أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحسين سليم حسن - ما يهم أنك حي















المزيد.....



ما يهم أنك حي


الحسين سليم حسن
كاتب وشاعر وروائي


الحوار المتمدن-العدد: 7821 - 2023 / 12 / 10 - 21:05
المحور: الادب والفن
    


_ 1 _
التأمل في عقارب الساعة يبدو مضجراً ، نجدها تدور وتدور منذ قرون دون أي توقف ،أترانا خدعنا بمقولة ( الحياة) وما نحن سوى عقارب ساعات تضمن استمرارالزمن ؟!!!
آه ، لابد أن أثرثر دوماً !!
كان والدي محقاً حين نعتي بأفلاطون الأرمني.
لأعد إلى الواقع الآن ! تروق لي تلك النقوش الملونة لتلك الساعة الساذجة ، لا أعلم من أين جاءت ، لا بد أنها تخص زوجتي ، أقصد تلك الفتاة المستلقية على السرير بثوبها الأبيض وخيبتها الصفراء.
هل تراها أمي محقة ؟ أفكر كيف نظرت إلي في الكنيسة كمن يساق ابنها إلى المشنقة!
لا ، بالنسبة لأرمني حقيقي ، التراجع مرفوض !،سمعت والدي مرة يقول شيئاً من هذا القبيل .



ولكن هل أحبها ؟
ذاك غير هام بالنسبة لي ،لطالما اقتنعت بأن الحب ليس أسلوب حياة الحياة واجبات ، كما تعلمت دوماً !
واجبي الآن أن أحقق العدالة ، أن أتزوج من الخادمة التي طردتها جدتي فقط لأنها تعطرت بعطرها .توفي والدها ، ولن تتمكن المسكينة من إعالة أخيها الصغير .
لن أدع أرمنية ضعيفة تجابه قساوة العيش بمفردها .
آسف لطباع جدتي القاسية تلك ، طباع مسنة ثرية ،عاشت حياة مضطربة ومختلفة ،فجدتي من عائلة كاثوليكية ملتزمة ، باستثناء والدها المهووس بالجنس ، الأمر الذي دفع بوالدتها للهرب مع رجل آخر ، تاركة ابنتها المراهقة في خدر دائم .جاء حب ذلك الشاب الأرمني لها كشفاء ، كان يعمل في الجوار في منزل آغا البلدة، صنعت لأمه المريضة ضمادات عشبية لعلاج الجدري السوداء ، لكنها لم تفلح في إبقائها حية ، لم تثمر تلك المحاولات سوى عن زواج المضمدة بجدي الأرمني .
لم تنجو أمه المريضة من الجدري كما استطاعت في الماضي أن تنجو من بنادق الجيش التركي في أضنة ،حينها هربت وهي حبلى بعد أن وضع زوجها على الخاوزق لمدة سبعة أيام ،التقت في طريقها بعربة تاجر حلبي ، لم تستطع كبح مخاضها ، وضعت في العربة صبياً دام صراخه لساعات ، اعتنت زوجة التاجر بها إلى أن استردت قوتها ، جاءت إليها الزوجة بعدها بحجاب و قالت : انطقي بالشهادتين وارتدي هذا . لم تقبل أم جدي أن تغير دينها ، حملت رضيعها واتجهت إلى الريف، لتعمل كقاطفة ثمار لدى آغا الشرفية.*
باندحار سلطة الآغا لاحقاً بعد وفاة أم جدي ، ولد غرور جدتي ، كان غرور زوجة الرجل الوحيد في البلدة الذي تجرأ على الخوض في عالم التجارة وافتتاح أول متجر في الشرفية .، منح جدي بافتتاحه المتجر فرصاً ملونة للجميع ، حمل معه إلى المدينة المؤن والمربيات المصنوعة يدوياً و الثمار المقطوفة ، وبالمقابل أتى بكل جديد إلى البلدة من ملابس وعطور و أدوات منزلية ، كان يقول : هذه البلدة لن تمضي قدماً إلا بفضل متجري . بالنسبة له ، حياته اتخذت وجهتها الصحيحة ، بطريقة ما .كان تفوقه التجاري يشعره بالطمأنينة، اعتقد بأن ذلك يرضي لغز أمه الذي دأبت على قوله : أهم ما فيك أن تبقى حياً ، ودورك النافع يأتي عندما يحين ذلك .
لم يتمكن بعض الرجال من الحفاظ على ذلك النفع الجامد الذي لا حياة فيه ،لذا قاموا بإهداءه لعاهرات البلدة ( اللواتي جلبهن الضباط الفرنسيون إلى البلدة و اضطررن لإغلاق مرقصهن و الاتجاه للعمل السري بعد رحيل زبائنهم)، مقابل الحصول على سعادة حقيقية معاشة ، ولو أنها مؤقتة . وذلك أسهم في اعتزال الكثيرات عن العهر نتيجة وصولهن إلى منزل الأحلام .
أما نساء البلدة ، فقد ترك الوضع الجيد للثروة تأثيراً مختلفاً في حيواتهن ، إنه طلاء جديد لبشرتهن ، و حلي و قلادات كالتي شاهدنها في عنق جدتي. .
كل هذا لم يهمني يوماً، هراء!!
حريٌ بجدتي أن تهذب طبعها الحاد والمزركش بكبرياء جنرال !
ذلك الجبين العابس يجب أن يغدو جبيناً بسيطاً ، كجبين أرمني !
من الجيد أن أمي لم ترث جبينها ، وكذلك أنا ، أملك جبيناً كجبين أبي . كان لأبي جبين طفل ، بدا ذلك غير لائق بضابط مقرب للشيشكلي رئيس الجمهورية . آه ، والدي والدي ، كم أجهل عنك .كل ما في الذاكرة ، رجل دخل غرفته ببيجاما بيضاء لم يكن قد خلعها منذ الانقلاب على الشيشكلي ، ولم يخرج!
في الواقع أخرجه خالي، جثة ببذة عسكرية ، وأوسمة .
هزيمة مشرفة ! ردد خالي لسنوات طويلة .
سرعان ما فهمت لاحقاً لماذا يقرر البعض إلغاء دور( أن تبقى حياً ) حينما تنتهي الأدوار الأخرى !!
أذكر أنني شعرت بالحزن حينها ، في الحقيقة لاأعلم إن كان ذاك حزناً بالفعل ،بالنسبة لصبي في الثانية عشرة تلك كانت مشاعراً غريبة .أجهل إلى اليوم شعور أمي ، بدت كالسكيرة في الجنازة ، فحيث كانت النسوة يضغطن على يدها بحنو مبتذل ،كانت هي تردد كمن يلقي قصيدة:
(( هذا شرف لنا أن يموت فداء لمبادئه السياسية ))
لاحقاً التزمنا بما أقرته أمي و أقنعنا أنفسنا بقصة الفداء تلك .و احتفظنا بها في المنزل كروزنامة .
ركلت ذات مرة صديقاً لي لم يقتنع بذلك ، عدت حينها إلى المنزل ببنطال ممزق محتفظاً بخيبة ما في جيبي ، طفل تذوق خيبة ، طفل صرخ في وجه أمه ، طفل عوقب بالبقاء منفرداً.
كان ذلك آخر ما مارسته من عدائية ،دفنتها هناك في الجيب الآخر ، أصبحت بعدها مطواعاً ، مرناً مثل بيجامة أبي .
التزمت الصمت دوماً ، صمتاً قنوعاً بحيادية شافية ومرضية .
من السيء أنني داومت على ممارسة هذا النوع من تمضية الوقت خصوصاً في اليوم الذي اصطحبتنا أمي فيه إلى منزل عائلتها للعيش هناك ،مع جدي الأرمني وجدتي الكاثوليكية وأخوالي، نسختي أب ،أحدهما بسماعة طبية وأفكار متشددة ، و الآخر بشعر مجعد وريشة رسم وهوس بالشرب ، وأفكار شيوعية.
امتاز خالي الشيوعي بأسلوبه الجيد في إقناعنا بضرورة ما قام به بصرفه أموالاً باهظة على احتفالات أعياد العمال وشراء اللافتات لحزبه ،في الوقت الذي كان الشرب يقتله ببطء ، و إثر تلك الفوضى دخل جدي يوماً غرفته ولم يخرج إلا بعد انتهاء دور ( أن تبقى حياً ) تماما"ً كوالدي .ما إن دفن جدي حتى أطلقت السلطة الدينية صرختها الأولى في المنزل ، بدا الاختلاف واضحا ًبشكل أولي في عنق جدتي الذي خلا من قلاداته الثمينة ليتم التبرع بها إلى الأديرة ، ثم تسلل إلى القوانين و الثياب الغريبة التي فرضت على أختاي ، طريقة كلامهن المنمقة ، زخم من وجوه عابسة من كافة أصناف المجتمع ، جاؤوا لحل معضلات سفسطائية على طاولتنا العتيقة . حظيت ذات مرة بشرف أن أكون مثيراً للجدل حول تلك الطاولة ،انتهى الاجتماع حينها بقرار ينص على التحاقي بكلية الطب .
( فكرة جيدة جاءت من رجل مرموق ) قال خالي في اجتماع اضطراري للعائلة ، لم تنطق فيه أمي ببنت شفة ، مشطت شعري بأصابعها بشكل مزعج ،لا بد أنها كانت تفكر ببطولة أبي ، شعرت لبرهة برغبة في الاختفاء ، ثم استسلمت للصمت كخيار أفضل .
كنت قد وجدت نفسي في اللغة العربية ، تعلقت بها كمخدر ، نسجت الشعر العمودي مرات ومرات ، لم يحظى إعجاباً من المدرس ،وصفه بالطفولي ،( الاحساس وحده لا يبني قصيدة يا بني ، على الألفاظ أن تكون جزلة ،قصائدك خيالية للغاية ).
شعرت بالخيبة حينها ، أخرجتها من جيبي حيث غفت ، اختارت لنفسها مخبأ في ظلي ، رافقت تغيرات جسدي في البلوغ ، بدوت بها كشبح يرتحل في هذا العالم .كبرت هكذا و أختاي معتادين على تقبل معاملتنا كطفيليين ،أما أمي عاشت في سكينة غيبوبية حملتها بعيداً عن قرع الطبول إلى برج مرتفع تراقب ماضيها ، وتتحسر على واقعها كأرملة شابة في منزل تعامل فيه و أطفالها كخارجين عن المألوف .كنت أجد وضعي أفضل من أوضاعهن ، إحدى أختي ورثت أمي بكل تفاصيلها ، وحلمت بزوج كأبي ،رجل قوي يسجنها في خاتم و يطلبها متى يشاء مقابل أن يمنحها الأمان .
الأخرى عاشت بعيدة عنا ، في عالم يخصها ، كانت تخرج وتعود إلى المنزل محملة بالروايات الرومانسية ، حتى جاء يوم ظهرت لنا فيه لتخبرتنا أنها التقت برجل مسلم ، أحبا بعضهما وقررا الزواج ، قالت ذلك وطرقت الباب خلفها . وكالعادة لم تفلح أمي بالقيام بشيء ، فضلت سماع توبيخها وهي مطأطأة الرأس ، أقنعها خالي بأن أختي ابنة عاقة ، ( فلتذهب حيث ما تشاء ، فلنحمد الله أنها هربت قبل أن تفكر بقتلنا )! منذ ذلك اليوم لم تحظ جدران منزلنا بصدى ً لاسم أختي ، تلاشى ذكراها كقارب يغرق ببطء ، لكنه لم يستغرق مطولاً للوصول إلى القاع ، تاركاً لي و لأختي فقاعات تسلي حزننا الدفين. وبعد رحيلها ، بقينا كدمى شمعية لا يناسبها الخروج إلى الشمس ، جرى التعامل مع أحلامنا كأولاد زنا ، رميت فور ولادتها في أزقة الخوف ، حيث لا حياة سوى لمن تحميه جرأته ، و تلك الجرأة كانت على بعد أكوان منا ، من الصعب بل ومحال نيل حمايتها . من الجيد القول أنني حظيت بنوع من الحماية الشخصية ، عندما كبرت قليلاً ، عثرت عليها في كتب السقيفة ، تلك التي تخص خالي الشيوعي ، لم يشدني موضوعها في البداية ، كانت كتباً فلسفية بحتة ، كنت أفضل لو كانت دواويناً أو روايات ، قرأت في البداية بنوع من اللامبالاة ، لكن مع الوقت ، تعمقت فيها، وبينما كان شعر لحيتي ينمو ويقسو ، كانت بصيرتي ترسو على شاطئٍ ما، شاطئٍ يعبق برائحة ماركس ولينين ! منذ ذلك الحين وأنا أشعر بالحقيقة تغمرني ، شعار ( الأرض والخبز والسلام ) يلهمني ، تلك هي طريقة الحياة التي أردتها ! بقيت تلك الأفكار تخصني وحدي ،لحين التقيت بذلك الشاب الذي يكبرني بسنتين ، ويدرس الطب مثلي ، في البداية ، بدا لي غريب الأطوار لذا تجنبته ، كان يرتدي قميصاً بسيطاً ، واسعاً وطويلاً ، يغطي نصف بنطاله القماشي الرخيص ، وينتعل حذاءً من الجلد المهترئ ، سألت عنه في المقهى ، قيل لي أنه ابن تاجر ذهب معروف ، ، فتاة بمشية طاووس حذرتني منه : ما شأنك به ؟ ألا ترى بأنه مريض عقلي ؟! أهملت ما صرحت به ، أعجبتني فكرة كونه ابن تاجر ذهب ويخرج بهذا الهندام ، بين من يعرفونه جيداً ، دنوت منه كمن يعلق جبلاً في قدميه ، كنت قد جلبت الشجاعة من مكانٍ ما ،سألته بنبرة قوية : هل أنت شيوعي ؟ أدار رأسه ببطء كمن يهجئ ما سمعه اقترب مني محدقاً في عيني ، وكأنه يبحث عن ماركس فيهما أو ربما لينين !: لمَ تسأل ؟ _ ( الأرض والخبز والسلام ) شعاري يا أخي ! _ ثيابك لا توحي بذلك _ قالها وهو يشعل سيجارة _ حتى تكون شيوعياً حقيقياً ، عليك أن تفعل لا أن تثرثر ... تعال إلي عندما تقرر أن تفعل ! وأدار ظهره للمضي ، أسرعت في القول : ماذا علي أن أفعل ؟ قال دون أن يلتفت : ابدأ بثيابك .
سار في طريقه تاركاً سيلاً من الذهول في رأسي ، بقيت متسمراً في مكاني لفترة ، دمية منحت قدرة على الحركة ، فأصبح لوجودها معنى .منذ ذلك التحرر ، بدأت الشيوعية تتوحد بي ، لم تعد مجرد شعارات ، إنما سرعان ما اتخذت لنفسها صورة واضحة ، أثمرت في كل ما أملك ، ظهرت لي في وجوه من أحب و من أكره ، نضرة كوجه فتاة في عمر الصبا ، تماماً كوجه تلك الفتاة التي تستعمل اسم ( أرمينيا ) كاسم ٍ مستعار .كنت قد أوكلت مهمة السفر إليها ، لإنجاز لافتات لاعتصام ضخم ، كان الماضي قد منحني خدمة عندما أرسل لزوجة خالي صفحات ممزقة من كتاب تاريخها ، تلك التي مزقت عنوة من قبل عائلتها قبل سنوات لارتكابها حماقة الزواج بخالي ، فتاة تنحدر من عائلة يسارية تتزوج من مهووس ديني !أرسلت تلك الصفحات مع وعود بوجوه بشوشة متسامحة إلى ذاكرة يائسة ، وبمجرد قراءتها للرسالة الموقعة باسم جد العائلة بأن الصفح قد قرر و الذبائح قد جهزت ، كانت حقيبة سفر ضخمة قد حملت لسيارة خالنا العزيز (( ليس بإمكاني اصطحابك و أبناؤك فطريقة موت والدهما ستثير فضيحة نحن بغنىً عنها )) قالها خالي كجملة وداع .
لم أبالي و أختي بقسوة جملة فقد تعاملنا سابقاً مع قصر رهيب منها.
هرع كل منا إلى سمائه ،طيوراً حررت مؤقتاً لاختبار الحرية .
ارتدت أختي الكبرى أثواب نجمات سينمائية ،وتبرجت مثلهن ، وخرجت للقاء ماردها الوسيم ذو العضلات المفتولة والقمصان الملونة والعينين الفارغتين اللتين سرعان ما أقرضتا فراغهما إلى عيني أختي حتى اكتسحها الفراغ بكاملها ، فبدت كوعاءٍ لا ماء فيه.
في تلك الفترة ، لم أقدم على اختبار عيني في المرآة، شعرت بالخوف من ذلك ، اكتفيت بالسعي وراء أفكاري ، كنت شغوفاً بالتجربة ،أحلم بالانصهار فيها ،إلى أن منحت ذلك الشرف بإسناد تلك المهمة إلي ، قررت أن أفصح عن انتمائي إن أفلحت ،كنت مستعداً لنظرة احتقار الناس وهم يرددون :ملحد ،شيوعي ،الله يسترنا . كنت أرغب بها ، فقط لأكون مختلفاً ، الاختلاف يجلب لي القوة ويفتح لي دروب الحرية .تلك الدروب نفسها التي قطعها القطار الذي ركبته للمهمة، دروب مزهرة بشتى أصناف الأمل ، قطعتها لأصل إلى أرمينيا في جحرها المتمثل بكوخ بجانب البحر، كانت امرأة طويلة القامة بتسريحة شعر بالية وعينين مشرقتين ، ووجه يميل إلى سمرة عربية داكنة . بدت وحيدة مع نرجيلتها البسيطة القديمة ، كانت تجلس بجانب طاولة خشبية مدورة تزخر بإطارات صور قديمة لشبان وشابات يحملون الكتب و الآلات الموسيقية ،إحداهن ارتدت ثوباً طويلاً مزركشاً بأشكال زهور ياسمين ، بدت مبتهجة للغاية وبيد واحدة ،ربما فقدت الأخرى في حادثة ما ، أيعقل أن الاختلاف هو ما جعلها سعيدة ! لا أستطيع التكهن ، ثم إن الصور الفوتوغرافية تشوه حقيقة الأمور غالباً. تأملت صورة أخرى لها ، بدت فيها غضة سعيدة لكن بشكل قهري ،لمحت في وجهها شيئاً مما يرافقني في ظلي ، لكن ما ارتسم على وجهها كان أشد قسوة و جدة ، بما يوحي بالخطر .
علمت لاحقاً أن هذا الاختلاف كان قد صنع في رحم أمها، وبأنها قبلت بهذا الاختلاف لسنوات طويلة ، وابتسمت له حتى في مرآتها ، وفي النهاية جاء اليأس من مكان ما ، ليقتلها ، كما فعل بأبي ، يوماً ما ، هكذا مخيرة أن تتخذ قراراً غيبياً بأن ترحل كما تشاء .
لم تبح لي ( أرمينيا ) عن تلك الصور شيئاً آخر، قالت بأن ما تبقى لايستحق الذكر ، أصدقاء خائنون ، قالت ذلك وهي تجهش ببكائها القصير المدى، حيث سرعان ما غفت مثل فراشة نفضت عنها الغبار، تأملتها قليلاً، هي والصمت بدا جميلين معاً ، شعرت بأن كل ما انتظرته هنا ،القوة والسكينة وربما الحب ! .......
لا أرغب في الاستيقاظ... أريد أن أحلم وأحلم و أغرق في الحلم ....
سوف أقنع نفسي أن أرمينيا هي زوجتي ، وليست الخادمة التي طردتها جدتي ، أخرج من حلمي الغريب ،يروق لي النوم الأبدي ، أفتح عيني ببطء ، لا أرغب أن أصحو . عقارب الساعة الذهبية تصدر صوتاً مزعجاً ، أسمع ذلك الصوت ،صوت الواقع ،هو الذي يخنقني ،يسوقني كمتهم ،تخر قواي وأنا أخطو نحو غرفة النوم ، دون أي نبض أو أي شفقة بإنسانيتي .
الشاب الشيوعي ، أرمينيا والشيوعية كلها محض أوهام ، ومازال الضعف يمنعني ....











( 2 )
غادرت زوجتي المنزل في يوم حار في شهر لم أعد أذكره ! قالت بأنها لن تقوى بعد الآن على احتمال ازدرائي الجنسي لها ، واحتقارها لذاتها بسببي ، وبأنني سببت لها ألماً أشد إيلاماً من جدتي .
وبمغادرتها تسللت الفوضى إلى المنزل بشكل فجائي ، مثل كارثة غير متوقعة، ثم عمت الفوضى حياتي بأكملها ،في العيادة ،في الشارع،في الجامعة (حيث حصلت على وظيفة مدرس لمادة التشريح في قسمها العملي)
وأدركت حينها أنني كنت أسيراً لشعور _ اكتشفت لاحقاً أنه مزيف_ حيث لطالما اعتقدت بأنني مدين لزوجتي بمنحها حياة جديدة وجميلة،بينما في الحقيقة كنت ألقي مهمة تنظيم حياتي على كاهلها !
في وقت لاحق ،بدأت حياة الفوضى تجد لنفسها فرصة لجعلي متأقلماً معها وحتى الوقوع في حبها ، وسرعان ماأحببت ذلك الأنا الذي غدوته ، طبيباً مطلقاً بثياب غير مكوية ،وأوقات طويلة للوحدة ،لا مسؤوليات ، لا جنس غير محبذ ،حياة رتيبة لكنها حرة إلى حد ما .
إثر تلك الفوضى ، عادت الشيوعية تطرق بابي بقوة ، جعلت منها رسالتي اليومية التي أحملها معي إلى الأماكن التي أرتادها والأشخاص الذين أقابلهم كطلابي في الكلية حيث أدرس ، حتى أن بعضهم أصبح يزرني في مكتبي للاستفسار عن الاختلافات بين ماركس ولينين أو شيء من هذا القبيل ، أعادني ذلك إلى الماضي ، إلى الضعف ، تساءلت كيف لذلك الشاب الذي نشأ حبيس أفكاره وأحلامه ، أن يمنح جيلاً آخر دروساً في حرية لم يعشها .
ذات يوم ، قام بضع شبان منهم بضرب مستثمر مقهى الجامعة لطرده نادلاً أثناء تواجدهم هناك ، ثم خرجوا يهتفون بشعارات الثورة البلشفية ،.
عندما أمسى الأمر بين يدي إدارة الكلية ، صرح الشبان بتورطي في ذلك ،
عندها لم تؤجل لجنة التأديب قرارها بطردي من التدريس في الجامعة بشكل نهائي .
برغم ما خلفه ذلك من سمعة سيئة منحني نوعاً من الانتصار الروحي .
ما جاء بعد القرار كان أعظم ، هاتفتني زوجتي لتخبرني بحملها ، وبأن الطبيب خمن أنهما توأم !
لم يترك الخبر في نفسي أي أثر يذكر ، بدا وكأنه وضع جديد علي التأقلم معه ، ماذا يعني أن تكون أباً ؟
وبشعور مختلف لم أختبره مسبقاً ، خمنت أنه ( الأبوة )استقبلت التوأم لحظة إبصارهما الكون ، كنت بحكم عملي كطبيب نسائي قد شاهدت الكثير من المولودين حديثاً ،لكن ما أحسسته هنا بدا مختلفاً ، كنت دوماً أشعر أنني أساعد كائنات في قدومها لهذا العالم لتعيش كدمىً تمنح حيواتٍ ومصائر يفصلها المجتمع على مقاس قوانينه وتناقضاته الغريبة .مع تينك الدميتين كان الوضع مختلفاً ، فهما ولدي وسأعلمهما كيف يهزمان المجتمع .
لكن وجبة خيبة أخرى لي كانت الحياة جاهزة لتقديمها ، قرار آخر ضدي ، قرار زوجتي بالسفر بالطفلين إلى لبنان لدى أقربائها ،عرضت عليها أن تقبل بتربيتي للذكر ،كي لا ينشأ دون أب مثلي وأن تحتفظ بالفتاة إن أرادت ، قالت أن هذا توحش رجولي مني ، ثم بكت ونعتتني بعديم الرحمة .
في تلك اللحظة شعرت بكره جذري للحياة ، كرهت القوانين ، الفيزيولوجيا التي جعلت من تلك المرأة حاملاً ، كرهت قصة فداء أبي ، لربما الخطأ بدأ من هناك ، من أدوارنا الرئيسية بأن نبقى أحياء ، من ذواتنا المبهمة ، تلك التي فرضت علينا حيوات غريبة عنا ، لا تمس لنا بصلة ، كنا ننمو مع القلق والخوف والفوضى ، ونظرتنا إلى الأمور تختلف مع تقدمنا في العمر ، لكن الماضي بقي مسيطراً على طريقة تعاملنا مع الأشياء ، من بينها هويتنا المفقودة المسيجة بذكرى أب طريقة موته قد تثير الفضائح إن أفصح عنها .
استطعت لاحقاً جعل حياتي معاشة بطريقة ما ، لن أخفي تعاستي ، لكن في النهاية ما السعادة ؟
ما جلبته أختي الصغرى عند عودتها كان سعادة غير محتملة ، قالت أن كل ما أرادته ، هو عيش حياة تتلاءم مع خياراتها، لكنها أخطأت في أمر واحد ، أنها تخلت عن جذورها .
أصبحت امرأة مختلفة كلياً عن تلك الفتاة الانطوائية الكارهة للضوضاء ،لم يعد شعرها الفاحم القصير ظاهراً ، إنما غطي بحجاب شرعي يحاكيه في سواده ، كانت عينيها حزينتين وغريبتين ، لفظ الجلالة يلمع فوق صدرها ، والخوف من الخيبة واضح في صوتها .
أمسكت يد ابنها بقوة ، كما لو أن أحدا ً سيسرقه منها ، فوجئت بمقدار الشبه بيني وبينه ، ذلك الجبين الذي ورثته عن والدي ، وتلك النظرة ، طائر مكسور الجناح يحدق بالسماء .
حيتني بالأرمنية ، وابتسمت ابتسامة كشفت عن تجاعيد لم أعرفها من قبل حول شفتيها .
ابتسمت لها مطولاً ، لم أعلم السبب ، إلقاؤها التحية بالأرمنية منح شيئاً ما في داخلي دفعاً بأن يخرج من القاع حيث غفا ، ثمة سكينة ما وراء فكرة صونها للغتنا .
هنا ضممتها بقوة ، أسندت رأسها إلى كتفي وبكت ، كان بكاؤها يثير حزناً غريباً ، نوعاً من القلق الموحي بالخطر ، والذي كان يزداد عندما ألقي نظرة على طفولتي بمجرد الالتفات لطفلها .
- أختي الصغرى عدتي لنا ..
-اشتقت إليك ... إيشبيسيس؟
-بخير ، كم تغيرتي يا أختاه ... كيف حالك وأين زوجك ؟
- رحمه الله ... انظر هذا طفلي ..
أشارت إلى الطفل الذي جعلني أعود بنفسي إلى أيام الشعر العمودي والمدرس المخبول والخيبة .
شعرت بنوع من الامتنان للقدر ، لمنحي أختي من جديد ، قبلتها بكل ما فيها ، كانت تدعو ابنها ليصلي ، يفعل ذلك خمس مرات يومياً ، ثم يجلس ليتلو الأذكار والأدعية ، كنت أراقبه وأفكر : ربما لايريد ذلك ، عليه أن يقرر بنفسه ، قد يختار أن يكون شيوعيا ً كخاله !

(3)
زال أثر السحر الأنثوي الذي طغى على المنزل وغير ملامحه ، حيث سرعان ما غادرت أنثىً أخرى المنزل ‘ لكن هذه المرة دون أي أمل بالعودة .
ونظراً لرغبتي العميقة في إرضاء أختي ، قررت أن أنفذ ما جاء في وصيتها بدقة ، وصية مدفونة في صندوق خشبي من الأبنوس كانت قد وضعته في خزانتها واحتفظت فيه بالوصية وصليبها الفضي الذي لم أره منذ الصغر . كتبت في الوصية أنها ترغب أن يكون مثواها الأخير مثوى جدنا الأرمني هناك في البلدة القديمة حيث بدأت قصة عائلتنا و أحلامها التجارية .
وبالفعل تم دفن جثتها حيث ما رغبت ، تساءلت : هل عاشت أختي حرة بطريقة ما ؟ وإلى أي حد ؟ وإن كانت دفعت ثمناً مقابل ذلك لا أعلم مدى كونه باهظاً .
في الليلة التي رقدت فيها أختي هادئة كما عاشت ، عدنا من المقبرة الواقعة في زاوية بعيدة عن مركز البلدة ، بالقرب من حي المسلمين ، حيث تعيش بضع العائلات المسلمة ، التي جاءت من البلدات المجاورة بغرض العمل في معاصر الزيتون المحيطة بالبلدة كسوار من أمان ، أمان يضمن استمرار البلدة ، وبقاء الناس فيها .
حين وصلت إلى منزل جدي القديم الذي بدا مختلفاً عن غيره ، اختلافاً ملحوظاً، كإبهام في كف ، وجدت الطريق الضيقة المؤدية إليه والمحاطة بشجيرات الورد الدمشقي و فم السمكة والدفلى ، تنحدر بانسيابية رقيقة بشكل نصف حلزوني ، مثل مسار أميرة قي قصة خيالية ، بدت ساحرة ، على الرغم من النمو العشوائي للشجيرات وتكاثر أشواكها بشكل مرعب ، هكذا هي الطبيعة ، حتى إن أهملت تبدي جمالاً ما .
وقد ظهر المنزل وراء تلك اللوحة التي صنعها الإهمال ، مهملاً أيضاً ،كانت جدرانه المبنية من حجارة البازلت الأبيض ، الكبيرة الحجم ، مشوبة بآثار لمسات الزمن القاسية عليها ، وقد نبتت بين شقوقها طحالب متنوعة ، بدت مثل جروح لمنزل مهمل حزين التئمت بنفسها ، وتركت آثاراً لتشهد يوماً على آلامه .
كان البا الخارجي الرئيسي قد غيَر حلته ،وبدت نقوش الأحرف الأرمنية غائرة وباهتة ، لم يعد بالإمكان فهم الجملة التي ألفها جدي في القدم وأوعظ للحداد بنقشها والتي كانت :(( نحن أرمنيون حقيقيون لذا سنحب هذه الأرض كما نحب أرمينيا)) .
في الرواق الخلفي للمنزل يقع المتجر الأثري للبلدة ، أول متجر تشهده البلدة ، يبدو الآن مهجوراً وكئيباً ، كأنما الزمن انتقم منه ولم يرأف به لارتكابه خطيئة التجديد !
كنا قد زرنا المنزل للمرة الأخيرة ، عند وفاة جدتي ، من بعدها لم تسمح لنا الحيوات الجديدة والبعيدة كل البعد عن الاهتمام بتاريخ العائلة ، والتي ترى في ذلك الاهتمام نوعاً من إضاعة الوقت لكون تلك الحيوات عملية وعصرية ، مثل خالي الذي هجر شكوكه السفسطائية وغادر إلى منزل عائلة زوجته ، دون اكتراث بأجوائه اليسارية ، ليرث مطبعة والدها بعد وفاته ، والتي غيرت اتجاهاتها جذرياً بقدومه .
وأختي الكبرى التي تزوجت من ذي العيون الفارغة انتقلت معه للعيش في الملهى الليلي الذي يملكه ، ونسيا نفسيهما بين مشاجرات ورهانات الزبائن على استمالة الراقصات .
بالنسبة لي لم أعلم تماماً كيف تبدو حياتي ، حياة مبهمة ، لاخطط فيها ولا مستقبل للمشاعر ، ليست إلا ارتحال لخيباتي مع ذاك الفتى الغريب النسب !
عندما وقفت أمام الباب الحديدي الضخم ذو النقوش الأرمنية ، أخرجت المفتاح الصدئ من جيبي وحاولت جاهداً أن أدير القفل ، لكنني عجزت عن ذلك ، كان القفل صدئاً بشراسة ، شعرت بأن التاريخ يرفض عودتي ، وأن ذاك المنزل الذي عاش سنيناً طوال مع ذكرياته اعتاد على طريقة العيش تلك لدرجة أن أصحابه أمسوا غرباء عنه ، أو أنه اعتاد على العيش في زمنه الخاص ويرفض بشكل قاطع أن يزوره الحاضر المليء بالمفاجآت .
في أعماقي كنت أؤمن أن الحل لكل شيء يبدأ من هنا ، من نقطة البداية ، وكنت أعي بأنني سأواجه صعوبات في العثور على حلول لحياتي ، لكنني لم أخمن أبداً أن تلك الصعوبات ستبدأ بقفل صدئ !
عندها وقفت عاجزاً أمام غضب التاريخ ! نظرت إلى ابن أختي علني أجد الراحة في وجهه ، لكن كل ما وجدته كانت ملامح خيبة ، تشبه تلك التي خبأتها يوماً في جيبي في الصغر ، وتلك التي عاشت معي في سنوات شبابي .
قبلت جبين ابن أختي الطفولي وهمست في أذنه : هيا بنا إلى كنيسة الأرمن لنمضي ليلة اليوم !

(4)
((الكنيسة مقفلة))...
أجابنا رجلٌ طاعن في السن ، وهو يعبث بشاربيه العريضين الأشيبين ، قالها بحدة تامة ، مثل طعنة سيف . مردفاً:
(( تغلق الكنيسة أبوابها باكراً حفاظاً منا على أمن المزار ، تنام هنا روح قديسة أرمنية طاهرة ‘ أولا تعلمان ؟!... ثم إن الشيوعيون يكثرون هذه الأيام وقد أرسل لنا تهديدات بإغلاق صندوق التبرعات ، وبالطبع لن نرضخ لمجموعة من الحاقدين الملحدين !))
(( لكننا نبحث عن مأوى لهذه الليلة فقط .... ثم أنت تعرفني وتعرف عائلتي جيداً ، انظر سوف يتجمد من البرد ، أمه توفيت .....))
قاطعني كمن يكبح جماح العواطف (( حسناً حسناً .... لا أحب القصص المؤثرة ، سوف أسمح لكما بلمبيت هنا لليلة ، هناك غرفة خارجية سقفها من التوتياء ، لا تستطيعان النوم في فناء الكنيسة ، تنام هناك الفتاة المسؤولة عن نظافة المزار )) .
انحنى برشاقة شابٍ عشريني على نحوٍ مثير للدهشة .
(( اتبعاني ، الغرفة بحالة مزرية ، ستنظفانها ‘ كان علي إصلاح السقف لكنني كنت ملازماً للفراش ، شعرت بوعكة ، إنه السكري ، سيقتلني في النهاية ، إن لم تقتلني قلة الإيمان والإلحاد الذي أمطر على هذه البلدة ! )) .
فكرت بأنه عليَ ألَل أكون ملحداً الآن ، سأهز رأسي بالموافقة على كل ما يقوله ، لربما ما نؤمن به من أفكار ليس له الأولوية دوماً ، أمام ضرورات العيش مثلاً .
توقفنا فجأة أمام مايشبه الغرفة المتواضعة ، شيء صنع من بقايا توتياء وخشب .
(( هذه الغرفة كانت كشكاً للعصائر والحلويات عندما كان للمزار أيامه ، قبل أن يغضب الله على عباده ! )) . قال الحارس باستياء وبدا وكأنه يعاتب نفسه على تقصيرٍ ما .
تساءلت في نفسي : كيف بغضب الله على الملحدين والشيوعيين ؟! ماذا يفعل لهم ؟ .
قاطع ابن أختي تساؤلاتي الصعبة ، حين أمسك بإحكام بسترتي ودفن وجهه بها وصاح قائلاً : (( أخاف النوم هنا )) . وامتقع وجهه .
قذف الحارس بسيجارته كمن أصابته هستيريا :
(( لم أحبذ يوماً التعامل مع الأطفال ، أشكر الرب أنه ليس لدي منهم )) .
نظرت إليه بدهشة وأنا أربت على كتف الصبي و أتمتم :
(( لا تخف يا بني .... لا تخف )) .
شعرت لبرهة أنني مربٍ سيء ... ثم تساءلت : (( هل يجب على من يتزوج أن يتقن التعامل مع الأطفال ؟ ماذا عن طفليَ ؟ كيف كنت سأعاملهما ؟!)).
سرعان ما انتابني الخوف ، هل يعقل أنني أسيء لابن أختي ؟! لكنني ضممته للتو ! .
(( هذا ما لدي لكما ... تدبرا أموركما )) . قال الحارس وهو يمشط ذقنه الشيباء بأصابعه ..... راودني شعور الدهشة ذاته بخصوص رشاقته ، من أين أتى بكل تلك القوة وهل سأكون مثله عندما أهرم ؟!
دخلت وابن أختي إلى ذلك المكان الغريب الأطوار ، كان ثمة كتب دينية اصفرت أوراقها ، وأقامت العناكب أعشاشاً فيها ، بدت الغرفة وكأنها تصديق لما أدلى به الحارس من إهمال سكان البلدة للمزار وعما سماه هو ( غضب الله ) .
كان ثمة أريكتان عتيقتان في صدر الغرفة ، اتخذنا منهما مرقداً لنا . وما إن حشرت رأسي في صوف الأريكة المهترئ ، حتى حشرت أرمينيا وجهها في الظلمة التي تتبدى لي في أول النوم ، وهذه المرة ظهرت لي محجبة بحجاب يشبه إلى حدٍ كبير حجاب أختي المتوفاة ، لكن عينيها كانتا مختلفتين مع أن العجز الذي يكتسحهما كان ذاته ..
تخبطت في الحلم لعدم القدرة على معرفة من هي أرمينيا ؟
أفقت . ماذا عن القفل الصدئ ؟ ... ما علي أن أفكر به فيما يخص الغد هو إصلاح القفل لأتمكن من ولوج التاريخ مجدداً ! ... ثم ما المانع من التعرف على بضع من شيوعيي البلدة ؟! أو بالأحرى ما الخطأ في البقاء في البلدة بعيداً عن الطب والفوضى ؟!
توجد هنا طريقة مغرية للحياة ، شيوعيون ، وتاريخ ينتظر .... وفرصة لي لاختبار حرية ٍ ما ....


(5)
استيقظت صباح اليوم التالي ، ولم أجد ابن أختي .... نهضت بسرعة لم يكن الخوف سببها ،إنما كان شعوراً أشبه بما ينتاب المرء عندما يلتمس اقتراب فشلٍ ما ...
لم يدم ذاك الشعور لأكثر من برهة ، رأيته ....نعم إنه هناك !... تساعده فتاة في ربط حذائه ، تساءلت عن سبب ذلك التجهم والعبوس في وجهها ، كانت ملامحها قاسية كملامح رجل !
اقتربت منهما ملقياً التحية ... نظرت إلي وابتسمت، وسرعان ماتحول وجهها على نحوٍ غريب إلى وجهٍ آخر ..
أخبرتني أنها الفتاة المسؤولة عن تنظيف المزار ، وقالت أنها تتمنى أن تنجب بجماله عندما ستتزوج قريباً .
كان لها قوام رشيق كالحارس ! ،وتبدو قوية وسعيدة ، حتماً أنها لاتفكر في السياسة !
(( هيييه ، هل أنهيت عملك ؟)) ... صرخ الحارس في وجه الفتاة بنبرة مؤنبة لا تخلو من خوفٍ ما .
انحنى صوبي ورمقني بنظرة عدائية ، كما لو أنني لص سلب منه شيئاً ثميناً ...
(( وأنت ؟ .. ألم تستيقظ ؟ ألم ينتهي دورك هنا ؟ ... هيا هيا .... إنه يوم الأحد والصلاة ستبدأ بعد قليل ...))
تساءلت ما الذي جعله واثقاً من أنني لاأصلي ؟! ألم يخطر له أنني قد أكون بين المصلين ؟!
في طفولتي ، كان خالي يصطحبني معه لصلاة الأحد ، وكنت ملتزماً بها حتى كنت فخوراً بذلك .... لا لا الآن أنا ملحد !
(( حسناً حسناً ... سأغادر )) قلت .
(( هه ... كما توقعت أنت ممن لا يكترثون بالصلاة .حدسي لا يخفق ! )).
ابتسمت في سري نصف ابتسامة .. قاطعتها عينا الفتاة .... كانتا كما لو أنهما تشتعلان ، وهي ترمق الحارس بنظرات غير مفهومة لم ألتمس فيها أية مشاعر ...
أثناء معركة الأعين الغريبة ... بدأ المصلون بالتوافد ، لاحظت أن معظمهم من العجائز أو الحوامل ... ثمة سيدتان تتأبطان ذراعي بعضهما وتتوشوشان .. حدقتا باهتمام صوبي .. أشاحت إحداهما بنظرها عني كما لو أنها رأت شبحاً، حتى كادت باروكتها القصيرة النارية اللون أن تسقط من حدة الالتفاتة ، سرعان ما أمسكت بها مانعة إياها من السقوط والكشف عن شيبٍ بدت وكأنها تحاول إخفاءه لاعتقادها ربما بقبحه .
فكرت بأن المجيء إلى الكنيسة والصلاة هي طريقة حياة أيضا!
تذكرت فجأة ابن أختي .. التفت إليه فوجدته يقلب صفحات الكتب الصفراء باستمتاع !
تساءلت فيما إذا كان ولداي يذهبان إلى الكنيسة ؟ هل يصليان ؟أم أنهما بدأا يفكران ؟! كما بدأت بالتفكير منذ سنوات طويلة !
(( أعداد المصلين قليلة جداً )) ... تمتمت لنفسي ، شعرت وأن الأمر أثار اهتمامي دون أن أعي ذلك ...
نظرت إلى السماء ، كان ثمة غيومُ ما ، هل ستمطر؟... آه القفل الصدئ عليَ أن أصلحه ... المطر قادم ... وشوقي للتاريخ لم يعد يحتمل !


(6)
(( صانع الأقفال ليس بعيداً من هنا )) .. كان هذا آخر ما قدمه لنا الحارس من فائدة ، قبل ان يقول في سره ربما فلترحلا بلا عودة !
محلُ صانع الأقفال بدا كمقطورة صغيرة في قطار ..ز مقطوراته من دكاكين متنوعة لصنع الأدوات المنزلية ، بدءاً من الأقفال والمفاتيح ، والخزف والأثاث الخشبي . كان حياً ضيقاً حجارته قديمة الطراز ، تصطف على جانبيه دكاكين صغيرة بأبوابٍ منخفضة تتطلب ممن يرغب في الدخول عبرها ـن يخفض من رأسه قليلاً لينعم بالجمال الذي يقبع في الداخل .
هذا ما فعلته تماماً لدى عبوري أول الأبواب هناك ، ليظهر في الداخل رجلُ أصلع ، بذقنٍ سوداء حالكة ، أدركت طول قامته عندما نهض عن كرسيه الهزاز الضخم ليرحب بي ...
(( أهلً وسهلاً بك ، أقفال جاهزة ، سكب مفاتيح ، تصليح ، أدوات كهربائية ، صنابير ..)) ! .
(( في الحقيقة ، حاولت فتح أحد الأقفال اللبارحة ولم أستطع ، يبدو بأنه صدئ من الداخل ، لا أعلم كيف يمكنك مساعدتي ؟! )).
(( آه حسناً حسناً، إذاً هيا بنا ، علينا نحن أن نذهب للقفل ! ))
تناول من أحد الرفوف قفلاً جديداً وتمتم لنفسه : نحتاج إلى هذا ..
شعرت وكأنه ينتظرني منذ سنوات ! .. وبأنني أنهيت بمجيئي حالة جلوسٍ طويلة على كرسيٍ هزاز أخرق !
في طريقنا لولوج التاريخ ، سألني : ما عملك ؟
-(( كنت طبيباً ، كنت .. لكن الآن يبدو أنني سأعتزل ....!)).
-(( تعتزل ! ... أمرٌ يبدو غريباً لي .. لم أفكر يوماً بالعيش دون أقفال !
هذه مهنتي ومهنة أبي من قبلي ... رغم كل ما يحدث في هذه البلدة ..
لازلت أجد أن دكاني هو حياتي ... بغض النظر عما أجنيه من مالٍ قليل..)) .
-((لم؟أقصد ما الذي يحدث ؟! )).
-(( هناك من أطاح بدكاكيننا وتجارتنا أرضاً ... كما أطاح بعقول سكان هذه البلدة ..وحولهم إلى مهربين عبر الحدود .. أتصدق ؟! حتى بعض الشيوعيون اللذين ملؤوا آذاننا بشعارات البروليتاريا ، قد سيطروا عليهم ، حتى العمال اللذين لا ينتمون لهذه البلدة جعلوهم يتورطون !.... الناس هنا أغراها الثراء بطرق غير مشروعة !)),
داوم : (( وما يضحك حقاً أننا بنظر الشيوعيين لا نستحق أموالنا وأننا نعيش على حساب الفقراء بتلك الدكاكين البسيطة ! ، بالأمس ، قام شيوعي متطرف بتكسير محل الهدايا والألعاب لتلك العجوز المسكينة ؟ مازالت في المستشفى حتى الآن من جراء الصدمة .أيعقل ان تتحقق العدالة هكذا ؟! ... أنا لست ضدهم ، وهنالك الكثير منهم شبان واعون ومثقفون وأصحاب مبادئ ... لكن بعضهم يلبسون ثوب الشيوعية لإخفاء مقاصدهم .. الناس هنا نسيوا كيف يفكرون ؟! )).
دهشت لسماع كلامه وتساءلت : أيعقل أن تتحول الأفكار إلى وسائل تخدم الجهلاء ؟! لطالما بحثت في الفكر الشيوعي عن إجابات لتساؤلاتي ، كنت أسد بها جوعاً في داخلي ، لم أتخيل يوماً أن الأفكار قد تهدم .. أو أن تبيح العنف ! .
(( هيا بنا ، لنرى ذاك القفل العنيد ! )) قال صانع الأقفال ونحن نصعد نحو ذلك الصرح الذي بدا وكأنه عالم آخر مغلقٌ ومنسي
أعجبتني الأحرف الأرمنية المنقوشة ، أو بالأحرى شعرت بأنه علي أن أعجب بها كخطوة أولى للتصالح مع الماضي .
-(( يبدو أنه ينبغي استعمال عضلاتنا ، ما المشكلة ؟! من يصنع الأقفال عليه أن يستعد لتخريبها إن لزم الأمر ! )) قال صانع الأقفال .
سنكسر القفل ! ... تحتاج أحياناً لقرارات حاسمة وسريعة لتفهم ذاتك !











(7)
( لا نتعامل بالدين ) ...
بدا لي أن تلك العبارة لا تحتاج للوحة ضخمة كتلك المعلقة في صدر متجر جدي ، ربما حاول جدي الإلحاح على المعنى بذلك ! حقاً فإن إعطاء الأمور أحجاماً تكبرها يجعلها مؤثرة !
يقع المتجر في الرواق الخلفي ، ويمكن الوصول إليه عبر طريقين أحدهما من خارج المنزل والآخر عبر الحديقة الخلفية ‘ وهو يظهر اهتماماً بالغاً من جدي ، الرفوف الخشبية المتناسقة والمنقوشة بزخرفات عربية ، الأواني النحاسية المخصصة لحفظ الألبان ، والنباتات المتسلقة على جانبي الباب الخارجي والتي تسده الآن !
ابتكر جدي أسلوباً يخصه في العيش !
من الداخل ، المنزل يوحي بلمسة مختلفة عما رأيناه في المتجر ، لمسة كاثوليكية ملتزمة !
المكتبة المليئة بتماثيل المسيح والعذراء ، صور القديسين المؤطرة بإطاراتٍ نحاسية لامعة ، غرفة الطعام الواسعة ، الأغطية المطرزة بصعوبة وإتقان ، المائدة الضخمة والكراسي المصنوعة من الخيزران .
تساءلت : لم تخلت جدتي عن كل هذا عندما غادرت البلدة ؟
أحياناً يحدث أن ننسى عمداً أشياءً نحبها في أماكن نحبها لكي نثبت لأنفسنا أننا سنعود يوماً .... ربما هذا ما فكرت به جدتي .
كل هذا الجمال صنعه جداي بعد أن قبلوا بمسلمات المجتمع.... الخدر أحياناً بداية جيدة لبناء حياة !
لكن لننظر إلى النتيجة ، هل أرضتهما ؟!
-(( خالي لمن كل هذا ؟)). سأل ابن أختي .
-(( لنا حبيبي لنا )) .
ظننت أنني أجبت ابن أختي عفوياً على ذاك السؤال ، لكنني أدركت لاحقاً أن تلك الإجابة كانت قراراً اتخذته !





(8)
(( جميع أسطوانات المنزل بالأرمنية ، كلها كلها...)) . قال ابن أختي سائماً وهو يقلب بين أسطوانات الحاكي المنضدة على الرف العلوي للمكتبة. لم أدري كيف استطاع أن يطالها ؟ لابد وأنه فعل شيئا ما عندما كنت نائماً .. لاشك أن الصبي بدأ يتعلم كيف يتذمر !
أثارت جملته فضولاً في نفسي ، أسطوانات أرمنية ؟! ليس لدي أي ذكرى عن استماع جداي إلى موسيقى أرمنية ؟!
قادني فضولي نحو الحاكي ‘ كانت آداة مميزة تجعلك تنتمي معها إلى زمنٍ آخر ... إنه خردة ..حتماً لن يعمل ! تمتمت .
لم أستطع حسم كفاءة الحاكي ، إذ قاطعني صوت قرع الباب .. كان قرع رجل ..
توجهت نحو الباب ، كدت أتعثر بصناديق الجرائد الموضوعة تحت طاولة المكتبة ، ما إن فتحت الباب حتى ملأ ذاك الفراغ الواسع صوتُ أجش متحمس : ((مرحباً صديقي ، كيف حال القفل ؟ ، لم آت لهذا فقط !)).
إنه صانع الأقفال بقامته الممشوقة وحماسه لكن مع نبرة صوت أكثر جرأة ، وقف إلى جانبه شاب في العشرينيات كما بدا ، يدخن السيجار وقد ارتدى بذة رسمية أنيقة توحي بكلاسيكية تليق بالحاكي !
-(( آه ، هذا هو ياسيدي ، تكلمت لك عنه كثيراً ، ستتفقان ، سترى ذلك ... )) قال صانع الأقفال للرجل مشيراً إلي .
-(( سنتفق سنتفق ،حتماً سنتفق ، يبدو لي ذلك )) قال الرجل بثقة .
_(( تفضلا )) قلت ذلك وأنا أفكر أن منزلي الجديد بدأ يزار ، إنها ولادة جديدة له !
جلسنا في الشرفة التابعة لغرفة الجلوس ، شعرت أن إطلالتها أشد سحراً من بقية الشرفات ، إنها تطل على حديقة الكنيسة .
_(( لم أكن أعلم أن كنيسة الأرمن تملك حديقة بهذا الجمال )).
قال صانع الأقفال وهو يبتسم ثم أردف :( أمزح طبعاً ، لكنها تبدو مختلفة من هنا )).
-(( أما أنا فلا أعرفها ولا أمزح في هذا! )) قال الرجل الكلاسيكي .
-(( صديقي لا يقيم هنا ، والداه من البلدة ، لكنه يقيم في العاصمة ، لم يتبق له هنا سوى خالته العجوز ، التي تعرضت لاعتداء الأسبوع الفائت ، حدثتك عنها ، مالكة متجر الألعاب ومايخص الأطفال ))قال صانع الأطفال .
(( آه ، تذكرت )) .وكيف أنسى تلك القصة التي أخلت بتوازن أفكاري .
(( المهم ، مانريد قوله أن العجوز لم تعد قادرة على العمل وإدارة ذلك المتجر ، ما نفكر فيه أنك جديد هنا ، ويبدو أنك قررت الإقامة ، وأخبرتني بنفسك أن مهنة الطب صارت من الماضي . فما رأيك ؟ فهمتني أليس كذلك ؟!)).شرح صانع الأقفال .
أنا ! متجر! ألعاب أطفال! صرخت بتلك الكلمات دون أن تخرج من حنجرتي !
أجبته بعد دقيقة صمت : ((حسناً ، ولكن ...))
قاطعني الرجل الكلاسيكي : (( إن كان فيما يخص المال، 50% من الأرباح لك ، ويمكنك تغيير البضاعة ، وتحويل المتجر إلى متجر للحلويات مثلاً أو أي شيءٍ يؤكل ، كان هذا اقتراحي على خالتي ، الناس هنا تريد أن تأكل كأولوية! )).
شعرت أنني على وشك الصراخ في وجهه)) أشعر بالقذارة من أسلوبك في الكلام ، وأنا أكره المتاجر والأملاك، وأمقت مظاهر الترف التي تجتاحك كوباء ))!
لكنني فجأة شعرت باستسلام ما .. بدا وكأنني أغوص في حالة من الخدر تماماً مثل جديَ.
(( حسناً ، لنجرب ...)) سمعت نفسي أقول هذا ... يبدو أن لساني لم يعد تحت السيطرة !
_(( رااائع ، قلت لك أنكما ستتفقان ! )) قال صانع الأقفال وهو يضحك بشكل هستيري .
انتفض الرجل الكلاسيكي بسرعة كالمجنون عن كرسيه قائلاً : ((حسناً ،لقد سوي الأمر ، سأترك لك المفتاح .. يمكنك البدء منذ الغد ، علي إخبارك بأمر.. هنالك بضعة دمى بشعة صنعتها خالتي ، كانت تسلي فراغها بتلك السخافات ، تعرف .. عجوزٌ وحيدة ، يمكنم التخلص منها إذا لم ترد بيعها .. والآن بالإذن الوقت ليس لصالحي )) !
ودعت الرجلين وحالة الخدر لم تزل بعد عني ، تذكرت الحاكي ، أيقظني فضولي مجدداً أسرعت نحو الحاكي ، اخترت أسطوانة عشوائياً ، وضعتها في مكانها وأدرت المقبض ... انطلق صوتٌ خافت ، كانت أغنية أرمنية فلكلورية ... الحاكي يعمل ! ..قلت بصوتٍ مرتفع .. (( جداي .. كنتما رائعين ، لكن أين سمعت هذه الأغنية من قبل؟! )).











(9)
إنه فجر البلدة .... بدا لي شيقاً خلف زجاج النافذة المائل للزرقة ، مما يحول ألوان الفجر عبره إلى ألوان قصة خيالية .
أذكر أن آخر ما رأيته قبل أن أفتح عينيَ هي أرمينيا تحمل عكازاً !
لم أعد أكترث في معرفة هويتها ..
جلست في السرير أتأمل البلدة عبر النافذة ، هناك عند الشارع الذي يشبه القطار سأبدأ كتاجر!نهاية لا بأس بها !
مرت الفتاة المسؤولة عن تنظيف المزار برفقة شاب وقد لين تبرجها من قسوة ملامحها الرجولية ، فتحت النافذة لأرى العالم بألوانه الحقيقية .
كان الشاب يحمل عوداً في يده ويرتدي ثياباً قديمة وباهتة ، وقبعة صوفية قبيحة .كانا يمشيان بخطوات مضطربة ، مثل أعرجين يحاولان الجري . خمنت أن تكون وجهتهما هي مخرج البلدة ، أو مايسمى شارع المسلمين حيث ترقد أختي . كان ثمة رجلٌ يرتدي ثوب إمام يقف أمام المسجد ذو القبة الكروية اللامعة والتي أضفى عليها لون الفجر بريق الذهب ...
حدق الإمام بدهشة وترقب كمن يشاهد آخر لقطة في فيلم سينمائي مشوق !
دخلا في زقاق ضيق يفضي إلى فسحة صغيرة تتناثر فيها بضعة بيوت بسيطة فتح باب أحدها لتخرج منه امرأة برداء صلاة أبيض ، استقبلت الثنائي بوجه بشوش ومنتظِر ، تأملتهما كما لو أنها منتصرة !
هرول الجميع إلى الداخل وأغلقوا الباب وراءهم .
سرعان ما رأيت الإمام يهرول إلى المنزل ذاته وفي يده مجلدين كبيرين ،لكنه توقف فجأة وأصابه الذعر ،وتغيرت ملامح وجهه كمن رأى قطةً سوداء !
تابعت في الإتجاه الذي صوبت عليه عيناه ،ففوجئت بحارس الكنيسة برفقة بقبعة صلاة بيضاء تخص المسلمين ، سارا كحصانين ثائرين صوب المنزل .
-(( والله لن تكون إمامنا بعد اليوم .... )) صرخ الرجل ذو القبعة في وجه الإمام عندما مر بجانبه ...
عندما وصلا إلى ذاك المنزل المتواضع طرقا الباب بعنفٍ شديد ، ففتحت المرأة ذاتها ، صعقت بما رأته وحاولت منع الرجلين من الدخول لكنها لم تفلح ، دفعني الفضول إلى النزول ، في الحقيقة لم أعلم إن كان الفضول أو شيئاً آخر لم أختبره من قبل !
وقفت على مسافة قريبة من المنزل ، مر الإمام بجانبي دون أن يراني .
بعد لحظاتٍ خرج الجميع من المنزل ، قام الرجل ذو قبعة الصلاة بتحطيم العود على ركبتيه ، بكى الشاب ذو القبعة الصوفية كالنساء وتخبط محاولاً منعه ، سارعت فتاة المزار بالجلوس فوق صخرة قريبة وراحت تمسح دموعها وتبعها الحارس ليجلس على صخرةٍ أخرى مرهقاً ثم وضع كفيه على عينيه ودلك وجنتيه .
لم أصدق أن تصرفاً كهذا قد بدر من رجلٍ كالحارس ، بدا ضعيفاً جداً ، أين كل تلك القوة ؟
-(( أغضبتني وأغضبت الله وأصبحت شيوعياً ملحداً ، فضلت انتماءك الشيوعي على عائلتك ودين الله والآن كنت على وشك أن تتزوج من فتاة دون موافقة والدها ... أنت ابن عاق ، عاق ... لاأرغب برؤيتك في حياتي ... فليغضب الله عليك .. )) صرخ الرجل ذو قبعة الصلاة في وجه من تبين أنه ولده ثم تابع صراخه متجهاً صوب المرأة المرتدية ثوب الصلاة:
-(( وأنت يا شقيقتي الحنون التقية ، تقبلين بهذا ؟ واليوم أتبرأ منك ، لست أختي .... )) .
انتفضت فتاة المزار بعد أن مسحت دموعها بقوة وصرخت :(( وأنت ،ألن توبخني ؟ أو أن ذلك يشعرك بالخزي ؟! ... ياوالدي ! قل بأنك تخجل بأن يعلم الناس أنني ابنتك ، أو الابنة التي تشك بهوية والدها ، لأن زوجتك هربت بعد إنجابها مع سائحٍ أجنبي ، ألا تراني أشبهك؟! أو أبدو لك فرنسية ؟! هيا أخبر الجميع كيف نبذتني دوماً ووهبتني للمزار حتى عطف الراهبات عليَ وربياني ! قل أنك كنت تحرسني أنا وليس الكنيسة ! هيا !)).
نهض الحارس وهو في حالة من الجمود ومشى مثل ظلٍ وهو يتمتم:(( لم أرد أن تصبح كأمها ، لم أرد أن تصبح كأمها ))!
كان الجميع في دهشة صامتة، وكأن أصابعاً باردة ضغطت على مفاتيح بيانو خفي ، وأصدرت موسيقى حزينة أسكتت الجميع .
اقتربت من الشاب وربت على كتفه (( هيا إلى منزلي نحتسي القهوة )).
شعرت خلال مسيرنا نحو المنزل برغبة شديدة بأن أرى ولديَ.



(10)
(( أبي كان دوماً هكذا ، وسيبقى هكذا ....))
قال الشاب ذو القبعة الصوفية القبيحة عندما قدمت له فنجان القهوة وأردف (( جميع سكان هذه البلدة مثيرون للشفقة ، يعيشون حياة رتيبة وساذجة وينتظرون ما يجهلونه ! )).
-(( معك حق ، أقصد أعتقد ذلك )) قلت ذلك وفكرت مجدداً بأن لساني لم يعد تحت السيطرة !
-(( جميع الآباء سيتصرفون هكذا ... اهدأ )) شعرت بالدهشة من نفسي على هذا التخمين .
تأملته ، كان يحتسي القهوة بشراهة والعرق قد تصبب من جبينه واستقر على شفتيه الغليظتين ، ورطب شعر لحيته الطويلة والفاحمة .
-(( الدين أفيون الشعوب ... ماركس كان محقاً )) قال وهو يمسح عرق جبينه بمنديل قماشي مطرز أخرجه من جيبه .
لطالما أعجبتني تلك العبارة ...ز لكن الدين لدى البعض أسلوب حياة!
-(( ربما كنت محقاً )) ...أجبته لرغبتي في حسم نقاش قبل أن يبدأ .
ثم أضفت كمحاولة ملحة مني على تغيير الحديث :(( هل تتقن العزف على العود ؟))
-(( العود !.. رحمه الله كما يقولون ... لن أبقى قي هذه البلدة بعد الآن ، سأغادر ، أصدقائي الشيوعيون سيمدون يد العون لي )).
-(( وفتاة المزار ماذا عنها؟)) قلت .
-(( لن تكون جزءاً من مخططاتي المستقبلية كما يبدو !)).
هنا شعرت برغبة بضربه ، وإخباره بأنه لا يستحق أن يحمل مبادئ الشيوعية على عاتقه !
انتفض فجأة كشخص ثمل ، وقال بعدائية :(( علي الذهاب )).
فتح الباب مثل مخبول ، وغادر دون إغلاقه ، سرعان ماظهر منه صبي صغير بشعر فوضوي ، يحمل في يديه رزمة جرائد . قال بعد أن طرق الباب بقدمه : ((هذه الجرائد ...أرسلها لك صانع الأقفال ،وأوصاني أن أخبرك بأنه قلق بشأن تأخرك عن المتجر... وألا تعطيني ثمن الجرائد ))
-(( قل له أنني قادم )) قلت وأنا أتناول الجرائد منه ، لاحظت أنه يرمقني بنظرة وقحة !
-(( ألن تعطيني بقشيشاً؟! )) .سأل .
-(( ولماذا لطرقك الباب بقدمك ؟!)).
جاء ابن أختي من غرفته في هذه الأثناء ، واقترب من الفتى مبتسماً له وسلم عليه بطريقة لا يتقنها سوى الأطفال :(( هيه ، أيها الفتى هل تريد اللعب معي؟))!
فكرت أنه علينا أن ننظر للأطفال وإلى بساطة التعامل لديهم لا لنتعلم منهم وإنما لنحاول إدراك العمر الذي لم نعد نتقن عنده هذا الفن !
لاحظت أن الشاب الشيوعي قد نسي منديله ، ثم التفت إلى ابن أختي وذلك الفتى فرأيتهما قد أصبحا صديقين !
تساءلت فيما إذا كانت فكرة صداقة ابن أختي مع فتىً يطرق الباب بقدمه صائبة !
-(( هيا هيا بنا ... قلت وأنا أباشر الخروج ))..
فقد تأخرت كثيراً على متجري !!


(11)
العجوز مالكة المتجر وراهبة إيطالية كانتا أول رواد المتجر بعد استلامي له .
دخلتا قلقتين وعابستين ، كما لو أنهما تودان أن تخبراني بأن ثقتهما لا تمنح هكذا ، وأن ذلك يتطلب وقتاً وأدلة واقعية ملموسة !
علمت منهما أنهما جاءتا لغرض إضافي ، تريد الراهبة مجموعة من الدمى لمنحها لفتيات الترتيل كمكافأة على كونهن مستقيمات كما عبرت ، وقالت بأنها تفضل الدمى المصنوعة يدوياً لأنها تؤمن بموهبة العجوز وأن ذلك سيشجعهن على العمل اليدوي وأردفت :(( دورنا أن نقدم الجهود والمال والنصح من أجل إنتاج مسيحيين صالحين )).
-(( حسناً جئت لإخبارك أنني لا أرغب أن يخلو المتجر من تلك الدمى ، إنها ابتكاراتي وماجعلني أستمر في العيش )) قالت العجوز المالكة وهي على وشك البكاء .
-(( تستطيعي أن تصنعي ما يحلو لك في المنزل وأنا سأتكفل بنقله وبيعه ، لا تقلقي )) .قلت.
ماذا لو علمت بأن قريبها كان يريد التخلص من كل تلك الدمى التي وصفها بالساذجة !
-(( لم لا تعلميه؟ نعم هو ... ما العيب في ذلك؟! )) قالت الراهبة .
فكرت: هل تقصدني ؟ لطالما اعتبرت نفسي أتعامل مع دمىً باكية لا أكثر عندما عملت طبيباً ، التعامل مع هكذا دمى سيكون أكثر طواعية ومرونة !
دخل صانع الأقفال مقاطعاً اقتراح الراهبة واتخاذي القرار ،كالعادة !
حيا الراهبة بحرارة ...
-(( يدو أن عقوبة الوقوف على قدمٍ واحدة في نهاية الطابور قد جعلت منك رجلاً صالحاً يافتى ...)) قالت الراهبة وهي تتأمل قامة صانع الأقفال .-(( آه مادري مادري ، لك الفضل في كل هذا )) قال صانع الأقفال .
فكرت في أنني لم أعرفه كما يجب لأبت بكونه صالحاً ، ثم لا أعلم إن كانت (( صالحاً )) بالنسبة لي تتطابق مع تلك التي تظنها الراهبة !
-(( جئت لأعطيك هذه ، لقد نسيت إرسالها مع الفتى صباحاً ، إنها صحيفة لبنانية ، خمنت أن فيها ما يهمك )) قال وهو يضع صحيفة بين يدي ، سرعان ما عكرت صفو يومي .
كان هناك خبر في الصفحة الأولى عن انتشار مجموعة من القناصين في الحي الذي تقطنه عائلة زوجتي .(( ما يحدث في لبنان يثير الحزن ، تحولت الاختلافات إلى حرب مدمرة ، متى ستنتهي هذه الحرب متى ؟)) صرخت وأنا أتخبط في كرسيَ.
أمسكت الراهبة بالجريدة وقرأت الخبر ثم قالت باهتمام :(( لدينا رقم الدير هناك ، إنه دير كاثوليكي ، سأتواصل معه ، ويمكننا عندها أن نطمئن على عائلتك ، لا تخف ...)).
هاهو الدين مجدداً يقرب المسافات !
-(( وماذا عن قبولك بتعلم كيفية صنع الدمى ؟)) قالت العجوز .
فوجئ الجميع بهذا الهجوم !
-(( حسناً ، سنجرب ...)) تمتمت وأنا مطأطئ الرأس .
في المساء وبعد أن غادر الجميع كنت عائداً إلى المنزل ،مررت بجانب محل صانع الأقفال كان الباب موصوداً، وقد بدا منه نور في الداخل ، اقتربت وألقيت نظرة من شق الباب ، كانت فتاة في سن المراهقة تخلع ثيابها ، اقترب منها صانع الأقفال عارياً تماماً ، عدت إلى الوراء مدهوشاً ...
تساءلت وأنا أهرول : هل مارأيته قد يزيل امتياز أن يكون (صالحاً)؟ بالنسبة لي وللراهبة !












( 12)
(( هم أحياء وقد وصلوا إلى باريس منذ 20 ساعة )))....
قالت راهبة لي من دير بيروت حيث يقطن ولديَ عبر الهاتف بخشونة وكأنها ترمي على عاتقي مسؤولية ما جرى لهم !
(( باريس ... لقد ابتعدوا أكثر .... لكن يبقى هذا أفضل من الموت !)) قلت بصوت مرتفع وأنا أغلق سماعة الهاتف ، كانت الراهبة تحدق بي باهتمام وبنوع من العاطفة التي تخص النساء اللواتي لم يتزوجن تجاه موقف يتعلق بالآباء والأبناء ، وتلك المشاعر المتداولة ..
قالت وهي تمسك بكلتي يديها بكتفيَ وتضغط : (( إنها فرصة أخرى لك لتكن بجانبهم ، عد لزوجتك )).
العودة إلى زوجتي ! هذه ليست فكرة بل ضربٌ من الخيال ، ما يهمني الآن أن ولديَ مازالا موجودين ، وأن لدي فرصة أخرى لأكون أباً لهما !
ما إن أفلتت الراهبة كتفيَ وأقدمت على الخروج ، حتى ظهرت لي العجوز مالكة المتجر من خلف القرابين ، صلبت على جبينها بماء القربان بشغف واسترسال . أدهشني ذلك كما لو أنها المرة الأولى التي تقوم فيها بذلك .
صرخت وهي تتجه نحوي :(( آه ، تلميذي تلميذي ، الدرس الأول ينتظرك ))!
اقتربت مني وأمسكت يدي بقوة : (( هيا إلى المنزل ، قريبُ من هنا )).
قصدنا منزلها الكبير ذو الغرف المتعددة والفارغة ، والتي قالت أنها غرفُ لأطفالها الذين خططت لإنجابهم ولم ينجح الأمر .
-(( انظر هؤلاء أطفالي بالمئات ...)) قالت وهي تشير إلى مجموعة من الدمى الملونة المرصوفة في مكتبة حائط مؤلفة من عشرة رفوف .
ابتسمت وأنا أفكر : (( ماذا لو بإمكاني صنع أطفال كولدي ))!
بقيت لساعات وهي تشرح لي ما عليَ فعله ، وكيف أتعامل مع الأقمشة والأزرار والخيوط ، ثم رسمت لي على ورقة تصميماً لدمية ، وقالت : (( افعل هذا ، دوماً، احلم بالطفل ، ارسم حلمك على ورقة ، ثم امنحه الحياة بأناملك !)) .
أحببت جملتها ، تخيلتها مكتوبة بالخط الذي كتبت فيه ( لا نتعامل بالدين ) تلك التي في المتجر ، كان سيليق ذاك الخط .
تذكرت فجأة أنني تركت ابن أختي يذهب لقضاء اليوم بأكمله عند صديقه ، ذو التصرفات غير اللائقة ، ودعت العجوز و وعدتها أنني سآتي في الغد .
سرت باتجاه منزل ذاك الفتى ، فالتقيت به قادماً صوبي برفقة ابن أختي والإمام .
-(( كنت أعلمهما بعض الأناشيد )). قال الإمام عندما اقتربنا من بعضنا.
-(( أشكرك إمامنا ، كيف الأحوال ؟)) .
-(( لم أعد الإمام ، قاموا باستبدالي بآخر )) . قال هذا بوهنٍ شديد .
وقبل أن أعبر له عن أسفي ، دقت أجراس الكنيسة موسيقى الحداد ، تساءلت : من يكون المتوفي ؟ وهل أعرفه ؟
لكن سرعان ما شاهدت الناس في البلدة يتجهون نحو منزلٍ كبير ، منزلٍ ستصبح غرفه كلها فارغة . أدركت بغصة أن العجوز مالكة المتجر قد رحلت !


( 13)
لم تكن جنازةً واحدة ، بل جنازتين ! وقد حارت البلدة في البت في المسبب الفعلي لرحيل المشيع الآخر ، أكان السكري حقاً كما خمن دوماً ،أم الفضيحة . ثمة كائن واحد فقط كان يعلم أن ذاك المسبب المجهول هو أمرُ آخر لا علاقة له بما يدور في رأسهم ، كانت ابنته ذلك الكائن الوحيد .
ساعةٌ واحدة فقط فصلت ما بين وداع العجوز لأطفالها الدمى الذين أحبتهم ومنحتهم الحياة ووداع الحارس لابنته التي خجل منها مدى الحياة !
تبين فيما بعد أن لتلك الساعة الفضل في رحيل الحارس وفي جعبته شيءٌ من الحب ، وشيءٌ من الغفران .
(( والدي كان جيداً ، خجل بي ولكن لم يتركني )) تمتمت فتاة المزار عندما كنت أمشي بجانبها في الجنازة .
فكرت فيما بعد عندما خلدت إلى النوم في مساء ذلك اليوم ، أن الحارس لم يخجل بابنته ربما ، إنما بما كان يعتبره سذاجةً منه أن تتخلى عنه امرأة من أجل آخر ... وعندما أراد أن يرد اعتباراً لإثبات نباهته ، قرر عدم التصديق بأبوته لابنته .
لم أقوى بعدها على الخوض في أفكارٍ أخرى حتى ذهبت في سباتٍ عميق ، زارتني أرمينيا فيه ، تذكرت هذا فور استيقاظي على صوت قرع أنثوي للباب !
عندما فتحت عيني بصعوبة ، شعرت بروح أرمينيا في الغرفة وتساءلت عن سبب إخراج ثديها في الحلم كامرأةٍ مرضعة ، مع أنها لم تحمل في يديها سوى دمية !
نهضت متثاقلاً صوب الباب ، (( الطارق أنثى ، أنا متأكد )). تمتمت.
وبالفعل كانت أنثى ، في الثلاثين من عمرها ترتدي سترةً فضفاضة وردية اللون و بنطالاً أسوداً ذو أكمامٍ واسعة ، وقد تحجبت بوشاحٍ ورديٍ حريري ،مطرز بالخرز الأبيض اللماع ، وقد تدلى أحد طرفيه على كتفها ، كطريقة في التحايل على الجمال مع الاحتفاظ بالحشمة .
-(( صباح الخير ، أنا ابنة الإمام ... في الحقيقة والدي مريض ،ولم يستطع القدوم إليك ، لدعوتك إلى تناول الغداء في منزلنا ، وهو يرجو منك ألا تخذله ..)).
-(( حسناً بالطبع سآتي، سآتي بالطبع )) قلت بتلعثم .
(( لكن مابه؟ هل حالته خطيرة؟)) تابعت بحماقة .
-(( الاكتئاب! ... لاشيء سواه ... في الواقع نحن من قررنا أن نقيم هذه الدعوة من أجل والدي ، لم يعد أحد من مسلمي البلدة يرغب به كإمام ، وحتى كشخص ... لقد فقد ثقته بكل من حوله ...)).
قلت في نفسي: (( ولماذا أثق أنا ؟ لم أنا بالتحديد ؟! أم لأنني الجاهل الوحيد عن أسلوب حياته السابق ،الذي قد يكون حافلاً بالمصائب ،من يدري ؟!
لكنني كالعادة تركت لساني ينطق بما يريد :(( حسناً سألبي دعوتك )).
(( وجهها جميل )) .تمتمت وأنا أغلق الباب .
تساءلت فيما إذا كانت حقيقة أن وجهها لفت انتباهي قد أوقعتني في تلك الحالة التي تصيب معظم الرجال أمام شخص الأنثى وتجعلهم يدلون بما لايعنونه ..
(( لا ..... تجربة واحدة مع النساء كافية ووافية )) .قلت بصوت مرتفع كان كافياً لإيقاظ طفل كابن أختي ينام وهو يحلم بالاستيقاظ!
(( خالي هل سنذهب للمتجر؟)). تمتم الفتى وهو يحك كعب قدمه .
بدأ الفتى ينظم حياته هنا ، صديق وحماس للعمل ، سيكون شاباً مسؤولاً يوماً ما !
فكرت بحجم المسؤوليات على عاتقي ، تربيته وحمايته ، ولدي البعيدين ، إرث العجوز ووصيتها .
والآن كيفية إخراج الإمام المقصي من اكتئابه واستعادة ثقته بالحياة !











(14)
كانت المائدة عامرة بالمأكولات الشعبية المزينة بعناية ، والحلويات المنزلية الصنع ، بما يوحي بأن ابنة الإمام من الفتيات اللواتي قبلن بالأنوثة على طريقة مجتمعهن دون أي اعتراض ، بل ومع اجتهاد ورغبة في التألق في سماء تلك الأنوثة الضيقة .
جلست حول المائدة أنوثة أخرى بسمائها الخاصة وعالمها الخاص ، وتحدثت بلكنتها الخاصة المميزة عن كل نساء البلدة كما وصغها زوجها ((زوجتي مختلفة لذلك اخترتها )).
-(( أعمل محامية وناشطة في مجال حقوق المرأة )).
أجابت الأنثى المختلفة على سؤالي لها عن طبيعة عملها ضاغطة بإصبعها على نظاراتها الطبية خوفاً من السقوط .
-(( قلت أنك تركت الشيوعية )).سألت زوجها البدين في اللحظة التي أحاط بيده حول زوجته وقربها إليه فخوراً .
سألت زوجها البدين في اللحظة التي أحاط بيده حول زوجته وقربها إليه فخوراً .
-( نعم في الحقيقة، لطالما كنت ماركسي النزعة على الرغم من ثراء عائلتنا وامتلاكها لأهم الفنادق والمطاعم في هذه المناطق لكنني وبالفعل تخليت عن جزء كبير من ثروتي لدعم الشيوعية لكن ما آلت إليه الأمور في النهاية لم تشجعني على وهب المزيد . قال وهو يحرر زر قميصه العلوي بعد وجبةٍ ساخنةٍ ودسمة .
التفت إلى الإمام عسى أن يتكلم لكنه لم يفعل وبقي كما كان منذ قدومنا .
-((صحيح أننا لا نذهب إلى الكنيسة ولكن أليس لدينا ضمائر ؟!)) قالت الزوجة.،ثم داومت :((وضع المرأة في السنوات الأخيرة في البلدة بات محزناً، في يدي مثلا قضية بيع فتيات قاصرات إلى أصحاب النفوذ والمال ،لا ينظر للمرأة في هذا الزمن إلا كأداة لإرضاء النزوات ،ياله من انحطاط!)).
-((صديقتي كانت تعزف في فرقتنا زوجت عنوة لأحد المهربين الأثرياء وهي الآن ممنوعة عن الموسيقا ،تذبل في قفصها ))قال الشاب ذو اللحية السوداء الذي عرف بنفسه في البداية على أنه عازف كمان في فرقةٍ شبابية انتمت لفترة إلى الشيوعية ثم غادرتها .
أردف :((نحلم ونحلم ثم لا شيء ، تمردنا على تقاليدنا البالية ، الظروف ، بعضنا كان من عائلاتٍ متزمتة ، وآخرون لم يكن لديهم عائلة ،بعد أن حققنا جزءاً من أحلامنا جاء اليأس ليأخذ كلاً منا في اتجاه ،. الفراغ جعل من صديقي يضع حدا لحياته ، هل بقي أكثر ؟!)).
-((بقي أن أمسي شخصا غير موثوق به وأن أمنع من زيارة المسجد ، وأن استبدل برجل تخلى عن ابنه لمجرد رأي مخالف له ،)) قال الإمام بعد صمت طويل .
علمت حينها أن الإمام الجديد هو والد الشاب الشيوعي ، العريس المفترض لفتاة المزار .
دخلت ابنة الإمام في هذه الأثناء وهي تحمل ثوباً مطرزاً بين يديها ، قالت مخاطبة المحامية : ((ما رأيك ؟! لم تريها من قبل ، انتهيت اللبارحة من صنعها .)).
-((تصاميمك ملتزمة لكنها مميزة ، أنت موهوبة )) قالت الزوجة .
أدركت أنني تسرعت في الحكم على ابنة الإمام والحد من قدراتها . ثم خطرت لي فكرة : لم لا نعمل معا بما يرضي الجميع ؟!
وبالفعل عرضت عليها اقتراحي أثناء تناول الحلويات ، واحتساء الشاي ، ثم دار بيننا حديث مطول أخبرتني فيه بسعادة من حظي اهتماماً عن دروس التطريز التي تقيمها لليافعات القاطنات في حيها تعلمهن أن يبدعن وليس فقط أن يلتزمن بالقواعد وبأنها وجدت فيهن من لديهن مشروع مصممات دفع بها إلى منحهن اهتماماً خاصاً ووقتا أطول لتصحيح رسومهن ومناقشتها .
-((لدينا طاقاتٌ جميلةٌ ومبدعة في هذه البلدة )) قالت وهي تقضم قطعة من البقلاوة بنعومة ، راقبت حركة ثغرها ، بدا صغيراً وناعماً ، أحببت رسمه .
إن وافقت على العمل معي فعلي ألا أتأمل ثغرها مجدداً!
قاطع الإمام إسهاباتي قائلا:(( تعلمون أن الشيوعية بعيدة كل البعد عن مبادئي وأنني فقدت ثقة مسلمي البلدة بأنني أجلس مع الشيوعيون وأفتح لهم منزلي ،لكن بالنسبة لي أمر يتعلق بعلاقتي بهؤلاء الأشخاص وليس بما يفكرون ، ماأردته أن أكون إماما يحبه الناس ويثقون به ويلجؤون إليه ، لطالما اقتنعت أن هذا هو دوري ) اغرورقت عينا الإمام بالدموع وتوقف فجأة عن الكلام ثم نهض عن كرسيه ودخل غرفته ثم لحقت به ابنته مخلفةً وراءها سؤالاً بلا إجابة وزمناً واقفاً . التفت إلى الزوجة المختلفة وزوجها ، كان الزوج يقدم عرضا" للشاب العازف :-(( بإمكانك القدوم وفرقتك للعزف في فندقي إن أردت ؟)).
-((وأيضا في الجمعية عندي .. يمكنكم مثلا خلق أغنيات تتضمن القضايا التي أدافع عنها كالاغتصاب وبيع الفتيات ما رأيك ؟سمعت ما غنيتم من قبل من أغان ثورية ))أضافت الزوجة وهي تمسح نظاراتها بسترتها .
-((في الحقيقة يسعدني ذلك ، لكن لاأدري إن كان بمستطاعنا أن نحلم من جديد وأن نؤلف دون خوف أو يأس ،نحن شباب مخذول لم يعد يؤمن بشيء ،فقدنا انتماءاتنا ، لا قيمة لإبداعنا في مجتمع لا مكان فيه سوى لمن يبطش ،))قال الشاب وهو مطأطئ الرأس .
-((لكن ما كل هذا الاستسلام ؟انظر نحن موجودون ، وهناك الكثير منا يطمح ويرفض ما آل إليه المجتمع لكننا نعمل بقدر ما نستطيع ولم نيأس ،وسوف تعزفون في الفندق أيها الفتى ولم أطلب موافقتك !)).
تساءلت بعد الإنصات الجيد لأحاديثهم ومناقشاتهم الثقافية عن السبب في عدم مشاركتي فيها والإدلاء بآرائي ،فأنا ماركسي ولدي زخم من الأفكار لأعبر عنها ، فكرت بهذا أيضا بعد مغادرتنا منزل الإمام وفي أمور كثيرة أخرى كان أشدها إلحاحا" هو قبول ابنة الإمام في جعل تلميذاتها يصنعن لمتجري الدمى والملابس المطرزة ،.
تمتمت عندما لذت بالفراش : كم أتمنى أن تعيش ابنة الإمام بقربي دوما"!
في تلك الليلة ،جاءت أرمينيا لي في حلم طويل هذه المرة على عكس أحلامها القصيرة المعتادة ، كانت ترتدي فستانا طويلا من الحرير الأبيض وتضع حمرة شفاه ، اقتربت منها ، شعرت بها ، قبلتها وتلونت شفتاي !











(15)
دلف رتل من الفتيات ذوات الأردية الطويلة المحل وفي مقدمتهم ابنة الإمام بزيها المختلف وقد وضعت وشاحاً أبيض اللون مطرزاً بنقوش طيور تتبادل القبل بمناقيرها .
كنت أنتقي دمى مناسبة لتحقيق ما ترنو إليه الراهبة في حفل تكريم فرقة الترتيل الذي تم تأجيله حداداً على وفاة الحارس والعجوز مالكة المتجر ، عندها قاطعتني ابنة الإمام بقولها :((هاهن الفتيات المبدعات،جئن ليتعرفن على ممول موهبتهن وعلى طبيعة العمل !)).
-((أهلا بهن .. )) قلتها بارتباك .
في الواقع لم أتعامل من قبل كممول! أو مع هذا العدد الهائل من النساء بالرغم من إحاطتي بنساءٍ ملوناتٍ ومختلفات في منزل الطفولة .
راقبت حركاتهن ، شعرت بأنهن أضفن على المحل نوعا من الإثارة اللبقة ، تبادلن الآراء بكل جرأة حول البضاعة ناقدات كل تفصيل ودون أي تساهلات .
لفتني قول إحداهن :(( تبدو تلك الدمى كائنات بشرية مقلدة !
فتاة أخرى دنت من طاولتي وهمست: (( لم يخطأ ذاك الصبي الصغير ابن أختك عندما تمنى أن يكبر ويغدو ذكيا"مثلك ، هو صديق لأخي ...)).
انتابني مزيج من الحبور والرضا في دواخلي عندما أدلت بذلك .ما يعنيه هذا أنني أجيد التعامل معه .
-((هلا تقف هناك لالتقاط صورة تذكارية ))قالت إحداهن وأنا غارق في حبوري .
انتهت بعد ذلك الزيارة بعد أن أبدين إعجابهن بالبضاعة ،وتمنين تعاملا موفقا بيننا !
راقبتهن من باب المحل ،وراحت عيناي تصوبان نحو القامة الممشوقة لابنة الإمام وسحرها المختلف .لكن حدث شيء قلب الأمور رأسا على عقب ،شاهدت شاباً طويل القامة ذو عضلات مفتولة وبشرة سمراء لامعة ،بعينين كعيني النسر يقترب منها ويتبادلان الابتسامات الخاصة بمراهقين عاشقين .
علمت لاحقاً من صانع الأقفال أثناء طقس النارجيلة المسائي أن ذاك الشاب غريب عن البلدة وهو من أصل كردي ، وجد في هذه البلدة ملاذاً له من الموت تحت شعار الثأر العائلي .
يقال بأن شقيقه أحب فتاة من عائلة ذي نفوذ بين الأكراد وقام بفض بكارتها ثم تخلى عنها وعندما علمت عائلتها حكمت عليهما بالموت وبالفعل تم رمي العاشقين بالرصاص نصرة للتقاليد والقوانين العائلية وهنا بدأ الدم مسيرته الطويلة عندما قام شقيقه بقتل شقيقها ليتوجب على أبيها بالضرورة أن يخفي أي أثر للعائلة الأخرى فقام بإحراق المنزل بمن فيه وقد نجا ذاك الشاب من الحريق ليقصد بلدتنا وهو لا يعلم بأن الفارس المجهول الذي تنتظره ابنة الإمام !
روى لي صانع الأقفال تلك الحكاية بلكنة ساخرة وهو يوقد النار تحت فحم النارجيلة .
حملقت بالجمرات المتوهجة ورحت سارحاً فيها ،أفكر بذلك اللهب الذي يشبه ما يعتريني .
بعد لحظات أيقظني صانع الأقفال من سهوتي شارحاً ضرورة أن أنام مع امرأة ما من بائعات الهوى القاطنات في البلدة وأن...
هنا لم أعد أسمعه جيدا ، سرحت مجددا ،عاهدت نفسي أن أتعلم من اليوم كيف أغض بصري عن ابنة الإمام .




(16)
غصت البلدة برواياتٍ مختلفة عن حقيقة ما جرى في المشاجرة الصباحية بين الشاب الكردي و المهربين الذين يتسكعون في شوارع البلدة بسياراتهم الحديثة والفخمة التي تعج برائحة الخمور يلقون الشتائم والكلام الإباحي على فتيات البلدة ونساءها .
فالبعض يروي أن ذاك المهرب نعت ابنة الإمام بالزانية وابنة الحرام وهؤلاء طبعا من هم ضد نفوذ المهربين والبعض الآخر لديه حكاية أخرى تقول أن المهرب هو فردٌ من عائلة الإمام وقد وجدها في وضع غير لائق مع الشاب الكردي في طريقه إلى مدرسة أطفاله !
أما أنا فلم يكن علي أن أفكر لأقرر أي روايةٍ سأصدق .
أدخل صانع الأقفال الشاب الكردي إلى متجري ليهدئ من روعك بينما مرت ابنة الإمام كمن اقترف ذنباً صوب منزلها .
-((هؤلاء البرابرة البوهيميون ،لا ينفع معهم سوى العنف )). قال الشاب الكردي وهو يركل إحدى خزانات المتجر ،سقطت إثر ذلك بضعة دمى ، لم يعتذر عن ذلك وخرج ثائراً من الغضب دون أن يتفوه بكلمة أخرى .
مساء ، وفي طريقي على احتفال الكنيسة لمحته يتجرع الويسكي على قارعة الطريق وعيناه كجمرتي نارجيلة .
أردت الذهاب إليه ومساعدته ، لكن صاحب الفندق أوقف سيارته بجانبي ودعاني للصعود ،ألقيت التحية على الزوجة المختلفة ولاحظت أنها تضع ربطة عنق نسائية غريبة الأطوار
أمضى صاحب الفندق الطريق بأكمله وهو يثرثر عن الفوضى والانحدار اللذين تشهدهما البلدة ، وأشار إلى اهتمامه بالوضع المادي لمتجري وعن ضرورة التفكير بتطويره في المستقبل ،عل مشروعي يتحول إلى مصنع للألبسة والعباءات المطرزة والدمى إن أحببت .(الدمى إن أحببت ) قالها بأسلوب برجوازي عتيد لم يظهره من قبل . وكالعادة كانت ردة فعلي هي الصمت .
عندما وصلنا إلى الكنيسة ،ترجلت من السيارة بحماس كمن يريد التنفس ،كانت عائلات أفراد فرقة الترتيل نجتمع في حلقات وهم على أتم الاستعداد في الملابس والابتسامات ،لاحظت فتاة وحيدة تدخن السجائر ترتدي بنطالاً من الدجينز الباهت وكنزة ًقصيرة لا تلاؤم كنيسة .
التصقت تلك الفتاة بعمود من الأعمدة المرفوعة أمام باب الكنيسة الضخم ، علق هناك لوحة رخامية نقش عليها باللغتين العربية والإيطالية تاريخ بناء الكنيسة وأسماء البنائين ،كانت معظمها أسماء فرنسية .
على العمود الآخر علقت صورة القديس مار جرجس إشارة إلى الدير الذي سمي باسمه (دير مار جرجس الكاثوليكي ).
كان بهو الدير واسعا كسماء ، وقد بنيت في منتصفه بركة كبيرة تعمل فيها أربع نوافير من الفجر وحتى منتصف الليل ،والفسحة المتبقية تكتظ ببائعي الأزهار والمسبحات والقلادات الدينية وكل ما يخص أمور الصلاة والتعبد .
فتحت أبواب الكنيسة لقاصدي الاحتفال وأذن لهم بالدخول ،وقف ثلاث شبان متأنقين ،يرتدون ربطات عنق متماثلة سوداء ومقلمة بصليب فضي ،وأخذوا يرحبون بالأهالي ويقدمون لهم كؤوس النبيذ والشوكولا .ظهرت الراهبة بعد ذلك واتجهت صوبي مباشرة ، بدت سعيدة جدا بقدومي ،رحبت بي وربتت على كتفي بقوة ،ونحن داخلان سقطت عينيها على الفتاة الغريبة الملتصقة بالعمود فاضطربت وارتجفت أطرافها .
جلسنا في المقعد الأول من مقاعد المصلين ،لكن اليوم كانت مقاعداً لجمهور سيستمع فقط للتراتيل ويشهد توزيع المكافآت .
تأملت عدد الحاضرين ،كان قليلا جدا بالنسبة لسكان البلدة ،تذكرت كلمات حارس الكنيسة ،واكترثت مجددا لتلك المسألة .
لاحظت أن الراهبة تغادر المقعد ، راقبتها ، كانت تتجه نحو الفتاة الغريبة التي وجهت نظرات عدائية لها ، بدا من منظرهما وكأنهما تتجادلان ،أو توجهان التهم لبعضهما .
عادت الراهبة بعد إخفاقها في تغيير وضع الفتاة فقد بقيت ملتصقة بالعمود تدخن السجائر ،لاحظت أنها غير متبرجة .
بدأ العازفون بالعزف ، ونظمت فرقة المرتلين وقفتها استعدادا للإنشاد .، كانوا جميعا يرتدون زياً أبيض ، ارتدى كل ذكر قميصا وبنطالاً أبيضين وعلق صليباً ذهبياً في رقبته ، أما الفتيات فارتدين فساتين حوريات بيضاء وتيجاناً من اللؤلؤ الأبيض في وسطها صلبان من الذهب الأبيض.
التفت إلى ردهة الدخول ، كانت الفتاة الغريبة قد دخلت الكنيسة ووقفت خلف الصف الأخير من المقاعد ، وراحت تنظر باهتمام وحنان إلى إحدى فتيات الجوقة .
كان الشاب الواقف في مقدمة الجوقة قد استهل الترتيلة ، لحظة جاءت عينه في عين الفتاة الغريبة فامتقع وجهه وتبدل صوته وتقلقل .
أشاح الشاب بنظره عن الفتاة وثبت عينيه في تمثال العذراء المتربع جانب المكان المخصص للترتيل .
في هذه اللحظة بالتحديد ،سقطت المرتلة التي تحملق الفتاة الغريبة فيها ،وراحت تتخبط . توقف العازفون عن عزف الموسيقى وصرخت المرتلات خائفات وهربن باتجاه الأهالي ،ركض الشاب رئيس الجوقة وجثى بجانب الفتاة وراح يداعب شعرها ، دفعت الفتاة من أمامها بعنف وهي تتجه صوبهما ،حاول رجل منعها فصفعته بقوة وقالت :((ابتعد أيها الحقير المنافق )).
مسح الشاب دمعة من عينيه ،وضم الفتاة الغريبة وشدها إلى جذعه بقوة كمن يفتقد للأمان ،خرج الزبد من فم المرتلة الجاثمة على الأرض ،وهدأت .
((هل من طبيب؟)).صاح أحدهم .
مازلت أذكر أنني طبيب ،من المبكر نسيان ذلك !لكنني سأنسى يوما ما .
((أنا)).. قلتها مجازا...

(17)
((كم كان عمرها عند أول نوبة صرع ؟))سألت الشاب رئيس الجوقة الذي ركع يصلي أمام تمثال المسيح المصلوب في الغرفة التي نقلت إليها المرتلة المريضة ،كانت غرفة نوم مخصصة لإحدى الراهبات .
رفع رأسه بوهن وأجاب وهو يتقطر عرقا:
-((كانت في الخامسة ،هناك سبب لذلك ،أختي ليست مجنونة )).
اقتربت منه ، ضممته وأخبرته بأنني طبيب وأعلم أن أخته ليست مجنونة وإنما فقط مصابة بالصرع .
-((منذ اليوم الملعون )).. قالت الفتاة الغريبة التي اتخذت من طاولة في إحدى زوايا الغرفة كانت تذرف دموعها بصمت .
جمعت شعرها العادي إلى الوراء ،أشعلت سيجارة ،وتسمرت بالحائط .
-(( من تكونين لها أيتها الآنسة ؟)).سألت .
-((أختها العاهرة ... هه )).قالت بسخرية ثم بكت مثل طفلة صغيرة
دخلت الراهبة الغرفة وأسرعت متجهة صوب الفتاة الغريبة ،خمنت أنها ستطردها أو تصفعها أو شيء من هذا القبيل ،لكنني ذهلت بما رأيته ،عانقت الراهبة الفتاة الغريبة وهدئت من روعها ،ثم قالت :لطالما حميتكم لا تقلقي .. ثم تابعت موجهة حديثها لي :((ستساعدني في إيصالهم إلى المنزل )).
بعد أن أفاقت الفتاة ، توجهنا جميعا إلى المنزل الذي يقع خلف الكنيسة ،كان منزلاً متواضعاً لكنه مرتب ونظيف ،لاحظت مكتبة ضخمة في المدخل تزدهر بالكتب والأناجيل وتماثيل المسيح والعذراء .
دخلت الراهبة مع الفتاتين إلى غرفة المرتلة لتبديل ملابسها والسهر على راحتها وجلست أنا والشاب في الصالون صامتين .
لم يدم صمتنا طويلاً ،فقد بدا الشاب بأنه سعيد جداً لوجودي وقال بأنني أذكره بوالده الذي فقده منذ سنوات ثم أصر على أن يريني مكتبته ،دهشت للتناقض الواضح بين صغر سنه وكمية الكتب التي يقرأها ،كانت المكتبة مقسومة لنصفين ،نصفه هو ويشمل الأناجيل والكتب الدينية بالإضافة لروايات ديكنز وإميل زولا ودوستوفيسكي وتولستوي وتشيخوف وشارلوت واميلي برونتي وهمنغواي وألبير كامو والكثير ...
قال أن القراءة هي حياته ،منذ أن فقد والديه ومنحتهما الكنيسة هذا المنزل للعيش والهرب من .... لم يكمل كلامه هنا ...
بدا لي وكأنه يرغب في التحدث والإفضاء عن ذكرياته ،في الجانب الآخر من المكتبة وضعت روايات مكسيم غوركي وبقية أدباء الثورة البلشفية ،قال بأنها كانت لأخته الكبرى قبل أن تغادر إلى إيطاليا ...
-((وماذا قصدت أختك باليوم الملعون ؟)) .سألته .
هنا ارتجف وتلعثم وبدأ بالسعال بشكل اختناقي ،احمرت وجنتاه وبرزت عروق رقبته وتجهش بالبكاء ،ثم أمسك بقوة بيدي وفقد توازنه ،أسندته إلى كتفي ومشيت به صوب الأريكة .
سمعت الراهبة والفتاة الغريبة الصراخ وخرجتا هرعتين ..
-((ماذا حدث ؟))صرخت أخته بشراسة .
-((لاأعلم سألته عن اليوم الملعون ......!!)).
لم تدعني أكمل جملتي حتى قالت :((اليوم الملعون إنه اليوم الذي متنا فيه ثلاثتنا ..)).
سحبتني الراهبة من يدي وهي تتمتم بكلمات لم أفهم منها شيئا"سوى وعد بأنها ستحكي القصة كاملة..
فكرت في أن ما يهمني هو ما سيحدث للشاب وليس القصة !
جلست الفتاة الغريبة بعد أن اطمأنت بأن أخاها قد غط في نوم عميق ،تسرد لي قصة اليوم الملعون .
((كانت عائلتنا من العائلات ميسورة الأحوال في البلدة ، كان لأبي مصنعا صغيرا للنبيذ ومجموعة كروم للعنب ،كنا نسكن في منزل كبير نسبيا ،كان أبي غير اجتماعي من الرجال الذين يحبون قضاء أوقاتهم في العمل فقط ، ما زلت أذكره بلحيته السوداء الطويلة وقبعة رعاة البقر التي تخصه ،بنطاله البني المصنوع من الجلد الأصلي ،كان يقضي كل أوقاته مع عماله ،حتى أنه لم يكن لديه أخوة أو أصدقاء من رجال البلدة سوى عماله الذين كانوا بمثابة أخوته وصديق واحد ثري ، مات هذا الصديق مخلفا ديونا باهظة للعائلة ،اكتشفت زوجته أنه كان يبددها في الخمر والقمار ، ثم تم الحجز على ممتلكاتهم ،فجاء أبي بهم ،وأسكنهم في منزلنا في ملحق فارغ ،عاشت المرأة بيننا وكانت تعتني بجدي المقعد ولم تكن تناديه سوى بأبي ،ونحن بأولادي . كان لديها ولدان لا يعرفان سوى السكر وإيقاظ الناس بالأغنيات الرديئة والسباب.
كان أبي يهتم بتلك العائلة لدرجة أزعجت أمي ومرة اتهمته بقضاء أوقات ممتعة مع تلك المرأة وكلفها ذلك غياب شهر عن أطفالها وبيتها .. كانت المرأة تحتقر العمال وتعاملهم لفظاظة وتتعمد سماعهم لها وتتقزز من رائحتهم .
عندما توفي والدينا بحادث سير رهيب ،تحولت تلك المرأة اللطيفة الأم الثانية لنا إلى أخرى ،كانت تشتم جدي وتضربه إن رفض أن يأكل ،تحشر الملعقة داخل تجويف فمه بقسوة حتى تدمى لثته ويسيل خليط الدماء والحساء على ثيابه ،كان دوما صامتا ،عندما يراني عائدة على المنزل يضحك ببلاهة ويرقص قدميه ويشير إلى كأس الماء ، أعطيه إياه فيشربه بنهم كما لو أنه يشعر بظمأ أزلي .

كان ولداها يسكران كل ليلة ويرميان زجاج النوافذ بالحجارة ويصرخان : حثالة !برجوازيون!سنتبول عليكم يوما ما !
كنت أغلق جميع الأبواب وأضع خلفها أثقل الأثاث ،أضم أخوتي وننام كلنا في سرير واحد .
في ذلك اليوم الملعون كان جدي قد توفي حديثا،وعندما كنت عائدة من جامعة المدينة حيث أدرس الصحافة ،كنت قد أوصيت أخوتي بعدم البقاء قي المنزل ،وصلت وأنا أسمع بكاء وصراخا قادما من الصالون ،ركضت مسرعة ،شاهدت أختي مغمى عليها والعرق يتصببها ،كان أحد أولاد تلك المرأة قد عرى نصفه السفلي ووضع يد أختي الصغيرة حول ذكره ويصيح هائجا ((هيا افعلي ما أمليه عليك)).
والآخر كان يحاول الاعتداء على أخي واضعاً كفه على فمه ليمنعه من الصراخ . هرعت صوبه وقمت بعض يد المعتدي دون أي شفقة ،ركلني بقدمه.،فسقطت أرضا"نجحت في النهوض ،هربت كدجاجة خلفها ذئب وصرخت في الحي :إنهم يقتلون أخوتي ..
جاءت إحدى العاملات ونادت على زوجها الذي ولج إلى البيت لكن الحقيرين كانا قد أفلتا . شاهدهم وهم يغلقون أزرار بنطالاتهم ويهربان باتجاه المزارع .
في ذلك اليوم بقينا في الكنيسة ،نمنا في غرفة هذه الراهبة الطيبة ،كان أخواي صغيران تكفلت بتربيتهما ،كنت قد انتسبت للشيوعية مع أصدقائي في الجامعة ،قرأنا الأدب البلشفي وخرجنا مظاهرات ضد الليبرالية والطبقية .
كنت ساذجة وقتها ،أدرك اليوم أن الشيوعبة كانت مذهبا اقتصاديا بحتا ، ماذا فعلت الشيوعية أمام الظلم الذي وقع علينا؟،أي تحرر قدمت ؟،اليوم هم يتسكعون بسياراتهم التي تصدح منها ذات الأغاني الرديئة ،وأمهم ترتدي أفخم الملابس من نقودها غير المشروعة ومازالت تلوك بعلكتها بالطريقة البربرية نفسها .
وفوق ذلك أصبحت في نظر أهل البلدة عاهرة وبدأت القصص تؤلف عن هربي إلى إيطاليا برفقة ذلك الشاب الإيطالي قريب القس الذي جاء يقضي إجازة في بلادنا .
كان ذاك اقتراح الراهبة أن أسافر معه وأعيش في منزل أقربائها وأتابع تعليمي في روما لأعود صحفية جديرة ولأتخلص من مضايقات ذاك البائع الخرف الذي كان يريد الزواج مني . فوجئت به اليوم يمنعني من دخول الكنيسة بكل وقاحة ،صفعته .. تصبحت متأكدة أنه من نسج تلك القصة عني نظرت إلى الراهبة نظرة امتنان .
مسحت الراهبة دمعة من عينها على وشك السقوط وقالت : من تراهم أمامك هم تجربة أمومتي التي حظيت بها دون مخاض أودنس ، كنت أبتسم عندما يغطسن شعرهن في ماء القرابين ويتحدثن مع التماثيل ،أقبل ذاك الفتى عندما يجمع شموع الشعنينة ويضيئها سرا في غرفته ،كنت أراقب تلك الصغيرة الغافية وهي ترتدي ثياب الراهبة أمام المرآة وأبكي فرحا".أعلم أن القوانين التي تفرضها الكنيسة عليهم قاسية لكنهم عندي مستثنون من كل شيء ، أعترف أنني من أجلهم فقط أتقمص وجهين إن لزم الأمر !
فكرت أنه لو كانت أمي كهذه الراهبة لتغيرت حياتي إلى الأبد ...





(18)
دقت طبول الحرب في البلدة ، لم يعلم أحد من بدأ بفتح النار على الآخر ،الشيوعيون وعصابات المهربين أم ما يسمون أنفسهم الجهاديون الإسلاميون ،يقال أن الإمام الجديد كان يجمع مناصريه من مسلمي البلدة في الفسحة أمام حي المسلمين ويخطب بهم عن أحلام دولة سياسية مسلمة وعن ضرورة الجهاد في هذه البلدة .وهكذا بين ليلة وضحاها ،أمطرت السماء سلاحا،الطرفان يفتحان النار والقذائف والرشاشات وينظمان عمليات القنص تجاه بعضهما ، يقال بأن الإسلاميون جاؤوا بأسلحتهم من القرى المسلمة المجاورة و العصابات المتدثرين بالشيوعية جاؤوا بالسلاح المهرب عبر الحدود .تسل المسلمون ممن هم ضد هذه الحرب ليلا ولجئوا بالأحياء المسيحية منهكين جوعا"،فتحت بيتي للإمام السابق وابنته ،تغيرت كثيرا،ارتدت نقابا ،وزالت تلم البصمة التي تخصها في الملابس والتبرج .
كان والدها دائم الصمت ، قالت بأنه منذ اندلعت الحرب توقفن الكلام والمشي ،وبدأ بالهزال .
مات بعد أيام وقمنا بدفنه في الحديقة الخلفية لمنزلي ،كان من المحال الوصول إلى مقبرة المسلمين ،بكت ابنته بشده ،بدت ضعيفة ومكسورة ،الشاب الكردي كان يواسيها ،تمنيت لو أنني من قمت بذلك . تحدثنا عن مصير فتيات التطريز ،أخبرتني بأن واحدة منهم لاقت مصيرها إثر قذيفة سقطت على منزلها ،والأخريات تفرقن بين البلدات المجاورة ، واحدة منهن أضاعت طفلها .
في صباح يوم هادئ كأنما أعلنت فيه الهدنة، غادرا ... ودعاني بغصة، ضرب الكردي على كتفي وأخبرني أنني كنت رجلا حقيقيا معهما .
قالا بأنهما سيتزوجان ويعيشان في قرية بعيدة عن هنا وعن بلدته ،بعيدا عن الموت .
بقيت متسمرا لساعات في مكاني بعد مغادرتهما ، صنعت ساندويتشات الزيت دون الملح أو أي شيء آخر وأيقظت ابن أختي ،بدأت الدكاكين والمحال تخلو من بضاعتها .




دعاني صاحي الفندق وزوجته للمكوث في الفندق ،قالوا بأنه بعيد نسبيا عن ساحة المعركة ، انتهزت فرصة الهدنة وقبلت عرضهما ،عندما وصلت هناك شاهدت فرقة العازفين ،كانوا يغنون !تغيرت كلماتهم ،صارت خشنة والإيقاع بدا حزينا". كانت أغانيهم في معظمها رثاء لمن ماتوا .
شاهدت هناك ابنة الحارس ،ازدادت قسوة ملامحها ،قالت بأنها جاءت لتعرف مصير قضية إثبات نسبها ،كانت الزوجة المختلفة من استلمت هذه القضية .
غادرت الزوجة المختلفة مساء إلى الجمعية ، قالت بأن عليها أن تهتن بقضية من تعرضن لتحرش جنسي خلال هذه الحرب ،لم تعد .
لحق زوجها بها لما تأخرت ولم يعد هو كذلك . اختفيا ولم يعلم بهما أحد .
ثمة مجنون يقضي كل وقته أمام الفندق ،كان يشير بإبهامه دوما"نحو الأرض ويقول : ((السيد والسيدة ذهبا إلى الأسفل ))!
بكت ابنة الحارس وندبت حظها،ثم التزمت الصمت وراحت تهتم بنظافة الفندق ، كانت آخر جملة قالتها:كنت دوما"بلا هوية ،وسأبقى هكذا .
غادرت وابن أختي الفندق وقصدنا الكنيسة في يوم هدنة آخر ، تغيرت الشوارع ،كأنها بلدة في الجحيم .
كانت الكنيسة هي المكان الوحيد الذي لم يتغير ،قالت الراهبة أن هذا نتيجة للصلوات المكثفة التي يقيمونها يوميا،سألتها عن الشاب رئيس الجوقة وأختيه ، أخبرتني بأن الصحفية غادرت إلى إيطاليا واصطحبت معها أختها الصغرى لتلقي العلاج ،الشاب رفض السفر،تشاجرا كثيرا ولكنه استطاع إقناعها بإخبارها أن حريته لا يمكن أن يجدها إلا في هذه الكنيسة .
ومنذ ذلك اليوم وهو يلازم كرسي الصلاة ،نصلي أحيانا معا لعودة السلام .
في تلك الليلة استيقظت على حلم مزعج كانت أرمينيا فيه تصلي وتذرف الدموع والقرابين تفيض بالدماء ،تشكل سيولا تجري في الكنيسة بين مقاعد المصلين وتلوث ثوب أرمينيا .
دخلت الكنيسة لأتفقد الشاب ، اقتربت منه ،لم يحرك ساكنا،تلمسته ،كان باردا ، سقط بين يدي ، كان يهلوس بعبارات غير مفهومة ،مددته على أحد المقاعد ، بحثت في صيدلية الكنيسة عن ميزان حرارة ،قمت بقياس حرارته ، كانت (41) درجة ، بحثت عن أدوية خافضة للحرارة في الصيدلية ، ولم يتبق منها سوى حبة واحدة ،أعطيته إياها وصنعت كمادات باردة له ،تناقصت حرارته قليلا وتوقف عن الهلوسة ،نظرت إليه ،وقلت له :((عليك أن تبقى حيا" أيها الفتى ،ثم تذكرت عبارة جدتي الكبرى ( مايهم أنك حي ، ودورك الآخر يأتي حينما يحين ذلك ).
غفوت من شدة التعب على مرسي صلاة ، أيقظني صوت انفجار ،هرعت بسرعة خارج الكنيسة ،كان صوت قذيفة سقطت في البركة وسط الدير ، ركض الباعة مذعورين ،صار الماء يتدفق نحو الخارج وملأ فسحة الدير ، حاملا معه الأزهار والقلادات ،لاحظت أن أحدا لم يتأذى ،شعرت بيد تربت لى كتفي ،التفت إلى الوراء ،كان الشاب قد شفي ،ابتسم ابتسامة كلها اطمئنان وقال: صلواتنا مستجابة ،لا تقلق.



(19)
كان يوم الميلاد عندما استيقظت على حلم ستتغير معه الأمور من الآن فصاعدا .
لبست وابن أختي أجدد مالدينا من ملابس ونزلنا إلى الكنيسة ،كانت الصلاة قد انتهت ،أخبرت الراهبة أنني لم أسمع صوت الجرس بسبب القذائف والرصاص .لم أكذب ، لكن ربما لم تصدقني .اجتمعنا ظهرا على الغداء في منزل الشاب .
جلسنا بجانب الشجرة المزينة بعد أن فرغت الصحون من لحم الدجاج ، الذي خبأته ابنة الحارس خصيصا"لهذا اليوم ،تبادلنا الأحاديث كعائلة ،الراهبة وأنا ، الشاب رئيس الجوقة ،وابنة الحارس وابن أختي ، ناجون من الحرب يحتفلون بالحياة مؤقتا" .
-((ألم تسمعوا الأخبار اليوم؟ ، يقال بأنهم هدموا جدار برلين وأعادوا توحيد ألمانيا )) قالت ابنة الحارس .
كنت أنا والشاب نتناقش في شعر بوشكين وبودلير ،سمعت ما قالته وشعرت بشيء ما لم أستطع تحديده .
غفت الراهبة على الكرسي الهزاز ،أسرع ابن أخني بإحضار غطاء وقام بتغطيتها .
قمنا بوضع أسطوانة كانت قد نسيتها التخت الكبرى خمنا أنها لجان فيرا .
في المساء ذهبنا جميعا"إلى الكنيسة لحضور القداس المسائي ،أوقفني رجل في الطريق ليخبرني أن قذيفة سقطت في متجري ، ذهبت والشاب رئيس الجوقة لتفقده .
كنت قد تلقيت رسائل تهديد تعود إلى ما قبل الحرب ،كتب فيها أن المبادرات الفردية غير محبذة ،لكنني لم أخبر أحداً بها .
وصلت إلى المتجر ،كانت الدمى جميعها قد سقطت وتشوهت ، بعض منها تفحم ، ،جثوت على ركبتي علني أنقذ بعضا منها ،مر بائع قلادات وأزهار بجانب المحل ، عرض علينا بضاعته قائلا:((زهرة لمن بقي حياً؟)).
حدقت به بصمت ، وسرحت في حلم اللبارحة ، كان حلما مختلفا ،وقفت فيه أرمينيا على قمة عالية، تطاير شعرها مع النسيم،كانت تمسك بإحدى يديها بابن أختي ، وبالأخرى بيد الشاب رئيس الجوقة ، وتنظر بحنان إلى ابنة الحارس .كانت ملامحها تتبدل وتبدو أوضح ،تلاشى شعرها الطويل وقسماتها الأنثوية ، ليظهر وجه ذكوري مألوف ، ذو جبين طفولي ، اقترب مني حتى التصق بي ففتحت عيني ...
منذ تلك اللحظة فقط ، بدأت في الخطوة الأولى لمعرفة نفسي ....

((انتهى )).



#الحسين_سليم_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لو عاد بي الزمن
- حرب رشيدة
- شقاء اسماعيل
- ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد (منقحة)
- ماسة (منقحة)
- اعتذارات الديكتاتور
- ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد
- ماسة


المزيد.....




- -الكتابة البصرية في الفن المعاصر-كتاب جديد للمغربي شرف الدين ...
- معرض الرباط للنشر والكتاب ينطلق الخميس و-يونيسكو-ضيف شرف 
- 865 ألف جنيه في 24 ساعة.. فيلم شقو يحقق أعلى إيرادات بطولة ع ...
- -شفرة الموحدين- سر صمود بنايات تاريخية في وجه زلزال الحوز
- من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟
- الحلقة 23 من مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة الثالثة والعشرو ...
- أسرار الحرف العربي.. عبيدة البنكي خطاط مصحف قطر
- هل ترغب بتبادل أطراف الحديث مع فنان مبدع.. وراحِل.. كيف ذلك؟ ...
- “أخيرًا نزله لأطفالك” .. تردد قناة تنة ورنة الجديد 2024 لمشا ...
- باسم خندقجي أسير فلسطيني كسر القضبان بالأدب وفاز بجائزة البو ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحسين سليم حسن - ما يهم أنك حي