أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحسين سليم حسن - حرب رشيدة















المزيد.....



حرب رشيدة


الحسين سليم حسن
كاتب وشاعر وروائي


الحوار المتمدن-العدد: 7815 - 2023 / 12 / 4 - 10:09
المحور: الادب والفن
    


(( حرب رشيدة ))
نوفيللا
تأليف
الحسين سليم حسن





















الفصل الأول
الثلج















-1-

طوال الأسبوع المنصرم انشغلت عائلة المحامي والأستاذ الجامعي الذائع الصيت والشهرة ( عبد الرحمن السليمان )بالاستعداد النفسي لانتخابات مجلس الشعب التي كان من المقرر إقامتها في الأيام القريبة التالية بعد أن أقدم رب الأسرة على الترشح لها .
وعلى الرغم من موقف ابنته رشيدة المعارض لقرار والدها إلا أنها كعادتها استيقظت في اليوم الذي يسبق الانتخابات بيومين لتجهيز والدها من أجل الذهاب إلى عمله ،وكانت تداوم على فعل ذلك منذ اختارت العيش مع والدها والانفصال عن والدتها التي تطلقت ذات يوم وفرت مصطحبة رشيدة و شقيقها (وسام ) إلى منزل أهلها في الريف المعدم والبسيط حيث عاشت رشيدة أسوأ أيام حياتها مع والدتها الأمية التي كانت تنحدر من عائلة بعقول تؤمن بطرد الأمراض عن طريق الشعوذة و إلوسائل المتنوعة لطرد الحسد والتي قادتها ذات يوم إلى إهمال مرض رشيدة عندما أصيبت باليرقان في طفولتها وفضلت الأم العلاج الروحي واصطحابها إلى المزارات بدلاً من السفر إلى المدينة لتلقي العلاج في المستشفى .
لذا لم تتوان رشيدة عن العودة إلى والدها بعد بلوغها السن القانونية ونذرت سنوات مراهقتها في خدمته وواظبت على تطوير معارفها وثقافتها كي تحقق رغبته في دراسة الإعلام وولوج عالم الصحافة والسياسة لتحقق مالم يستطع تحقيقه في ما يخص مشروعه السياسي الليبرالي الذي اصطدم بالجهل والرجعية والكبت الذي امتلأ بها زمانه ،إلا أنه كان متفائلاً بجيل رشيدة الذي كان في رأيه يملك كل المقومات والوعي بتجارب من سبقهم وخصوصاً ابنته رشيدة التي لم تفترق عنه يوماً في مجالسه مع أصدقائه العلمانيين من أطباء وكتاب وناشطين سياسيين .
إلا أن ما كان ينغصه هو ابتعاد شقيقها (وسام ) عنه والذي فضل البقاء مع والدته لحمايتها في الريف بعد أن قضت والدته طوال السنوات وقتها في جعله رجلها الذي سيحميها من أولاد الحرام ومن أحقاد أفراد عائلتها وغيرتهم كما كانت تردد على مسامعه ومسامع رشيدة منذ الصغر ،والذي جعل من رشيدة تنشأ غريبة عن والدتها وأخيها ،فلم تحتمل يوماً طباع والدتها وأفكارها المتخلفة الرجعية وإصرارها عليها ،ولما عادت إلى والدها في يوم ربيعي جاء فيه الوالد منتصراً في قضية ،و فاجأته بقدومها شعرت بأن مكانها الملائم هو بجانبه ،بجانب هذا الرجل الأنيق الذي ما إن يتكلم معها ويناقشها يتسلل الشعور بالأمان والطمأنينة إلى قلبها ،والذي مع مرور الزمن اكتشفت معه شخصيتها وتفردها ،وماتحب وماتكره ،وتعلمت معه قول رأيها وتحمل مسؤوليته ، والتقدم إثر كل فشل .
وفي ذلك اليوم الذي يسبق الانتخابات بيومين ،كان على عاتق رشيدة الكثير من المسؤوليات فيما يتعلق بالحملة الدعائية ووضع شكل مختصر و نهائي لمشروع والدها السياسي والقضايا التي سيتبناها كحرية الملكية لكن مع دمجها في العدالة الاجتماعية و العلمانية وضمان حقوق الأقليات على كافة المستويات الدينية والجنسية والعرقية وحتى الثقافية،والتي كانت مواضيعاً جديدة الطرح في أوائل القرن الواحد والعشرين في بلد كسوريا .
وبعد أن تناول الوالد وجبة الإفطارالمؤلفة من العسل والنسكافيه بلاك وبسكويت الشوفان الخاص بالريجيم ومرضى السكري و التي حضرتها له رشيدة كالعادة كما أضافت له في ذلك اليوم كأساً أذابت فيه قرصا" من فيتامين ث الفوار،بعد ذلك وبينما كان الوالد ينتقي ربطة عنقه من ضمن مجموعة من ربطات العنق التي انتقاها ورشيدة معاً من شارع الحمرا في بيروت عندما زاراها الصيف الماضي لقضاء العطلة ،جاء أحد طلابه في الكلية والذي كان يكمل دراسة الماجستير في الحقوق بعد أن حصل سابقاً على البكالوريوس من الجامعة الأميركية في بيروت ،وكان ذلك الشاب الجميل المحيا البهي الطلعة يدعى (سالم الحميد ) وكانت المرة الأولى التي يزور فيها والد رشيدة في منزله ويقابل رشيدة التي فتحت له الباب واستقبلته ريثما يخرج والدها من غرفته ، ورأت في ذلك المتعرق دوماً والذي يمسح جبينه بمنديله دوماً ، إنساناً يصلح صديقاً ، لكنه مناقش قوي وند شرس في الدفاع عن أفكاره ،فما إن جلسا في غرفة الضيوف على الأرائك القديمة والتي يقوم والدها بتنجيدها كل فترة ليحافظ على إرث والديه له ،حتى شرع يحدثها عن تجربته في الجامعة الأميركية في بيروت بعد أن أرسلته عائلته الميسورة الحال إليها ، وكيف انضم إلى الشيوعيين في لبنان وتوجب عليه بعدها إخفاء هذا الانتماء بعد عودته عن عائلته الصوفية المحافظة في إحدى قرى الساحل السوري ، ،ولم تكن مستعدة لزعزعة اطمئنانها الذي تتنعم فيه ،الشيء الذي دفع برشيدة لسؤاله عن مدى توافق مشروع والدها السياسي مع رؤيته الشيوعية ،عندها تنحنح مبدلاً جلسته على نحو شديد التهذيب أثار إعجاب رشيدة للغاية ودفعها إلى أن تبتسم بخفية .بينما راح هو يشرح لها عن موقفه المعارض لليبراللية التي يعتبرها فوضى تقود بالعالم نحو الأسوأ ،وأنه لا بد من نظام شمولي يحكم العالم للوصول به نحو بر الأمان ،إلى الطوباوية المطلقة .
عندها تبدلت ملامح رشيدة نحو الدهشة وتمتمت بعد أن طأطأت برأسها نحو الأسفل محدقة بفنجان القهوة :(ولكن لايمكن تطبيق نظام شمولي على بلدان ومجتمعات متباينة في الظروف والأفكار والعادات والثقافات) .
وعندما تنحنح لكي يرد عليها دخل والدها مقاطعاً الحديث ،مردداً وهويبتسم :
(هاقد جاء الراديكالي المشاكس ،قاهر قلوب العذارى )
عندها نهض سالم من جلسته على نحولائق للغاية قائلاً وهويقهقه :
(لا بد من قليل من الراديكالية ،فالتغيير الشديد السلمية زائف )
ثم التفت نحو رشيدة وسألها : (هل أنا غير محق أيتها الآنسة ؟)
ضحكت رشيدة دون أن تنطق ببنت شفة .
غادر بعدها والدها برفقة المحامي الشاب إلى الجامعة ،بينما خرجت رشيدة بفستانها الأحمر المنقوش بصور الورود إلى الشرفة مصطحبة معها صينية القهوة الصباحية ،وجلست إلى جانب الصبارة الضخمة التي كانت نبتتها المفضلة ،وراحت تعود بذاكرتها إلى تلك الأيام التي قضتها في الريف وهي تحلم بالعودة إلى أبيها ،فمنذ اللحظة التي تركته فيها في صغرها شعرت بنوع من الضعف المقزز الذي أصبح فيما بعد ضعفاً مزمناً ،جعلها تعيش غريبة عن والدتها وأخيها ،ولم تهتم يوماً لمعرفة فيما إذا كان السبب في هذا الاغتراب نابع من داخلها أو من والدتها التي لربما حاولت في البداية احتضانها وجعلها فتاة صالحة من منظورها الشخصي ،إلا أن تلك الفتاة الصامتة الغير متطلبة عاشت غريبة عنها ، تكرر الأحداث والتفاصيل التي عاشتها مع والدها في عقلها ،وتحاول في كل مرة تفسير جمله التي كانت تحفظها عن ظهر قلب دون أن تعي معناها ،بينما نشأ شقيقها الأصغر وسام كما ارادت له والدته أن ينشأ ،وجعلت منه نموذج الرجل القوي الصبور والمتكامل والذي يصلح للتباهي به أمام الناس بما يملكه من قوة ودين وأخلاق ورجولة ،و يضمن له المكانة اللائقة بين الناس إلى جانب مكانته التي حظي بها في تقربه من شيخ القرية ، أما بالنسبة لرشيدة فكانت بمثابة فشلها الذي تتناساه دوماً ،لكي لاينغص عليها متعة انتصارها أمام أفراد قريتها بعد أن فشلت أمامهم قديماً في تجربة زواجها من ذلك المحامي والذي تمكنت من الزواج به بعد أن تعرفت عليه عندما استلم قضية إعادة ميراثها المغتصب من قبل أقربائها ،وخسرت القضية التي كانت قضيته الأولى في شبابه ،وصارت تنتظر بلوغ رشيدة السن القانوني لكي ترسلها لوالدها قبل أن يكتشف أعداؤها في القرية غربة تلك الفتاة عنها .
ومنذ اليوم الذي وصلت فيه رشيدة إلى منزل الأب كانت تداوم على الجلوس كل فترة إلى الشرفة تستعيد ذكرياتها وترتب أولوياتها وتؤكد على نفسها تحقيق ما ترنو إليه .
وفي هذا اليوم فكرت أيضاً بذلك الشاب (سالم الحميد ) و أفكاره الغريبة ،وقادها فضولها إلى التوجه نحو مكتبة والدها لقراءة البيان الشيوعي من جديد ،إلا أن صوت رنين الهاتف قاطعها فجأة ،وكانت صديقتها (جيانا) تتحدث عبره كعادتها في كل يوم عطلة ،تتصل برشيدة وتنسقان معاً مشروع لقاء بينهما في أحد المقاهي أو في منزل إحداهما .
كانت جيانا تدرس الإعلام أيضاً ،لكنها كانت مختلفة كلياً عن رشيدة ،فهي تنحدر من عائلة مسيحية محافظة تعرفت على رشيدة عن طريق خطيبها (جورج )الذي أعطى رشيدة دروساً خصوصية في اللغة العربية عندما كانت تتقدم للشهادة الثانوية ،وقرأ لها ذات يوم قصيدة كان قد كتبها لخطيبته جيانا ،فرغبت حينها رشيدة بالتعرف إلى تلك الخطيبة ،وهكذا أصبحا صديقتين .
وفي هذا اليوم دعتها رشيدة لقضاء اليوم معها في منزلها ،لكي تسليها وهي تقوم بطباعة البروشورات الدعائية لمشروع والدها السياسي كي توزع على طلابه في الجامعة في اليوم التالي الذي يسبق موعد الانتخابات بيوم .
وبعد أن قدمت جيانا إليها أمضت معها فترة ماقبل الظهر بكاملها وهي تسرد لها قصصاً ونهفات جامعية كي تضحكها كعادتها ،فرشيدة وعلى الرغم من وجودها إلى جانب والدها كما حلمت دوماً ،كان ثمة حزن وقلق ما في عينيها، أوربما خوفٌ من فقدان الكل والعودة إلى العدم ،فقدان الواقع والعودة إلى الحلم والغربة عن العالم .
كان هذا الحزن والقلق يجعلها متوترة في أغلب الأوقات ،ولا شي كان يخفف عنها هذا التوتر سوى أمرين ، وجود جيانا بقربها ،والتي كانت تعلم بأنها العلاقة الطبيعية الوحيدة التي تذكرها بكونها إنسانة طبيعية كمثل كل الناس ،وكانت تلك العلاقة هي العلاقة الوحيدة التي لم يتحتم عليها أن تنظر إليها لا بتعظيم أوتحقير مبتذلين ،فهي بقدر ماكانت تعظم والدها بقدر ما كانت تحتقر والدتها وحياتها السابقة ولم تكن تجرؤ على الاعتراف حتى لنفسها بذلك الاحتقار،فهي لطالما احتقرت عائلة والدتها وأفكارهم الجاهلة وأوهامهم والمعايير الصارمة التي يعتمدونها في تقييم الناس ،كما كرهت عنصريتهم وكرههم للطوائف الأخرى ووصفهم إياهم بالأنجاس .
فهي وبما أنها كانت على ثقة دوماً بأن المنطق الذي نعتمده في فهم العالم والحياة هو ما يحدد شكل مصائرنا ،كانت تحاول العيش دوماً بمعزل عنهم كي تكون فهمها الخاص الذي سيقودها نحو شكل أفضل من أشكال الحياة البعيد كلياً عن طقوسهم وفلسفتهم ومنطقهم المحدود .
وعندما حدثت صديقتها جيانا عن هذا طوال فترة جلوسهما معاً ،استغربت جيانا بشدة ،وحتى أنها خافت بداية من أن تكون رشيدة تحمل مثل هذه الأفكار وشغلها عن هذا التفكير اتصال فجائي قاطع عمل رشيدة في طباعة البروشورات .
وكان المتحدث عبر سماعة الهاتف (سالم الحميد ) تلميذ والدها وكان يحمل لها خبراً سيئاً ،خبر نقل والدها إلى المستشفى إثر إصابته بنوبة قلبية أثناء تأدية عمله في الجامعة .















-2-
مر اليوم المخصص لإقامة انتخابات مجلس الشعب دون أي يحرك ساكناً في منزل المحامي (عبد الرحمن السليمان ) الذي قضى ذلك اليوم سطيحاً في الفراش منتظراً ابنته رشيدة لكي تأتي له بخبر عن النتائج ،وذلك بعد أن أمره الطبيب بالالتزام التام في الفراش .
أما رشيدة التي قضت اليومين السابقين في المستشفى بقربه إلى جانب (سالم الحميد )كان عليها اليوم وبرفقة سالم التنقل بين المراكز الانتخابية لمراقبة سير عملية الاقتراع .
وعندما عادا مساءً وأخبرا والدها بالنتيجة المعروفة مسبقاً ،ألا وهي الخسارة ،لاحظا الخيبة واضحةً على وجهه وتفاجآ لذلك لأن النتيجة كانت محتومة تماماً بالنسبة لهما ،لذا غادرا صامتين الغرفة التي يشغلها ليتركاه مع صمته و دموعه العصية على الذرف .
وجلسا في الصالون يتحدثان قليلاً عن رأيهم في هذه الانتخابات :
(كان من الواضح أن برنامجه الليبرالي لن يفهم ولن يحظى بالأصوات الكافية ،فلم صدم هكذا ؟)
تساءل سالم .
أجابته رشيدة بعد أن تنهدت بعمق :
(للمرة الأولى أراه هكذا بكل هذا الاستسلام ،أنا حقاً خائفة جداً عليه ).
عندها نادى عليها وطلب منها أن تدخل لوحدها إلى غرفته ،ثم أمرها أن تتصل بشقيقها (وسام )و تطلب منه المجيء لرؤيته .ثم أردف قائلاً : ( العمر قصير ،ولا يعلم المرء متى يأتي أجله ،ثمة أمور يجب إنهاؤها )
ولأول مرة وجف قلب رشيدة ذعراً امام شخص والدها ، وراودتها شكوك جديدة عليها وتساءلت في سرها فيما لوكانت ثقة والدها بها مجرد وهم لا أكثر ، وهذا ما أرعبها بشدة أن تعود للأوهام التي اختارتها كطريقة في العيش في الماضي .
وعندما خرجت لسالم مرة أخرى ،طلبت منه البقاء لساعة أخرى لاحتساء الشاي والتحدث قليلاً.
ثم اسرت له عن مخاوفها من ردة فعل والدها ،ثم تمتمت وهي ترتجف :
(سوف يستسلم .. أشعر بذلك ،وسيكون علي بعد فترة أن أعيش تحت جناح أخي الكبير ..)
وللمرة الأولى بدا لسالم وحدة رشيدة وربما غربتها بالرغم من إظهارها للعكس ،و أحس بأنها مخذولة وأن هذا الخذلان يفصمها عن الواقع .
لذا اقترح عليها أن تخرج برفقته إلى مقهى ما ،حيث سيلتقي هناك بصديقته (داليا ) الطبيبة ذات الشخصية القوية والتي تعجب شيوعيا يميل إلى الراديكالية مثله .
وقبلت رشيدة تلك الدعوة منه رغبة منها في إشغال نفسها عن واقع سيغدو محتوماً عليها تقبله على نحو سريع ومؤلم .
(أنا رشيدة من تتكلم )...
في المقهى لم أنجذب مطلقاً لداليا صديقة سالم ،كان كل مافيها يبرق ،واستفزني أسلوبها الجريء في الكلام وصوتها الحاد وضحكتها الحرة ،وحديثها المليء بالأرقام والألفاظ البذيئة التي تخرج من فمها خلف ضباب دخان النارجيلة .
أعادني ذلك إلى ضعفي وعزز حزني الداخلي ،وأحسست بأن قوتي وطموحي وكل تلك الأمور التي ظننت أنني ملكتها عندما عشت بجانب والدي أصبحت غير ذات نفع ،وعزز هذا الشعور انشغال سالم عني والذي كنت أتأمله وهو يضحك من كل قلبه وشعرت برغبة عميقة في تقبيله أمام تلك ال (داليا )التي تمنيت أن يلسعها ثعبان في تلك اللحظة !
تحججت بأنني مرهقة من اليوم الطويل للانتخابات ،ورفض سالم أن أعود بمفردي للمنزل ،فرافقني .
مشينا في شوارع مدينتي اللاذقية التي لم أكن أعرفها جيداً من قبل ،فعندما قدمت إلى تلك المدينة كنت أجدها فقط منزل والدي ،هذا كل ماكان يعنيني فيها .
اصطحبني سالم معه في أزقة وشوارع ضيقة في حي الأميركان ،وأثارت في القدامة نشوة لذيذة
،وأخرجتني قليلاً من قوقعة تخبطي .
حدثني قليلاً عن علاقته بداليا ،وكيف فرت مع رجل ثري آخر لما كانا مرتبطين في الماضي ،ولما عادت متطلقة مع ثروة طائلة ،طلبت نادمة أن تعود إليه فوافق على أن يعودا كصديقين فقط .
كان هذا مثيراً للسخرية بالنسبة لي لكنني لم أبح له بذلك .
عندما كنت صغيرة ،كنت أنصت لمدائح والدتي عن تلك الفتيات القرويات اللواتي نجحن في اصطياد رجال أثرياء ،ثم أنسحب من المجلس الذي يدار الحديث فيه وأركض بكل طاقتي لاهثة ً راغبة في أن أصطدم بشيء ما يثبت تشتتي الذي سببه كلام والدتي ثم أنزوي في ركن هادئ من الحقل المجاور لمنزل عائلتها ،وأحدق في شيء ما من الطبيعة حولي ،أو أعبث بزهرة أو حفنة من تراب .
ثم ما أذكره أنني شيئاً فشيئاً بدأت أمقت أولئك الفتيات لمجرد أنالحديث عنهن مضجر للغاية ،وما أذكره أيضاً أنني كنت لا أحترمهن بالرغم من عدم معرفتي بهن و حتى أنني كنت أحتقرهن .
لاحظ سالم علي عدم استلطافي لصديقته ،وفرحت لذلك .كان ثمة ما يشدني إليه و منحني احساسه بارتباكي تعويضاً عما خسرته من ثقة في ذلك اليوم إبان قرار والدي الصادم .
اقترح علي مرافقته لنتمشى قليلاً على رصيف الكورنيش الجنوبي ،فوافقت .
حمل هواء البحر الساخن إلي طمأنينة لذيذة ،ودعم ذلك الشعور حديث سالم عن ضرورة ابتعاده عن تلك المرأة ،و وصفها بأنها غير جديرة بالثقة .
تناولنا عرانيس الذرة المسلوقة ،وحدثني قليلاً عن ماضيه الشيوعي في بيروت ،لكننا لم نخض في نقاش كالذي خضنا فيه في لحظة تعارفنا الأولى .
كنا مثل طفلين يرغبان في عيش اللحظة دون أن تقحم الأفكار التي كدستها الحياة في عقولنا نفسها بيننا .
وانتهى هذا اليوم ونحن عائدين مبتسمين تملؤنا نشوة ماقد يسمى الحب ،وبعد أن أوصلني للمنزل ،تناولت كوباً من الأعشاب المهدئة وتوجهت بعدها لرمي البروشورات الدعائية الخاصة بالحملة الانتخابية الخاصة بوالدي في القمامة ،ثم رقدت في سريري وزارني هذه المرة حلم جديد ومختلف .
من صباح الغد ،انشغل منزلنا بخبر قدوم والدتي برفقة شقيقي وسام ،طلبت من والدي أن يحضر خدماً لاستقبالهم ،وأظهرت له وللمرة الأولى عدم اكتراثي بأمر يثير اهتمامه ،ثم جهزت نفسي ووضعت الميك أب وخرجت دون تناول الفطور معه .
شعرت بأنني كنت وقحة للغاية معه ،ولكن وقاحتي هذه عكست مدى خيبتي ورفضي التام لأي شخص قد يقاسمه حبي ،فماذا لو كان هذا الشخص من ماضي الذي أمقته ،والذي لجأت أصلاً إلى والدي للهرب منه .
ركبت سيارة والدي وتوجهت للتسوق ، وزرت للمرة الأولى محلات الاكسسوارات الأوروبية المنتشرة في حي الأميركان ،ثم اتصلت بسالم وطلبت منه أن نلتقي لتناول الغداء في مطعم الفيو على الكورنيش الجنوبي .
عندما جاء سالم اقترح علي تغيير وجهتنا والجلوس في حديقة ما ،توجهنا إلى حديقة المارتقلا التي كان والدي يحدثني عن بقائه المستمر فيها وحيداً في فترة دراسته الجامعية ليوم كامل ربما يقضيها في القراءة أو الكتابة .
اشترينا سندويشات الفلافل برغبة مني ،وولجنا الحديقة بعد أن دخلنا في نقاش عما إذا كان تطبيق الليبرالية في سوريا وهماً أو حقيقة .
بدا على سالم تطرفه الشديد فيما يخص موقفه من التنوع ،إلى الدرجة التي تجعد معها جبينه وقطب حاجبيه وهو يشرح لي أن الفوضى التي يعيشها العالم يمكن السيطرة عليها بنظام شمولي يحدد معايير الصحيح والخاطئ من منظور وجودي وبعيد كلياً عن المعايير التي تضعها الأديان مثلاً.
رافق العبوس وجهه بعد ذلك ،حتى اننا لم نتكلم سوى بضعة كلمات في طريق العودة ،ورغم هذا كله كانت تنتابني رغبة عميقة في أن يقول شيئاً يحدد من خلاله شكل علاقتنا التي تطورت بسرعة وعلى نحو جميل ودافئ على الأقل بالنسبة لي .
-3-
ما أخبأ في قلبي من كراهية تجاه والدتي وبيئتها المقيتة يتعبني ،كما يرهقني ذاك الشعور بأنني أقضي أيامي وأنا أعبث فقط ،أعلن تمردي الناعم على والدي تارة ،وتارة أركض خلف سالم وكأنني أبحث عن أمان آخر ،أو ربما عن مفتاح جديد أفتح فيه باباً مغلقاً من أبواب ذاتي المغلقة ،لأعثر على نقطة قوة جديدة تحول دون انكساري .
وهكذا تستمر الأيام وأنا متعبة ،أنظرإلى والدي ويزعجني حزنه واستسلامه ،والذي دفعه إلى توزيع ورثته علي وأخي ،واحتضان أخي بقربه ليعوضه عن سنوات البعد بينهما .
كنت أتجنب البقاء طويلاً ضمن هذه المعمعة ،خصوصاً عند وجود والدتي ولا مبالاتها المستفزة ،وأحاديثها البسيطة الساذجة و أنسحب متقززة عندما تبدأ بسرد بطولات أخي واصطداماته مع أهالي القرية المتجاوزين للخطوط الحمراء ،أو عندما تسهب في حديثها عن ضرورة تزويجه و الفرح بأبناء له .
يتوتر والدي لانسحابي وينادي علي متوسلاً بقائي ،أتحجج بأنني على موعد مع جيانا صديقتي ،وأهرول إلى الخارج مجتازة نظرات شقيقي المندهشة والبلهاء .
أسارع بعدها للقاء سالم في حديقة ما ،أو في مقهى أو في أحد المراكز الثقافية التي يداوم على الارتياد عليها ،نشاهد فيلماً أو مسرحية.
كان سالم يصر دوماً على نعت الثقافة السائدة في البلاد بالثقافة المنحدرة ،ويؤكد على أن سبب ذلك هو إصرار دولتنا على أن تبقى دولة محافظة .
كان تمسكه بشيوعيته يثير إعجابي تارة وتارة كنت ألتمس المبالغة والتطرف الغير مبرر في أقواله ،بالرغم من انك لو تأملته قليلاً ستؤكد لك بنيته القوية وجسده المشدود والصحي بأنه قادم من وسط عائلة برجوازية وربما محافظة متشددة .
طلبت منه ذات مرة أن يحدثني عن عائلته فأخبرني أنهم ريفيو الطباع والعادات ،النسوة منهن قويات البنية تماماً كالرجال ،وأن الرجال محافظون وهادئون ملتزمون بشرائعهم الدينية والإخلاص للطائفة .
قال عبارته الأخيرة وهو يبتسم ساخراً ،وراح يخبرني بعدها عن مشاجراته المستمرة مع أفراد عائلته المتدينين ،أو أولئك الأثرياء منهم الذين لا يملكون ما يعول عليه سوى المال والذين انساقوا خلف وحش العولمة كما عبر بعماوة حتى أصبحوا يفخرون باقتناء أنواع أسلحة الصيد أكثر من افتخارهم بطائفتهم التي يقدسونها .
كانت الخيبة المشوبة بابتساماته الساخرة واضحة ،وحتى أحياناً كانت تبدو لي مزيجاً من الغضب والتقزز الذي يشبه ما يعتريني تجاه والدتي وعائلتها ،
لذا عندما كنت أراه في مثل هذه الحالة ،أسحبه من يده وأصحبه لتناول البيتزا التي يعشقها في مطعم نابولي ،ثم نرتاد إحدى المقاهي ليحدثني عن الكتب التي قرأها في بيروت وعن شوارعها الغربية الحزينة أو عن حداثة قسمها الشرقي الشرسة الذي يمقته كما يمقت منطقة الزراعة ويرفض دوماً اقتراحاتي عليه بالذهاب إليها والتجول قليلاً.
ويردف بأنه يكره بأن يكون محاطاً بمجموعة من الغارقين في وهم جمع المال والذين لايملكون هدفاً أخر من جمع المال سوى مزيداً من المال ! وأنه لايثق حتى في أكثر المهن التي تدار هنا إنسانية بما فيها الصيدليات والأطباء وأن كثيراً من حالات الوفيات تسجل نتيجة لأخطاء الأطباء أو الصيادلة الذين يصرفون أدوية خاطئة لمجرد مثلا ً أنها أغلى ثمناً ،كان يضحك عندما يسهب في شرح هذا ويقول : (تخيلي أنه هناك قتلة حرين طليقين في صيدلياتنا وعياداتنا ،مهزلة !).
وأحياناً كان يحدثني عن تفاهة تلك النسوة اللواتي تدمرن أنفسهن في سبيل الهوس بعمليات التجميل وحقن البوتوكس وتكبير الصدر إلى حد الجنون احياناً .
كنت أكتفي بالصمت حينما يتكلم في مثل هذه الأمور ،رغم أنني في الغالب كنت أملك رأياً آخر ،وأتأمل تقاطيع وجهه الجدية ،وأبتسم دون أن يراني ،وتنتابني رغبة في احتضانه .
فمعه فقط عادت لي تلك المشاعر القديمة التي انطفأت منذ أحببت للمرة الأولى ابن المختار في قرية والدتي ،وحضنا بعضنا لمرتين فقط ،ثم جاء بعدها إلي وصرخ في وجهي أنني عاهرة وغادر إلى الأبد !
ولم يتأخر سالم في تلبية رغبتي ،لما سارع وتقدم إلى خطبتي من والدي وأخي ،وتزوجنا في غضون شهرين بناء على طلبي ،وذلك لأهرب مجدداً ربما من واقع قد يفرض علي فرضاً .













-4-
تنتابني رغبة في اختراع لغة جديدة ،لأتمكن من خلالها من التعبير عما يكتسحني من مشاعر وانفعالات متداخلة ،يتكوم لبرهة كل الغضب واليأس والخذلان الذي يبعثه في نفسي قرع الطناجر وشجارالنسوة وبقايا حروف مترسبة في أذني من نقاشات مسائية لاجدوى منها افتعلها زوجي سالم مع أقربائه من الرجال الذين فرغت عقولهم تماماً وأصبحت محشوة بالأرقام والخبرات البسيطة التي تتطلبها الحياة اليومية ،وبقايا ومضات مشتتة للمعان فساتين وأحذية ذات كعوب عالية وعدسات طبية ملونة وأسنان اصطناعية ذهبية براقة .
كان هذا هو عالم عائلة سالم ،في منزله الريفي حيث انتقلنا إليه للعيش هناك مؤقتاً ريثما يتسنى لسالم تجهيز منزله في اللاذقية ،عالم من الضجيج الذي لايذكرني سوى بعائلة والدتي ،ولوأن الرجال في هذه العائلة كانوا متعلمين وهذا مايميزهم عن رجال عائلة والدتي إلا أنهم اختاروا الطريق الاسهل بالعودة إلى عوائلهم والانتماء المتطرف لطائفتهم وانتقائهم لزوجات يصلحن طباخات و جليسات جيدات ،والنسوة رضخن وقبلن بذلك مقابل العيش في الأمان والرخاء .
كانت عائلة يمكن تلخيص أسلوب حياتها في جملتين أو ثلاثة ،نوع من البارانويا الممزوجة بالخرافات وبضعة أوهام تمنحهم القوة أو الاعتقاد الشديد والمتطرف بمباركة الله للطائفة ،ولم أتمكن من بناء أية علاقة حقيقية مع أي منهم سوى مع (ربيع )أحد أشقاء سالم والذي كان شبه منبوذ من العائلة ،بسبب إشهار خوضه في علاقات مع نساء كثر في القرية وفخره المستمر بذلك ،إلى جانب لسانه اللاذع كما كانوا يسمونه .
كنت أجده صريحاً وواضحاً بينما كان في نظرهم ذلك الفاشل الذي تخلى عن دراسته وتطوع في الجيش من أجل أن يقبض مبلغاً كافياً لتغطية مصاريف عشيقاته .
شدتني شخصيته وكنا احياناً نتمشى معاً في طرقات القرية ونخوض النقاشات ،وبالرغم من ثقافته المتواضعة وابتعاده التام عن الكتب إلا أن نقده المستمر لانغلاق عائلته وإصرارهم على الأفكار ذاتها كان محط إعجابي .
كان يرى بأنه وسط هذا التعصب والتطرف كان لا بد من خلق رأي مضاد وبنفس الحدة و بهذا برر صراحته وسعيه المستمر لخلق جو من التمرد والعصيان ،الأمر الذي شبهته بذلك العصيان الذي اتبعته منذ صغري مع عائلة أمي ثم مع والدي الذي استسلم لقدره ،ولو كان تمرده أشد وضوحاً وجرأة .
سرعان ما أصبحنا صديقين إلا أننا لم نستمتع بتلك الصداقة ،فقد اقترح علي ذات يوم سالم بالسفر لبيروت لقضاء شهر فيها يكون بمثابة شهر العسل بالنسبة لنا كما يطلقون عليه .
وهناك قضينا أياماً رائعة تخلى فيها سالم عن قوة أفكاره ،لنعبر كل ليلة مشياً على الأقدام من مار مخايل باتجاه الجميزة ونشاهد البارات المصممة بإبداع يجمع بين التراث والحداثة ،ثم باتجاه مار مارون حيث الأبنية الملونة المأهولة بالسياح الأجانب من كل البلدان ،ثم نصعد إلى الأشرفية ونقصد ساحة ساسين حيث تعلق لافتات تحمل خطاباً معادياً للسوريين ،بالرغم من أن سكان الأشرفية بأنفسهم كانوا يعاملوننا بمودة واحترام كبيرين .
كنا نجلس على المقاعد الخشبية في ساحة ساسين ننتظر الباصات التي ستقلنا إلى الحمرا لنزور مكتبة أنطوان لشراء الكتب ،حيث كنا نجد كل الكتب الممنوعة في سوريا هناك .
ثم ننزل باتجاه شارع المقدسي وجان دارك ونكمل باتجاه شارع بليس حيث تقبع الجامعة الأميركية بكبريائها المعهود ،وهناك نشعر بالحزن الذي يكتنف تلك الشوارع ،حزن المباني العتيقة على زمان فات وولى وكأنه يصارع من أجل البقاء أمام العالم السريع والبراق المحيط به ،المتمثل مثلاً في الشارع الحديث التجاري مار الياس .
كانت مدينة رائعة مثل حلم ،تشبه النفس البشرية بمزاجيتها ومشاعرها الكثيرة والمتداخلة ، وكان أشد ما يلفت النظر هو صور الزعماء في بداية كل شارع ،كل شارع وزعيمه كما لو أننا في بلد فيدرالي .
كان سالم يرى أن هذا التنوع هو فوضى وهو مايجعل البلاد ضعيفة سياسياً ،وأنه لو كان هناك نظام واحد شمولي كان الوضع سيكون أفضل .
وعند وصولنا إلى الروشة كنا نجلس في الشمس الحارقة نطالع ما ابتعناه من كتب ،ونمشي باتجاه الرويسة ونحن نستمع إلى الأغنية ذاتها ( parole parole ) لداليدا العظيمة وندندنها معاً .
ثم كنا ننزل باتجاه الدورة وبرج حمود ،حيث جميع أشكال الحياة أقسى والبشر أشد تخبطاً وقلقاً ونشعر بأننا ننتقل تدريجياً من الأنظمة المتعددة الى الفوضى ،أو من الشمولية المخدرة إلى الليبرالية المدمرة للذات كما كان يقول .
كنت حينها أمزح معه وأقول : (وماذا عن الليبرالية التي تعيشك في الجنة إذا تابعت باتجاه الكسليك وجونيه ؟)،ونبتسم معاً رغم تناقض أفكارنا .
ثم نستسلم معاً إلى وحش الليبرالية عندما نقصد سيتي مول لابتياع البسكويت الفرنسي والمكرونة الإيطالية والبهارات الهندية من كارفور،ثم ننتقل إلى الطابق الثاني حيث المطاعم لنتناول وجبة ما ،ثم ننهي جولتنا فيه بمشاهدة فيلم لبناني رائج في الطابق الأخير حيث السينما .
بدأت حينها أكتشف في سالم جانباً آخر لم ألاحظه من قبل ،ذاك الطفل المدلل الذي كبر و اكتشف طرقاً أخرى لتدليل نفسه ،ولكم حسدته على ذلك .
لم أنشأ مثل سالم كطفلة مدللة ،كنت مخدوعة طوال طفولتي بتلك الوالدة المضحية من أجل أطفالها ،والتي كانت تحاول أن تقنع الجميع بأنها المدافعة الشرسة عنهم ،إلا أنه في العمق كانت تلك المشاعر فقط لشقيقي الذي اعتبرته ورقة ربحها مضمون في حربها مع مجتمعها ،أما أنا فكنت أمثل لها العجز والفشل الحتمي و المفروغ منه .
ولهذا ربما كنت أستسلم دوماً للقرارات التي يمليها مايسميه المؤمنون ب( القدر) علي ،كقرار الزواج بسالم مثلاُ الذي دفعت ثمنه خسارتي لعام من دراستي الجامعية ،وابتعادي عن صديقتي جيانا .
فقد يحدث أحياناً أن نخسر أناساً على غفلة منا مقابل حيوات جديدة نعتقد بأنها ستحمل لنا شيئاً أفضل ،ثم نشعر بندم ممزوج بالفرح بما هوجديد ،وغالباً ما يمر علينا هذا الشعور مثل ومضة ،ونهمله متعمدين ،ونلتفت إلى ما بين أيدينا ونعيشه بكل استسلام .




















-5-

انتقلت وسالم للعيش في منزله الواقع في منطقة الشيخ ضاهر بعد عودتنا من بيروت ،وشيئاً فشيئاً بدأت أتعلق بهذا المنزل الذي بدا مخالفاً لما حوله وكأنه المستقبل المنبوذ من قبل الماضي الذي يقدس نفسه .
وسرعان ما بدأت أغرم بتلك الشوارع المحيطة بالمنزل والتي تعج دوماً بالناس والباعة المتجولين والأضواء الملونة ،بالحياة الحقيقية والعارية ،وجعلني ذلك إضافة إلى تعلقي بسالم الذي كان يزداد يوماً بعد يوم ،متصالحة مع قراري بالزواج منه وعادت لي تلك الثقة القديمة التي رافقتني لما سافرت أول مرة إلى والدي .
(من ليس لديه ثقة بنفسه ،كمثل الأعمى الذي لايبصر ...)
كان والدي يمليها علي في كل مرة أستسلم فيها أو أفقد الثقة ،أو يراودني الشك في جدوى ما نقوم به في ميدان السياسة ،إلا أن الثقة التي منحها لي وجودي مع سالم كانت ثقة من نوع آخر ،ثقة بأن الحياة يمكن أن تعاش وفقاً لأفكارنا وتصوراتنا ،وأن تغدو جميلة ومنوعة مكتفين بالتغير البسيط الذي هو ربما التغير الحقيقي .
كنت لما أضجر وسالم نتمشى قليلاً باتجاه شارع أنطاكية الذي نمقت واحديته إلا أننا نستمتع بتنشق رائحة الحياة المستمرة فيه بعفوية وطمأنينة لذيذة .
ثم نزور إحدى المكتبات ونبتاع بضعة كتب أو مجلات مثل مجلة العربي ونهرول باتجاه مقهى ثقافي ما لنخوض كالمعتاد نقاشات طويلة أو نقرأ معاً شعر ترانسترومر أو أدونيس شاعره المفضل والذي كنت أتفق معه بكونه رائد الحداثة العربية ،أو ينضم إلينا في بعض الأحيان صديقه شارل الكاثوليكي الملتزم والذي لا يتفق معه في كون الثقافة مرتبطة بالإلحاد ،و يصحبنا معه عادة إلى إحدى حفلات جوليا بطرس التي نحبها جميعاً .
عشت هكذا مع سالم خمسة أعوام نتصارح ونتبادل آراءنا المتناقضة ،دون أن تزورنا الخلافات التي إن حدثت ،حدثت لمرة واحدة كانت لمزحة ما أطلقها سالم عندما قال لي بأن غادة عبد الرازق الممثلة المصرية أشد جمالاً مني .
كنا قد اتفقنا على كاتبنا المفضل لكلينا ،أورهان باموق التركي وتتبعنا سير القضية التي رفعتها عليه الحكومة التركية لأقواله بشأن مذابح الأرمن والأكراد إلى أن نال جائزة نوبل عام 2006 ، وقرأنا له معاً في مقهى قصيدة نثر الثقافي رواية اسمي أحمر التي تتطرق إلى المجتمع العثماني والصراعات والمكائد المحاكة فيه ،والتي كان قد أهداني إياها في عيد حب ما ،وكنت قد بادلته الهدية واشتريت له رواية لكاواباتا الياباني وأسطوانة لجان فيرا وأخرى لداليدا التي كان يعشقها وتذكره بشهر عسلنا في بيروت .
كنت دوماً أحاول أن أبعده قليلاً عن ماركيز أو أروندهاتي روي وكل أولئك الكتاب اليساريين المهووس بهم ،وأشتري له كتب أولئك الذين جلبوا نظريةالوسطية في الإسلام كأمثال محمد شحرور الذي أعاد قراءة الدين بأسلوب عقلاني ،أو أذكره برواية 1984 لجورج أورويل التي تنقد نظاماً ديكتاتورياً يسارياً متخيلاَ ونقرؤها معاً للمرة العاشرة ربما ،ويردها لي بأن يمازحني ويجلب لي روايات عالمية صنعت للناشئة أمثال هايدي وتوم سوير وكتاب الأدغال وريمي الصغير و أحدب نوتردام .
كنت سعيدة معه بكل جوارحي ،وآمنت بحقيقة مطلقة لأول مرة هي السعادة بقربه ،ولم يكن لدي الوقت حتى لأختبر إذا ما كان هذا أحد الأوهام الزاخرة بها حياتي ،أومتى سينتهي كل هذا بخيبة جديدة ربما ،أو حدث حتمي تحاك خيوطه ربما دون أن ندري .
أحببت نقاشاتنا المحتدة غالباً ،مثلاً حول محبتي لروجيه غارودي الذي كان يعتبر تقلباته الفكرية ابتذال ،أو اعتراضي على تقديسه لجورج طرابيشي الذي كنت أجد في بعض كتاباته رؤية منقوصة ،أو عن رأيه الحاد والمتطرف في الروايات العربية التي لم يكن ليقرأها بتاتاً ،أو عن شغفي بأزنافور وأغنياته العاطفية الذي كان يعتبره بورجوازياً مزيفاً ،أرمنياً صدق نفسه أنه غربي !
وفي أحد المرات تشاجرنا حول أهلية نجيب محفوظ لنيل جائزة نوبل والذي كان يرى بأنه فاز بها في ذلك العام مكافأة لمصر لتوقيعها اتفاقية سلام مع اسرائيل ،أما أنا فكنت مغرمة بنجيب محفوظ واعتبرته دوماً ثورة في عالم الأدب العربي وخصوصاً في ثلاثيته الرائعة ورواية أفراح القبة .
وفي نقاش آخر اختلفنا حول ميلان كونديرا الذي كان يراه مفلساً من الأفكار لاذ كبقية الكتاب التافهين الذين جعلوا من نقد الشيوعية أداة لأدبهم .
وكنا لما تفرغ محاولاتنا في إقناع بعضنا ،نجلس صامتين نستمع معاً إلى ماكسيم لافوريستيير وأغنيته الرائعة (سان فرانسيسكو ) ،أو نقرأ بصوت عال قصائداً من ديوان أحزان باريس لشارل بودلير ،أو نلوذ بكتب برتراند راسل التي نتفق عليها ،ونجده أهم فيلسوف أنجبه القرن العشرين ،أو نعود لكتب جورج أورويل اليسارية التي كتبها قبل رواية 1984 .
وبالرغم من اختلافنا الشديد إلا أننا كنا نتفق في أشياء كثيرة ، مثلاً في كون زينة يازجي أهم
إعلامية عربية ،أو أن رواية أطفال منتصف الليل لسلمان رشدي من أهم الروايات في التاريخ ،وكنا متفقين أيضاً على حب رشدي واعتباره مبدعاً بغض النظر عما حورب لأجله ،وعلى أغنيتنا المفضلة (ne me quitte pas ) لجاك بريل ،أو مقولتنا المفضلة لنجيب محفوظ (نحن لم نتغير بل استوعبنا)،وعلقنا معاً صورتي جورج أمادو وتشيغيفاراعلى جدران غرفة نومنا .
في عيد زواجنا الأول أهداني أسطوانة لفرانك سيناترا كان قد جلبه لها صديقه الأمريكي ،أما أنا فأهديته رواية لهيرتا موللر المعارضة لنظام تشاوشيسكو الشيوعي والذي كنا نتفق على كون هذا النظام ديكتاتورياً ،كما كان كلينا معجباً قليلاً بشخصية هتلر!
وهكذا شغلتنا اهتماماتنا معاً عن الاكتفاء الذاتي المادي الذي كنا نعيشه ،مع مانجنيه من مال قليل سواء من القضايا البسيطة التي كان يستلمها ،أو من الدروس الخصوصية التي كنت أعطيها لبضعة أطفال من الحي .
كانت لنا جنتنا الخاصة رغم كل الشقاء ،أو هذا ربما ما اعتقدته بداية ً .

























الفصل الثاني
النار


















(أنا سالم ...)....

كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما قررت أن أتمرد على تلك العائلة التي تعيش في وهم فردوسها المزيف غارقة في حلمها النرجسي المودي بها نحو عزلة كنت أدرك ماستحمله من نتائج وخيمة ،لذا حملت كل ما تبقى لهم من احترام في قلبي هاملاً بكاء والدتي التراجيدي الذي لا يقود إلى نتيجة غالباً سوى البكاء نفسه وتركت خلفي كمثل كل الخائبين الذين يحلمون بالفردوس القابع في المجهول حبيبة تزوجت من قرد يكبرها بأعوام كثر من أجل حياة مترفة وراقية في المدينة ،وقصدت بيروت كطالب في الجامعة الأميركية .
قد يبدو للقراء أن هذا التمرد لا يعول عليه إلا أنني حقاً اكتشفت نفسي في بيروت ،بل إنني شكلتها من تلك العجينة الطائرة من قفص الخرافات ،بالرغم من أن تلك الحرية الفجائية حملت لي معها حيوية مضرة ترتب عليها نتائج سلبية مجحفة ،بفعل إغواءات الاكتشاف .
فتح بقائي في بيروت عيني على أموركثيرة كنت أجهلها ،وأهمها ذاك الذي يفترض بأن يشد انتباه أي مغترب لم يفارق بتاتاً بيئته المحافظة ألا وهو الجنس ،وثانيها تلك الكليشيهات الإجتماعية الفارغة التي نربى عليها في بيئاتنا المحافظة والتي لا معنى لها في الحياة العصرية والعملية .
تعرفت هناك على صديق شيوعي عرفني على الشيوعية وانجذبت لها فوراً ،كنت جاهزاً لتقبل أي فكر يجعلني كمن يولد من جديد ،وأصبح هذا الفكر متمثلاً في جميع تصرفاتي وأحاديثي أنا الذي اعتدت دوماً أن ألتزم حرفياً بما أؤمن به أو ربما ما تفرضه الظروف علي .
عندما عدت بعد ذلك إلى بلدي بعد أن اكتشفت أن كل ذلك كان مرحلة وهمية الغرض منها فقط العبور نحو مرحلة أخرى ،وأننا نشغل أنفسنا بأفكار ونشاطات عندما نعلم في دواخلنا أننا أضعف بكثير من نتمرد على شكل الحياة المتحجر الذي فرضه أجدادنا ،ونقبل عندها بشيء بسيط من السعادة متأخرين في فهم اننا كنا متعلقين بالوهم لا أكثر .
عندما تعرفت برشيدة وجدت فيها شيئاً يشبهني ،ذاك الرفض التام لكل ماهو قادم من الماضي ،لكن كل من وجهة نظر مختلفة ،لذا رغبت أن نكون معاً وبأي وسيلة كانت ،تزوجتها واتجهنا معاً إلى الريف بشكل مؤقت ريثما يجهز منزلنا في المدينة .
إلا أنني لم أكن لأصبر وأحتمل ذاك الشعور بالغربة بين أفراد عائلتي والذي ازداد حدة بعد أن عدت من بيروت وسار المنزل في اتجاه وسرت أنا في اتجاه مخالف .
ولاحظت على رشيدة عدم تأقلمها أيضاً ،لذا بحثت عن مصدر يؤمن لنا المال اللازم للخروج السريع من الريف ،وكانت داليا حبيبتي القديمة قد ظهرت في تلك الفترة مجدداً ،وعرضت علي أن نخرج معاً مجدداً ،قالت بأنها وحيدة وأنها بحاجة إلى صديق بجانبها ،بكت وتوسلت إلي وأخبرتني أنها ستمنحني المال اللازم لإنهاء منزلي .
قبلت بعرضها ،وخرجنا معاً طوال فترة خطوبتي لرشيدة ،إلى أن غادرت البلاد .
عشت ورشيدة أياماً رائعة ،كنا معاً في كل تفصيل وكل لحظة ،وكنت على ثقة بأنها لن تعلم بما قمت به حتى نعيش تلك السعادة .
إلا أننا فقدنا كل تلك السعادة في غمضة عين ،بعد أن وضعت رشيدة طفلتنا الأولى وأصيبت بمتلازمة كبدية نادرة تدعى (متلازمة بودكياري ) وكان هذا بسبب بقايا مرضها القديم الذي أصيبت به في الطفولة ولم تتلق العلاج اللازم لذلك .
توفيت رشيدة تاركة خلفها حلماً منقوصاً ...وهزيمة لكلينا ...
لقد خسرنا ببساطة تلك الحرب التي خضناها معاً ...


































السيرة الذاتية للكاتب :
الاسم :الحسين سليم حسن
مواليد عام 1992
من مدينة اللاذقية
الأعمال السابقة :
مايهم أنك حي (رواية ) عن دار الحوار للنشر ـ اللاذقية ـسوريا
مدينة مصطفى (رواية) عن دار المعتز _الأردن
الكتاب المسجون (رواية ) عن دار تجمع المعرفيين الأحرار _كردستان
جنين لا (خواطر ) عن دار قصص وحكايات للنشر الالكتروني
سلطة وقصص أخرى عن دار قصص وحكايات للنشر الالكتروني

نشرت عدة قصص في مجلة أغلى شباب .
رقم الهاتف الأرضي :262192
رقم الخليوي :0934628156 E-mail: [email protected]



#الحسين_سليم_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شقاء اسماعيل
- ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد (منقحة)
- ماسة (منقحة)
- اعتذارات الديكتاتور
- ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد
- ماسة


المزيد.....




- أسرار الحرف العربي.. عبيدة البنكي خطاط مصحف قطر
- هل ترغب بتبادل أطراف الحديث مع فنان مبدع.. وراحِل.. كيف ذلك؟ ...
- “أخيرًا نزله لأطفالك” .. تردد قناة تنة ورنة الجديد 2024 لمشا ...
- باسم خندقجي أسير فلسطيني كسر القضبان بالأدب وفاز بجائزة البو ...
- “القط بيجري ورا الفأر”.. استقبل Now تردد قناة توم وجيري الجد ...
- الان Hd متابعة مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة عبر ...
- تابع حلقات Sponge BoB تردد قناة سبونج الجديد 2024 لمتابعة أق ...
- من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟
- وفاة الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن
- بتهمة -الغناء-.. الحوثيون يعتقلون 3 فنانين شعبيين


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحسين سليم حسن - حرب رشيدة