أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غازي الصوراني - احزاب وفصائل اليسار الماركسي وأهمية الالتزام بالديمقراطية مفهوماً وسلوكا ............















المزيد.....



احزاب وفصائل اليسار الماركسي وأهمية الالتزام بالديمقراطية مفهوماً وسلوكا ............


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 7830 - 2023 / 12 / 19 - 23:04
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



إذا كان البحث وتعميق النقاش حول مفهوم الحزب الثوري مهمة المثقفين. فمن هم هؤلاء المثقفون الذين توكل إليهم هذه المهمة ؟ إنهم الفئة التي سماها لينين بالمثقفين الثوريين و سماها غرامشي بالمثقفين العضويين الذين اختاروا الانحياز إلى الطبقة العاملة و الذوبان فيها، أو أفرزتهم الطبقة العاملة من بين صفوفها للتعبير عن فكرها و أيديولوجيتها. لذلك يطرح علينا أولا و أخيرا تحديد نوعية الجماهير التي يعمل المثقف الثوري أو العضوي على تفعيل الحزب الثوري في صفوفها، ونقصد بذلك الطبقة العاملة، و الفلاحون الفقراء، و المعدمون، و العاطلون، و أشباه العاطلين و التلاميذ و الطلبة، و الشرائح المتضررة من البورجوازية الصغرى، فهذه الجماهير هي وقود النضال الثوري، وهي وحدها التي لها المصلحة في التغيير من أجل الأهداف التحررية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
و يبقى السؤال الملح: ما هو الحزب الثوري بالنسبة لقوى اليسار الماركسي ؟ إنه الحزب الملتزم بالماركسية ومنهجها مرشداً له في نضاله من أجل التحرر الوطني والديمقراطي والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية... فهو الحزب الذي يعمق الوعي بهويته الفكرية وحمايتها وتطورها عبر تفعيل الدافعة الذاتية لدى أعضائه ... وهو الحزب الذي يثقف في نضاله الجمع بين العمل العلني والسري بما يخدم كل منهما الآخر... إنه الحزب الذي يستمد قوته من الجماهير إلى جانب النضال العملي (الكفاحي والسياسي والمطلبي الديمقراطي) مستفيداً من التجارب الثورية العالمية سواء في توسعه التنظيمي وانتشاره ، وفي ممارسة دوره الطليعي في النضال الوطني والاجتماعي .. فالحزب لن يكون ثورياً إذا تراجعت قناعة الرفاق بأهدافه وبهويته الفكرية ... ولن يكون ثورياً أيضاً إذا لم تتابع هيئاته ومراتبه عملية تعميق الوعي الثقافي والفكر الماركسي بصورة دورية منظمة أو إذا تغلغلت فيه النزعات الشللية والانتهازية.. ؟ إن إشكالية الحزب الثوري هي إشكالية لازالت قائمة و ستبقى قائمة، وعلينا في الجبهة أن لا نقف عند المسلمات أو المقولات الجاهزة، بل أن نعمق البحث في هذا الموضوع، و أن نستفيد من مختلف التجارب الثورية في الساحة العالمية قديما و حديثا قصد صياغة مفهوم معمق، يهدف إلى وضع الأسس العلمية الصحيحة لبناء حركة ثورية صحيحة تطرد كل مظاهر الأزمة الفكرية والتنظيمية والسياسة ، بما يمكننا من مواجهة هذه التحولات السريعة المعقدة على المستوى المحلي و القومي والعالمي، و إلا فإن مسيرتنا التحررية الوطنية الديمقراطية ستضل الطريق، إذا لم نلتزم بصورة واعية وخلاقة بعيدة عن الجمود، بالأسس التي يقوم عليها الحزب الثوري وهي تحديداً ثلاثة أسس :
1) الأساس التنظيمي : وهو الأساس الذي لا يمكن لأي حزب ثوري أن يوجد بدونه، فالتنظيم هو الأداة والوسيلة والإطار الذي يضم في صفوفه الطلائع الثورية من أجل تحقيق الأهداف التحررية والديمقراطية، حيث يقوم الحزب بصياغة الأهداف ورسم الخطط ومتابعة حركة الأعضاء وتفاعلهم في أوساط الجماهير الكادحة.
2) الأساس الأيديولوجي : إن أيديولوجية حزبنا باعتباره حزبا لكل الفقراء والمضطهدين عموماً و للطبقة العاملة خصوصاً ، هي الأيديولوجية أو الأفكار النقيضة لكل مظاهر الاستغلال والاضطهاد.. إنها الماركسية ومنهجها المادي الجدلي التي تتعاطى وتتفاعل مع واقعنا الفلسطيني بكافة جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أجل تغييره نحو التحرر والديمقراطية والاشتراكية ، وبالتالي فإن كل مناضل من رفاقنا في الجبهة عليه أن يتسلح بهذه النظرية الفكرية كضمانه واقية ضد كل الأفكار أو المنزلقات الفكرية الليبرالية أو الانتهازية. لذلك، فإن تحقيق الوحدة الفكرية في صفوف حزبنا لا يتم إلا عن طريق التسلح المستمر بالفكر الاشتراكي العلمي المتطور والمتجدد ارتباطاً بحركة الواقع ، ذلك هو الشرط الذي يضمن حماية الهوية الفكرية لحزبنا وتواصلها في كافة المراتب التنظيمية، بمثل ما يضمن قوة انتشار حزبنا في الواقع الاجتماعي والجماهيري.
3) الأساس السياسي : إن وضوح الموقف السياسي ومصداقيته ، هو الطريق والمدخل الأول لحزبنا صوب علاقته وارتباطه بالجماهير، وبدون هذه المصداقية والوضوح سيبقى تنظيما مغلقا، وسيفتقد قدرته على قيادتها، و توجيه نضالاتها. فالأساس السياسي ليس إلا موقفا يمس الجوانب الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية التي تشكل في مجملها موقفاً متكاملاً وموحداً ، انطلاقاً من أن النقطة الجوهرية أو الإستراتيجية في البرنامج الحزبي هي تحرير الإنسان و الأرض عن طريق تحقيق الممارسة الفعالة للنضال التحرري والممارسة الديمقراطية بمعناها السياسي و الاجتماعي.
فإذا تعرضت هذه الأسس لأي شكل من أشكال التعطيل أو الرخاوة، فلا معنى لذلك سوى تعريض الحزب بهذه الدرجة أو تلك لحالة من الركود أو التراجع والشلل ومن ثم الخضوع للنزعات الانتهازية والشللية المدمرة لأفكار الحزب ومبادئه وفاعليته .
فالتنظيم أو الحزب هو، كما يقول "لوكاش"، شكل التوسط بين النظرية والممارسة، بين الهدف والعمل في سبيل الوصول إليه، وإذا كنا نتفق على صحة وموضوعية هذه المقولة، فإننا بالضرورة سندرك أي دور سلبي يلعبه غياب التنظيم فيما يتعلق بالنضال من اجل تحقيق الأهداف الوطنية والديمقراطية على طريق التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية والاشتراكية.
إن التفعيل الحقيقي أو الثورة الحقيقية للحزب ، لا تحددها قناعته الفكرية أو أيديولوجيته فقط ، فلكي تتمتع الأفكار بقوة تحويلية ، من الضروري أن يكون التنظيم عاليا عبر وحدته وقوته الداخلية لدعم قوة الأفكار بقوة التنظيم ، وبقوة ووضوح الموقف السياسي ، والقضايا المطلبية الديمقراطية .
إلى جانب ما تقدم ، فإن الرؤية النقدية للأحزاب في بلادنا عموماً واحزاب وفصائل اليسار خصوصا، تتطلب البحث في الشروط الاقتصادية الاجتماعية، وشروط التطور التاريخي للمجتمع ، فالأحزاب في بلادنا بمختلف منطلقاتها الفكرية، توافقت أو تقاطعت –بهذه الدرجة أو تلك- مع التكوين الاجتماعي المتخلف السائد و المسيطر، أو الوعي الأبوي البطريركي التقليدي ، وهي عوامل موضوعية وذاتية ، حالت دون إدخال مفاهيم الديمقراطية والحداثة والوعي الثوري المستند إلى التفكير العقلاني النهضوي النقيض للتكوين الاجتماعي المتخلف السائد، بحيث بات الوعي التقليدي هو أحد المحددات الرئيسية لمعظم أحزاب وفصائل اليسار عموماً، وفي مثل هذا الوضع ، ظل الوعي بالماركسية عفوياً ومسطحاً وشكلياً لدى معظم قواعد هذه الأحزاب وكوادرها ، الذي استمر انشدادهم للبنية الاجتماعية والثقافية المتخلفة السائدة اقوى من انشدادهم للماركسية ، ويعود ذلك في احد أهم اسبابه إلى غياب الدافعية الذاتية لدى العضو، وضعف قناعته بأهداف الحزب كأهداف شخصية له ، إلى جانب ضحالة الوعي أو ضعفه وعدم تطوره ، حيث يمكن ملاحظة هذه الظاهرة في مستوى الوعي العام لدى العديد من أعضاء حزبنا والاحزاب اليسارية في بلادنا، لان وعيهم لم يتطور أو يصل إلى مستوى وعي واستيعاب مفاهيم عصر النهضة وطروحاته الفكرية الحديثة، ويبدو أن ذلك كان بسبب البنية التنظيمية شبه البطريركيه ، البيروقراطية التي خضعت –منذ عشرينات القرن الماضي – للرؤية والآليات التنظيمية الستالينية الفردية المطلقة.
ففي البنية الستالينية للتنظيم لا يحكم «الحزب» إلا عقل واحد، هو «العقل المطلق»، وإرادة واحدة هي إرادة فرد يرفع ذاته عن الآخرين، يكون فوقهم، وهذا هو الحزب/ القبيلة.
إن عجز البنية الستالينية والتقليدية لأحزاب اليسار في بلادنا عن تحقيق التقدم يرتبط بثلاث عناصر ، هي:
أولاً: طبيعة التكوين الطبقي للحزب، أي طبيعة الفئات الاجتماعية التي شكّلت بنيته، من حيث هي فئات وسطى، وطبيعة الأيديولوجيا السائدة فيه، وهي "ماركسية ستالينية/ سوفيتيه" أو تابعة محافظة، يحكمها المنطق التقليدي القديم، وسطحية.
ثانياً: طبيعة التصوّر السياسي الذي إنتصر فيه، ويتحدَّد في دعم تقدّم رئيس أو زعيم وطني في نظام بورجوازي تابع ومتخلف.
ولا شك أن هذا التناقض بين طبيعة الماركسية الثورية، والتصوّر البرجوازي، كان يفرض سيادة الاستبداد في الحزب، الذي أدى بدوره إلى أن تظّل الماركسية، ويبقى الحزب الماركسي ذيلاً للبرجوازية.
ثالثاً: إن الهدف من «نقد الحزب» هو تبيان الطابع الشكلي للمفاهيم والكلمات التي تكرّرها الأحزاب الماركسية، فيما يتعلق بالحياة الداخلية، مثل الديمقراطية، أو المركزية الديمقراطية، وحق الانتخاب، والمؤتمرات، والاختلاف والنقد، وبالتالي فإننا ننتقد من موقع الماركسية، لأننا مع الماركسية الأصلية ضد الماركسية المشوهة، المخلوطة بالبنية الذهنية للقرون الوسطى، مع ماركسية ماركس، أنجلز ولينين، ضد الماركسية الستالينية، أو الماركسية السوفيتية، ومع ماركسية الجدل المادي، ضد الماركسية «العاميّة»، الماركسية «الجاهلة» المعادية للعقل، للفكر والثقافة عموماً، أي المعادية للماركسية ذاتها.
إننا –في فصائل وأحزاب اليسار الماركسي في مغرب ومشرق الوطن العربي- نهدف السير إلى الأمام، وليس العودة إلى الوراء، وحينما ننتقد تجارب القوى اليسارية الاخرى ، فمن أجل أن يصبح الحزب او الفصيل الذي ننتمي اليه حزباً ماركسياً ديمقراطياً متسقاً مع المنهجية المادية الجدلية، ومع الماركسية كنظرية علمية متطورة، متجددة، لا تعرف الجمود أو التقديس، ما يعني بوضوح شديد أننا لسنا ممن يهيل التراب من أجل دفن الماركسية والاشتراكية، بل إننا ممن يناضلون من أجل أن تتطور دوماً وتتجدد وتنتصر.
وفي هذا المجال أشير إلى ثلاث محاور :
المحور الأول: يتعلق بالتكوين «الفردي» لأعضاء الحزب، ولاشك أن الأعضاء هم أفراد ينتمون لطبقات اجتماعية، وبالتالي فهم يحملون كل تراث مجتمعهم، وإذا كانت المصلحة الطبقية تجعلهم ينتمون لحزب ماركسي، فإن انسجامهم مع الأفكار الجديدة التي تتجاوز تراث المجتمع، تتقدم عليه، وتنفيه، يفترض وعي هذه الأفكار، وفي نفس الوقت إعادة التكوين «الفردي». بما ينسجم مع تلك الأفكار وهذا يعني تمثّل تلك الأفكار في الممارسة ، وبالتالي فحينما نسعى لتأسيس بنية ثورية ديمقراطية، من الضروري أن يكون التكوين «الفردي» ديمقراطياً.
مسألة الوعي الديمقراطي. إذن ، هي «المفصل» في تكوين بنية ديمقراطية لاحزابنا، لكي نسهم في تجاوز البنية البطريركية التي تسكن وعي وممارسة كل الطبقات بسبب التبعية والتخلف في بلادنا .
إن تجاوز البنية البطريركية يفترض وعي هذه البنية الديمقراطية في سياق أو موازاة وعينا للماركسية، ووعي كل الفكر الحديث، من أجل الإسهام في صياغة نمط جديد للحياة، وللسياسة. ولا شك أن الديمقراطية (التي تبدأ بالشك، لتصل إلى الانتقاد، وتبدأ بحق إبداء الرأي، لتصل إلى وجوب سماع الرأي الآخر، وتبدأ بتجاوز التعصب وإدعاء الحكمة المطلقة، لتصل إلى الاقتناع بنسبية الحقيقة...).
فكيف يمكن لفرد تشكَّل في ظل شروط استبدادية (في العائلة والمدرسة والمجتمع والسلطة) محنَّطة في قالب أخلاقي، ومعطاة كصيغة نهائية، أن يعيد صياغة ذاته، في إطار قيم معاكسة؟
هنا تتشكَّل أزمة في الوعي، وأخرى في ما بين الوعي والممارسة، وثالثة في الممارسة ذاتها. ولاشك أن تجاوزها، لا يرتبط سوى بتعميق الوعي، وتقويم الممارسة.
إن إشارتنا إلى «الفرد» هنا ليست عبثية، لأننا نقصد أن «النمط الجديد» يفترض تجاوز منطق القبول الميكانيكي أو العضوي للأفكار المطروحة ، ويسهم في بلورة السمات الشخصية للفرد، ولأن الحزب السياسي، ليس قطيعاً، إنه مجموع إرادات لأفراد، تقيم فيما بينها علاقات على ضوء مبادئ تحفظ فردية الأفراد، وتوحّد فيما بينهم في نفس الوقت. وهذا هو جوهر مبادئ الحزب الماركسي وجوهر، مبادئ الحياة الداخلية، ونظامه الداخلي، الذي يضمن تحقيق الانفصال بين الحزب والتكوين الاجتماعي المتخلف، لتتبلور أسس الحزب الثوري الحديث.
ولاشك أن فردية الفرد في مجتمع متخلف، لا تتحقِّق إلا بالوعي، الوعي التنويري والإنساني الديمقراطي الحديث عموماً والوعي الماركسي خصوصاً، المتضمَّن الوعي الحديث بالضرورة، لهذا نقول إن وعي التنوير البرجوازي هو جزء من تكوين الماركسية، في إطار عملية النفي والتأكيد التي قام بها ماركس وأنجلز.
المحور الثاني: يتعلق بالحياة الداخلية للأحزاب الماركسية، بالأسس التي تشكَّلت على أساسها هذه الأحزاب.
أن مفهوم «المركزية الديمقراطية» الذي مثّل أسس الحياة الداخلية، كان الشعار الذي أسس –في المرحلة الستالينية وما تلاها- للاستبداد، لأن كلمة الديمقراطية فيه لم تكن ذات معنى، سوى بالممارسة الشكلية لحق الانتخاب، بينما عنت المركزية –في تلك الاحزاب- سيطرة «الهيئات الأعلى» فالأعلى، والأعلى هو الأمين العام و م.س.
وإذا كان لينين هو الذي انتج هذا المفهوم، فقد عنى به اتحاد إرادات حرّة. في الممارسة من أجل تغيير الواقع. لهذا إشتمل عنده على مبدأ حق إبداء الرأي وحق الاختلاف، ومبدأ تقرير سياسات الحزب من خلال الحوار المكتوب، والعلني، ومن خلال إقرارها في مؤتمرات حقيقية. تشهد صراعات حقيقية، وتأتي نتيجة الانتخاب كتعبير عن هذه الصراعات.
لاشك أن الصيغة اللينينية للمفهوم لا تزال راهنة، وهي، صحيحة، ومهمة أيضاً، لكن لابد من أن نلاحظ، أولاً أن هذا المفهوم «أُغمس» في صيغة استبدادية، وبالتالي اعتراه التشويه، عبر أساليب بيروقراطية في إطار العلاقة الميكانيكية والتابعة لأحزابنا الشيوعية مع المركز في موسكو، دون أي تفكير جدي موضوعي بانتقاد التجربة البيروقراطية وصيغ الاستبداد الحزبية واستبدالها بالمفاهيم والصيغ الديمقراطية الكفيلة بتطور واستنهاض الحزب الماركسي الثوري.
ففي ضوء المتغيرات النوعية في حياة الأحزاب الشيوعية منذ ثورة أكتوبر 1917 وخاصة بعد وفاة لينين ، وتفشي مظاهر عبادة الفرد والاستبداد بذريعة أسبقية المركزية على الديمقراطية في معظم تلك الأحزاب – بدرجات مختلفة- استمرت حتى لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي 1991، الأمر الذي يعني إن مختلف تلك التجارب قد أثبتت أن على كافة أحزاب اليسار الماركسي إعادة النظر في كيفية تطبيق مفهوم المركزية الديمقراطية، ليس بمعنى نفيه، بل بتمحيصه، ومحاولة إعطائه معنى أشمل مما كان عليه خلال الحقبة الماضية، بما يجعل من هذا المفهوم أداة لتطور وتجدد الحزب ديمقراطياً ، بعيداً عن كل أشكال البيروقراطية والتفرد والجمود من ناحية، وبعيداً عن كل الممارسات التوفيقية أو المجاملة أو الحلول الوسط من ناحية ثانية، لكنني ادرك ان هذا المطلب مرهون بعمق التربية الحزبية المستندة الى الروح والأخلاق الرفاقية من جهة والى الوعي بالنظرية ومبادئ الحزب الى جانب مكونات الواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي في كل قطر من جهة ثانية.
وفي تناولي لمظاهر الخلل في احزابنا اليسارية الماركسية ، يفرض علينا، لا أن نعرف مكامن الاختلال فقط، بل أن نسعى عبر تزايد الوعي بالنظرية والواقع بصورة نوعية، جنباً إلى جنب مع ممارسة الأخلاق الثورية الرفاقية، لأن يصبح مفهوم الديمقراطية، والمركزية الديمقراطية ذا معنى أشمل، يؤدي إلى الخروج من الأزمة التي تعيشها أحزاب اليسار راهنا إلى النهوض المأمول في استعادة دورها الطليعي ، بما يضمن منع الاختلال مستقبلاً، ويؤسس لبنية ديمقراطية حقاً في قيادة وقواعد الاحزاب، تكفل استقرار وحماية الحزب وصعوده في المرحلة الراهنة والمستقبل، وهذا التوجه مطلوب بالضرورة لكافة الأحزاب في كل بلدان العالم عموما ، وفي البلدان المتخلفة في آسيا وافريقيا وامريك اللاتينية وبلداننا العربية خصوصا ، التي تعيش حالة من التطور الطبقي غير المتبلور والمشوه في ظل مجتمع محكوم حتى اللحظة بعوامل التخلف والتبعية والاستبداد والاستغلال، الى جانب غياب الوعي الطبقي لدى العمال والفقراء الكادحين والمضطهدين في بلادنا.
وفي هذا السياق، أشير إلى أنه إذا كانت الطبقة العاملة في البلدان الصناعية مارست تقاليد الديمقراطية التي اكتسبتها من خلال البنية التحتية التي أوجدتها البرجوازية (التقدم الصناعي والعلمي والتنويري)، فإنها عندنا لم تعرف ذلك بل عرفت –وما زالت- بنية بطركية بلباس حداثي شكلاني رث، هي أساس التسلّط، إلى جانب استمرار هيمنة الفكر التقليدي التراثي السلبي بذريعة الدين والعادات والتقاليد في خدمة مصالح الأثرياء القدامى منهم والجدد الكومبرادوريون، وفي ظل عفوية جماهيرية تكاد تكون مستسلمة لهذا الفكر ورموزه الطبقية والتراثية، وهو ما يجعل مسألة التنظيم في بلدان مغرب ومشرق الوطن العربي أكثر صعوبة، أو كمن يحفر في الصخر، ولا خيار لنا – من اجل التغيير الديمقراطي وتحقيق أهداف شعوبنا عموما وجماهيرنا الشعبية خصوصا- سوى مواصلة ذلك الحفر بإرادة جماعية واعية تتخطى كل المعوقات ، وتوفير الأسس الفكرية والثقافية اللازمة لتكريس الديمقراطية في مجتمعاتنا، فالديمقراطية عندنا تعتمد على الوعي أكثر من إعتمادها على الأطر والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التابعة والمتخلفة الراهنة، وهذا ما له علاقة بالظروف الموضوعية ارتباطاً بأوضاع التبعية والتخلف التي نعيشها، وبالتالي فإن كل حزب او فصيل ماركسي في بلداننا ، يجب أن يجسد المعنى الحقيقي للمثقف العضوي – بالمعنى الفردي او الجمعي - الى جانب تجسيده الفعال لمفهوم المثقف الثوري الحامل الاجتماعي البديل للطبقة الغائبة أو غير المتبلورة.
أما الجانب المتعلق بالظروف الموضوعية، فإننا نتفق على أن تغيّر الظروف الموضوعية يؤدي إلى تأثيرات مختلفة في بنية التنظيم أيضاً. وما دامت الظروف الموضوعية ليست ثابتة بل تتطور باستمرار، فإن تأثيرات تطوّرها الاجتماعي أو الطبقي ، تنعكس أيضاً على البنية الديمقراطية في التنظيم، وبما أن تناول الوضع الطبقي في مجتمعاتنا ، تناول متعدد ، حيث ينقسم هؤلاء إلى مجموعات لكل منها وضع طبقي خاص، نتيجة الظروف "السياسية" التي تحكم كل مجموعة في كل بلد او مجتمع (كما هو الحال في الاختلافات التطورية الاجتماعية بين مصر و المغرب والجزائر وموريتانيا واليمن وبلدان الخليج والأردن وفلسطين ولبنان وسوريا ...الخ وما بينها من خصوصيات اجتماعية مختلفة) وبالتالي اختلاف ظروف كل منهما، رغم أنه ليس اختلافاً نوعياً في كل الأحوال ، حيث أن هذا التطور المشوه في مجتمعاتنا ، أدى إلى تكوين شرائح اجتماعية طبقية كومبرادورية جديدة مرتبطة ومتكيفة بدرجات متفاوتة مع شروط التبعية والتحالف الامبريالي الصهيوني ، وما يحمله هذا التكيف من مفاهيم مجتمعية، تابعة ومتخلفة ورثة في آن واحد ، ترى في الديمقراطية الحقيقية وممارستها، في ظل وحدة الموقف والنظام السياسي ، نقيضاً لمصالحها الطارئة والمستحدثة ، وقد يعود السبب في ذلك إلى أن بلداننا المتخلفة لم تشهد تجربة الثورة الديمقراطية البورجوازية ، وظل التسلط والقمع والاستبداد، جنباً إلى جنب مع العادات والتقاليد الاجتماعية والتراثية الأبوية أو البطركية السالبة ما قبل الرأسمالية، مكوناً جوهرياً في بلادنا ، فالوعي السائد لم يستطع تجاوز "العادات الاجتماعية" القديمة، الأمر الذي أدى إلى تسرب مظاهر التخلف الفكري والإداري والتنظيمي والاقتصادي إلى داخل معظم أحزاب وفصائل اليسار في بلادنا، حيث ظل دور المثقفين هامشياً في العديد من هذه الأحزاب، في مقابل استمرار حالة الارتباك والتشوش الفكري والهيمنة البيروقراطية عليها.
فإذا كان المفكر والقائد الشيوعي العبقري لينين قد رّكز على المركزية ، وعلى خضوع الأقلية للأغلبية، والأدنى للأعلى، فإننا –في كل أحزاب اليسار في الوطن العربي- بحاجة إلى وضعها في إطارها الحقيقي ضمن مفهوم أكثر شمولاً للمركزية الديمقراطية، وهو مفهوم يعتمد أساساً على الديمقراطية الواسعة ضمن تراتبية الأطر التنظيمية ووفق الالتزام الخلاق والمتجدد بهوية الحزب الفكرية وبرنامجه السياسي التحرري والطبقي، لأن التركيز على المركزية وحدها مرادفاً للانضباط والالتزام التنظيميين، وبتجاهل كامل للديمقراطية، سوف يقود إلى إختلال أساسي في مجمل العملية التنظيمية، خاصة في ظل ضعف وتراجع الدافعية الذاتية، والأخلاق الرفاقية التي تقوم على الاحترام المتبادل، ومن ثم ضعف تطبيق مفهومي الالتزام والانتماء الحزبي، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء الظواهر السلبية والانتهازية التي أشرنا إليها. اذن المركزية كما افهمها وادعو الى الالتزام بها، يجب أن تترافق مع الديمقراطية الواسعة.
وبالتالي فإن الممارسة الفعلية الواعية للديمقراطية داخل أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلادنا، هي أحد الضمانات الكفيلة بتطبيق مبدأ المركزية تطبيقاً خلاقاً يوفر التناسق والانسجام الرفاقي بين الهيئات القاعدية والوسطى والعليا في الحزب، بمثل ما يضمن صيرورة التجدد النوعي في صفوف الحزب وهيئاته بعيداً عن كافة المظاهر البيروقراطية والشللية، بما يحقق الحفاظ على مركزية الحزب وتماسك هيئاته عبر التفاعل الرفاقي بينهما بعد طرد وإزاحة مظاهر وأدوات الخلل فيه.
ولنلاحظ، ثانياً، أن المفهوم، أي مفهوم، محدّد في الزمان والمكان الذي أنتج فيه، وبالتالي فهو يخضع لتحوّلات الزمان والمكان، لذا يكون من الضروري عادة إعادة إنتاجه على ضوء التجربة الواقعية، ولاشك أن تجربة ثلاث أرباع القرن من الممارسة يجب أن تسمح بتحديد أعمق للمفاهيم، وإعادة إنتاجها لتغتني بثراء تجربة طويلة، ومفهوم المركزية الديمقراطية خاضع لإعادة الإنتاج هذه من أجل تطوير وتكريس العلاقات الداخلية في فصائلنا واحزابنا على أسس ديمقراطية أولا بالاستناد إلى أسس تشكيل الحزب الماركسي الديمقراطي.
هذه هي المسألة التي يجب أن تشغلنا، وهي مسألة تتعلق بالبنية العامة للحزب (بالعضوية، بتطوير الوعي، وبتكوين الفرد)، مع التأكيد على جملة حقوق بديهية ، وهي حق إبداء الرأي، حق الاختلاف، حق الانتقاد، وحق إعلان كل ذلك، حق أن يعبر العضو عن آرائه بحرية تامة، وان يعلن اختلافه مع سياسات الحزب ، وأن ينتقد هذه السياسات.
أن ممارسة هذه الحقوق يشكل الأساس لتشكيل ديمقراطي يضمن حق المناقشة والحوار والانتخاب، التي يمكن أن يصاغ «قانونها»، الذي يصبح ذو معنى، لأنه يكون حينها صيغة ناظمة لعلاقات أعضاء متحدين ومختلفين في نفس الوقت، لكنهم يحرصون على الاتحاد، لأنهم يحرصون على تحقيق التقدم.
المحور الثالث: يتعلق بمسألة الاختلاف التي تفرض ضرورة الحوار الديمقراطي الداخلي والنقاش الموضوعي المعمق، وتستلزم تشكَّل بنية تستوعب كل ذلك.
أن الاختلاف والتناقض والتمايز ليست بدعة، أو نتاج نزق أفراد، بل أنها نتاج الواقع، أنها نتاج البنية الاجتماعية المختلفة المتمايزة والمتناقضة، فإذا كان الفكر هو انعكاس للواقع (وهذه فكرة ماركسية جوهرية، وهي في أساس الرؤية المادية للماركسية)، فإن اختلاف وتمايز وتناقض الواقع يفرض كل ذلك على صعيد الفكر ولأن أعضاء الحزب (أي حزب) هم من الواقع، هم أعضاء أيضاً في طبقات، فإن «وحدتهم الفولاذية» على صعيد الفكر. حسب المفهوم الستاليني ليست ممكنة على الإطلاق، إلا إذا تحوّلوا إلى فئات معزولة عن الواقع، عن تناقضات الواقع، أي إذا تحوّلوا إلى «قطيع».
وإذا حاولنا أن ندرس أساس الاختلاف والتمايز والتناقض في بنية الحزب، يمكن أن نشير إلى مصدرين:
الأول: الأساس الطبقي، فالحزب الماركسي المعبّر عن الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، يضّم في صفوفه –كما هو حال حزبنا- أعضاء من الفئات الوسطى، ومن البرجوازية، وإذا كانت القناعة بالماركسية هي أساس هذا الانتماء، فإن تضارباً في مصالح هذه الطبقات يظهر على شكل اختلافات في التوجهات تصل إلى حدّ التناقض.
الثاني: الأساس المعرفي، ويتمثل في تفاوت المقدرة على امتلاك الوعي و المنهجية الماركسية وبالتالي التفاوت في التحليل الدقيق للواقع والوقائع، ولاشك أن للمستوى الثقافي دور مهم في ذلك، لأن الماركسية علم، يحتاج إلى الدراسة الجادة والمثابرة، وهي منهجية تحتاج إلى دراسة صحيحة من أجل امتلاكها.
لكن في كل الأحوال، فإن ما يحدَّد مسار الحزب، في هذا الوضع، هو وجود الأساس الواقعي الذي يسمح بحوار جاد فيه، يجعل من الممكن لأعضائه تحديد المواقف والتصوّرات التي تجعل منه حزباً حقيقياً.
إننا بحاجة، في هذا الوقت من القرن الحادي العشرين، إلى دراسة الأسس التي تحكم التنظيم البروليتاري، على ضوء التجربة الطويلة التي عاشها حزبنا و الأحزاب اليسارية العربية، بما أفرزته من ظواهر ومشاكل، وما أكّدته من حقائق.
إن محاولة القيام بثورة شاملة يفرض، إذا ما أُريد لها الاستمرار، ولكي تتبلور وتتقدم وتنتصر، أن تتوضِّح كل المسائل المتعلقة بالتنظيم، وهي محل اهتمام وتطوير دائم في حزبنا، رغم أن المسألة الأيديولوجية، والمسألة السياسية لا تقلان أهمية، بل إن الخط التنظيمي يخضع لهما، فإن الخط التنظيمي ذا أهمية كبيرة لأسباب أهمها :
إن مشكلة التنظيم لم تول الأهمية التي تستحقها، خلال السنوات الماضية، فالبحث فيها لم يتجاوز ما قدّمه لينين في هذا المجال، وهو لا شك غني مهم، لكن الأفكار لا تقف عند حد، فهي متطورة دائماً بتطور "البناء التحتي"، أي القاعدة الاقتصادية الاجتماعية.
الانتكاسات والاختلالات التي عانت منها التجربة السوفيتية و الأحزاب الشيوعية، لذا علينا أن نقف وقفة جادة أمام كل هذه الاختلالات، نقيّمها، وندرس أسبابها، ونحدَّد جذورها، لأن ذلك هو الضمانة الوحيدة لكي لا نكرِّر ما جرَّبته سنين طويلة، مليئة بالصعوبات، والمآسي، والانتكاسات.
ضعف التجربة الحزبية – التنظيمية – في الوطن العربي، بالتالي ضعف الخبرات التنظيمية.
أما على الصعيد الفكري ، فبالرغم من الإغناء الكبير للنظرية، من قبل ماركس وانجلز، ولينين وماوتسي تونغ.. إلخ، وكذلك الزخم الذي أضافته التجارب الاشتراكية في عديد من البلدان، فإنها لا زالت بحاجة للإغناء الدائم، لأن تبلور الأفكار وترسّخها وتحوّل أجزاء منها إلى تقاليد تصبح جزءاً من وعي الجماهير، بحاجة للتجارب الكبيرة، والمنظرين الكبار، وإلى الأحزاب التي تستطيع ترسيخ هذه الأفكار لدى الجماهير لتصبح جزءاً من تفكيرها ومنهجها، وليست غريبة عنها. وفي غياب ذلك سوف تحدث اختلالات في الحزب والمجتمع، لأن ضمانة منع الاختلال هي الوعي الاجتماعي المنسجم مع بنية طبقية متطورة.
أهمية الوعي :
إن الوعي النظري والفكري من ناحية، والوعي بمكونات الواقع المعاش من ناحية ثانية ، له أهمية كبيرة وأساسية إن لم نقل الأولوية ، فالوعي العام المرتبط بسعة الأفق، الوعي الذي يعطي للديمقراطية حقها النظري والعملي، ويحدَّد طبيعتها، لكي لا تظل طلسماً يجري الحديث عنه دون فهم كنهه، ودون التمسك به في الممارسة، هو الذي يعطي للديمقراطية معناها الحقيقي، ويحوّل المركزية إلى شكل، إن برنامج النضال ليس قضية آنية يمكن حسمها في اجتماع أو مؤتمر، بل قضية بحاجة إلى حوار عميق، وبحث مستفيض في الحزب وخارجه. والحوار والبحث هما اللذان يحدَّدان "التخوم" كما يقول لينين، أي يحدَّدان نقاط اللقاء ونقاط الاختلاف، وهما اللذان يرسيان الثقة بين مجموع الأعضاء ويجعلان اختيار القيادة نابعاً من ثقة حقيقية، وتفهُّم لتوجّهاتها ونهجها.
إن التأكيد على مبدأ حرية الرأي ليس تأكيداً نظرياً فقط، بل هو بشكل أساسي تأكيد عمليُّ يرتبط بقناعة نظرية، قناعة تنطلق من الاعتراف باختلاف الآراء، وبأن الاختلاف ليس شيئاً طارئاً بل هو القانون الأساسي. وبالتالي فبروز أفكار مختلفة لا يدعو للريبة والشك وإلى تحكيم عدم الثقة، ولا إلى فرض فكرة معينة فرضاً تعسفياً، لأن ذلك يعني تأكيد تسلُّط فرد أو فئة، وتحريم الديمقراطية من جهة، ومن جهة أخرى محاولة فرض فكرة غير ناضجة وغير مستوعبة، ليس على الصعيد الذاتي فيما يتعلق بفرد أو مجموعة أفراد، وإنما في مجمل التنظيم.
وإذا كان اختلاف الآراء في المجتمع البرجوازي ناتجاً عن وجود طبقات عديدة، لكل منها منهجها وأفكارها، فهو في داخل الطبقة الواحدة أمر حتمي، لتناقضات المصالح ضمن إطار الطبقة الواحدة، ولاختلاف الوعي والتجربة. كما أنه داخل الحزب الواحد أمر حتمي أيضاً، لأسباب أهمها:
تطور الحياة والمجتمع والمعرفة والمهام والتحديات الجديدة مما يفتح دوماً المجال للتمايز والاختلاف وحتى الخلاف.
وجود فئات من طبقات مختلفة، فالعمال والفلاحون والمثقفون، بشكل أساسي، يكوّنون بنية الحزب.
وجود فئات داخل كل طبقة، تُبرِز داخلها أفكار متعارضة أحياناً.
درجة التخلف من ناحية ومستوى الوعي من ناحية ثانية، في كل طبقة اجتماعية، وبين كل فئة فيها، وداخل التنظيم.
وإن كانت الضوابط والقوانين التي تحكم الحياة الداخلية تسهم في إرساء أسس الديمقراطية، وتفرض ممارسة محدّدة لها. فإن الوعي الديمقراطي هو جوهر العملية كلها.
نقد المنهج :
المنهج هو أساس العمل النظري، لأنه طريقة في التحليل والتركيب، يتوقف عليها كل العمل الثوري. والماركسية هي أساساً منهج، هو المنهج المادي الجدلي، تأسست على ضوئه النظرية الماركسية في تحليل المجتمع الرأسمالي.
ويرفض هذا المنهج الجمود والتحجَّر، يرفض النقل والتقديس، لأنه ضد كل لاهوت وضد كل جبرية أو حتمية.
ومنطلقه الأساسي في ذلك، أن الأفكار نسبية والحقيقة نسبية أيضاً. أي إنها صحيحة في زمان ومكان محدّدين. كما تعتمد التحليل الملموس للواقع الملموس، وهذا يعني رفض الأفكار المسبقة، ويعني الإحاطة بالظروف العامة في الزمان والمكان المحدّدين.
في العقود السابقة كان العمل التثقيفي، بصورة عامة، كان يتسم بصفة – الأكاديمية – إن صح القول، فقد اقتصر فقط على دراسة بعض المواد المقتبسة من المؤلفات الكلاسيكية وكان يجري تدريسها بصورة جامدة،في الدورات الفكرية - في موسكو أو غيرها من عواصم الدول الاشتراكية آن ذاك - دون المقارنة مع ظروف بلادنا، إن من حيث التشابه أو الاختلاف، فالمشكلة في "النقل" وترداد الجمل. النقل عن فرد أو عن تراث. وهو لن يقود سوى إلى التقديس، تقديس الفرد أو التجربة، وتقديس النصوص.
ولقد قاد "النقل" إلى الإصلاحية عملياً أو الليبرالية الانتهازية في المواقف السياسية لحساب السلطة أو الأنظمة الحاكمة، كما هو حال معظم أحزاب اليسار في فلسطين وبلدان الوطن العربي لأن الترداد وتبني الشعارات، دون تحليل للظروف الواقعية، يقود إلى "الاندماج" في أحسن الأحوال بحركة الجماهير العفوية، وبالتالي تبني مطالبها واقعياً، وهي مطالب إصلاحية في الغالب.
إن أساس تماسك الحزب الثوري الماركسي و قوّته، يقوم على التماسك والوضوح الفكري كضمانة وحيدة لانتشار ووحدة هويته الفكرية التوحيدية المركزية الناظمة لجميع الرفاق، لان الحزب «هيئة أركان الثورة», والطليعة الواعية والمنظمة من الجماهير. لذلك فالوعي أساسها، والوعي هو أساس التماسك الفكري وبالتالي تماسك الهوية الفكرية للحزب .
ولا نقصد بالتماسك الفكري أو الأيديولوجي، نقل منهج معين أو ترداد جمل و شعارات, لأن النقل و ترداد الجمل والشعارات يخلق تماسكاً فكرياً شكلياً, لا تماسكاً حقيقياً. لذلك فقضية إمتلاك التماسك الفكري لا ترتبط بقراءة كتب ماركس و إنجلز ولينين والمادية الجلية والتاريخية والفلسفة الحديثة... من أجل حفظها وتردادها بل إنها تعني التالي:
1 - قراءة هذه الكتب – أو بعضها على الأقل - لأنها تساعدنا على إمتلاك منهج, هو المنهج المادي الجدلي. وهذه قضية هامة وأساسية، لان المنهج أساس التماسك الفكري التوحيدي لفصائلنا واحزابنا ، وأساس العمل الثوري التحرري والديمقراطي المجتمعي بمنظوره الطبقي فيه.
وفي هذا الجانب ، أؤكد على أن قراءة الكتب المشار اليها يجب ان تتوازي ضمن برنامج ثقافي مشترك مع كتب واصدارات الرفاق قادة الأحزاب الشيوعية وقادة الفصائل اليسارية الماركسية في مغرب ومشرق الوطن ، الى جانب الاهتمام الشديد بدراسة كتب المفكرين الماركسيين في بلادنا كما في العديد من بلدان العالم ، خاصة الفلاسفة والمفكرين التقدميين والديمقراطيين الحداثيين في اطار الثقافة الأوروبية الحديثة في بريطانيا وفرنسا وروسيا وامريكا وغيرهم في اسيا وامريكا اللاتينية وافريقيا وكافة التجارب الثورية العالمية خاصة ثورة أكتوبر والثورة الفرنسية والثورة الامريكية والصينية والاطلاع على تجارب وخبرات الحركات الشيوعية ونضالات الرفاق وتضحياتهم من اجل انتصار الاشتراكية ( تجربة الرفاق البلاشفة/لينين ورفاقه والصينيين/ماوتسي تونج والثورة الكوبية والعديد من الحركات الثورية لتضحيات وبسالة الشيوعيين في بلادنا )،علاوة على دراسة الكتب المتخصصة في قضايا تاريخ التطور البشري والاقتصاد السياسي والفلسفة الماركسية وعلم الاجتماع وعلوم التكنولوجيا الحديثة.
وهنا ، لابد من أن أشير إلى أن هذا التوجه المطلوب يقتضي بالنسبة لاحزاب اليسار في كل بلدان الوطن العربي، التركيز على الوعي، الوعي بهوية الحزب الفكرية، النظرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي ، والوعي بمكونات واقع بلدانها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، لأن الثورة أساسها الوعي، وحين يُفتقد الوعي تختلّ العملية كلها، وتفشل الثورات، وتتحوّل قيادة الأحزاب الثورية إلى سلطة بيروقراطية أو رخوة أو هابطة أو قمعية أو توفيقية انتهازية.
فالوعي هو صمام الأمان الذي يحول دون الوصول إلى تلك النهايات المحزنة، وهو الذي يسهم في تحديد التصوّرات الاستراتيجية، والخطوات التكتيكية، وتحديد الظرف المناسب والزمان المناسب لتحقيق أو ممارسة أي شكل من أشكال النضال.
وفي كل الأحوال ، فإن الوعي يقتضي ، التأكيد على الديمقراطية، في الحزب وفي المجتمع، لأنها وسيلة الوصول إلى الوعي، وضمانة تحديد الأهداف تحديداً صحيحاً، وضمانة تحقيق التفاعل الضروري اللازم للنضال الثوري وتطوره، ارتباطاً بتطور حرية الرأي والنقد والانتخاب، وهي قضايا جوهرية في الحزب وفي المجتمع أيضاً، وإن اتخذت أشكالاً مختلفة في كل منها.
كما يقتضي الوعي أيضاً، العمل على بناء قوّة تنظيمية صلبة ومتماسكة، وقادرة على استقطاب الطبقات الشعبية، والاندماج في نسيجها ، وتوعيتها والتعلم منها، وقيادتها.
بغير ذلك تفشل الأحزاب الثورية، وتتحوّل إلى هوامش، وينتهي دورها التاريخي، ليبقى دورها اللحظي، في المناسبات والاحتفالات الشعبوية، الذي لا يعدو أن يكون دوراً شكلياً أو كمياً، دون أي تأثير حقيقي في السياسة أو في المجتمع، وقد يتحول –بفعل تهمشه- إلى تنظيم تابع وانتهازي ، يماليء قوى السلطة او الحكومة أو القوى البرجوازية بدل أن يحاربها، ويقبل قيادة البرجوازية التابعة والرثة، بدل أن يقودها، ويهرب أو يعجز عن طرح قضايا الجماهير الأساسية، إلى الحديث عن قضايا هامشية.
2 - دراسة الظروف المحدّدة، وهذا يعني دراسة تاريخ بلدنا وكافة بلدان الوطن العربي، من منطلق الرؤية الماركسية القومية ، لأن دراسة التطور التاريخي قضية محورية لفهم الظروف الراهنة و تحديد الأهداف العامة التي تقوم على أساسها إستراتيجيتنا وأهدافنا الوطنية والقومية والأممية ، ودراسة الظروف الاقتصادية ، والاجتماعية في كل قطر من اقطارنا ثم في مجموعها الى جانب دراسة البنية الفكرية السياسية السائدة.
إن دراسة دقيقة لكل ذلك ، إضافة إلى فهم عميق للتطوّر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الفكري العالمي، تقود إلى بلورة بنية فكرية متماسكة، لأنها تقود أساساً إلى إغناء نظري, وبلورة بنية فكرية سياسية متماسكة ، نقيضة للبنية الفكرية السياسية القائمة، تحدِّد إشكالات الواقع، وتطرح أسس التغيير وأهدافه وأساليبه.
إن أساس العمل الثوري في احزابنا ليس معالجة الإشكالات السياسية اليومية, والأحداث العابرة وحسب, بل أيضاً – بصورة أولية - معالجة الإشكالات العميقة, والمشاكل الاقتصادية الاجتماعية, والفكرية السياسية السائدة بأفق علمي وثوري مستقبلي.
ولذلك علينا أن نولي قضية التماسك الفكري/ الإيديولوجي اهتماماً أكبر, وهذا لا يكون إلا بالتالي:
تطوير الوعي عموماً, والوعي العلمي تحديداً.
تطوير معرفتنا بظروفنا, والسعي لكي نغني معلوماتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، وخصوصاً فيما يتعلق بظروفنا الاقتصادية الاجتماعية الثقافية المحدّدة.
السعي لامتلاك منهج التحليل المادي الجدلي، بما يمكن رفاقنا من امتلاك القدرة على تحليل كافة المتغيرات والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، انسجاماً مع برامج واهداف احزابنا.
التعمُّق في بحث القضايا الأساسية التي تأخذ طابعاً نظرياً, والتي ترتبط أساساً بقضايانا, قضايا الوطن والأمة ومشاكلها، والثورة وأسسها وطبيعتها، وقضايا التغيير الثوري التحرري والديمقراطي وأشكاله وظروفه، وقضايا التنظيم والثقافة والفكر ، وقضايا النضال السياسي والكفاحي والنقابي والجماهيري... بكل دوائره المجتمعية .
أيها الرفاق:إن جماهيرنا الفقيرة الكادحة التي ترفع في وجه النظام الحاكم (في كافة بلدان الوطن العربي) راية المطالبة بحقوقها من أجل الحرية والاستقلال، وتستهدف تحقيق أفكارها ومثلها العليا في المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، إنما هي بحاجة إلى التنظيم كأسلوب وحيد لخلق الإرادة الجماعية، فالحزب أو التنظيم هو السلاح الأمضى والوحيد الذي يوفر عناصر القوة للجماهير الشعبية الفقيرة لمواجهة قوى الاستبداد والظلم وأدواتها.
إن وعينا بكل هذه القضايا ، وجديتنا في ممارستها ، ستؤدي قطعاً إلى تطوير وتفعيل دور احزابنا لتحتل مكانتها التي نتطلع جميعاً إليها، كأحزب ثورية ماركسية طليعية, ديمقراطية وشعبية.
ولكي تكون أحزابنا كذلك ، فان الاهتمام بتطوير الوعي بقضايا بلداننا الاقتصادية والمجتمعية, وبالتماسك الإيديولوجي والوعي المعمق بالماركسية, قضية هامة. وعلينا إن نبذل كل الجهود الممكنة على هذا الطريق ، وليكن شعارنا دائماً: من أجل موقف أيديولوجي متماسك... من أجل بنية تنظيمية حزبية ثورية ديمقراطية صلبة... ومن أجل ممارسة ثورية، لكي تستعيد احزابنا وفصائلنا اليسارية الماركسية في مشرق ومغرب وطننا دورها الطليعي الذي تنتظره جماهيرنا الشعبية الفقيرة من العمال والفلاحين الفقراء والشرائح الفقيرة من البورجوازية الصغيرة بشوق كبير.



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما معنى أن نناضل بدون نظرية ثورية (وأقصد بذلك الماركسية تحدي ...
- بعد ثلاثة أيام من الانقطاع الاكراهي عن الكتابة....خاطرة من و ...
- وجهة نظر حول تأثير البنية الفوقية في المجتمعات التابعة والمت ...
- -مرحلة- الانقسام الراهن، تمثّل مرحلةً حافلةً بالسمات الخاصة ...
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ...
- سؤال وجواب......
- أهم الأحداث في تاريخ البشرية عموماً والأحداث التي تخص فلسطين ...
- عن رثاثة البورجوازية الكبيرة في مجتمعات الوطن العربي
- أهمية العملية الثورية كانعكاس لوعي النظرية الماركسية لدى أحز ...
- تطور الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر إلى العولمة الأحادية ال ...
- عن أزمة حركة التحرر العربية وتوصيف النظام العربي في مرحلة ال ...
- 8/يوليو/2023 في ذكراه الحادية والخمسون...الرفيق الأديب المبد ...
- كلمة عن الجبهة والمثقف الثوري في الذكرى الحادية والخمسون لاس ...
- ماركس ومصطلحي (الطبقة في ذاتها) و (الطبقة من أجل ذاتها)..... ...
- اسباب عجز الفكر العربي المعاصر عن التطور الفلسفي
- في فهم الماركسية المعاصرة وواقع العالم الثالث ...وجهة نظر لل ...
- من نحن .. وما هويتنا ؟
- الرؤية الموضوعية في الحكم على نظام التعليم العالي في الأراضي ...
- دروس وعبر الوعي بتاريخ الفلسفة .........
- الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتركيبة السكانية في قطاع غز ...


المزيد.....




- انتشار التعبئة الطلابية ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية
- بيلوسي للطلبة المتظاهرين: انتقدوا إسرائيل كما شئتم لكن لا تن ...
- فرنسا: القضاء يوجه اتهامات لسبعة أكراد للاشتباه بتمويلهم حزب ...
- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غازي الصوراني - احزاب وفصائل اليسار الماركسي وأهمية الالتزام بالديمقراطية مفهوماً وسلوكا ............