أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحسين سليم حسن - شقاء اسماعيل















المزيد.....



شقاء اسماعيل


الحسين سليم حسن
كاتب وشاعر وروائي


الحوار المتمدن-العدد: 7815 - 2023 / 12 / 4 - 00:36
المحور: الادب والفن
    


الجزء الأول
1930 _1941





















1

ما زلت أذكر كلماتك الأخيرة ،حينما وقفت ممسكاً ذراعي بيديك الهزيلتين ،كنت ترتجف ،غالباً ليس من الخوف ،لكن كان من الصعب أن أخمن شعورك يومئذٍ .
عيناك كانتا تدمعان وعروق جبينك تنبض من الحماس أو ربما من نشوة الانتقام ،قلت لي محاولاً الابتسام : (اذهبي ،خذي طفلنا واذهبي ،سوف تقلك سيارة مرسيدس لم يتسن لأي ممن عاملوك بقسوة أن يستقلها ،سيصحبك الكولونيل (باتريك )إلى بلدةٍ لا ينقصها شيء ،سوف تعيشين في الجنة ،أو لنقل في أوروبا ..)
صححت جملتك وتذكرت أنك قد رميت كل ماتربيت عليه في صغرك .
(أنا لست مثلهم يا لطيفة ،أولئك الغارقين في ظلمات الجهل ،اسماعيل ولدهم قد توفي ،أنا الآن اسماييل ،القوي والمثقف ،المهذب الذي يتكلم بلباقة كالفرنسيين ،الجندي في قوات الشرق الخاصة المشرفة .
أوصيتني (لطيفة ،كوني متحضرةَ دوماً ،فخورةً والأهم من هذا كوني سعيدة ،سيكون لديك الكهرباء دوماً ،وسيدرس جوان في مدرسة الإرسالية الفرنسية ،سيجعل منه الفرنسيون رجلاً راقياً !).
كنت تخبرني بكل هذا مدعياً نشوة الانتصار ،إلا أن عينيك لم توحيا لي بتاتاً بالسعادة ،كنت سعيدةً من أجلك ،بعد أن وصلت غايتك ،وذلك لأنني أعرف حجم معاناتك إلا أنني أشفقت عليك لعدم بلوغك سعادتك المنشودة .
وكما أمرتني ،غادرت بلدتنا (الوردية )ومضينا بعيداً عن القرداحة ،أنا وجوان في سيارة الكولونيل باتريك قاصدين تلك القرية المسيحية على الحدود التي رسمها الفرنسيون مع تركيا .
قلت بأنك ستلحق بنا بعد أن تنهي مهمتك في ردع الاحتجاجات العمالية التي قام بها الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان ،ناسياً بذلك ماضيك المليء بالصعوبات يا اسماعيل .
كنت تقوم بكل ما يمليه الفرنسيون عليك دون أي تمحيص ،إلى الدرجة التي أصبحت أشك فيها وأسأل نفسي :هل حققت ذاتك فعلاً يا اسماعيل ؟ هل يعجبك ما أنت عليه ؟
أعلم كم ظلمك والدك الشيخ علي رحمه الله ،فقد أهمل والدتك والتفت إلى زوجته الأولى لمجرد أن رزق أراضي التبغ كله كان ملكها ،واضطررت أنت للعمل في بيع الخضار والفواكه في المدينة ،متحملاً كل إذلال أكابريتها لك ونعتهم لك بالفلاح .
(لقد خلصني الفرنسيون من العار والذل يا لطيفة ،كما خلص المسيح البشرية )
كنت ترددها مراراً علي في كل ليلة قبل أن تغفو ،كما أعلنتها على والدك الشيخ عندما ضربك وطردك من مجلسه وغضب عليك ثم حرمك من كل ورثته .لقد قاتل والدك إلى جانب الشيخ صالح العلي فكيف له أن يتقبل ابنه وهو يعمل في صفوف الفرنسيين ويتحدث بلغتهم ،ويتردد على إرسالياتهم ليستمع إلى المبشرين بالكاثوليكية هناك .
(المرتد ،عدو الإسلام ،حتى أننا لا نقبل بتسمية الفرنسيين الكفار المستعمرين لنا بالعلويين ،نحن مسلمون ) كان والدك الشيخ علي يصرخ في وجهك وهو يرميك بفردتي نعله .
عندما رست السفن الفرنسية على شاطئ الساحل السوري ،كنت أنت يافعاً منهكاً يملؤه الغم والبثور ،تعمل من الفجر إلى النجر في حقول التبغ والليمون ،بينما يأخذ أولاد زوجة أبيك كل شيء ،وتعود أنت في المساء إلى حضن والدتك (زهرة الجدباء )كما كانوا يلقبونها في القرية ،كي تخفف عنك آلام قدميك .
وإن كان لكلٍ من اسمه نصيب كما يقولون فإنك كنت كمثل طفل (هاجر)،منبوذاً وكسيراً ومطروداً من نعمة والدك ،إلا أن وعد الله لك حقٌ بأن يمدك بالثروة والذرية الصالحة .
أعلم أنك لم تعد تكترث بكل هذا الكلام ،وأنه لا يكفي سوى أن تعلن على الملأ مسيحيتك كي ندرك انغماسك الشديد في المعتقدات الكاثوليكية .
(سجلي ابننا في مدرسة الإرسالية الكاثوليكية ،كي يداوم على التحدث بالفرنسية ،فهي لغة مستقبله ) كانت آخر وصاياك .
أهديتني كتاباً لأناتول فرانس بعنوان (الزنبقة الحمراء )كنت قد ترجمته أنت بخط يدك وقلت لي بأنه سيكون خير صديقٍ لي في رحلتي ،ولكوني لا أتقن الفرنسية فقد قضيت طوال الطريق غارقةً بين صفحاته ولم أتكلم قط مع الكولونيل باتريك الذي لزمتني بأن أتبع مشورته في كل أمر دون أية معارضة .
عندما ولجنا تلك القرية البعيدة التي كان الفرنسيون قد اهتموا بها أشد الاهتمام وشرعوا في رصف الحجارة البيضاء على الطرقات ،وبناء القرية على الطراز الفرنسي بعد اعتناق أهل البلدة للكاثوليكية على أيدي الآباء الفرانسيسكان القادمين من روما والذين شغلوا رجال البلدة في بناء دير كاثوليكي مقابل أجور باهظة الثمن .
لحظة ولوجنا تلك القرية ،راح بعض السكان يتفرجون علينا من شرفاتهم ،منجذبين إلى سيارة الكولونيل باتريك الحديثة الصنع ،فهم كانوا غالباً قد اعتادوا على رؤية السيارات من قبل في تلك البلدة التي صارت معقلاً آمناً للفرنسيين إلا أن سيارة الكولونيل كانت حديثة الطراز للغاية .
أوصلني الكولونيل باتريك إلى فندقٍ خاص بالفرنسيين في المنطقة التي يقام فيها الدير ،وسلمني رزمة من النقود التي أرسلتها إلي يا اسماعيل عبر أحد فروع (بنك سوريا ولبنان )وكنت قد أوكلت الكولونيل باتريك بأن يدير صرفي للمال كل فترةٍ كما تقتضي حكمته .
لم تثق بي يوماً يا اسماعيل ،ولم تجهد في تعليمي الفرنسية كي لا أدخل عالمك الجديد ،كنت تحبني كعربية وكعلوية ،الجاهلة عن عالمك الآخر ،عن اسماييل وما يقوم به وما يحلم بالوصول إليه .
(اسماييل )الذي كنت تجهل تماماً ما كنت أعلم عنه .
أتظن بأنني قد غفلت عن توقيعك لذلك المخطوط الذي يصوت لصالح قيام الدولة العلوية المستقلة ،أو عن وشاياتك للفرنسيين عن مخابئ ثوار القرداحة .
كنت دائماً تحاول أن تظهر أمامي بوجهك القديم (اسماعيل )وأنت تقدم لي زجاجة عطر من نوع شانيل 5 من إنتاج كوكوشانيل ،وتمسك بيديك خدي وتشدهما رغماً عني .
وها قد غادرت هذه المرة ،وجعلتني ككل مرةٍ قلقةً عليك ،خائفةً على (اسماعيل )و (اسماييل )كليهما ،ماضيةً لوحدي نحو (مستقبلنا ) على حد تعبيرك .
)المستقبل للعلمانية ،للتأورب ،للغات التي تحتفي بالحياة ،انظري يا لطيفة ،كيف انتصر كمال باشا أتاتورك في تركيا ،وحول تركيا إلى جنةٍ أوروبية حقيقية .
اذهبي إلى تلك القرية على الحدود التركية ،وانضجي أنت وجوان مثل أوروبيين وديعين وسألحق بكما ونبني مجدنا ،لقد أمرنا المفوض السامي أن نقمع تلك الاحتجاجات العمالية ،فالشيوعيون أعلنوا موقفهم ضد الوجود الفرنسي وهم يشكلون عائقاً في وجه تقدم بلدنا ونهوضها الحقيقي من ظلام عصورها العثمانية ،لقد وزعت فرنسا الأموال والأراضي على من يستحقها ،و على من تجد فيهم الجدارة ومن يليقون بالحضارة التي جلبتها فرنسا إلى هذه الأرض ،وشجعت الصناعات اللازمة لذلك .
كنت تبرر لي وأنا أعلم تمام المعرفة أن حماسك لقمع تلك الاحتجاجات مرده إلى تواجد شقيقك (طلعت )في صفوفهم والذي كنت حاقداً عليه منذ الصغر لتدليل والدك له .
ثم تردف مبتغياً تغيير الموضوع لما تلمح في عيني انكشافك لي :
(الكولونيل باتريك سيكون خير رفيقٍ لكما في رحلتكما ،ثقي به ونفذي أوامره )!
ها قد وصلنا إلى قرية القنية على الحدود التركية السورية كما أردت وها أنا أكتب إليك من غرفتي في الفندق الخاص بالفرنسيين الذي أنزلنا فيه الكولونيل (باتريك ).
جوان يلهو بقربي وبين يديه زجاجة عطر الشانيل 5 ،التي أصبحت لا تهمني مطلقاً ،كما لم تعد تهمني أنت ربما ،فقد نمت لدي رغبةٌ جديدة بعدم رؤيتك مجدداً رغم قلقي بشأنك .
لقد قمت بكل ما أمليته علي بكل رضا ،لكن ليس لإرضائك إنما من أجل جوان ،فقد كنت محقاً بأن حياته هنا ستكون أفضل بكثير .
رافقنا الكولونيل باتريك اللبارحة إلى مدرسة الإرسالية الكاثوليكية ومررنا بجانب عمال القرية المنهمكين في بناء الدير .
توقف الكولونيل باتريك فجأة ليقصد رئيس العمال ويسأله عن موثوقية جميع من يعمل في بناء هذا الدير ،وإن كان ثمة يدٌ غريبةُ يشك فيها ،أي عمالُ من السنة المناهضين للوجود الفرنسي والذين يعتبرون فرنسا دولةً كافرةً ومستعمرةً على حد تعبيره .
فطمأنه رئيس العمال موضحاً له أن العمال جميعهم من سكان القرية المسيحيين الذين اعتنقوا الكاثوليكية وبعضُ منهم مازال أرثوذوكسياً لكن يؤتمن له وليس كمثل الروم الأرثوذوكس الذين يقطنون المدينة ويعارضون الوجود الفرنسي ويقفون إلى جانب السنة لحماية تجارتهم وحيواتهم المحافظة .
وأن بعض العمال أصلهم من انطاكية ،نزحوا من اللواء قبل دخول الفرنسيين بعد اضطهادات الجيش العثماني للأرمن هناك ،ثم نادى على أحد عماله وقدمه لي وللكولونيل ،وكان يدعى (هاروت ) شعره طويل كشعر فولتير الكاتب الفرنسي الذي كنت تقرأ لي دوماً شيئاً من كتبه .
قابلنا بعدها الراهبة الإيطالية (باتريسيا )وأنهينا معاملة تسجيل (جوان )في الإرسالية الفرنسية .
تكلم الكولونيل باتريك مع الراهبة بالفرنسية ،ولم أفهم شيئاً من حديثهما ،شعرت لبرهةٍ كما لو أن جوان ليس ابني وإنما أصبح يخصهم وحدهم وأنا مجرد مربية خرقاء جاهلة له .
ثم طلب مني الكولونيل أن أوقع على الأوراق بصفتي والدة (جوان )وولية أمره الوحيدة ،وابتسمت لي الراهبة موضحةً أنها قبلت بتسجيل جوان في الإرسالية استثنائياً فالإرسالية عادة لا تقبل في صفوفها سوى أولاد المسيحيين .
(ولية أمره الوحيدة )بقيت تلك الجملة تنخر رأسي طوال طريق عودتنا إلى الفندق .
كيف تزجني في كل هذا يا اسماعيل ؟وتحملني مسؤوليات كبيرة علي ،وترسلني إلى مكان حيث كل ما يحيط بي جديد كلياً علي ،إنني حتى لم أفهم ما تحدثا به عن ابننا ،كما لو أنني غريبةٌ أو منبوذة .
منذ استيقظت اليوم شرعت بالكتابة إليك في دفتر مذكراتي ،قد أرسلها لك عبر البريد ،فقد أدخل الفرنسيون تلك الخدمة إلى هذه البلدة ،أو قد أحتفظ بكل هذه الأسرار لنفسي .
سأصحب جوان إلى الإرسالية برفقة الكولونيل بعد وقتٍ قصير ،ثم بعدها سنتناول وجبة الغداء في مطعم الفندق برفقة صديقة للكولونيل تدعى (سيمون )والتي ستعطيني دروساً في تصميم الأزياء بما أنك كنت قد أخبرته مسبقاً بأنني أخيط الملابس منذ صغري ، وربما قد تعلمني الفرنسية ،وقد أرسلت إلي اللبارحة مجموعة من الفساتين لأرتديها عند خروجي ،وملابساً لجوان بدا فيها مثل فرنسي متحضر على حد تعبيرك .
رغم كل عتبي عليك ،إلا أنني أنتظر قدومك بفارغ الصبر ،فأنا غريبة عن كل ما حولي ووحيدة ولدي شعورٌ كشعور جوان وهو يرتاد الإرسالية لليوم الاول في أول خطوةٍ له على طريق التحضر !













2

كانت لطيفة منشغلةً في إضفاء اللمسات الأخيرة على مجموعة تصاميمها التي قضت شهوراً عدة غارقةً في تصميمها عندما تلقت خبر قدوم زوجها اسماعيل إلى قرية القنية ونقله مصاباً إلى مستوصف الدير .
تركت كل مابين يديها من تصاميم ورسومات ومجلات (les modes ) الفرنسية التي تعرض تصاميم قبعات كوكوشانيل التي أهدتها إياها (سيمون )صديقة الكولونيل باتريك التي قضت عاماً كاملاً وهي تدربها وتعلمها مبادئ تصميم الأزياء قبل أن تغادر لإدارة البوتيك الخاص بها في شارع جان دارك في بيروت عاصمة دولة لبنان الكبير والذي أطلق عليه هذا الإسم تكريماً للقديسة جان دارك .
حملت جوان بين ذراعيها وغادرت غرفة الفندق المكتظة بالخيوط وأقمشة الكشمير والساتان ،برفقة (هاروت ) العامل الأرمني الذي كلف بإيصال الخبر إليها والذي منذ قدومها إلى البلدة أصبح مسؤولاً عن تلبية احتياجاتها ومرافقتها في نشاطاتها الكثيرة سواءً إلى الجمعية النسائية التي ضمتها إليها سيمون والتي لا تضم عربيةً غيرها ،أو إلى صالة (بونابرت )حيث تجتمع زوجات الضباط الفرنسيين ليشربن الشمبانيا والتيكيلا ،ويتحدثن عن الموضة ويطالعن الجرائد السورية واللبنانية الموالية للفرنسيين والصحف الفرنسية مع بضعة النسوة السوريات أو اللبنانيات القادمات من دولة لبنان الكبير ،خريجات الجامعة الأميريكية في بيروت ،والإنصات إلى إحداهن وهي تلقي شيئاً من أشعار بودلير أو تحكي عن أمجاد القائد العسكري الأعظم عبر التاريخ (نابليون بونابرت ).
وكان (هاروت )يرافقها أيضاً عندما تستدعيها الراهبة باتريسيا في حالة طارئة ،عندما يعلن جوان عصيانه ويجهش بالبكاء رافضاً كل ماحوله في الإرسالية ،أو إلى الدير لمهاتفة زوجها عبر الهاتف الشمعدان الذي يملكه الدير .
كان هذا اقتراح الكولونيل (باتريك )بأن يصبح هاروت خادم لطيفة المخلص كونه لا ينقصه سوى الأعضاء الأنثوية كي نعتبره أنثى على حد تعبير الكولونيل باتريك .
عندما وصلا إلى المستوصف شاهدا جنديان فرنسيان يحرسان غرفة الاستشفاء واللذان أخبراهما بالفرنسية التي أمست لطيفة تفهمها بأنهما لا يستطيعان المكوث بقرب اسماعيل لأكثر من خمس دقائق .
ولجا الغرفة حيث كانت الراهبة الطبيبة تهتم بجروح اسماعيل ،دنت لطيفة من سرير اسماعيل وجلست بقربه وراحت تمسد بيدها على جبينه فأشاح بنظره عنها .
كان قد تغير كلياً وأصبح نحيلاً للغاية ،وفقد وجهه استدارته وإشراقته ،وبرزت عظام وجنتيه ،مثل جثة .
كان ثمة استسلام في عينيه ،بحثت لطيفة فيهما عن تلك الروح الثائرة ،اللاهثة خلف الانتقام والطموح والقوة ،إلا أن ذلك كله كان قد اختفى .
همست في أذنه :ماذا الآن يا اسماعيل ،لم لا يسمح لنا بأن نبقى بقربك سوى لوقتٍ قصير ؟ ماالذي فعلته الآن ؟ لا تقل لي بأنك ندمت على كل شيء وتراجعت ؟
لم ينبس اسماعيل ببنت شفة ،وظل محافظاً على وضعيته ،مثل ميت عيناه ترمشان .
ثم استجمع قواه فجأة ونظر إلى لطيفة قائلاً :
بالطبع لا ،لم أتراجع ،وسأحارب أولئك الجهلة حتى آخر رمق ،حتى تملأ الأنوار بلادنا ونقضي على التخلف والغباء والتعصب .
أومأت لطيفة برأسها والتزمت الصمت بعدها وسافرت بها ذاكرتها إلى تلك الأيام التي كانت تنصت فيها إليه وهو يخبرها بأشياء تشبه ما يقوله الآن والتي جعلتها تقع في حبه وتلهث إلى مقابلته بين الحقول أو حيث يختبأ هرباً من الجيش العثماني الذي كان يلاحق الشبان لتجنيدهم في صفوفه للقتال في الحرب العالمية الأولى ،والتي حرمت لطيفة من شقيقيها وأمها وجعلتها وحيدةً تجابه الفقر وتعمل في الحقول والخياطة لسد رمقها وحتى أنها ذات يومٍ قررت أن تنزل مدينة اللاذقية للعمل في بيوت الباشوات كخادمة إلا أن اسماعيل رفض ذلك وأخبرها حينها برغبته في الانضمام إلى صفوف القوات الخاصة في الشرق ليتزوجا بعدها رغماً عن أنف والده الذي عارض زواجهما ظناً منه بأنه سيشغله عن العمل في الحقول وهذا مالا يصب في صالحه فتحجج بأنه يرفض تزويجه قبل تزويج شقيقيه الأكبرين .
كانت لطيفة تستعيد تلك الذكريات وهي تسأل نفسها فيما لوكان المضي خلف اسماعيل والاستسلام التام لما يقوله دوماً امراً صائباً ،عندها قاطعها مشهد تقبيل اسماعيل لجوان وضمه ،بعد أن لاحظت أن اسماعيل قد استعاد حماسه من جديد .
نادى أحد الجنديين عليها كي تنهي زيارتها ،فسلمها حينئذٍ اسماعيل دفتراً صغيراً وطلب منها أن تقرأه نظراً لضيق الوقت الذي لايسمح لهما بالتحدث كثيراً .
وضعت لطيفة ذلك الدفتر في حقيبتها التي أهدتها إياها الآنسة سيمون وخرجت لتشاهد (هاروت )وهو في وضعٍ مثير للريب مع أحد الجنديين الفرنسيين فقد بدا وكأنهما يغازلان بعضهما .
كانت تسمع أقاويلاً عن (هاروت )يدلي بها عمال معصرة الزيتون حيث وجد لها الكولونيل باتريك عملاً ،لتكون بذلك المرأة الوحيدة التي تعمل في تلك المعصرة فقد احتاجوها كصلة وصلٍ بين العمال والملاك الفرنسيين الذين افتتحوا تلك المعصرة في البلدة بعد استيراد المعدات والآلات اللازمة لذلك كما افتتحوا في مناطق أخرى معاملاً لصناعة السجائر .
لكن صناعة الزيت لم تحظ بالأهمية نفسها التي حظت بها صناعة السجائر .
كان على لطيفة أن تعمل وخصوصاً بعد إتقانها للفرنسية ،كي تسد مصاريف مكوثها في فندق (le reve ) الخاص بالفرنسيين ودفع أقساط الإرسالية الكاثوليكية نظراً لغياب زوجها الكثير وتعذر مدها بالمال في معظم الأحيان عندما يقطع الثوار الوطنيون الطرقات ويصبح من المحال الوصول إلى فروع البنك الوحيد في سوريا آنذاك .
فكرت لطيفة وهي تتأمل وجه (هاروت)المنتشي وهو يحادث الجندي الفرنسي ،في أن كونه مثلياً لن يؤثر عليها طالما هو الشخص الوحيد في البلدة الذي أصبح يعرف عنها كل شيء ويفهم ماتريده .
ويقوم بعمله على أكمل وجه معها ،وأن ما يجب أن تقلق بشأنه هو زوجها اسماعيل الذي قد يدمر نفسه في أي لحظة لو تراجع عن موقفه ويدمرها وجوان معه أيضاً ،فهي كانت قد اعتادت على تلك الحياة هنا في البلدة حيث تشغل وقتها دوماً بما هو مهم ،وجوان بدأ ينشأ على التربية الفرنسية والمعتقدات الكاثوليكية فقد كان يرتاد الكنيسة مع زملائه في الصف ،ويصلي (أبانا الذي في السموات )معهم ،وقد صنع لها في عيد الأم عذراءً من الورق المقوى .
أصبحت فكرة اعتناق عقيدة أخرى غير مربكة بالنسبة للطيفة كما كانت في السابق ،تماماً كفكرة اندماجها في مجتمع جديد وثقافة ولغةٍ جديدة ،فقد شغلتها حياتها العملية الجديدة وحولتها إلى امرأة أخرى أشد قوةً وأكثر لامبالاة بالأشياء غير ذات النفع العملي ،وأخذت من الفرنسيين حيوتهم وذلك النهم للأمور المادية ،واغتنام كل دقيقة من الوقت في القيام بما هو مفيد .
لذا تهاونت في مسألة نشأة جوان على معتقدات دينٍ آخر ،رغم الدين الذي تربت عليه والذي كانت في فترة من حياتها لا تقبل المساومة فيه إلى حد التطرف الأصولي .
ولم تكن لتخمن أبداً وهي تواظب في صغرها على قيام الصلوات الخمس وحفظ أجزاءٍ ضخمة من القرآن الكريم ،الذي كان الكتاب الوحيد في حياتها ،لم تكن لتخمن أنها ذات يوم ستتجه اهتماماتها نحو كتب هيغو وحكايات بطولات بونابرت وارتياد الجمعيات النسائية من أجل لقاء نسوة أسسن كياناتٍ مستقلة بحد ذاتها ،نسوة كاملات لم تسمع عنهن من قبل في قريتها البسيطة .
مثل سيمون صديقة الكولونيل التي منحتها فرصة أن تعرض أحد تصاميمها في البوتيك الخاص بها في بيروت .
ورغم ذلك فقد كانت لطيفة كثيراً ما تشعر بالحنين إلى تلك البساطة القديمة التي عاشاها هي واسماعيل في قريتهما الساحلية ،حيث كانا يفرحان بالأشياء العادية التي لا تحصل كثيراً وإنما كانت السعادة تتطلب جهداً ووقتاً طويلاً كي يحظيا بدقيقة مكللة بها ،إلا أنها كانت حقيقية وكافية ،تجعلهما ينفضان عنهما كل أحقادهما واستفزاز الحياة لوجودهما المتقلقل الخائف ،الحذر من كل مايحيط بهما .
والذي ربما شعرا بأنه أكثر متانةً وسلح بالأمل بين أحضان الفرنسيين ولهذا السبب كانت متسامحةً مع هاروت الذي وجد في عمله لديها الأمل الوحيد بعد ما ذاقه من عذاب وخسر عائلته في مسيرة الموت التي قام بها العثمانيون ضد الأرمن ،ومات والده على الطريق بينما سيق بشقيقتاه للبيع في سوق النخاسة وانتهى بهما الأمر في دمشق ،أما والدته الروسية الأصل فقد اغتصبها الجنود العثمانيون وشوهوا أعضائها الأنثوية ثم ألقوا بها في حفرةٍ عميقة تحولت فيما بعد إلى مقبرةٍ جماعية .
لم يكن آنذاك بقربها ،فقد كان يساعد والده في دكان الحدادة في أضنة ،عندما دخل عليهما قزمُ أرمني يلهث من الخوف وأخبرهما بأن والدته بين يدي الجنود العثمانيين الذين هجموا على القرية وراحوا يتفننون في أساليب القتل والإهانة واغتصبوا النساء والأطفال وحرقوا الرجال ،وأطلقوا النار على الدواجن وحيوانات الجر .
وكانت لطيفة أحياناً تسرح في خيالها فيما لو جند اسماعيل في صفوف العثمانيين آنذاك وجر للقيام بتلك الفظائع التي أثناء حدوثها كان اسماعيل منشغلاً بقبلاته السرية معها ،في الجحر الذي يختبأ فيه في الجبال .
أو في مواساتها ومنحها شيئاً من القوة بعد ما أعيد شقيقاها من الحرب العالمية الاولى جثتين محروقتين وسقطت والدتها فوق الجثتين ولم تنهض بعدها .
فكرت لطيفة في طريق عودتها برفقة هاروت بما كان اسماعيل يقاسيه من والده المحافظ الكريه والمتخلف والذي لايفكر إلا بنفسه وماله وبنيه دون وجود أي هدف معنوي لحياته والذي كان ينعته بالخنزير لهزاله وضعفه .
كان والده من أولئك المتدينين اليائسين الزاهدين في الدنيا إلا أنهم يحبون جمع المال ويفخرون ببنيهم مع تدمير ممنهج لأنفسهم ولأولادهم .
أدمعت عينا لطيفة عندما تذكرت تلك الأيام ،ومازاد من ألمها هو أنها لم تسأله عن جروحه أبداً لما كانت بقربه في المستوصف فتوقفت لبرهةٍ وأمرت هاروت بأن ينتظرها ،بينما تستريح قليلاً على مقعدٍ خشبي في ساحة الدير .
جلست على المقعد الخشبي وتناولت دفتر اعترافات اسماعيل وراحت تقلب في صفحاته ثم وجدت نفسها غارقةً بين سطوره :
((كان عددنا خمسة جنود ثلاثة منهم من الفرنسيين وأنا و شاب درزي ،كلفنا بقمع إحدى المظاهرات الاحتجاجية للشيوعيين التي جرت في دمشق بعد أن تم منحنا كامل الصلاحية بأن نضرب ونعتقل ونكسر الاضلع .
لكن ماحدث هناك كان أشد مما توقعته ،لقد قام بعض الجنود الفرنسيين بالتعامل مع المتظاهرين كما لو أنهم حشرات ولم يسلم أحدٌ من أقدامهم وقفت مدهوشاً أمام ما يحصل ،ولم يلحظ أي منهم كسلي في آداء مهمتي .
كانوا غارقين في لذتهم تلك ،تباً للحضارة التي جلبتها فرنسا إلى بلادنا يا لطيفة إن كانت مبرراً لمعاملة إنسان بهذه الوحشية .
جروا بعضاً من المتظاهرين وربطوهم بالجنازير ثم اصطحبوهم إلى منزل مهجور ،رافقتهم إلى هناك ورأيت كيف سخروا منهم وأجبروهم على حمل أثقالٍ وحجارة لا يقوون على حملها حتى السقوط ،وتعليق الصلبان في رقابهم وهم يرددون بالفرنسية (الرب هو الذي ينتصر دوماً ).
كما لو أنه خطابُ عثماني آخر .
من هؤلاء الذين قدمت معهم يا لطيفة ؟ لقد جلب هؤلاء الفرنسيون معهم إلهاً متوحشاً إلى أرضنا .
كان أشدهم عنفاً جندياً يدعى شارل ،دنا من شاب أرمني كان من بين المتظاهرين الشيوعيين ،هزيل ،أصفر اللون بعيون جاحظة سوداء وحزينة ،وراح يسخر منه ويخيفه ويذله ،ثم فك أزرار بنطاله وشرع ليتبول عليه إلا أننا جميعاً أوقفناه وصرخ أحد الجنود في وجهه :
)لا تكن داعراً ،احترم بذلتك العسكرية ،وبلادنا العظيمة فرنسا التي حققت انتصاراً مشرفاً في الحرب العالمية الأولى )
لا أعلم لم أخبرك بكل هذا يالطيفة ،ربما لأنك الوحيدة التي أتجرأ على إخبارها بندمي ،لأنني أعلم أنها ستتفهمني وأنها ستستقبلني دوماً بحضنها الذي بوسع السماء .
هؤلاء الجنود الفرنسيون لا يعلمون شيئاً عن ثقافة بلادهم ،لا يقرؤون هيغو ،حتى أنهم لا يعلمون شيئاً عن دينهم ،وسمعت أنهم قد جندوا أناساً في لبنان أيضاً لقمع مظاهرات الشيوعيين بحجة أنهم أعداءٌ للمسيحية ولدولة لبنان الكبير التي تحمي المسيحيين في الشرق .
كان (شارل )يشبه والدي الشيخ علي ،متعصبا" كريها"لديانته ،فخورا" بجبروته ،تفيض من وجهه البغضاء والحقد وتصدر عنه دوماً آراء جاهلة ومتزمتة .
تملكتني رغبةُ في قتله ،إلا أنني آثرت البقاء صامتاً ،شفافاً إلى أن اتخذ الجميع قراراً بإطلاق سراح المعتقلين الشيوعيين وإنهاء كل تلك المهزلة .
لم يكن ذلك اقتراحي بل اقتراح أحد الجنود الفرنسيين .
شعرت بنشوة عارمة وأدمعت عيناي ،ثم عدت فخوراً مجدداً بنفسي ورحت أرمق شارل دون أن يلاحظني بنظرة ازدراء .
قضينا الليلة بعدها في بيوت مهجورة ،نام شارل في المنزل ذاته الذي نمت فيه ،جلب معه بائعة هوى وشرع في مضاجعتها أمامي ،لذا انسحبت من المنزل وخرجت أتمشى خارجاً في البرد القارس .
فكرت بك وبابننا جوان وفيما لو كنتما سعيدين ،وأنني لم أكن أنانياً وفعلت كل ذلك من أجلكما ،وفقط من أجلكما سأكمل ما بدأته حتى النهاية .
كلفنا في اليوم التالي بعملية مداهمة أحد مقرات تواجد أتباع ابراهيم هنانو وسعدت لذلك لأنني سأصب أخيراً جام غضبي على إقطاعيي هذه البلاد .
ألم يضطهد حلفاؤه الأتراك مسيحيي إحدى البلدات ؟وسأصب غضبي في الآن نفسه على جهل والدي وتخلفه وتعصبه الديني المفرط واستهزائه بي وبأحلامي وسعيه نحو المال والقوة وسخريته من ضعفي وهشاشتي أمام مرض والدتي وعواطفها ؟
(يجب أن تكون قوياً من حجر ،ولاتذرف الدموع كالنساء ،فالله يحب المسلم القوي !)
كان قوله هذا تحديداً ما قادني إلى أحضان الفرنسيين وحرك قدميَ باتجاه الإرسالية الكاثوليكية .
أعلم أنك تفضلين لو أنني ظللت بقربك وعشنا سويةً برفقة جوان ناسياً كل ماضيَ ،متخلياً عن كل طموحاتي في بناء حياةٍ أفضل لكما كهدفٍ أولي ثم رد اعتبار لذاتي المهمشة ثانيةً .
ما أريده منك هو أن تثقي بي لأنني أعلم منك بما هو أفضل لكما .
وجودك في تلك القرية سيفتح عينيك على الحياة الحقيقة والمستقبل الباهر ،وما أريده أيضاً أن تنتظري قدومي منتصراً على أولئك الذين لو وقعت بين أيديهم سيقطعونني وينكلون بجثتي كما يفعلون مع الجنود الفرنسيين وكما فعلوا عبر التاريخ مع كل مستضعفٍ وعاصٍ منذ عهد المماليك ،أولئك الوحوش الضارية سنهزمهم ونلحقهم بأصدقائهم في سجن أرواد .
والله سيعينني على ذلك الجاهل في دينه (شارل )الذي يلطخ سمعة بلاده المتحضرة بعنجهيته وبربريته )).












3

مذكرات لطيفة
لا بد لي من إطلاعك على ما جرى لنا من جديد أنا وجوان ،فقد قرأت اعترافاتك التي كنت ترسلها لي طوال تلك السنوات ،والتي لا تذكر لي عنها شيئاً لما تأتي إلينا لقضاء إجازة ما وتتصرف وكأنك شخصٌ آخر ،وتتظاهر بأنك قويٌ ومصمم على ما أنت مقدم على فعله ،تقبلني دون أن تنظر في عيني ، وتكلمني بالفرنسية بعد أن تخرج غليونك من جيبك لتختبر صحة لفظي ،ثم تستحم بعدها وتلزم السرير لعدة أيامٍ صامتاً ،وأنا أكتفي بوجودك قربي دون حتى أن أتجرأ على ولوج عالمك .
ثم بعد أيام أستيقظ لأجدك مقدماً على الحياة بنهم ،تقرأ الجرائد ،وتخرج برفقة الكولونيل باتريك إلى صيد الحجلان ،، أو إلى موائد العشاء التي ينظمها في مطعم الفندق لمناقشة أمور ٍ من قبيل فتح الطرقات الرئيسية بين المدن أو بناء شبكات الصرف الصحي ،أو التخوف من الحزب الجديد الذي جاء به ذلك الشاب الطموح القادم من فرنسا (أنطون سعادة )والحديث عن المراقبة الصارمة لأتباعه .
ثم تنتهي عطلتك هكذا ،دون أن نجلس ونتحدث عما نحن فيه ،لذا اعتدت دوماً أن أكتبها لك على شكل مذكرات ،كما أكتب لك الآن ،لأخبرك بأن حياتي التي كنت تطمئن على استمرارها على الوتيرة نفسها في عطلاتك ،لم تكن على مايرام بالقدر الذي تعتقده أنت .
لقد منحتني سيمون فرصة أن أصبح مشهورةً إلا أنها كانت تنسب بعضاً من نجاحاتي إليها في البوتيك الخاص بها ،وما يجب علي إخبارك به ايضاً هو عشرات الألوف من اللحظات التي شعرت فيها بأنني وضيعةٌ ومراقبةٌ طوال الوقت ومثيرةٌ للسخرية في صالون بونابرت أمام المجتمع الفرنسي المخملي الذي زججتني فيه ،فضلاً عن تلك اللحظة التي أشعر فيها بشكلٍ فجائي بالدهشة لوجودي بينهن وأنني ربما لا أنتمي إلى هذا كله .
حينها أنسحب من بينهن بصمت وأقضي ليلتي في الفندق أرسم تصاميماً محافظة لنساءٍ مسلمات وأشرع في خياطتها سراً لأتبرع بها إلى النسوة البدويات القادمات إلى البلدة من أجل العمل في مواسم الزيتون واللواتي أغلبهن خسرن أزواجهن وهم يحاربون في صفوف الثوار الوطنيين إلى جانب ابراهيم هنانو .
كنت أتسلل سراً إليهن لنجتمع في جلسة نسائية مسائية يتحدثن فيها عن همومهن ويبكين وكنت أشاركهن البكاء إلا أنني كنت أجهل سبب هذا البكاء ،فيما لو كان تعاطفاً مع قصصهن أو لجهلي بما أشعر به بينهن وبما أصبحت أنا عليه في تلك البلدة ،وكنت غالباً أبكي لفشلي في العثور على هويتي الحقيقية التي أصبح من الصعب جداً فهمها حتى عليَ.
كنت أعود من سهراتهن وأسأل نفسي :لماذا بكيت ؟وهل يجب أن أتعاطف مع موقفهن وأنا أعيش هنا في النعيم بين الفرنسيين ؟ومن أنا ؟هل أنا فرنسية أم عربية ؟مسلمة علوية أم كاثوليكية ؟أم وزوجة شرقية مخلصة أم نسخة من امرأة فرنسية بلا روح ؟ ،مثل دمية تقليد للنسخة البشرية الأصلية ،تتحرك كما يملى عليها دون حتى أن تختار وجهتها بنفسها ،مقابل أن تبقى دميةً مدللةً ولامعة .
ثم أسأل نفسي سؤالاً آخر ،لم أمضي في ما أقوم به ؟من أجل ماذا؟لم كل هذا التعب والتخبط والتشرذم ؟هل من أجل حبي لك يا اسماعيل ؟أم لأنني أساساً لم أملك هويةً واضحة يوماً في حياتي كلها وأنا في رحلة البحث عنها .
ما الذي يدفع المرء لاحتمال كل تلك الضغوط وتقديم كل تلك التنازلات سوى سعيه المقيت والبائس والواهم غالباً نحو الكمال له ولمن يحبهم ؟
هل هي عاطفة الأمومة ؟أم خوفي من أن أبقى وحيدةً بدونك يا اسماعيل ؟مع أن وحدتي لم تفارقني يوماً حتى بوجودك في حياتي ،سواء كنت بقربي أو في مهماتك البعيدة الطويلة الأمد عندما أصبحت كل الأمور أصعب وأقسى وأشد تزمتاً .
وأصبحت أنت تقتل بكل برودة أعصاب وفرغت من كل مبرر أو فكرةٍ تدفعك للقيام بكل ما تقوم به ،حتى أنك نسيت لم انضممت أصلاً إلى جيش القوات الخاصة في الشرق وغدوت مثل آلة منهكةٍ وصدئة تعيش في نعيم مزيف .
أكتب إليك لأخبرك بأنني أختبر شعور الكراهية للمرة الأولى في حياتي ،لقد بدات أكرهك وأكره تلك الأخرى (لطيفة مصممة الأزياء )،فقد اصبحت لدي شخصيتان تماماً مثلك وبدأت أنظر إلى جوان وأشعر وكأنه غريبٌ عني وأن من أنجبته هو طفلٌ آخر .
أفكر في هذا كل ليلةٍ ثم أخلد إلى النوم آملةً بأن أجد فيه مايريحني من كل هذا الشقاء وأحلم حينها باسماعيل ولطيفة وهما يلهوان هناك في الجبال العتيقة .

4
جوان - 1940
لم أعد أذكر ذلك اليوم الذي اختفت فيه والدتي عن أنظارنا ،استيقظنا في صباح يومٍ ما ولم نجدها ،فرت عنا ،وكان ذلك منذ بضعة سنوات إلا أنني على يقينٍ تام بأنه هو من قتلها .
ذلك الرجل الأخرق اللعين ،الطاغية القبيح ،السفاح ،أكرهه وأكره هذه البلدة المقيتة التي جلبنا إليها والتي لا يقويني على احتمالها سوى الكتب التي أقرأها باللغة الفرنسية .
لابد وأنه قتلها وأخفى جثتها في أحد الأقبية حيث يعتقل أتباع الحزب السوري القومي الاجتماعي ،أو الثوار الوطنيين ،بعد أن أخبرته ذات ليلةٍ بأنها تكرهه وتلعنه لأنه تحول إلى وحشٍ ماكر وقذر ،يقتل ببرودة ويأتي بكل وقاحةٍ إلينا ليذكرنا بالنعيم الذي نعيش فيه .
عن أي نعيم يتحدث؟ أفضل العيش في نعيمي الخاص ،ذلك النعيم المضاد له ،الذي سيقودني يوماً لأكون أفضل منه وفوقه ،عند ذلك أنا من سيرعبه ،سأرعب ذلك السفاح الذي يروح ويجيء هنا وهناك مفتخراً بإنجازاته ،وفي اعتقاده أنه أصبح فرنسياً متحضراً وأن ذلك يمنحه الحق في سحق الجميع بقدميه .
في الليلة التي اختفت فيها والدتي ،هاجم اسماعيل خيم البدو بعد أن علم بأنها كانت تقصدهم دون علمه تسهر وتسمر وتمنحهن الثياب التي تصممها بنفسها ،وأحرق الخيم التي تخصهم بعد أن فتش عنها بينهم ولم يجدها .
كانت تلك تمثيلية من تمثيلياته ،ليبعد الشبهات عنه،لأنه هو من قتلها ،قتلها لأنها لم تعد تنفع بشيء ،حتى أنه لم يعد يحبها .
كانت قد تخلت عن مهنتها في تصميم الأزياء منذ مدةٍ قبل اختفائها ،والتزمت الصمت ولم تتحدث لا بالعربية ولا بالفرنسية ،وهزل جسدها وغدت كسيرةً صفراء اللون ،لا تستحم ،وانتشر القمل في رأسها وكانت تقضي كل أيامها نائمة ،وتقول بأنها تنام لتذهب إلى الماضي الجميل حيث تلتقي باسماعيل الحقيقي ،حبيبها الطيب .
كنت انا أعيش شيئاً مما تعيشه ،لكنني لم أخلد إلى النوم ،بل اعتبرت بأن كل ما حولي غير موجود ،كنت أرتاد المدرسة الكاثوليكية وأقوم بكل ما تمليه علي الراهبات والمدرسات على أكمل وجه وأتفوق في كل هذه الأمور .
وهذا ما كنت أشعر بأنه نقطة قوتي وأنه يحول دون اضطهادي من قبلهم ،كانت سرعة بديهتي وذلك الإصرار الذي في داخلي هو ما يخرس جميع الطلاب الذي من المحتمل أن يوجهوا إلي أية إهانة أو شتيمة تتعلق باختلافي عنهم .
ثم وعندما أتفوق عليهم جميعاً أعود لشعور الأمان بينهم ،وأحبهم من جديد ،مبرراً كل تصرفات الأب والراهبات القاسية صاباً جام غضبي على والدي ،ذلك الرجل الذي تحول إلى حذاء جلدي ضخم مستعدٍ لأن يستعمله في الدهس في أية لحظة ،حينما يقف في وجه طموحه أي شيء ،وما بين حبه للسيطرة والتسلط وتوحشه الذي لا نهاية له وبين سخافة القوانين والردوعات الغبية والتافهة أحياناً في الإرسالية ،كنت أفضل الثانية على الأولى ،فهنا يوجد حبٌ على الأقل ،توجد فسحةٌ للمستقبل ،فرصةٌ لأن نتغير ونتبدل وليس وقوفاً ثابتاً للزمن على شكل حذاءٍ عسكري يأمر وينهي !














5
رسالة من لطيفة إلى جوان -1941
ذات ليلة فررت نحو المجهول منه ،لم أعد أطيقه ،وأعلم أنك ستسامحني يوماً على فعلتي هذه يا ولدي .
رافقني هاروت بناءً على رغبته ،وعبرنا بمساعدة امرأة ٍبدويةٍ حواجز الثوار الوطنيين أتباع ابراهيم هنانو إلى مدينة جسر الشغور المجاورة للبلدة ومكثنا هناك في منزل قريبةٍ لتلك المرأة البدوية لعدة أيام ،قبل أن نتجهز لرحلتنا إلى بيروت .
حبيبي جوان ،سوف تكبر يوماً ما وستتفهمني ،أعلم أنني لو أخذتك معي لفعل اسماعيل المستحيل ليعثر علينا ،أما أنا فلن يكلف نفسه كثيراً من الشقاء ليبحث عني ،إنما سوف يمل سريعاً ويتركني بسلام إلى أن ينصفنا الدهر مرةً أخرى وأجتمع بك مجدداً .
لو اصطحبتك معي كان سيبحث عنا وسأنال منه عقاباً لا رحمة فيه ،وعندها ستتأذى أنت وسوف تكره حياتك وأنا أريد منك أن تبقى سعيداً وتغدو شاباً ناضجاً ومثقفاً ومتحضراً لأعتمد عليك .
جوان ،كانت الرحلة إلى بيروت صعبةً ومنهكة ،ساعدتني سيمون على عبور الحدود السورية اللبنانية ،أما هاروت فكان من السهل أن يعبر كونه أرمني ،حيث عدوه من المسيحيين المضطهدين في الشرق ،يلوذ بدولة لبنان الكبير الملجأ الماروني الكاثوليكي لكل المسيحيين المعذبين .
لحظة وصولنا إلى بيروت ،وبعد عدة أيام تبدلت الحكومة ونتيجة لتبدل الحكم في فرنسا ووصول موالين لألمانيا النازية إلى سدة الحكم ،ثم قامت تلك الحكومة الجديدة (حكومة فيشي )بملاحقة سيمون صديقتي لكونها صديقة مقربة لكليمنتين زوجة تشرشل رئيس وزراء بريطانيا .
فررنا جميعاً برفقة سيمون ،أنا وهاروت ،واختبأنا في ديرٍ كاثوليكي في قرية جبلية بعيدة وكان علينا كما في مدينة جسر الشغور أن نعيش وفقاً لأسلوب الحياة المعاش هناك .
في جسر الشغور ولما كنا نقطن بيوت الثوار الوطنيين وننتقل بينهما ،كان علينا أن نضع الحجاب تارةً ونصلي ونصوم في بيوت من يقاتلون فرنسا من أجل الجنة ،وفي بيوت أخرى كنا نعامل وكأننا في قصور فارهة حيث يقطن زعماء الثورة الوطنية الذين يقاتلون من أجل الوطن والأرض والسيادة .
كانت المرأة البدوية التي تتنقل بنا بين كل هذه البيوت الأكثر درايةً ومعرفةً بكل ما يحصل بين كل هؤلاء ،كان الجميع يحبونها ويستقبلونها بغض النظر عن معرفتهم بأنها صديقةٌ للجميع ،على اختلاف مبادئهم .
كانت ببدائيتها وعدم انتماءها تكاد تكون المرأة الحرة الوحيدة في هذا الزمان ،تعلم بكل شيء وعن كل مكان ،كما لو أن البلاد بأكملها صارت ملكها تتنقل بها وكأنها السيدة والمشردة ،كل الشيء واللاشيء .
وكنا نحن أنا وهاروت طالما أننا نتبعها ونمضي وراء ظلها ،أخوتها في الحرية والمعرفة العظيمة .
أعجب هاروت بشخصيتها وقوتها ،وقال بأن رغبته في أن يكون أنثى ازدادت لما رأى نموذجاً للمرأة العابرة لكل زمانٍ ومكانٍ فيها ،أما سيمون فقد وجد فيها المرأة الصديقة التي كان يبحث عنها منذ زمنٍ بعيد ،تلك المرأة الراقية التي تنصت باهتمامٍ إلى آراءه في تصاميمها بكل جدية ،فمعها شعر بأنه ذو كيانٍ وأنه يستحق كل الاحترام ،معها شعر بإنسانيته باختصار .
انشغلنا في الدير الكاثوليكي بتحضير مجموعة أزياء الصيف على أمل أن نعرضها في باريس ،فقد تلقت سيمون وعداً من زوجة تشرشل بإخراجنا من لبنان قريباً عبر طريقٍ سري .
حبيبي جوان ،تعرفت هنا أيضاً على شاب شيعي يدعى (علي )جاء من الجبل ليعمل في خدمة الدير ،وبدأت أقع في غرامه ،وفعلت معه ما كنت أفعله مع والدك اسماعيل ،تمشينا بين الصخور الوعرة ،ورسمنا معاً مشهد الغروب ،فقد كان لعلي موهبة فذةٌ في الرسم حتى أنه تلقى وعداً من سيمون بفضلها بأن يرافقنا إلى باريس في رحلتنا المرتقبة ليستثمر موهبته هناك .
شعرت مع علي وكأنني أراهق من جديد ،لقد منحني حبه أملاً بالسعادة مجدداً ،سعادةُ لا تكتمل إلا بقدومك للعيش معي يا ولدي .









الجزء الثاني
1975 _ 2011












1
كان الليلك ينثر عطره والفراشات تحوم حول ورق شجر الليمون الحار بفعل أشعة الشمس التي تسطو على أجزاء المطعم ببريقها الساخن المتوهج لتحرقه دفئاً مانحةً للأطفال فرصة إنهاء لعبة تزحلقهم على سطوحٍ معدنيةٍ تعكس دفء طفولتهم ويشحنهم بالمرح الممزوج بالطمأنينة الخلابة كما ألوان الفراشات .
المطعم المكشوف للحياة والشمس ولذلك التوتر الكامن للأبنية الحديثة الطراز التي تتسمر كشخوصٍ عارية في مسرح الفضيلة ،كان ملكاً للشاب الطموح (سنان اسماييل )الذي لم يحالفه الحظ ليلقى ذكاءً بذكاء والده جوان يخوله بأن يغدو أشهر جراح في منطقة الشمال السوري ،وحتى أنه لم يعش حياةً قاسية تدفع به نحو الفخر بحذاء جده العسكري ،وإنما كانت الوداعة التي ورثها عن والدته _كما ورث عنها الهزال _حركت فيه الرغبة في رسم حياته وفقاً لخياله الصاخب الذي تجرعه من منزل الطفولة الزاخم بشخوصٍ مضطربةٍ وحالمة ،رهينةً لماضيها وقصصها الملونة المختلفة ،ولأشياءها الخاصة التي يفيض بها ذلك القصر ،حيث نشأ (سنان )
ما بين أسلحة جده ودروعه التكريمية ،وغرفته الحالكة بألوان جدرانها الصارمة ،وضجيج الموسيقا الكلاسيكية وهي تعبر بين الهياكل العظمية المتباينة الأحجام المشمرة عن عظامها بوقاحة أمام شغف والده جوان الطبيب الذي أرقها معه في غرفته وهي تقف حائرةً في منتصف المسافة بين العلم والأدب .
كانت تلك حقبة القوة ،حقبة السبعينيات ، حين كانت الحقيقة واضحةً والرخاء لا يخفي هوية أصحابه ،وما عليك سوى بأن تتمتع وتطلق لاطمئنانك العنان ،هكذا بخضوع قلبٍ ،وغفوٍ لذيذ ،وتغافل عما ليس لك شأن فيه .
غادر في ظهيرة ذلك اليوم (سنان اسماييل )قصره قاصداً فردوسه الموعود ،بعد أن ضاق ذرعاً بإخفاقاته المتكررة في محاولات التوفيق بين والده وجده والحد من عراكهم الدؤوب والذي لا جدوى منه حول أشياء عالقة من الماضي ،تبدأ بمصير الجدة المجهول وتنتهي بفلسفة كل منهما في الحياة .
كان المطعم المنكفئ على نفسه والذي يبدو مثل لؤلؤة نادرة تنكشف للعيان آخر مقاطن السوريين قبل أن يبدأ سوار أشجار السرو في جرك معه ليقذف بك في الأراضي التركية ،هذا ربما ما جعل المطعم مميزاً ومنحه غنجه ودلاله وربما تارةً شقائه .
كانت فكرة افتتاحهم لذلك المطعم في ذاك الزمن ،سباقةً ومبكرة ،وحتى يمكننا أن نعتبرها ثوريةً ،كالخيط الأول من الفجر ،انسابت بكل نعومةٍ مثل إبرةٍ لنسج شمس ،خطاها الابن الوحيد لجوان اسماييل الذي لطالما بدا متذمراً من كل مايحيط به ،رافضاً لكل أشكال الحياة المحتملة التي من الممكن أن يقترحاها عليه والده وجده .
ومابين صلابة الجد الذي غدا أشبه بسلاح ناري ،وصرامة الوالد الذي لطالما لم يفهمه سنان بتاتاً،والذي كان أشبه بآلة يحدثها الزمن باستمرار ،سحق الأمل بأن يغدو لسنان مجداً بقوة ونجاعة مجدي أبيه وجده ،فصار لزاماً عليه أن يعيش على فتات تلك الأمجاد الحقيقية ،لشراء مجدٍ أقل تقديراً ،لكن لا بأس به .
وقد نظر سكان البلدة لذلك المجد الغريب الأطوار والمحطم لجميع التابوهات المعترف عليها من قبلهم ،نظروا إليه بعين الاضطراب والتقلقل كما نظروا إلى عائلة اسماييل برمتها طوال تلك السنوات ،بعين الريبة وعدم الفهم .
وفي زمنٍ كهذا عاش فيه المسيحيون الكاثوليكيون على أمجاد الوجود الفرنسي ،هانئين ربما مع معرفتهم القليلة عن الأسس التي تقوم عليها البلاد ،كان من المريب أن تقدم تلك العائلة على خطوةٍ سباقةٍ ،والولوج في عوالم جديدةٍ مليئة بالمطبات ،لم تجرؤ أي من العائلات المسيحية التي دللتها فرنسا من أن تلجها .
كان الجد اسماييل بماضيه العسكري المخلص للفرنسيين قبل أن تقعده مهنته وتجعله حبيساً لكرسيٍ متحرك ،موضعاً للثقة بالنسبة لسكان البلدة بسلوكه الفرنسي المتحضر الذي يظهره في مناسباتهم ،وعلمانيته الحيادية المريحة .
بينما كان الوالد (جوان اسماييل ) بغيابه التام لانشغاله بمسائله العلمية وسعيه نحو التفوق والعالمية يكاد يكون شفافاً إلى الحد الذي يصبح عنده غير مدعاة للشك أو الاهتمام بالنسبة لهم ،ولم يتوقع أحدٌ منهم أن الخطوة الأشد إرباكاً ستأتي من ذلك الحفيد الناعس (سنان اسماييل ).
الحفيد الذي لم ينصاع يوماً سوى لرغباته الشخصية ،كتخلفه في ظهيرة ذلك اليوم من عام 1975 عن حضور اجتماع وقت الغداء مع عائلته واستبداله بحضور اجتماع مع صديقته البيروتية التي كانت ترشده في أمور إدارة المطعم وتدعمه في انتقاء كل ماهو عصري ولامع بفضل ذوقها الرفيع المشهود له .
(سنان )شابٌ أربعيني بمزاج طفل ،تسيطر عليه غرائزه وانفعالاته وتلك اللامبالاة التي تخص طفلاً مدللاً عابثاً ليس العالم بالنسبة له سوى ملعبٍ كبيرٍ للدمى المصفوفة رهناً لإشارته تنتظر دورها حتى يحين وقت اللهو بها وفقاً لقرارات مزاجه ،والتي قد يطول الوقت الذي تبقى فيه في مأمن عنه ،نظراً لخطوه البطيء في السير مع تيار الحياة ،والذي يضمن له المتعة العظمى في التلذذ بكل مايصبو إليه خياله ،وتتوق إليه عيناه الخضراوتان الموروثتان عن والدةٍ سليلة عائلةٍ أرمنية قدمت من بيروت ذات يومٍ لقضاء العطلة في بلدة سنان وعائلته ،في الفترة التي كان فيها اسماييل يفتش عن زوجة مناسبة لابنه جوان تتمكن من إزاحة الوهم الذي في رأسه وتشغله عن أحلامه التكنوطبية المستحيلة .
إلا أن سنان لم يرث عن والدته سوى لون عينيها وهزالتها كما أسلفنا سابقاً ،إلا أنه كان فوضوياً على عكس طباعها الهادئة ورؤيتها المنظمة لكل ما في الحياة .
وكانت فوضويته ونهمه الطفولي من النمط المحبب الذي يضمن تعاملاً مريحاً في نظر صديقته البيروتية (جمينا )التي تفضل صداقةً مثل صداقته ،تناسب شخصيتها المقبلة على الحياة التي ترفض أية قيود أو مسؤوليات ،وتمنحها الأمل في العثور على ذلك الحب الذي يكبر تباعاً بين عاشقين ،تماماً كحب والديها اللذين خسرتهما في عملية تصفيةٍ سياسية مع انطلاق أول شرارةٍ في الحرب الأهلية اللبنانية من ذلك العام ،وعادت إلى منزل جديها لأمها الواقع في بلدة سنان باحثةً عن العزاء راغبةً في عيش حياةٍ تخلو من الشعارات والقيود .
فاصطدمت بصداقة سنان الذي كان يخطو لأول مرة في حياته خطوةً جدية ،تتعلق بكبح جماح بوهميته أخيراً ،ويعثر فيها على استقراره .
كان أول لقاء لهما عندما ركبت معه جراره الذي يقوده أحياناً لتجزية الوقت وظنته حينها عاملاً من العمال المستأجرين من أجل مواسم الفاكهة والزيتون ،بيد أنها لم تكن تعلم بأن ذلك الطفل الذي يحاول أن يسيطر على كل شيء ويجرب كل شيء ،كان يخضع نفسه _لا أكثر _لواحدةٍ من التجارب التي يمليها عليه خياله وتفرضها أنانيته واعتداده بنفسه .
إلا أنها وحين عرفت خصاله فيما بعد ،تغاضت عنها لأجل علاقةٍ تمنحها عذراً لفهمها للحياة مجدداً .
فما فقدته جيمينا في الحياة ليس بالأمر القليل ،أو حتى يمكننا اعتبار ما عاشته منها عصيٌ على وسمه بصفة العيش .
كانت حياتها بوصفها ابنة سياسي لبناني شيوعي غير مرغوبٍ فيه ولا بجهوده التغييرية وأحلامه اليوتوبية ،الأمر الذي أضفى على حياته وحياة عائلته نوعاً من التقلقل وعدم الاتكاء على ظهرٍ صلب ،وكانوا كلما ظنوا بأنهم أسسوا على أرضٍ لن تخذلهم تصدع البناء الذي بنوه وتهاوى ،لذا أحبت جمينا الأجواء السياسية عندما أتت إلى بلدة سنان وشعرت بالأمان في ظل القوة وقوانين الواحدية الصارمة .
أعجبها نمط اللباس الموحد لطلاب المدارس ،ومفهوم السعادة المشترك والغير قابلٍ وضعه على المحك ،بالرغم من أن وجود الدير اللاتيني كان يضفي على المشهد نوعاً من الاختلاف .
كان ثمة نوعان من البشر هاهنا ،نوع اعتاد على اللحاق بركب الواحدية ،وغرق في خدرها ونوع كان مازال يحلم بعودة الزمن إلى الوراء ،لينعم في جنته الفرنسية ووسط كل هذا كان مطعم سنان حالةً خاصة ونادرة ،حلم ٌ خلق على أنقاض الماضي ،واشتدت عزيمته في حضن الواحدية الصارمة ،وتغذى على الغرابة و التحدي والغموض .
جيمينا الآن سعيدة لسبب آخر ،سعيدةٌ لأنها تحررت من حبها القديم هناك في بيروت ،حينما أحبت في صغرها أحد أولاد الحي الذي كان يتردد إلى منزلهم لتلقي دروسٍ في اللغة العربية ،حيث اشتعلت شرارة الحب بينهما ، أو ربما ذلك الرابط المعقد العصي على التسمية .وهي وإن كانت تظن بأنها تحررت بالكامل من حب ذلك الشاب ،إلا أن إعجابها بشخصية سنان لم يكن سوى استكمالاً لشغفها بحبيبها القديم الذي لم يتسن لها التشبع من قصتها معه ،وحال دون ذلك الغرور والكبرياء ومحاولة إثبات أفضلية أفكار كل منهما المتباعدة والمتنافرة دوماً ،والتي لم تكفي كل تلك السنوات لحل وثاقها .
كانت جمينا التي نشأت في كنف والد يقدس العلم والفكر ،ونذر حياته ومال أجداده في سبيل مبادئه الساعية نحو التغيير ،شبت على أن تكون واثقة الخطى في كل خطوةٍ من خطوات حياتها مما سهل تفوقها في المدرسة ،وجعلها على اطلاع على كل مايتعلق بالسياسة والثقافة ،الغربية منها والشرقية ،مما أكسبها امتلاءً داخلياً انعكس على شخصيتها ومنحها الثقة بالنفس التي بدت استعلاءً للبعض وأولهم حبيبها الأول (ماتيو )،صديقها وابن حيها المنحدر من عائلة متدينة من تلك العائلات التي تفهم الدين على طريقتها ،المكونة من أبٍ وأم منشغلين دوماً في الكدح وجلب المال لتحقيق السعادة ،وكان ماتيو مثلهما يقضي معظم وقته في العمل ،غافلاً عن واجباته المدرسية،إيماناً منه بأن الدراسة لن تطعم الخبز للمرء ،ويقضي ما تبقى من وقته مع شبان الحي يعيشون كل ماهو عبثي على أكمل وجه ،يدخنون ،يأكلون بنهم ،ثم يفرغون كل طاقاتهم بالمشاجرات والزعيق .
لذا ماتيو وجيمينا كانا مختلفين منذ البداية إلا أن ذلك لم يحول دون الوقوع في حب بعضهما البعض ،وهكذا بدأت قصتهما :
حدث ذلك في يومٍ تأخر فيه الوالد عن موعد الدرس ،وكانت جيمينا بمفردها في المنزل حين جاء ماتيو واعترف لها بإعجابه ،كان مندفعاً بكل جوارحه ،جعلها تستسلم له في بضعة دقائق ،كان شاباً جميلاً ،ذا جسدٍ دافئ وعضلات بارزة ،ولم تقوى على مقاومته .
نامت معه في ذلك اليوم في سريرها ،حاول مرات عديدة أن يكرر عملية المضاجعة لكنها كانت منهكة وشعرت وكأنه يكاد يقترب من أن يغتصبها ،كما لو أنه أحب لعبة السيطرة على جسدها ،وذهب في تلك اللعبة حتى النهاية .
لقد فهمته لاحقاً فقد كان يرغب بأن يملك السلطة عليها ،بأن يخضعها لرغباته بكل ما فيها من كبرياء وتفوق ،وامتياز في عيون الجميع ،لقد كان مريضاً ،لكنها رغم كل ذلك أحبته ،وتيقنت فيما بعد من حبه ،طوال تلك السنوات التي تلت ذلك ،رغم ابتعادهما ،بسبب انتقالها وأهلها إلى حي آخر ودراستها في الجامعة الأميريكية في بيروت ،بينما هو اجتهد على نفسه بفضل ما قدمته له من مساعدة وحظي بمقعد في الجامعة اللبنانية ،لكنه لم يتم دراسته وشغله عن ذلك علاقاته الكثيرة مع فتياتٍ من كل شرائح المجتمع ،وطرد من الجامعة إبانها ،بينما بقيت جيمينا تنتظره ولم تقو على الولوج في أية علاقة أخرى ،ومنعها عن ذلك الشغف إليه الشغف إلى علاقة غرامية لم تكتمل على الصورة التي ترغب فيها هي ،وليس كما حدث بينهما في الماضي .
كانت تقابله أحياناً ويمنعها كبرياؤها من إخباره بأنها مازالت تعشقه بفضل ما عرفته عن علاقاته الشائكة والمريبة مع نساء أخريات ،كان يؤلمها إخلاصها لذكرى شابٍ لم يصن ذكرى علاقتهما ،وتوجه فوراً للغوص في ملذاته ،ظناً منه بأنها ستبقى متعلقةً بالحب الذي لم يكتمل .
كان يحبها ،إلا أنه كان يرغب في إثبات تفوقه عليها بعد فشله في الجامعة ،وتوجهه الجديد كمدرب لكمال الأجسام ،حيث ضم نساء قويات البنية إلى قائمة النسوة اللائي يصبحن له .
كانا يتقابلان كل عدة أشهر ،وتجمعهما المصادفات ،يتمشيان معاً دون الإفصاح عن مشاعرهما ،وتبدأ أحاديثهما بسلاسة وسرعان ما تنشب الخلافات ،حين يبدأ في انتقاد أسلوب لباسها غير العصري ،واهتماماتها الثقافية والسياسية التي يصفها بالمقيتة ،كانت هي تنظر إليه بحزن ثم تنسحب مبتعدةً عنه ،لتعود إلى حياتها المعقدة مع والديها الشيوعيين ،المضطربين دوماً .
وتفشل في استبدال حبه بحب شابٍ آخر رغم تقرب الكثير من الشبان منها ،ومحاولة استمالتها .
وحينما اغتيل والديها ولم يعزيها بهما ،ذهبت بنفسها إليه ،لتذوب بين ذراعيه ،فوجدته مع امرأتين في السرير .
ولحق بها ذات مرةٍ إلى منزلها ،دامع العينين ،منهك القوى ،عائدا" من إحدى المعارك التي جرت في بيروت أثناء تأديته لخدمته الإلزامية ،شعرت برغبة عميقة في ضمه بين ذراعيها ،حدث ذلك عند باب منزل والديها ،لكنها لم تستطع هزيمة كبريائها ونسيان خياناته المتكررة لحبهما الذي بدأ يأخذ شكلاً مقدساً بالنسبة لهما .لذا قررت الفرار كي تحافظ على قداسة ذلك الحب وحينها قابلت سنان )).
لم يكن كل من جيمينا وسنان ليدركا حين اجتمعا في ظهيرة ذلك اليوم في مطعمه ،بانه سينمو بينهما حبٌ ما ،وسيكلل في المستقبل بالزواج ،لتصبح جيمينا سيدة قصر آل اسماييل ،ليبدأ عهدٌ جديد من تاريخ العائلة المضطرب ،عهدٌ يخلو من وحشية الجد وفخره بأمجاده الفرنسية التي عفا عنها الزمن ،لتخيم السياسة مكانه على حيوات جميع من في ذلك القصر ،ولتظهر عداوات جديدة واصطدامات ،وكما المعتاد مع كل الأزمنة سيكون هناك ضحايا وخسارات ومنعطفات يتغير معها كل شيء كما خسرت العائلة جدتها الأكبر (لطيفة )في الماضي ولم يعلم عنها أحد شيئاً .
كان ذلك اللقاء الصيفي مع كؤوس الكونياك وأطباق السمك المشوي يحمل في جعبته بداية جديدة .






_2_
مذكرات جيمينا - 1980
كنت يافعةً مندفعةً بشراسةٍ نحو الحياة ،حينما بدأت علاقتي بماتيو ،مزهوةً بنفسي النهمة لكل شيء ،المتكئة على ماضي أبٍ زاخر بالفخر والتطلعات الواسعة الأفق ،منهمكة بأشغال وقضايا وأحلام كبيرة على مقاسي ،أقضي معظم وقتي في الحملات التطوعية لدعم الفقراء ،أو اللهاث خلف أضخم الموسوعات الثقافية من كل البلدان ،من ريدرز دايجست حتى منشورات دار مير المنشورة في الاتحاد السوفييتي العظيم .
كانت حياتي تزخم بكدحٍ من نوعٍ خاص ،كدح ٍ لا بد منه وفق رؤية والدي للحياة المؤكدة دوماً على عدم تضييع الوقت فيما لايفيد ،أو لايخدم المصلحة البشرية وضرورة التعامل مع الحياة وكأننا نذرنا أرواحنا فداءً لقضية ما عظمى وهدف سامٍ وشمولي .
وكان ماتيو بالنسبة لي هو إحدى قضاياي ،لذا نذرت نفسي بالكامل لتشتته واضطراباته النفسية وأشفقت بمعرفتي على ذلك الكائن المثقل بعدم الفهم والجهل المتعب الذي يمنعه من مواجهة صخب مايحيط به من حدية في عالمه مع أسرته وأبناء حيه .
إلا أنه سرعان ما انقلبت تلك القضية ضدي وأصبحت قضيتي أنا ،لما وقعت في شراك حبٍ لم أقو على التنصل منه لسنوات ،وأرهق روحي بما فيه الكفاية ،وأدركت حينها بأن ما تعلمته من والدي عن أن الحياة لا معنى لها إلا لو وضعنا نصب أعيننا أهدافاً ساميةً كبرى لتحقيقها ،كان مشكوكاً في أمره ،عندما ضعفت وسقطت أمام أبسط ما يحلم به المرء ألا وهو أن يحافظ على من يحب بقربه .
لذا بدأت أفتح عيني وأنظر إلى الأمور بطريقتي الخاصة ،وأرمي شيئاً فشيئاً بمعظم ما تعلمته من والدي الذي خاب ظنه هو بنفسه لما شاهد بعينيه الناس تقتل بعضها دفاعاً عن أفكارها أو لإثبات أنهم على حق ،وانهارت منظومة القيم والمبادئ والأحلام الطوباوية أمام بقاء الإنسان بما يميزه كإنسان .
ولما طال البل ذقوننا ،واضطررنا في أقل من عام أن نغير منزلنا لمرات عديدة ،سجن والدي نفسه في مكتبه وانشغل في إنهاء كتابه الذي لم يكن ليعلم بأنه كتابه الأخير ،رافضاً الانخراط في مهزلة الأحزاب السياسية التي أقحمت نفسها في حرب عصاباتٍ لا تمت للضمير البشري بصلة .وإبان صدور الكتاب الذي دعا فيه والدي لنزع السلاح واللجوء إلى الحلول السياسية وطلب من السياسيين التحكم بالتعقل والسمو عن النزعات الطائفية وشرور النفس البشرية وتعطشها للسلطة ،اغتيل والدي من قبل ملثمين مجهولين .
عندها فقدت الثقة بكل قضية وأصبت بخيبةٍ كبرى ،إلى جانب خيبتي بماتيو ،فانزويت بنفسي وأعدت ترتيب أولوياتي ،فوجدت أنه من الأفضل أن أبدأ من جديد وأرمي بكل مرارة الأيام السابقة ،واخترت أن أنطلق من بلدة أجدادي هناك في سوريا على الحدود التركية .
كنت عازمةً على التحرر من تلك المسؤولية التي حملتها على عاتقي تجاه ماتيو ،لأنني أدركت على نحو مؤسف أن فرداً بشرياً مهما بلغت فطنته ووعيه وثقافته ليس بمقدوره أن يغير بإشارةٍ منه أفكاراً جامدةً ومترسخةً إلا إذا أنضج الزمن هذا التغيير وجعله يولد بنفسه .
هذا ربما ما استيقظ عليه والدي يوماً ،لما وجد نفسه يدحرج صخرة سيزيف باتجاه القمة لتعود وتتدحرج بنفسها ليكرر العملية مرةً أخرى دون جدوى ،لكن والدي غفل عن أن تلك العملية لا جدوى منها وكان يحلم بأن تحدث معجزة تحافظ على بقاء الصخرة في القمة ،وهذا هو الفارق بيني و الكاتب الفرنسي ألبيركامو وبينه فقد آمنت كما آمن كامو بأن تلك العملية لا جدوى منها إلا أنها في حد ذاتها تكسب الحياة المعنى ،نعم حياتنا عبارة عن عبث لا أكثر ،إلا أننا يجب أن ندرك الجمال في كل هذا ونتمتع به ،دون أن نسأل حتى عن مجدٍ أو غاية يقود إليها ذلك العبث .
كان والدي ثورياً كلاسيكياً ،راديكالياً إلى حدٍ ما حتى في كتاباته ولم يكن ليهتم بشأن قراءة كامو أو غيره من الفلاسفة الذين جلبوا منهجاً جديداً يخصهم ،كانت فلسفة ماركس وأفكار لينين هي وحدها ما تجدي في نظر والدي ،كانت لديه نزعةٌ بأن يقول أفكاره وكأنه يأمر باتباعها ،وحتى ولو كانت تلك الأفكار عظيمة إلا أنه في رأيي كان على والدي أن يكون أكثر تقرباً من الناس الذين يوجه رسالته إليهم ،فقد كان لينجو بنفسه ربما ومن جهلهم الذي لم يكن ليتوقعه ،ولم يكن ليتوقع بأن كتاباته غير مفهومة على عكس ما كان شديد الثقة به .
حينما قابلت سنان لدى وصولي بلدة أجدادي وجدت فيه ذلك العبث متجسداً العبث الذي تحدث عنه كامو ،كان لديه حلم دون غاية وكل ما كان يهمه هو الاستمتاع بكل لحظةٍ ،مثل طفلٍ كبيرٍ بلهو بألعاب خصصت للكبار ،وكنت سعيدة بقرب ذلك الطفل ،طفلٌ مقبلُ على الحياة كما هي ،وليس على عاتقي مسؤولية تغييره كما حالي مع ماتيو .
كنا نجلس أنا وسنان معاً في مطعمه ،وتمر ساعاتٌ دون أن نشعر بمرورها ،أكلمه في السياسة ،عن تسلم جيمي كارتر لزمام السلطة في أميركا ،وأن ذلك فيه مايبشر خيراً بفضل سياسته الديمقراطية المنفتحة على الآخر ،أو عن تغلغل الكتل المتعصبة في البلاد والتخوف من استعمالها الإرهاب ،الوسيلة الوحيدة التي في أيديها طالما أن حجتها ضعيفة ومبنية على نزوعٍ طائفيٍ أعمى .
وكان هو يحدثني عن هواياته ،عن انواع الكلاب التي يربيها ،وبراعته في تمييز أنواع المكرونة والبيتزا الإيطالية والجرارات والدراجات النارية .وصارت لقاءاتنا هذه محط ريبةٍ وانزعاجٍ من قبل أهل البلدة والبلدات المجاورة ،حيث اتهمنا بخدش الحياء وتهافتت الأقاويل والأكاذيب علينا ،سواءً من الأوساط المحافظة المسيحية هنا في بلدة سنان ،أو من البلدات المجاورة حيث تقطن فئة أصولية مسلمة لا مجال للنقاش معها .
وكانت قد ظهرت في الآونة الأخيرة أمارات الحنين إلى الماضي الإسلامي الغابر في تلك الأوساط خصوصاً بعد نجاح ذلك الحلم في إيران إبان الثورة الإسلامية ،وكانت تلك الأمارات تنذر بقدوم زمنٍ موبوءٍ بالأحداث الدموية التي قد تطيح بكل ما حاولنا التأكيد عليه دوماً ،بأنه يجب أن نحافظ على حياة أي إنسانٍ أياً كان عمره كمثل حفاظنا على حياة طفل وألا تسحبنا تلك الرغبة الدفينة في الفناء معها و التي تدفعنا إلى إفناء بعضنا البعض لأسباب سخيفة حتماً ،أو ذلك التجبر على الحياة نفسها عندما يملك المرء الذروة ويرغب في تدمير ذاته أو تدمير غيره ،وخصوصاً أولئك الذين لا يقتاتون سوى على أفكارٍ صغيرة ،سرعان ما تنضب ولا يبقى أمامهم سوى قانون صراع البقاء ،الغريزة الأولى لحيوانٍ يدعى الإنسان .








مذكرات إيميلي - 2011
حدث ذلك منذ ثلاثين عاماً حسب ما جاء من مذكرات والدتي ،حينما طالت يد المتطرفين كل طموح ومتميز في عمله ،وتعرض مطعم والدي للتفجير ،وأصبح والدي مقعداً إثر ذلك فنشأت أنا بعدها بين أبٍ جليس المنزل محبٍ للحياة ،وأمٍ منشغلةٍ على الدوام بقضاياها النسوية وفي ترسيخ أفكارها التحررية في مجتمعٍ كانت دخيلة في الاصل عليه ،وخصوصاً بعد وفاة جدي بأفكاره الكولونيالية العفنة كما تصفها والدتي ،وساعدها على ذلك انضمامها إلى صفوف الاشتراكيين ،والأفكار الاشتراكية التي كانت تسود آنذاك ،فأصبح لها وزنها وكلمتها في البلدة وفي المنزل ،ويمكن القول بأنني عشت في ظل سلطة أنثوية مقتها دوماً ،فقد كنت على عكس والدتي أحب الهدوء وقراءة الكتب الكلاسيكية ،وانجذبت إلى كل ماهو صوفي وروحاني وقرأت مبكراً مذكرات جدتي الكبرى (لطيفة )التي ضاعت في الماضي وجعلت من مسألة تتبع مصيرها وكشفه هدفاً هاماً من أهداف حياتي إلى جانب الكتابة التي لذت بها لحل سوء التفاهم بيني وبين هذا العالم الخارجي الذي تحمست إليه والدتي على نحو مربك بالنسبة لي وحتى مثير للغثيان أحياناً .
لذا أصبحت أقرب إلى راهبة في تصوفي وانعزالي ،وانكبابي على الكتب وكأن الواقع المحيط بي غير مهم ،وأن الحقيقة لامحال سأجدها في الكتب .وكرهت تلك الصورة عن الفتاة التي رغبت أمي في جعلي إياها ،وعلى العكس أحببت صورة تلك الفتاة الخاضعة تماماً لسلطة رجلٍ والتي تحتاج إلى حضنه ودفئه على نحوٍ متطرفٍ أحياناً !
وما إن أنهيت المرحلة الثانوية حتى فررت من ذلك المنزل ،منزل آل اسماعيل وقبلت بالمنحة التي حصلت عليها في إحدى جامعات بيروت ،ولكنني لم أتأقلم هناك بتاتاً وعدت فوراً بعد أن اصطدم ذلك العالم بالعوالم التي قرأت عنها في الكتب .
واكتشفت بأن الكتب قد تسببت لي بضرر جسيم وسلختني عن الواقع كلياً ،وأن والدتي كانت محقةً بعض الشيء في واقعيتها المحضة ،وفي نظريتها عن الصراع الاجتماعي .
وأدركت ذلك لما وقعت في حب شاب من البلدة ويعمل مدرساً للتربية الرياضية ،كان شاباً مقبلاً على الحياة ،ولم يكن ليلتفت إلى فتاةٍ ممزقة من الداخل مثلي ،انعزالية ،تفحص الواقع من منظار ما قرأته في حياتها ،وكنت حتماً بالنسبة له متقاعدةً من الحياة ،لا تناسب شخصيته المقبلة على الحياة والحيوية .
قابلته في منزلنا لما كانت والدتي ترغب في أخذ دروسٍ في الحفاظ على الرشاقة بما أنه لم يكن ينقصها سوى الرشاقة كي تصبح المرأة التي ينبغي أن تكون عليها والتي تليق بالسلطة التي بين قبضتها في الحزب وفي المنزل وفي إدارة المطعم التي أعادت ترميمه .
وشيئاً فشيئاً دارت أحاديث بسيطة بيني وبينه ،وبدا لطيفاً عصرياً مليئاً بالحماس ومثقفاً ،تغلب على ثقافته السمة الأوروبية ،وكان علمانياً في طريقة تفكيره .
وذات مرةٍ وبكل بساطة قررت أن أخبره بأنني معجبة به وبالرغبة من زواجي منه ،فتقبل ذلك بكل تعاطف ومع ابتسامةٍ رائعة وأخبرني بأنه موافق على عرضي بالزواج هكذا بكل انفتاح .
تزوجنا وانتقلت للعيش معه في منزله المتواضع إلا أننا لم نقم فيه كثيراً وحال دون ذلك ما حصل من أحداثٍ دموية التي غزت البلاد دون سابق إنذار وأطاحت بكل ما كانت تبنيه والدتي وبما توهمت بأنها قامت به من تنوير للشعب الذي كان يسير في طريقٍ أخرى كلياً .
وكان محتماً علينا نحن أسلال عائلةٍ عرفت بولائها القديم للفرنسيين كما ينظر إلينا الأصوليون المرتبطون بالماضي ،كان علينا أن نوضب حقائبنا ونشرع في الهروب قبل أن تسحقنا قبضة الجهل الغاضبة .










مذكرات جيمينا- 2021
لم أعلم ما الذي حصل ؟ مر على ذلك عشر سنوات ،على صدمتنا كمثقفين بما آلت إليه أحوال البلاد ،وبما كنا مخدوعين به طوال تلك السنوات التي كنا فيها نسير في دربٍ والشعب يسير في دربٍ آخر ،حتى صعقتنا غزارة الدماء .
غادرنا حينها البلدة أنا وزوجي وابنتي إيميلي وزوجها إلى بيروت لفترة قصيرة ،ثم عدنا إلى سوريا .
كان علي أن أعود لكي أرى سوريا بمنظار مختلفٍ كلياً ،بعد أن تصالحت مع نفسي ومع ماضيَ وأفرغت نفسي من كل ما يعكر صفو ذلك السلام الداخلي الذي وصلت إليه .
تحررت من حب ماثيو القديم ،ومن محاولاتي الثورية في إثبات حديديتي ،لأسلك طريقاً أخرى أثبت فيها قوتي الداخلية .
أصبح لدي حفيد وهذا جل ما أهتم به إلى جانب الكتابة ، التي أصبحت نهمة عليها مذ عدت إلى بلادي .
أصبحت علاقتي بزوجي سنان وثيقةً للغاية ،بعد كل السنوات التي جمعتنا كزوجين ،ولم يحصل ذلك من قبل سوى إبان ما حصل في البلاد وبعد عودتنا إلى سوريا بالتحديد .
فقد أصبحنا زوجين بكل ما للكلمة من معنى ،وكنت أرافقه لزيارة قبور جده اسماعيل ووالديه في تلك البلدة على الحدود التركية ،فقد كنا قد استقرينا إبان عودتنا في مدينة اللاذقية .
حتى أنه أصبح أكثر ارتباطاً بالحياة ،بعد أن تخليت عن كل أساليبي القديمة في السعي خلف السلطة وتغيير المجتمع وبناء منظومة أفكار جديدةٍ كلياً .
ولم يكن أحدٌ ليصدق أن مجد آل اسماييل العظيم سيؤول في النهاية إلى عائلةٍ صغيرة بسيطة تعيش بسلام في منزلٍ متواضع وأن آخر حفيدٍ في العائلة ستكون والدته امرأةً حالمةً ورومانسية ،راضيةً ومستسلمة كلياً لقدرها ،تنظر على الدوام من شرفة المنزل ،مترقبةً ربما عودة جدتها الكبرى (لطيفة ) ذات يوم .



#الحسين_سليم_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد (منقحة)
- ماسة (منقحة)
- اعتذارات الديكتاتور
- ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد
- ماسة


المزيد.....




- برنامج -عن السينما- يعود إلى منصة الجزيرة 360
- مسلسل المتوحش الحلقه 32 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- -الكتابة البصرية في الفن المعاصر-كتاب جديد للمغربي شرف الدين ...
- معرض الرباط للنشر والكتاب ينطلق الخميس و-يونيسكو-ضيف شرف 
- 865 ألف جنيه في 24 ساعة.. فيلم شقو يحقق أعلى إيرادات بطولة ع ...
- -شفرة الموحدين- سر صمود بنايات تاريخية في وجه زلزال الحوز
- من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟
- الحلقة 23 من مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة الثالثة والعشرو ...
- أسرار الحرف العربي.. عبيدة البنكي خطاط مصحف قطر
- هل ترغب بتبادل أطراف الحديث مع فنان مبدع.. وراحِل.. كيف ذلك؟ ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحسين سليم حسن - شقاء اسماعيل