .. ماذا حدث يا رجل؟..
,
, - حسن بالداخل ولا يرد .. أخشى أن يكون مكروها ما قد أصابه.
,
, -وماذا في هذا ؟.. ربما كان يغط في نومه العميق كعادته، وربما شرب الكثير من الحشيش بالأمس .. أنت تعلم أنه يتناول هذه الأشياء اللعينة، وربما أسكرته وسلبته وعيه .. إنه خرتيت لن يؤذيه أي شيء فلا تقلق .. هيا إبتعد عن الباب، ودعني أجرب حظي ..
,
, قالها، والتفت إلى الباب بعد أن تنحى عبد الوهاب جانباً، وأخذ يطرقه بقوة، ويصيح بأعلى صوته على حسن منادياً ، لكنه لم يكن أكثر حظاً من رفيقه، فلم يجيبه غير الصمت، وقال عبد الوهاب متوتراً بعد دقائق:
,
, - أرى أن نكسر الباب الآن .. إن هذا كثير ، ولابد أن مكروهاً ما قد أصابه بالداخل .. مستحيل أن يظل نائماً بعد كل هذه الضوضاء التي قمنا بها .. ورفض مرزوق إقتراحه بلا تفكير، و قال معترضاً على الفور :
,
, -إياك أن تفعل .. ربما سبب لنا هذا بعض المشاكل مع رئيس القسم ، أنت تدري كم هو عنيف وعصبي، ولسنا بحاجة لمواجهته .. أرى أن ننتظر قليلاً ، ونفكر في حل آخر .
,
, ولم يكد يقولها، حتى ظهر عم فراج قادماً من بعيد، يسبقه دخان سيجارته .. حياهم، وهو يرمقهم بدهشة، وقال متعجباً:
,
, -لماذا تقفون هكذا ؟..هل حدث شئ ما؟..
,
, وأجابه مرزوق بسرعة، وهو يشير لباب المشرحة:
,
, -إن حسن بالداخل، و لايستجيب لندائنا ولا لطرقنا على الباب .. يبدو أنه قد أفرط في شرب الحشيش بالأمس .. لابد أنه قد فعل هذا.
,
, هنا تبادل عم فراج مع عبد الوهاب نظرة قلقة ذات معنى، وقد تبادر إلى ذهنه ماحدث لعبد الوهاب بالأمس، فأخذ يطرق هو الآخر الباب بشدة، منادياً على حسن في نفس الوقت، ولكن مرة أخرى أجابه الصمت ..
,
, في النهاية توقف يائساً ، والتفت إليهما، وقال بتوتر:
,
, -إنه بالفعل لايرد، أيكون مكروهاً ما قد أصابه ؟.. ماذا تقترحون أن نفعل ؟.. هيا أخبروني !.
,
, -أرى أن نحطم الباب .. هذا هو الحل الوحيد.
,
, أجابه عبد الوهاب .. وفكر للحظة ثم وافقه مغمغاً :
,
, - يبدو أنه لامفر من القيام بهذا ..دعونا نفعل.
,
, إلا أن مرزوق أسرع مرة أخرى يقول معترضاً:
,
, - أرى أ لا نتسرع في فعلٍ ما، وأن ننتظر قدوم أحد الأطباء من القسم ليقرر هو ماعلينا أن نقوم به، حتى لاتكون هناك مشكلة ما مع الدكتور فهمي.
,
, - يا أحمق إن حسن بالداخل لا يرد، ولا ندري ما أصابه، وأنت تطالبنا ألا نفعل شيئاً، فقط لأنك تخشى الدكتور فهمي .. اصمت وإبتلع لسانك، وإلا حطمت رأسك قبل الباب، سوف نفتح هذا الباب اللعين مهما كانت العواقب.
,
, قالها عم فراج بحزم وتوتر وبصره معلق بالباب المغلق .. وفجأة قال عبد الوهاب، وحل ما يرتسم في مخيلته:
,
, -نافذة الحمام الخلفية.
,
, التفت إليه الاثنان، فأكمل بحماس :
,
, - يمكننى أن أدخل خلالها .. إنها صغيرة، ولكنى أستطيع أن أحشر جسدي خلالها.
,
, كانت فكرة جيدة، فقال له عم فراج بأمل:
,
, - إذاً أسرع يارجل وافعلها يا ولد .. الرجل لايرد ولاندري ما اصابه بالداخل.
,
, اختفى عبد الوهاب من أمامهم، فانتظر الاثنان بترقب أن يفتح الباب ، ولم يمض أكثر من ثلاث دقائق حتى كان عبد الوهاب يفتح لهما الباب من الداخل، فدلفوا المشرحة مسرعين .. لم يجدوا حسن بالغرفه .. كان بابها مفتوحا ، لكن لا أثر له ..
,
, اتجهوا إلى قاعة التشريح، لكنه لم يكن هناك أيضاً .. وقال عم فراج بتوتر، وهو يتلفت حوله ، وعيناه تجوبان المكان:
,
, - أين تراه قد ذهب ذلك الأحمق .. لا أثر له في كل مكان، وهو لم يتبخر بالتأكيد، إذا أين يكون ؟!..
,
, وانتبه مرزوق لشيء ما، وهو ينظر إلى المناضد التى ترقد عليها الجثث، فقال ببطء وحذر:
,
, -كم عدد الجثث بالمشرحة ؟
,
, أجابه عم فراج ، وهو ينظر إليه بدهشة:
,
, -إنها خمس .. لماذا تسأل؟!..
,
, أشار مرزوق بيد مرتعشة إلى المناضد التي رقدت عليها الجثث، وقال بصوت مخنوق :
,
, -لكن الجثث ها هنا ست ..
,
, وتحولت أبصارهم على الفور إلى المناضد التي تحوي جثثاً مغطاة لتحصيها .. كانت ستاً بالفعل .. اضطربت قلوبهم بشدة، وشعر عم فراج بالحمض الحارق يتصاعد إلى فمه، ليملأ أنفه برائحته النفاذة، وهاجس مخيف يلح على عقله ..
,
, أيكون جثمان حسن هو الجثة الجديدة السادسة ؟..
,
, تجمدوا في أماكنهم للحظة ،دون أن يفعلوا أي شيء، إلا أن عم فراج أخرج نفسه بسرعة من جموده، وهتف فيهم، وهو يتجه إلى أقرب منضدة منه ليفحصها :
,
, - لا تقفوا هكذا كالأصنام .. تحركوا وافحصوا كل منضدة، لنرى من أين أتت الجثة السادسة.
,
, واندفع كل منهم إلى أقرب منضدة منه، وكشف غطاءها، ولم يكن بها غير الجثث القديمة ،فاتجهوا الى الصف الثاني ...
,
, كان حسن راقداً بالمنضدة الآخيرة، وكان مرزوق من وجده، فأخذ يصرخ برعب حين كشف الغطاء، لتصطدم عيناه بوجه حسن الشاحب..
,
, أسرع نحوه الاثنان، وكشفوا باقي الغطاء عن زميلهم، وصاح عبد الوهاب بهلع :
,
, -يا إلهى.. هل مات ؟!
,
, لاحظ عم فراج أن صدره يعلو ويهبط ببطء ،فقال وهو يحيط جسده بذراعه ليحمله :
,
, - إنه مازال يتنفس .. لا تتسمروا هكذا .. هيا ساعدوني لنخرجه من هنا.
,
, أسرعوا بحمله، وإتجهوا الى حجرتهم، فأرقدوه على الفراش، وأخذ عم فراج يضربه ضربات قوية على جبهته وخديه ليفيق ،وهو ينادي عليه .. إلا أنه لم يستجب .. كان أسيراً لغيبوبة عميقة تقاوم بإصرار محاولاتهم لإخراجه من سيطرتها .. فهتف عبد الوهاب بقلق :
,
, -ألا يجب أن نذهب به إلى طوارئ المستشفى ليسعفوه؟.
,
, كاد عم فراج أن يجيبه بالموافقة ،لولا أن ارتفع صوت من خلفهم متسائلاً :
,
, -من الذى تريدون أن تذهبوا به إلى المستشفى ؟.. هل هناك مصاب ما هاهنا ؟..
,
, كان الدكتور نبيل أحد المعيدين بالقسم هو الذي يسأل .. وأجابه عم فراج بلهفة، وهو يشير بيده نحو جسد حسن الساكن أمامهم:
,
, -أنجدنا يا دكتور .. لقد وجدنا حسن فاقداً لوعيه هاهنا، وهو لا يستجيب لمحاولتنا لإفاقته ..
,
, واندفع الدكتور نبيل نحو الجسد الهامد، وبدأ على الفور في إفاقته .. تحسس أوردته فلاحظ نبضه السريع الضعيف وتنفسه الثقيل .. فتح مقلتيه ،متأملا بؤبؤ العين للحظة.. بدا متسعا ، فقال بحيرة:
,
, -ليأتني أحدكم بجهاز الضغط والسماعه من الحجرة الآخرى.
,
, خرج عبد الوهاب ليجلب ما طلبه، وعاد بهما في أقل من الدقيقة .. فتناولهما الدكتور نبيل منه، وأكمل فحصه،وعيونهم معلقة به بترقب وقلق ..
,
, كانت نتيجة فحصة سلبية .. لم يجد خللا عضوياً يفسر تلك الغيبوبه .. لذا فقد أخذ يضغط على جبهته ،وصدغيه ضغطات مؤلمة حاثاً مراكز الألم في مخه على تنشيط جهازه العصبي كي يفيق، وهو يردد قائلاً:
,
, - هيا يارجل ..كفى دلعاً ، واستيقظ .. إن كل شيء بك على مايرام.
,
, ومضت لحظات من الترقب قبل أن يسعل حسن .. فتح عينيه بوهن ، وراح ينظر إليهم بتوتر وحيرة، محاولاً استيعاب ما يجري حوله، ثم قال بدهشة حقيقية:
,
, -ماذا يحدث هاهنا ؟!.. ولماذا ترمقونني هكذا ؟!!..
,
, ماذا هناك ياعم فراج؟!..
,
, لكن أحدا منهم لم يجبه .. فقد ألجمهم القلق وأخرسهم.


١٠


وبعد أقل من الساعه علم كل من بالمشرحه ماحدث لحسن، فأرسل إليه الدكتور فهمي ليخبره الحقيقة .. ذهب إليه ومعه عم فراج ، هناك أخبره حسن ماحدث له بالأمس .. لم يخفِ شيئاً ، لأن حيرته وخوفه كانا هائلين ..
,
, حكى له عن الظل الذى ظنّ أنه شاهده ، وأخبره بجثة الفتاة المفتوحة العنين، والتي ثبتت نظراتها عليه، وكانت تبتسم له .. وأخيراً تلك الطرقات التي سمعها بعد أن نام، وكان آخر ما يتذكره هو فتح الباب .. أما بعد ذلك فهذا ما لا يذكره ..
,
, رمقه الدكتور فهمي بشيء من الشك والريبه، قبل أن يعود بمقعده للخلف، وراح يمج سيجارته ببطء وصمت، قبل أن يقول بلهجة هادئة، بطيئة، حملت الكثير من الاتهام :
,
, -هل حدث أن سرت أثناء النوم من قبل ؟!..
,
, وأدرك حسن أن الدكتور فهمي لا يصدقه، فارتبك .. وتكاثف العرق على جبهته، وأجاب مطرقاً رأسه لأسفل، بارتباك:
,
, -لا يادكتور .. لم يحدث هذا لي أبداً .. إنني أنام على فراشي كالجحر.
,
, -إذا فأنت تتعاطى شيئاً ما حتما ؟.
,
, -شيء ما مثل ماذا يادكتور ؟.. لست أفهم ما تقصده ..
,
, سأله حسن بحذر، وهو يخشى أن يضطر للاعتراف بأنه يتناول الحشيش أو البيرة حين يبيت بالمشرحة .. خشي أن يكلفه هذا وظيفته.
,
, وأجابه الدكتور فهمي ببطء، وهو يميل بجزعه نحوه من فوق مكتبه :
,
, -أتحدث عن المخدرات أو الكحوليات .. تلك الممنوعات التى تعرفها جيداً .. أي شيء من هذا القبيل .. هل تفعل يا رجل ؟..
,
, مرة أخرى أطرق حسن برأسه للأسفل، متحاشياً أن تتلاقى عيناه بعيني الدكتور فهمي الحادتين، وهو يغمغم:
,
, -الشيشة فقط يادكتور .. أنا لا أشرب غيرها .
,
, هنا هزّ الدكتور فهمي كتفيه بنفاذ صبر ، وصاح بعصبية:
,
, -إذن كيف وجدوك بغرفة التشريح، راقداً على منضدة أحد الجثث ؟.. أخبرنى لماذا فعلت هذا ؟.. هل كنت تتسلى مثلاً ؟.. أم أنه خاطر أحمق طرأ برأسك الغليظ هذا فجأة، ودفعك لفعل هذا ؟.
,
, ازداد حسن توتراً ، وهو يشعر باتهام مباشر يُوجه له بين طيات كلام الدكتور فهمي، فقال ضارعاً:
,
, -أقسم أنني لا أدري كيف حدث هذا .. أنا لم أشعر بأي شيء إلا حين أفقت في الصباح .. أنا حتى لم أكن أدري أنهم وجدوني نائماً على تلك المنضدة بجوار الجثث .. لو أفقت حينها ووجدت نفسي هكذا لمت هلعاً.
,
, ثم التفت إلى عم فراج مستنجداً به، فاكتفى الأخير بهز رأسه مؤكداً ماقاله ..
,
, صمت الدكتور فهمي، وراح يتفحصه بنظرات نافذة كسهام تتخلل جسده؛ لتستكشف إن كان صادقا فيما يدعيه، أم أن وراءه شيء ما يخفيه، بعدها أخذ يدخن الجزء الباقي من سيجارته، وهو يطلق سحابات كثيفة من الدخان نحو سقف الحجرة، بينما راحت أنامله تعبث بقلم أنيق، يحمل شعار إحدى شركات الأدوية، مصدراً صوتاً معدنياً رتيباً.
,
, حطم هذا الصمت مقاومة حسن، فبدا مضطرباً وخائفاً بصورة لا ادعاء فيها .. لقد كان مذعوراً بحق؛ وكان وجهه شاحباً في تلك اللحظة كالموتى .. لذا قال الدكتور فهمي في النهاية ليصرفه :
,
, -حسناً ..يمكنك الانصراف يا حسن، عد لبيتك الأن لتنال قسطاً من الراحة، وفيما بعد سنحاول أن نفهم ماحدث.
,
, وشكره حسن، وهو ينصرف، واستدار عم فراج الذي تابع كل ماحدث صامتاً ليرافقه، إلا أن دكتور فهمي استبقاه قائلاً :
,
, -انتظر يا فراج .. هناك ما أرغب في التحدث فيه إليك .
,
, -تحت أمرك يادكتور.
,
, قالها عم فراج ،وهو يعود متقدماً نحو المكتب ،بينما انتظر الدكتور فهمي للحظات حتى غادر حسن الغرفة، فقال لعم فراج:
,
, -هل هناك ما أخفاه عني حسن .. ربما أخبرك بشيء ما، ولم يشأ أن يخبرني به .. لا أظن أنك أنت الآخر تصدق ما قاله.
,
, وهز عم فراج رأسه نافياً . وأجاب بهدوء:
,
, - لقد أخبرني بما ذكره لسيادتك .. إن روايته التي حكاها لكلينا واحدة دون أي تغيير .. ولا أظن أنه كان يدعي الغيبوبة التي وجدناه عليها .. لقد فحصه الدكتور نبيل، ويمكنك أن تسأله كيف كان .
,
, -ألا تظن أنه قد يكون قد نام من تلقاء نفسه بقاعة المشرحة دون أن يدري .. ربما كان يعاني من مرض نفسي ما .. وربما كان يسير أثناء نومه دون أن يعلم ذلك .. أشياء كهذه تحدث أحيانا.
,
, -ربما كان هذا ماحدث، من يدري؟! .. الأمر كله عجيب، ولم يحدث من قبل .. أخشى أن أقول أن هناك أحداثاً غريبة تدور في المشرحة في الآونة الأخيره لم يكن حسن شاهدها الوحيد ..
,
, - أحداث غريبة هاهنا بالمشرحة ؟.. هل حدث شيء ما بالمشرحة لا أدريه ؟!..
,
, قالها الدكتور فهمي بدهشة واستنكار .. لم يجب عم فراج على الفور، بل صمت للحظة متردداً ، لكنه أمام النظرات الصارمة للدكتور فهمي تكلم، وقص عليه ماحدث لعبد الوهاب من قبل..
,
, وضاقت عينا الدكتور فهمي، وعاد يعبث بالقلم الذى يمسكه مرة أخرى مصدراً طرقات خافتة على سطح مكتبه، وعيناه تنتقلان بين وجه عم فراج المضطرب وفراغ الغرفة، قبل أن يقول مستنكراً بلهجة حادة:
,
, -أتتكلم عن عفاريت، و أشباح جثث تلهو بالمشرحة ؟.. هل هذا ما تقصده يارجل ؟.. وهل تعتقد أن مثل هذه الخزعبلات التي تحكونها في قراكم حين يحل المساء، ليخيف بعضكم البعض قد تحدث هاهنا في كلية الطب ؟.. لو شئت رأيي في مايحدث، لأخبرتك أن رجالك حمقى ، واهمون بالتأكيد، وربما يتعاطون شيئاً ما لست أدريه .. عليك أن تبحث عن هذا، لكنني لن أقبل أن أستمع الى هذا الهراء مرة أخرى .. أخبرهم بكلامي هذا كي لا يتمادوا في أوهامهم، فينشروا هذه التُرّهات في كل مكان.
,
, لاذ عم فراج بالصمت ولم يعقب، كان يعلم أن الدكتور فهمي لن يقبل مناقشة هذا الأمر مادام قد رفض تصديق ماحدث من البداية .. لذا فلاطائل من مجادلته، كان هو شخصياً يؤمن بالعفاريت والجان ..
,
, إذا فلابد أن لامونرع واسرته خلق كثير لا نعلم عنهم شيئاً ، بالرغم من أنهم قد يتواجدون حولنا دون أن نشعر بهم أو نراهم ..
,
, لذا اكتفى بهز رأسه، وقال باستسلام:
,
, -كما تشاء يا دكتور .
,
, -فراج .. لا يجب أن يعلم أحد بما حدث .. فمع بداية الأسبوع القادم سوف يبدأ الطلاب دروسهم العملية مع الجثث، ولا أريد أن تكون هناك بلبلة ما حول المشرحة.
,
, هز عم فراج رأسه موافقاً ، وأكمل الدكتور فهمي آمراً :
,
, -هناك شيء أخير .. لا أريد لأحد منكم أن يبيت بالمشرحة بمفرده بعد الآن .. ليتواجد اثنان منكم كل ليلة بالمشرحة .. سيكون هذا مؤقتاً حتى أتأكد أن تلك الأوهام لم تعد تحدث .. أخبر الآخرين بذلك، وابدءوا في تنفيذ هذا الأمر من الليلة.
,
, وتركه عم فراج ليخبر الباقيين بما جرى، وتناهى إلى مسامعه وهو يخرج من الباب ضحكة عصبية أطلقها الدكتور فهمي، هو يقول ساخراً :
,
, -عفاريت هاهنا بالمشرحة .. في المرة القادمه سيحدثونني ربما عن لعنة الفراعنة، أو مصاصي دماء يتحركون في الليل .. يالهم من رجال !.


١١


بدأ نظام المبيت الجديد في نفس الليلة .. واتفقوا أن يكون عم فراج ومرزوق في الليلة الأولى ..
,
, لم يتذمر أحد منهم من الأيام الإضافية التي سوف يبيتونها في المشرحة .. فأمام ما يحدث خاف كل منهم مما جرى، وأخذ يبحث عن الصحبة في مواجهة أمر مبهم كهذا.
,
, وفي المساء جاء عم فراج مبكراً ، لم تكن الساعة قد تجاوزت السادسة حين كان بها، أخبره مرزوق أنه سيتأخر قليلا ؛ لينهي بعض أموره فلم يعترض .. وظل بمفرده بالحجرة راقدا على الفراش يدخن ويجرع أكواباً كثيرة من الشاي كعادته، ويسمع الراديو ، حتى جاء مرزوق حين قاربت الساعة العاشرة..
,
, كان قد جلب معه من بيته بعض الأواني التي تحوي أرزاً و "كوسة" مطبوخة ولحم .. شعر عم فراج بالدهشة الحقيقية، وهو يرى هذا الكرم الغير معتاد من مرزوق، وقد عهده بخيلاً.. وقال مرزوق بمرح ،وهو يفرغ ما تحويه الآنية في بعض الأطباق الموجودة بالحجرة :
,
, -لا أظن أنك تناولت طعاماً منزلياً منذ زمن طويل .. لذا قررت أن أذكرك به هذا اليوم ثانية .. أتمنى أن يعجبك.
,
, وابتسم عم فراج بامتنان، وهو يجلس على الأرض المكسوة بحصيرة قديمة .. كان ما قاله مرزوق صحيحاً تماماً .. فنادراً ما عاد يتمتع بمثل هذ الوجبات المعدّة في المنزل، منذ انتقل للعيش بالقاهرة .. كما أنه ليس بالطباخ الماهر، فكان يلجأ للوجبات الجاهزة الرخيصة؛ كي يسد رمقه .. وإكتفى بتناول الطعام المنزلي في الأجازات التي يعود فيها لبلدته.
,
, ففي كل عام، وبعد انتهاء الدراسة كان يغادر القاهرة لشهر كامل عائدا لبلدته بالمنيا .. فهناك أخوته البنات المتزوجات، اللاتي يتفنن حينها في إعداد كل ما يعلمن أنه يشتهيه من طعام، بل ويزودونه بالكثير منه قبل عودته للقاهرة، ليكفيه لبضعة أيام أخرى، قبل أن يعود ثانية للطعام الرديء الذي يشتريه.
,
, وقال وهو يلوك بفمه الطعام الشهي، وقد راقت له رائحته الذكية وطعمه الحلو:
,
, -يمكنك أن تشكر زوجتك من أجلي .. إنها بارعة في طهيها كثيراً .. أنت محظوظ في كل شيء يارجل.
,
, -بالهناء والشفاء ياعم فراج ..لكن أخبرني أيها الكهل .. لماذا لم تتزوج حتى الآن ؟.. ألم تحاول أن تقترن بواحدة من قبل ؟..
,
, سؤال تكرر كثيراً على مسامعه، فضحك ببساطة، وأجاب بعد أن مضغ قطعة لحم كان يأكلها :
,
, -لأنه لاتوجد من تقبل أن تتزوج غولاً مثلس .. ألا ترى كيف أبدو يارجل .. إننى أبدو كالغول والعمالقة، والنساء يخشين من هو مثلس حتماً ،إلا لو كان بها عيب ما؛ لتقبلني من أجله، وهذا ما لن يروقني..إذاً فلا حاجة لي بهن ولاحظ لهن معي ..معادلة بسيطة ومريحه كما ترى..
,
, وضحك مرزوق بصورة صاخبة، وقال وهو يزدرد ملعقة من الأرز مخلوطة بصلصة الكوسة :
,
, -لو كانت هذه مشكلتك فلا مشكلة إذن .. اترك الأمر لي، وسأزوجك من ترضى بك هكذا .. انت تبالغ في النفور من نفسك كثيراً، والأمر لا يسير هكذا أبداً.
,
, -امرأة من طرفك أنت .. لا يارجل .. لن يكون هذا أبداً.
,
, -إذا فأنت الذي لا يريد .. فكر في الأمر .. إن أمامي عروساً تناسبك، و أنا أجزم أنها سوف تروق لك كثيراً. إنها كاللوز المقشور.
,
, - ومن قال لك أني أريد الزواج. أو أفكر فيه .. إنني أحب حياتي هكذا ، ولا أرغب في تغييرها .. كما أنني لا أحب اللوز .
,
, - صدقني ياعم فراج، أنت مخطئ في تفكيرك هذا، وستندم حتماً حين يتقدم العمر بك، ولا تجد من يكون بجانبك حينها ليرعاك .. إننا نتزوج كي نجد من يؤنس وحدتنا، ثم ننجب الأبناء، كي ندخرهم إلى أن نحتاج اليهم في شيخوختنا وعجزنا.
,
, -حينها لن أعدم من يساعدني من أولاد الحلال .. إنهم في كل مكان فلا تقلق بشأني.
,
, وانتهيا من العشاء، فأشعل عم فراج سيجارة جديدة ، بينما قام مرزوق بجمع الأطباق ليغسلها .. وتولى عم فراج إعداد الشاي ..ثم إتجها بعدها للحديقة الخلفية ..
,
, حملا معهما الشيشة، وطبق فخاري مليء بالفحم المشتعل، وأكواب الشاي الأسود الشبيه بالحبر.
,
, ظلا يدخنان، ويثرثران حتى انتصف الليل ..فجمعا أغراضهما، وعادا ثانية للمشرحة استعداداً للنوم .. وقال عم فراج مقترحاً :
,
, -مارأيك لو فتشنا المكان قبل أن ننام؟..لا أريد أن نفاجأ بشئ ما.
,
, رحب مرزوق بالفكرة ،ففتشا المشرحة بأكملها ،لكنهما لم يعثرا على ماقد يريبهما ..أغلقا بعدها الباب الخارجي للمشرحة بإحكام، وكذلك باب حجرتيهما..ثم رقد عم فراج على الفراش الذي كان صغيراً لايتسع لكليهما معا ، بينما رقد مرزوق على حصيرة فرشها على الأرض.
,
, بعد ساعتين،شعر مرزوق بمثانته ممتلئة، فنهض واتجه إلى الحمام مترنحاً شبه نائم .. انتهى ،فعاد بعيون ناعسة شبه مغلقة ؛ليكتشف أن باب الحجرة مغلقاً .. أمسك مقبضه وأدراه ،ودفعه بقوة لكنه لم يتحرك ..
,
, هنا طار النوم من عينيه تماماً ،وهو يحاول دون جدوى فتح الباب الذي صمد أمام محاولاته ،ولم يهتز..وبينما راح يدفعه بعصبية، شعر بأن هناك من يراقبه من الخلف..
,
, كان إحساساً مبهماً لكنه استجاب له، والتفت بتوتر نحو البقعة المظلمة في نهاية رواق المشرحة ،كان هناك بالفعل من يقبع في الظلام منتصباً ، ساكناً دون حراك..
,
, كان هذا نهاية التوتر والتعقل ،وبداية الجنون عنده، فأطلق صرخات توقظ الموتى، وهو يستغيث وينادي عم فراج بهستريا ،ويداه تطرقان الباب ، وتحاولان فتحه بفزع وعنف، دون أن يفارق عينيه ذلك الشيء المتدثر بالظلام ..
,
, استيقظ عم فراج على صرخاته ،وكاد أن يتعثر ،وهو يندفع نحو الباب المغلق ليرى ما هنالك..فوجئ هو الآخر بالباب المغلق.. وحاول أن يفتحه فلم يفلح ،فتصلب أمامه يرمقه بحيرة ..
,
, كان المزلاج غير مغلق ..فكيف يقاوم ذلك الباب اللعين فتحه إذا ؟..
,
, بالخارج ارتفع عويل مرزوق وصرخاته ، وهو يتضرع إلى عم فراج ،ويرجوه أن يفتح له الباب ،فزاد عم فراج من محاولاته الشرسة كي يفتح الباب، وقد قرر أن يفتحه بأي طريقة حتى لو حطمه ..
,
, تراجع للخلف قبل أن يندفع نحو الباب بكتفه ليحطمه ..لم يتأثر الباب بمحاولته فتراجع ثانية ليعيد الكرة، وهو يصيح في مرزوق:
,
, - ماذا هناك يامرزوق .. ما الذى يجري عندك ..لماذا تصرخ هكذا؟..
,
, بصعوبة فهم مايقوله مرزوق من بين صراخه الذي استمر صاخباً ليوقظ الموتى.
,
, -أنجدني ياعم فراج.. إنه هناك في الظلام..إنه ينظر إليّ ..افتح الباب أرجوك ،وانجدني..
,
, -من هذا يا مرزوق؟ ..لاتصمت يارجل ،وأجبني..تحدث،وأخبرني من هذا؟
,
, لكن مرزوق أخذ يصرخ دون أن يجيبه هذه المرة .. تحرك ذلك الشيء المخيف مغادراً ظلمته، وإتجه نحوه ..فانهار مرزوق برعب بجوار الباب يائساً من محاولة فتحه ، لكنه استمر يصرخ منادياً عم فراج سائلاً نجدته بيأس حقيقي ..
,
, توترت عضلات عم فراج أكثر وصرخات مرزوق الفزعة تصله عبر الباب المغلق دون أن يستطيع نجدته، ظل الباب صامداً كوتد مثبت بالصخر دون أن يتحرك قيد أنملة بالرغم من محاولاته الجدية لتحطيمه ،بدا كأن قوة شيطانية تتلبسه فتزيده صلابه ..
,
, فى النهايه تحول صراخ مرزوق لنحيب مكتوم ..أخذ يرتعد، وهو يلاحظ شبح ذلك الكائن يتقدم نحوه بإصرار وهدوء .. بدأت الدنيا في الإظلام أمام عينيه ..و دخل ذلك الشيء دائرة الضوء ،فعرف من يكون ..
,
, كانت فتاة .. الفتاة التى جلب جثتها منذ أيام ..لابد أن هذا شبحها وقد أتى لينتقم منه ..إنه وقت الحساب والإنتقام إذا ،فمرحبا بالفزع.
,
, ارتسمت ابتسامة ساخرة ،ومخيفة على شفتيها، وبدت عيناها متوهجتين مشتعلتين كجمرتين ،بينما تطاير من خلفها شعرها الأسود الطويل كأنما يحركه تيار خفي من الهواء للخلف ..وكانت تتحرك بانسيبابية غريبة كأنما تسبح في الهواء.
,
, أراد أن يصرخ فيها أن تبتعد عنه وتتركه ،لكن صوته خذله ، فلم يخرج من فمه إلا عواء غير مفهوم..وطمس الرعب حاسة الشم في أنفه، فلم يشم رائحة العطر الأنثوي الذي عبق شذاه الفراغ حوله..
,
, ظلت تقترب بتؤدة - تؤدة أي رزانة وتَأَنٍّ وتمهُّل تكلّم بكلِّ تُؤَدَةٍ ورويَّة - ورتابه حتى صارت أمامه تماماً ،وألجمه الرعب ،فأصابه شلل مؤقت فلم يتحرك ..هنا امتدت يدها نحوه ،وابتسامتها الساخرة المرتسمة على وجهها تزداد اتساعاً ، فلم تعد مراكز وعيه قادرة على إبقاءه يقظاً أطول من هذا الوقت ، ففقد الوعي ..
,
, في نفس اللحظة زالت مقاومة الباب فجأة أمام محاولات عم فراج المستميتة ،ففتح مرة واحدة كاد معها عم فراج أن يسقط أرضاً ..
,
, رأى حينها مرزوق راقداً أمام الباب شاحباً ، وفاقداً لوعيه.. فحصه بتوتر ، وهو يناديه، ويهز جسده بعنف ليفيق .. كانت أنفاس مرزوق ضعيفة مضطربة،وجبهته تتصبب عرقاً بارداً ،وجسده متخشباً.
,
, بعد لحظات استجاب مرزوق لمحاولات عم فراج الحثيثة لإفاقته ، ففتح عينيه ببطء .. ثم هزّ رأسه بعنف متلفتاً حوله كأنما يتيقن أن الخطر قد زال .. نظر بعدها إلى عم فراج ،ثم انهار مرة واحدة باكياً وهو يحتضنه..
,
, ساعده عم فراج كي ينهض ،ثم أرقده على الفراش ..وراقبه وهو يبكي، ويرتعد من الفزع الذي لاقاه منذ قليل .
,
, حاول عم فراج أن يخمن ما الذي شاهده مرزوق ،وأرعبه هكذا؟..ولم يرغب في أن يسأله الأن ،وهو يراه منهاراً أمامه هكذاً، فانتظر إلى أن يهدأ قليلاً من اضطرابه وبكائه.
,
, بعد فترة ليست بالقصيرة هدأ روعه..وبكلمات مضطربة متقطعه، حكى ماحدث ..
,
, أقسم بعدها ألا يكمل ليلته في هذا المكان، حتى لو كان في الأمر طرده من عمله و إقالته ..
,
, لذا فقد قررا أن يتركا المشرحة سوياً الآن ،ولتذهب كل الجثث التي بها إلى الجحيم ..
,
, قرر عم فراج أن يذهب في الصباح إلى الدكتور فهمي ليخبره ماحدث..ولو أراد حراسة المشرحة ؛فليبحث عن آخرين غيرهم ،فلن يجسر أيهم بعد الآن على المبيت ثانية بها مهما كان الوعيد أو الترغيب ..
,
, غادرا المشرحة لكنهما تركا الباب الخارجي دون أن يهتموا بغلقه.
,
, كان خطأ كبيراً ، أدركاه فيما بعد..


١٢


في الصباح كانت هناك نهلة ..فتاة ذكية ..رقيقة.. وحالمة.
,
, كانت تحلم أن تغير في يوم من الأيام التاريخ الطبي ، حيناً باكتشاف عشرات الأمراض الجديدة ،وأحياناً أخرى باختراع عشرات العقاقير التي تشفي كل الأمراض، وخاصة البلهارسيا التي كانت تنهش أكباد المصرين وأبدانهم بوحشية في ذلك الوقت ..
,
, عشرات الأحلام التي تولد وتموت في كل لحظة، والكثير من النشاط غير المحدود ،وحماس بلاسقف يردعه ..كل هذا كان نهلة..
,
, تفوقت في دراستها ،وكان ترتيبها الأولى دائما .. علمت أن هذا ما كان عليها أن تفعله كي تصير في يوم من الأيام، الدكتورة نهلة كما تتمنى ..
,
, رقيقة دون ادعاء ..ملاك لايرى في الدنيا إلا الحسن فقط ..لاتفكر إلا في الحياة، ولاتعلم شيئاً عن الشيء المخيف الآخر المدعو الموت ..
,
, رقتها جعلتها في قلق دائم من أن تفشل أحلامها أمام خشيتها من الجثث ومن المشرحة ..هي التي لم تعتد أبداً أن تتعامل مع أي شيء يمت بصلة للموت ،صار عليها لو أردات أن تنجح ،وأن تتعلم كيف تتعامل مع الموتى بجرأة وشجاعة.
,
, كانت تموت هلعاً لو ألقى أخوها الصغير نحوها بصرصار ميت ..بل وكاد قلبها أن يتوقف يوماً ،حين اتجهت في منتصف الليل في أحد الأيام إلى الحمام لتطأ بقدميها العاريتين شيئاً ما.. نظرت إليه حينها،ولم تتبين ماهو في الضوء الشاحب ..وحين أضاءت مصباح الردهة ..اكتشفت ماهو ،فأطلقت صرخة مريعة قبل أن تفقد وعيها..
,
, لقد كان فأراً ميت ..
,
, كانت أمها قد وضعت من أجل اصطياده السم في بعض بواقي وجبة الدجاج التي التهموها ذلك اليوم، ولا بد أنه لم يدرك الشرك الذي نصب له فالتهم الطعام المسمم ؛ليموت على الفور..المشكلة أنه قد اختار المكان الخطأ ليموت فيه، فكادت نهلة أن ترقد بجواره ميتة من الرعب ..
,
, أيضا لم تنسَ كيف فارقها النوم لأيام عدة، حين ماتت جدتها ودخلت إلى حجرتها لتلقي عليها النظرة الأخيرة ..أصابها الهلع حين رأت كيف شحب وجه جدتها ،وتغضن وكساه لون أزرق مخيف ..ظل هذا الوجه يطاردها في أحلامها ،ولايفارق مخيلتها لزمن طويل بعدها..
,
, كانت طبيعتها تتصادم مع رغبتها في دراسة الطب ..حتى أن والدها حاول أن يثنيها برفق عن دراسة الطب ،ملوحاً لإمكانية أن تتجه لدراسة شيءآخر لا مكان فيه للدماء أو الموتى ..لكنها أصرت على دخول كلية الطب ، مؤكدة لنفسها ،ولكل من حولها أنها قوية ولن يرهبها شيء من هذا ..
,
, اليوم جاءت مبكرة ..وكان هذا هو يومها الثالث في الكلية ..في اليوم الأول لم يكن هناك شيء إلا محاضرة تعريفية بنظام الدراسة في الكلية ،وبالمواد المطلوبة منها ..يوم خفيف وهدوء ماقبل العاصفة.
,
, في اليوم الثاني كانت البداية المرعبة.. ثلاث محاضرات تمهيدية وثقيلة بحق للمواد الدراسية وباللغة الإنجليزية ..كانت هناك عشرات المصطلحات الغامضة التي لم تفهم منها شيئاً ..لكنها كانت متحمسة بالرغم من إحباط الكثيرين من حولها في نهاية اليوم ..
,
, كل شيء صعب في بدايته ،وسأعتاد هذا مع الوقت ..هكذا طمأنت نفسها..
,
, كانت الساعة الآن السابعة والنصف،ومازال الوقت مبكراً للغاية، فمحاضراتها لن تبدأ قبل التاسعة ..فبدت الكلية في حينها هادئة ومريحة بلاصخب أو زحام.
,
, كانت في قرارة نفسها قد قررت أن تواجه مخاوفها اليوم .. واتخذت قرار خطيراً..ستذهب اليوم إلى المشرحة !
,
, أخبرها بعض زملائها الأقدم سنّاً أن الجثث موجودة بها الآن بالفعل .. فقررت أن تكون مواجهتها الأولى مع الجثث بالمشرحة بمفردها..كانت ترغب في أن تختبر نفسها..هل سترتعد من مرآها؟.. أم ستحتمل الأمر ، ولن تخشاها؟..
,
, لم تكن ترغب في أن يكون أحد ما معها في مواجهتها الأولى هذه.. خشيت أن يصدر منها شيء ما، كأن تصرخ مثلاً أو تفقد وعيها فتصير أضحوكة بين زملائها ..
,
, لهذا لتكن مواجهتها الأولى بمفردها ،وليكن حينها ما يكون ..
,
, لهذا جاءت اليوم مبكرة ،واتجهت بخطوات مرتبكة إلى المكان الذي أخبروها أنه المشرحة ..
,
, من بعيد ،وقبل أن تصل إليها ،وصل لأنفها رائحة الفورمالين النفاذة .. فاضطرت أن تخرج منديلها وتغطي أنفها به.. بلغت الباب، ورمقت ببصرها اليافطة الخشبية المكتوب عليها (المشرحة) بانفعال وإثارة وتردد، قبل أن تمد يدها الرقيقة نحو الباب الزجاجي لتطرقه .. انتظرت للحظات أن يجيبها أحد ما.. وحين شعرت أن وقتاً طويلاً قد مر بعدما طرقت الباب ، دون أن يجيبها أحد، طرقت الباب مرة أخرى بقوة أكبر،وقد خشيت أن لايكون بها أحد ليدخلها ،فتنتهى مغامرتها قبل أن تبدأ..
,
, لاحظت أن الباب استجاب لطرقاتها هذه المرة فانزاح للداخل قليلاً ..دفعته برفق ففتح باتساعه أمامها كأنما يرحب بها ويدعوها لأن تدخل ..أدخلي يافتاة ..لا شيء بالداخل لتفزعي منه ..
,
, مدت رأسها للداخل فلم تر أحداً في الرواق الطويل .. استرقت السمع لبرهة فلم تسمع شيء.. هل يوجد أحد هنا ؟..
,
, دلفت بعدها المكان بتردد ورهبة فلم يقابلها أحد، لاحظت أن رائحة الفورمالين قد صارت أقوى الآن ،ومثيرة لأنفها ومقلتيها بعنف ،حتى أن عينيها أخذت تحرقانها بشدة ،وبدأت دمعات ساخنة في التسرب من محجريها.. انتهت الردهة التى تسير بداخلها إلى قاعة المشرحة ..كانت مضاءة بأضواء شاحبة لمصابيح نيون كساها الغبار ،ولاحظت أن نوافذها المرتفعة مغلقة ..تطلعت الى المناضد التى ترقد فوقها الجثث المغطاة أمامها، فارتجف قلبها للحظة ،وفكرت في التراجع ،وقد زاد السكون الذى يحيط بها في رفع توترها ..
,
, حاولت التماسك، فهمست لنفسها مشجعة ،ومغالبة رغبة هادرة بداخلها تدفعها للتراجع:
,
, -إما الآن وإما لا للأبد ..تقدمي يا نهلة ،ولاتكوني جبانة ..ستندمين للأبد لو تراجعت الآن.
,
, شعرت أن عبارتها لم تزدها شجاعة ،وأن قدميها قد التصقتا بالأرض أكثر الآن، دون أن تطاوعاها على التحرك للأمام خطوة واحدة..مرة أخرى حدثتها نفسها، وألحت عليها أن تعود أدراجها ،وأن تعاود الكرّ ة في وقت آخر ..ربما كان الأفضل لها أن تاتي بإحدى زميلاتها لتكون معها أول مرة ..إلا أن صوت عنادها اندفع من أعماقها صائحاً فيها بغضب :
,
, -مما تخافين يابلهاء إنها مجرد جثث ..ماهم إلا بشر نائمون كما يقول بابا..تقدمي الآن أو اعترفي لنفسك أنك جبانة وضعيفة.
,
, استجمعت شجاعتها ،ودفعت قدميها الملتصقتين بالأرض بإصرار للأمام دفعاُ ..واتجهت بخطوات مترددة إلى أقرب الجثث إليها ،ثم توقفت أمامها لأكثر من دقيقة محبوسة الأنفاس من الإثارة والترقب، وبأصابع رقيقة متوترة ومرتجفة، مدت يدها إلى الغطاء الذى يغطي الجثة، ثم ببطء شديد بدأت ترفعهُ وتزيحه عن الجسد المسجى أمامها..
,
, كانت متوترة للغاية، وراح قلبها ينتفض بعنف، وشغف في قفصه الصدري ، وهي تنظر الى الجثة ..لدهشتها كانت جثة فتاة شابة..بل وكانت فتاة جميلة للغاية ..لاحظت أن لونها لم يكن يشبه كثيراً لون جدتها القاتم الذي رأته على وجهها حين ماتت..كان وجه الفتاة أمامها مازال محتفظا بنضارته ، وإن شابه بعض الشحوب ..
,
, كان وجه فتاة نائمة لا أكثر ..أهكذا نصير حين نموت؟ ..
,
, تأملت حسنها المبهر فشعرت بالأسى من أجلها ..كان وجه هذه الفتاة يشي بأنها لا تكبرها إلا بأعوام قليلة ..لابد أنها امتلكت في يوم من الأيام أحلاماً كأحلامها ،هل ياترى حققت بعض أحلامها ،أم أن الموت قد فاجأها قبل أن تفعل ..شعرت بالشفقة عليها ؛لأنها أتت إلى هنا لينتهي بها الحال ممزقة مشوهة تتناقلها عشرات الأيدي، وتعبث بجسدها مئات الشفرات الحادة .. تخيلت نفسها مكانها ..بالتأكيد لم تتمن أن يصير هذا مصير جسدها لو ماتت فجأة ..كان مصيراً مؤلماً ..ما الذى أتى بهذه الفتاة إلى هنا ياترى ؟!..تمنت لو تعرف.
,
, تذكرت فجأة ما أخبرها زملاؤها القدامى أن الجثث تكتسب لوناً بنياً باهتاً كأوراق الصناديق الكارتونية، نظراً لحفظها بالفورمالين ..لم يشبه وجه هذه الفتاة الصور التي تخيلتها للجثث المحفوظة ..ربما لم يَعْدُوها بعد؟ .. وجدت نفسها تتحمس أكثر ،فمدت يدها إلى وجه الفتاة لتلمسه ..
,
, كانت ترغب في أن تقتل الخوف بداخلها من مرأى وملمس الجثث .. وجدت نفسها تغمض عينيها بقوة، ويدها تمتد نحو وجه الفتاة الميتة لتلمسه..شعرت يداها بملمس الجلد الناعم ..كان لايخلتف كثيرا في ملمسه عن ملمس بشرتها ..وكان الجلد دافئا ..
,
, وحين فتحت عينيها ،وجدت أن العالم قد تغير تماماً عما قبل .. كانت الجثة التي أمامها قد فتحت عينيها ،وراحت ترمقها بثبات وابتسامة ساخرة تتلاعب على شفتيها ..
,
, كانت نهلة فتاة رقيقة ..وكان من الصعب أن يحتمل قلبها الصغير شيئاً كهذا أبدا ؛فتوقف لأول مرة عن القيام بواجبه الأزلي ولم يعد يدق ، ولم تشعر بعدها بأي شيء ..
,
, وكان هذا من حسن حظها !


١٣


فتح عبد الوهاب المشرحة في الصباح ،وبينما كان يبحث بقلق عن زملائه بها اكتشف جثة نهلة ..وفي أقل من الساعة امتلأت المشرحة بالعشرات من رجال الشرطة بأزيائهم المميزة ،وخبراء المعمل الجنائي بحثاً عن دليل ما يرشدهم للفاعل..
,
, كان هناك عميد الكلية ووكيلاه، وبالطبع كان معهم الدكتور فهمي ،وبعض أساتذة القسم، وبعض أساتذة الأقسام الأخرى وقد ألهب الحادث فضولهم..
,
, طالبة بالفرقة الأولى تُقْتَل بالمشرحة ..
,
, كانت التفاصيل محيرة ومبهمة ومثيرة ..وجد عبد الوهاب جثتها على أحد مناضد المشرحة، وكانت بكامل ثيابها ..لكن المخيف هاهنا أن جلدها قد اكتسب اللون البني المميز للجثث المحفوظة ،وقد تصاعدت منها رائحة الفورمالين قوية طازجة تماماً ..
,
, انهمك رئيس المباحث في حوار جانبي في أحد الأركان مع عبد الوهاب وحسن ، بينما انهمك خبراء البحث الجنائي في رفع البصمات ،والبحث عن أي أدلة قد تكون مفيدة لكشف غموض القضية ..وحول الجثة انهمك الطبيب الشرعي هو الآخر في فحص الجثة ،ويشاركه في هذا الدكتور منصور عبد العليم رئيس قسم الطب الشرعي بالكلية ..
,
, بدأ الاثنان في إجراءات الفحص الظاهري المبدئي على الجثة قبل أن يقول الطبيب الشرعي -الدكتور عادل -للدكتور منصور بتوتر وهو ينتصب قائماً لِيُعَدّل من وضع نظارته:
,
, -لا أفهم أى شيء في هذه الجثة .. إنها محيرة بحق.
,
, أجابه الدكتور منصور بتؤدة ، ووقار وهو يفحص بمثابرة يدي الفتاة وذراعيها :
,
, -أرى ألا نتعجل في إبداء آرائنا الآن..مازال أمامنا وقت طويل قبل أن يطالبنا أحد بتفسير ما حدث مع هذه المسكينة..الأمر لم ينته بعد تنهد الدكتور عادل بحيرة ،وغمغم، وهو يشبك أصابعه أمامه :
,
, -إنها مسكينة بالفعل ..مسكينة ومحيرة ..لا آثار عنف أو مقاومة ظاهرة على جسدها ..لا إصابات ظاهرة ..لا كدمات بأي مكان .. كافة الأوردة والشرايين الظاهرية سليمة ،إذن كيف تم حقنها بكل هذا الفورمالين ،ومتى وجد القاتل الوقت الكافي ليفعل ذلك؟..
,
, هنا أعاد الدكتور منصور ذراعي الفتاة إلى مكانهما برفق، ثم نهض ،وقال :
,
, -أظن أن اكتشاف سر تلك الألغاز التى طرحتها الأن يحتاج منا إجراءات دقيقة أثناء التشريح ..ولهذا أرجو ألايضايقك أن أتقدم بطلب رسمي للمشاركة في إجراءات تشريحها.
,
, أجابه الطبيب الشرعي على الفور :
,
, - ولماذا يضايقني مشاركتك يا دكتور منصور ..إن معاونتك لي في قضية كهذه مفيد للغاية ..أنت أحد العلماء القليلين في مجالنا هذا ،ويشرفني دوماً أن أعمل معك .
,
, ارتسمت ابتسامة مريحة ،ممتنة على وجه الدكتور منصور وغمغم بتواضع :
,
, -أرجو ألا تعد الأمر تشكيكاً في قدراتك - ابدا - إنه الفضول العلمي لا أكثر، بالإضافة لكون الفقيدة إحدى طالباتنا. إنني أريد أن أعلم كيف، ومتى ،ولماذا تم حقن هذه الفتاة بالفورمالين ؟..هناك هاجس بداخلي يصر أن مقتل هذه الفتاة ليس جريمة قتل بسيطة..أشعر أن هناك شيئاً أكبر يختفي خلف قتل هذه الفتاة .
,
, حينئذ اقترب الدكتور فهمي منهماً ،كان منزعجاً بشدة ،وقال وهو ينفث دخان سيجارة بعصبية واضحة لم يستطع كتمانها:
,
, - هل توصلتم لشيء ما ؟
,
, أجابه الدكتور منصور :
,
, -ليس بعد.. فكما ترى لا آثار عنف ظاهرة، ولاسبب مباشر للوفاة..مازال علينا أن نقوم بالتشريح ،لنرى إن كان هناك تلف داخلى أم لا ..كما أن علينا ألا ننسى المخدرات والسموم وغيرها .. ولهذا أخشى أننا لن نصل لشيء ما، قبل أن نتنهي من عملية تشريحها ،وفحص أنسجتها وتحليل مكوناتها ودمائها..الامر ليس واضحاً او بسيطاً أبداً هذه المره.
,
, - وماذا عن الفورمالين ..هل عرفتم كيف تم حقنها به هكذا؟
,
, -ليس لدي إجابه لسؤالك هذا في هذه اللحظة ،لكننا حتما سنعرف.. اطمئن يا دكتور فهمي..إنها مسألة وقت لاأكثر .
,
, زادت تلك الإجابات المبهمة من توتره ،فابتعد دون أن يعقب وظل ينفث دخانه بعصبية، وهو يتمتم بحنق وصوت خافت:
,
, -طالبة تُقْتَل في المشرحة ..كأن هذا ماكان ينقصنا !..ياله من عام !
,
, فوجئ بعميد الكلية يتجه نحوه مع مفتش المباحث ،ووكيل النيابة الشاب الذي وصل لتوه هو الآخر ،وقال العميد بعد أن قدمهم لبعضهم البعض :
,
, -لقد اتفقنا جميعا على كتمان الأمر عن الجميع ،وبخاصة الطلاب والصحافة ..لانريد أن نثير الذعر في نفوس الطلاب أو أهاليهم..كما لانريد أن تصيب الكلية تلك الفرقعات الإعلامية للصحفيين..
,
, هزّ الدكتور فهمي رأسه متفهماً ، وهو يقول:
,
, -إن هذا أفضل حتماً ..حسنا فعلتم.
,
, هنا قال وكيل النيابة الشاب موجهاً سؤاله للدكتور فهمي وعيناه الضيقتان النافذتان لاتكفان عن التنقل، والبحث في كل مكان بالمشرحة :
,
, -أخبرني يادكتور فهمي ..من كان أول من اكتشف الجثة ؟
,
, أجاب الدكتور فهمي ،وهو يشير بيده نحو عبد الوهاب الذي انكمش في أحد الأركان مذهولاً قلقاً ،بصحبة حسن وهما يراقبان مايجري حولهما بتوجس وترقب:
,
, - إنه عبد الوهاب أحد عمال المشرحة هاهنا ..لقد وجدها في الصباح.
,
, -وكيف علمتم أن الجثة لإحدى طالبات الكلية ؟..
,
, -لقد وجدنا حقيبتها بجوارها ،وحين فتشناها عثرنا على بطاقتها الشخصيه ، وبطاقة التحاقها بالكلية ..كانت هناك بعد الصور الفوتوغرافية لها .. أترغب في التحدث إلى عبد الوهاب؛ ليقص عليك بنفسه ماحدث؟
,
, -لا داعي لهذا الآن..سيتم التحقيق مع الجميع في النيابة فيما بعد.. قالها باقتضاب، ثم التفت إلى رئيس المباحث، وسأله :
,
, -هل انتهى رجال المعمل الجنائي من عملهم هاهنا.
,
, لاحظ رئيس المباحث بعض التراخي في رجال البحث الجنائي مما يوحي بأنهم قد إنتهوا من عملهم ،فغمغم وهو يهز رأسه الضخم:
,
, -أظن أنهم قد انتهوا الآن ؟..
,
, -وماذا عن سبب الوفاة ..هل علمتم كيف قتلت تلك الفتاة ؟..
,
, -لقد تحدث إليّ الدكتور عادل – طبيبنا الشرعي – في هذا منذ لحظات ، وقد أخبرني أنه لايعلم سبب الوفاة حتى الآن ..أظن أنه سيؤجل إجابته لحين انتهائه من تشريح الجثة.
,
, هزّ وكيل النيابة رأسه بحركات مبهمة قبل أن يلتفت نحو الدكتور فهمي الذي كان يراقب مايحدث بضيق وعصبية ،وقال له:
,
, -أخبرني يادكتور فهمي ..لماذا برأيك تم حقن هذه الجثة بالفورمالين ..هل تظن أن القاتل قد رغب في إخفاء أدلة ما بفعله هذا .
,
, أجاب الدكتور فهمي، وهو يهز كتفيه بحيرة :
,
, -وما أدراني ؟.. إنني لم أقابل شيئا كهذا في حياتي كلها ..ربما كان مختلاً ولهذا فعل ذلك ..لكن كيف فعلها ،ومتى وجد الوقت المناسب لذلك فهذا مايحيرنى للغاية..إن حقن الجثث بالفورمالين أمر ليس بالهين ويحتاح للجهد والوقت.
,
, -وهل يمكن لشخص واحد أن يقوم بالامر بمفرده دون معاونة ما؟..
,
, -هذا ممكن بالطبع ،لكن سيتطلب هذا منه الكثير من الوقت..هناك إجراءات لابد أن تتبع وهناك الجهد وهناك الوقت ..إنه أمر صعب لو شئت رأيي.
,
, رمقه وكيل النيابهة الشاب محاولاً استيعاب الإجابة ،وخيم الصمت بينهم ، وساد سكون غريب في أرجاء المشرحة كلها، كأنما اتفق الجميع على السكوت ،وكل منهم يسبح في خواطره..قبل أن يعاود وكيل النيابة حديثه إلى رئيس المباحث الضخم الجثة :
,
, -هل بعثتم يا علاء - رئيس المباحث - من يخبر أهلها ويأتي بهم ؟
,
, -لقد أرسلنا إليهم بالفعل أحد أمناء الشرطة بإحدى سياراتنا لجلبهم إلى هنا..مازال علينا ان نعرف منهم الكثير من الأشياء الغامضة أهمها متى أتت الى الكلية ،هل أتت هذا الصباح ،أم كانت هاهنا منذ الأمس؟..
,
, - حسنا ..أرى أن تجري تحرياتك لتعلم إن كان لتلك الطالبة أصدقاء هاهنا أم لا؟..ومن هم لو وجدوا؟ ..وهل كان بصحبتها أحد ما حين أتت إلى هنا أم كانت بمفردها ..ولاتنسَ أن تتحرى عن عمال المشرحة جميعهم، ولتنظر إن كان هناك مايريب في أحدهم أم لا؟.
,
, أومأ رئيس المباحث علاء رشدان برأسه ،وهو يغمغم:
,
, -سأتأكد من تنفيذ هذا يا وائل بك.
,
, تحرك وكيل النيابة بعدها في أرجاء المشرحة مرة أخرى، وأخذ يطالع الجثث الراقدة على مناضدها، وهو يغالب الغثيان الذي يسببه له رائحة الفورمالين ، وحاول بعقله رسم تصور مقبول لما جرى ..لكنه فشل ..فالمكان بالرغم من كل الأشخاص الموجودين به، يبدو بريئاً تماماً ولا شيء في غير موضعه ..
,
, وجد نفسه يتساءل إن كانت الفتاة قد قتلت في مكان آخر ،ثم قام القاتل بجلبها للمشرحة بعد ذلك ،كان احتمالاً قائماً ..خطر بباله شيء ما ،فعاد إلى الدكتور فهمي وسأله:
,
, -هل تدري يادكتور ،لماذا جاءت تلك الفتاة بمفردها إلى المشرحة؟
,
, -لا أدري..أنت تعلم الطلاب ،وشططهم وإندفاعهم..لا أحد يعلم أبداً ما الذى يدور برءوسهم..ربما أردات أن ترى الجثث ..أو ربما راهنت شخص ما على أن تدخل المشرحة بمفردها إثباتاً لشجاعتها ..إننا دوماً نقابل من الطلاب أشياء مثل هذه.
,
, -وهل اعتدتم ترك المشرحة مفتوحة دون أحد ما يحرسها ليدلفها من يشاء.
,
, - كلا بالطبع ..ففي كل ليلة على أحد العمال المبيت بها، انتبه وكيل النيابة بشدة لما ذكره الدكتور فهمي ،فقال باهتمام:
,
, -و منْ مِنْ العمال كان هاهنا بالأمس ؟
,
, شعر الدكتور فهمي بالتوتر يتصاعد في جوفه، فتنهد بقوة وأجاب ببطء:
,
, -المفترض أن كبير العمال، ويدعى فراج، وعامل آخر يدعى مرزوق ،هما من كانا بالمشرحة بالأمس.
,
, -وأين هم الآن..إنني لم أرى أي منهما هاهنا.
,
, -لست أدري .. فحين جئنا إلى هنا لم يكونا بالمشرحة..لقد ذكر عبد الوهاب أنه وجد باب المشرحة مفتوحاً ،ولم يعثر علي أيهما حين أتى في الصباح.
,
, التمعت عينا وكيل النيابة الشاب ، وغمغم لنفسه ببطء:
,
, -إن هذا يغير الأمر تماماً ..يجب أن نعلم أين هما الآن ؟



١٤


شعر عبد الوهاب أن ساقيه عاجزتان عن حمله ،فاستند بيده على الحائط المجاور له كي لا يسقط، كان يخشى دائماً كل ما يمت للسلطة بصلة ، وكان يهاب الشرطة بشدة.. خشى أن يتم توريطه بصورة ما في جريمة القتل هذه ..وظلت الأفكار السوداء تراوده ،بينما كان يقف في الردهة الطويلة لمبنى النيابة في انتظار الإدلاء بأقوله في جريمة قتل الطالبة ..
,
, انتبه إلى صوت يناديه باسمه ..كان الجندي الواقف على باب وكيل النيابة يدعوه للدخول ، فتحرك بأ قدام لينة كأعواد المكرونة نحو الحجرة..
,
, لم يدعوه وكيل النيابة للجلوس ،بل تركه واقفاً ، وعيناه الضيقتان الحادتان ترمقانه بنظرات نافذة حادّة، لدقيقة أو أكثر ،ثم إلتقط سيجارة من علبة كانت أمامه على المكتب ،وأشعلها بولاعة أنيقة ،ثم بدأ ينفث دخانها ببطء دون أن يرفع عينيه عنه ..
,
, تصاعد التوتر بداخل عبد الوهاب حتى أن حبّات من العرق البارد بدأت في الاحتشاد على جبينه..هل يقصد وكيل النيابة أن يحطم أعصابه بصمته الطويل هذا ،ونظراته المليئة بالاتهام ؟ ..لو أن هذا مأربه، فقد نجح.
,
, في النهاية بدأ وكيل النيابة في توجيه الأسئلة ..بدأ بأسئلة روتينية عن اسمه، ومحل إقامته وعن عمله بالمشرحة وغيرها ..أخذ عبد الوهاب يجيب عليه بثبات محاولاً ألا يتلعثم ، أو يرتبك..
,
, لايجب أن يبدو مضطرباً أو مريباً في إجاباته .. وإلا شكوا فيه وارتابوا في أمره...
,
, بعد ذلك سأله وكيل النيابة :
,
, -حسناً ؟ أخبرني الآن كيف اكتشفت الجثة ومتى ؟
,
, ابتلع عبد الوهاب ريقه بسرعة ،وقد شعر أن مرحلة الأسئلة الصعبة قد حانت؛ فأجاب محاولاً أن يكون دقيقاً ومحدداً :
,
, - لقد حدث هذا في الصباح ..كانت الساعة الثامنة تقريباً ..وصلت للمشرحة ،ووجدت بابها مفتوحاً ..اتجهت في البداية إلى حجرتنا ،فلم أجد بها عم فراج أو مرزوق ، توقعت أن يكونا بالداخل لشأن ما، فاتجهت لقاعة التشريح ، وهناك رأيت جثة الفتاة راقدة على إحدى طاولات التشريح..كانت على أول طاولة في قاعة التشريح ولم يكن فوقها ملاءة أو غطاء ما ..لقد كانت واضحة تماماً ولم يكن من العسير ألا ألحظها.




قصصى باسمى جدو سامى على جوجل درايف

https://drive.google.com/drive/folders/1N0wKMRM9mRd5pSI4Dyq2zt5orcQwEH3K?usp=drive_link

مقاطع فيديو مهمة على جوجل درايف
https://drive.google.com/drive/folders/1VGtdNEuiaJll4dK0_iSXcCVOKcZqUe6r?usp=drive_link

و
https://drive.google.com/drive/folders/1PayOCf35-FxbHZl04B8LNkd_R6CtET6z?usp=drive_link

و
https://drive.google.com/drive/folders/1ZBOG2u01Jqw_ZbdCGHJ5FyjK_D3sYRiA?usp=sharing
و
https://drive.google.com/drive/folders/1NRM9x4lDPBXiHejdHzF4HigQoorQQLcp?usp=drive_link

قناتى على اليوتيوب بصوتى

https://www.youtube.com/channel/UC1hw85LpXl5LGurYMspSScA/videos

وقناتى الثانية على فيميو وفيوه والفيسبوك
https://www.veoh.com/users/GeddoSamy81

https://vimeo.com/user101325859

https://vimeo.com/user101325859/videos


https://www.facebook.com/profile.php?id=61552353388948

بودكاستاتى الصوتية فى موقع سبريكر
https://www.spreaker.com/show/h_9186

رابط مقالات صديقتى الغالية ديانا احمد بالحوار المتمدن
ولها مواضيع ومشاركات مهمة بشبكة الالحاد العربى

https://www.ahewar.org/m.asp?i=4417

ولى انا جدو سامى ولها حسابات باسم جدو سامى وسمسم المسمسم وناهد محمود وباهر علوى وكواكب بن تحتمس وكواكب وديانا احمد فى ميديوم واكسهامستر وليتروتيكا وميلفات وحلمات (باسم جدو سامى وجدو سامى بالروسى وبهجت عزيز و M _ Hamdy) ونسوانجى الجديد والقديم
حسابى على تيكتوك

https://www.tiktok.com/@geddosamy



حسابى على جاستباست ايت

https://justpaste.it/u/Geddo_Samy81

حسابى على واتباد

https://www.wattpad.com/user/GeddoSamy81

حسابى على فليكر

https://www.flickr.com/photos/199468613@N07/
حسابى على كورا

https://www.quora.com/profile/Nabeel-Serry


حسابى على ايميدجتويست

https://imagetwist.com/p/BaherOlwy

حسابى على ايميدجبام

https://www.imagebam.com/view/GA9Q9X


حسابى على بينتريست
https://www.pinterest.com/GeddoSamy81/_created

حسابى على سبوتيفاى فور بودكاسترز
https://podcasters.spotify.com/pod/show/geddo-samy81
https://open.spotify.com/show/55Uwno4znf3L4hMOINIFKi
حساب صديقتى ديانا احمد بشبكة الالحاد العربى
https://www.il7ad.org/member.php?u=5643
حساب صديقى احمد بن تحتمس بشبكة الالحاد العربى
https://www.il7ad.org/member.php?u=6788



#جدو_سامى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية بحيرة الجريمة
- بعض الافكار لقصص الماذر فيجار والفاذر فيجار لليتيم الاربعينى ...
- تاريخ قطاع غزة والضفة الغربية
- الجنسية المتعددة او المزدوجة + الشتات + عرب 48
- اصغر 100 دولة فى العالم وموضوعات اخرى
- الروح الحائرة بلا جسد
- ليتنا نحن جدو سامى القاطن فى كل مكان وزمان
- انكِ لَحبيبتى للابد ولا اريد سواكِ احد + حبيبتى اسمها سماوات
- قصة أحمر وأبيض وأسود - 2
- محاكمة حتحور وخونسو - 2
- محاكمة حتحور وخونسو - 1
- رواية نور وشمس
- رواية هرة يحبها احمد مؤبدا
- راشيل أرملة أحببتها - 14
- نبذة عن فيلم حافة الظلام ونبذات لأفلام أخرى
- راشيل أرملة أحببتها - 13
- شرحى لقصيدة حانة الاقدار الشهيرة للشاعر طاهر ابو فاشا
- خاسرون من يوم وُلِدنا
- راشيل أرملة أحببتها - 12
- راشيل أرملة أحببتها - 11


المزيد.....




- الحكم بالسجن على المخرج الإيراني محمد رسولوف
- نقيب صحفيي مصر: حرية الصحافة هي المخرج من الأزمة التي نعيشها ...
- “مش هتقدر تغمض عينيك” .. تردد قناة روتانا سينما الجديد 1445 ...
- قناة أطفال مضمونة.. تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 202 ...
- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...
- فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك ...
- “استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام ...
- مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت ...
- المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا ...
- آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جدو سامى - رواية تشريح الفتاة المجهولة – الجزء الاول