أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد القاسمي - حسين البصري والفنّ الملتزم















المزيد.....

حسين البصري والفنّ الملتزم


أحمد القاسمي
(Ahmed Alqassimi)


الحوار المتمدن-العدد: 7815 - 2023 / 12 / 4 - 02:49
المحور: الادب والفن
    


قيل عن المغنّي الأمريكي بوب ديلان، والذي حاز على جائزة نوبل في الأدب قبل بضعة أعوام، أنه الفنّان الذي أحدث ثورة في عالم الأغنية الشعبية الغربية في القرن العشرين. فبعد أن كانت مواضيع أغلب الأغاني الشعبية في الغرب تتناول الحب والغرام، أقحمها بوب ديلان في شؤون السياسة والمجتمع والتغيير الاجتماعي والثورة والتمرّد. وسرعان ما حذا حذوه فنّانون آخرون ظهروا في عقدَي الستينيات والسبعينيات تخلّوا عن الخط السائد آنذاك وغنّوا عن أشياء أخرى بعيدة عن الغراميات. فمغنّون مثل الجامايكي ـ البريطاني بوب مارلي أو البريطاني يوسف إسلام أو فرقة بينك فلويد البريطانية، وكلهم ظهروا بعد بوب ديلان، لديهم أغان كانت لها آثار مجتمعية كبيرة، وأصبح بعضها بمثابة نشيد للثائرين والمحتجين والطامحين لإحداث تغييرات سياسية أو مجتمعية.
لم تظهر ثورة كهذه في الغناء العربي حتى الآن. فما زالت "الأغاني العاطفية"، كما تُسمى، هي المهيمنة لدرجة أن الأغاني التي تتناول شؤونا أخرى تبدو "بَرِّيّة" أمامها. والأغنية العاطفية العراقية لا تشذ عن ذلك، فما زال الغناء عن الغرام والشوق والحسرة على الحب الضائع أو توجيه اتهامات الخيانة للحبيبة أو الشماتة فيها أو التوسّل للصفح عن الأخطاء أو التغني بجمالها حسّيا هي خصائصها المميزة. توجد استثناءات قليلة مثل الأغاني والموشحات والتراتيل الدينية، والغناء للأمّ أو ربّما للأب وللأخ ـ دون الأخت. والنتيجة هي أن الأغاني العربية سلبية فيما يتعلق بالتغيير الاجتماعي أو التعبير عن الهموم المجتمعية والحياة المعاشة ولا أحد يتوقع منها أو لها أن تكون ذات تأثير مجتمعي يُذكر، فموضوعها هو شؤون الحب بين العشّاق، بعيدا عن أي سياقات أخرى ذات ثقل أو معنى جدّي. لكن الحروب التي خاضها العراق ابتداء من عام 1980 أدّت لفرض نوع آخر، أي ما يُسمى بـ "الأغاني الوطنية". وهي أغان حماسية مهمتها الوحيدة أن تطبّل للشعب، ومن النادر أن نجد فيها حسّا إنسانيا يتحدث عن رفض الحرب والدعوة للسلام أو ألم الفقدان أو حزن أمّ أو أب أو أخ أو أخت على مَن قُتِل في تلك الحروب. كانت مواضيع أغاني الحرب ضد إيران تدور حول النشوة بقتل الأعداء والرغبة في التضحية بالنفس لأجل الوطن، أما تمجيد صدام حسين فكان الموضوع الأبرز فيها. وقد أشّرَ الملحن كوكب حمزة في لقاء موجود في موقع إنترنت تدهور مستوى الأغاني العراقية في عراق عقد الثمانينيات من ناحية اللحن والكلمة والأداء، معتبرا أن أغنية الراحل عارف محسن "زعلان الأسمر ما يقولي لي مرحبا" بكلماتها ولحنها الساذجين تعدّ عيّنة نموذجية لأغاني سنوات الحرب ضدّ إيران. كما أني ما أزال أتذكر ردّ عارف محسن في مقابلة في التلفزيون العراقي انتقد فيها المذيع أغنيته تلك. فقد وافقه الرأي، لكنه قال إنّه يعتب على التلفزيون العراقي، لأنّ لديه العديد من الأغاني الأخرى المختلفة، غير أنها لا تُبَّث.
عودة إلى عنوان المقال، أي الفنان حسين البصري، ومسيرته الفنية التي ابتدأت في نهاية السبعينيات وامتدّ تألّقها حتّى عقد التسعينيات من القرن الماضي. إنه مغنٍ وملحن وشاعر من البصرة يبدع أغانيه بنفسه، ولديه عشرات وربما مئات الأغاني. حسين البصري لم يكن من المغنّين الذين يظهرون في التلفزيون أو الإذاعة، فهو ينتمي إلى عالم مواز قد تصح تسميته، كما هي الحال في الإنكليزية، عالم الـ "أندرغراوند" أي العالم السفلي للفن. ينتمي لذلك العالم مَن كان يُطلَق عليهم فنّانو الكاسيت والذين كانت أغانيهم تُباع في الأسواق، لكن قد لا يعرف المستمع شيئا عنهم، وربما ما كان سيتعرّف عليهم لو صادفهم مرّة في الطريق. كانت غالبية أغاني فناني الكاسيت مبتذلة، كلمات ولحنا وأداءً. لكن طرح الأغاني عبر الكاسيت فقط هو ميزة أيضا، بسبب ضعف الرقابة عليه، فإذا كان مغني الكاسيت فنانا حقيقيا لم يحصل على فرصته التي يستحقها لسبب ما، فسيمنحه الكاسيت فرصة للتعبير عن أشياء لن يكون مغني التلفزيون قادرا على التعبير عنها. وهنا يبرز حسين البصري كأحد أفضل الفنّانين في تلك الحقبة. سأتناول فيما يلي أربع أغان له أعتبرها شاهدة على إبداعه الفني والتزامه بالتعبير عن هموم المجتمع في تلك المرحلة الصعبة من تاريخ العراق الذي كان وما زال مليئا بالمآسي. وهذا الالتزام هو نتاج معاناة وإدراك عميق، وهو أيضا خيار شخصي في أداء دور ما في الحياة. إنّ الفنّ ـ وأعتبرُ الأدبَ جزءا منه ـ أقرب إلى الناس من وسائل أخرى قد تكون أكاديمية أو نضالية أو صحفية، رغم أهميتها وضرورتها. ولعلي أزعم أن الفنّ أو الموسيقى يكتسبان أهمية إضافية في بلدان ليست القراءة الجادّة أو ارتياد المسارح والمعارض الفنّية من عادات مواطنيها الشائعة. لذلك فإن تأثير الفنّان حسين البصري في العراق يستحق الدراسة والنقد، الآن وفي المستقبل.
فَهِمَ العراقيون أن أغنيته "قوّة قوّة اجبرونا نتفارق"، التي ظهرت قبل الحرب ضد إيران، تتناول قضية تسفير العراقيين من أصول إيرانية إلى إيران وتفرّق المحبَّيْن. ويبدو أن الرقابة انتبهت لكلمات الأغنية الموحية، إذ توجد نسختان مختلفتان من هذه الأغنية. لقد اضطر البصري، على الأرجح، لاستبدال كلمات مقطع كان موجودا في النسخة الأولى بكلمات أخرى لا تثير ريبة الرقابة. كان المقطع المحذوف يتحدث عن "انهماك الحبيبين في الاستعداد لحفل الزفاف قبل أن تأتيهما غيمة سوداء تُطيح بأمانيهما وتجعل كلّا منهما في بلد مختلف". استطاع البصري التعبير موسيقيا عن تلك الجريمة التي حطّمت حياة آلاف المواطنين العراقيين الأبرياء. لم يعبّر أحد سواه عن تلك الجريمة في الفن العراقي موسيقيا، ولا أدري إن كانت هناك أعمال أدبية جديرة بهذه التسمية قد تناولتها أدبيا.
تحوّلت حياة العراقيين إلى مآتم مستمرة أثناء سنوات الحرب ضد إيران، لكن التلفزيون والإذاعة استمرّا ببث الأغاني الوطنية التي تشيد بالشهادة وتحتفي بالموت بطولةً. أما حسين البصري فأصدر أغنية بكائية هي "نايم المدلول". لا أثر في هذه الأغنية لا للبطولة ولا للشجاعة ولا لفخر الأهل بالشهادة، فهي تحكي عن فجيعة أخ بموت أخيه وحزنه عليه وكيف أن فرح الحياة قد ذهب برحيل ذلك الأخ. صحيح أن كلمة الحرب لا ترد فيها صراحة، ولأسباب مفهومة طبعا، لكن آلافا من العراقيين الذين استمعوا إليها ـ وأعرف أحدهم ـ أدركوا عن أي مُسجّى في البيت يتحدّث، وأيّ ألم عراقي جماعي اختار حسين البصري التعبير عنه، مواربة، موسيقيا.
تناول حسين البصري أيضا، وبسبب الحرية ذاتها التي أتاحها له كونه "مجرد" فنان كاسيت، مواضيع وجودية في أغانيه، ليكون الوحيد الذي تناول مواضيع فلسفية تأملية من بين كلّ المغنين في تلك الحقبة. إن أغنية "ويلك يابه ويلك بويه" تبدأ بحديث المغني عن أنه جاء إلى دنيا عجيبة غريبة من أب وأم لم يعيشا هناءً في حياتهما. بعدها يواصل الابن الحديث مع أبيه ويعاتبه على إنجابه، رغم معرفته بأن الحياة قاسية وصعبة ومليئة بالحرمان والتعب، وذلك من خلال خبرة الأب ذاته بها. فالابن في الأغنية يخبر أباه أن ولادته أضافت أعباء أكبر على الأب المعذّب أساسا، وأنه كطفل اضطر لحمل أعباء لم يكن له ذنب فيها. وكما هي العادة في الشعر والفن العربي فإن كناية الزمن يمكن أن تعبّر عن الظلم الاجتماعي أو السياسي أو كليهما، وهو ما نجح مغني الـ "أندرغراوند" حسين البصري في إيصاله عبر الكلمات واللحن والأداء في هذه الأغنية.
بعد الهزيمة في حرب الكويت وفرض الحصار الاقتصادي، الذي يعدّ من جرائم الإبادة الجماعية بلا شك، اضطر آلاف العراقيين إلى السفر إلى الأردن للعمل هناك في وظائف بسيطة وبظروف مجحفة. يُتحفنا حسين البصري بأغنية تتناول عذابات النساء العراقيات اللاتي افترشن الطرق العامة في العاصمة الأردنية عمّان لبيع أغراض منزلية بسيطة، أو سجائر مهرّبة. فأغنية "فنان ورُحت إلى عمّان" تتحدث عن لقاء فنان يبدو أنه وصل إلى عمّان في زيارة عمل، أو ربما في طريقه للجوء إلى بلد آخر. فهو يكاد يتعرّف على امرأة عجوز جالسة تعرض أشياء للبيع في بسطية. وعندما يتحدث معها يتعرف عليها فعلا، فالفنان يعرف ابنها. فيسألها مستغربا أو ربّما مستهجنا عن الذي جاء بها إلى عمّان، فتجيبه أنها هنا لإعالة الأطفال بعد أن رحل ابنها، مع أخوَين آخرين إلى "النسيان". أرى أن أغنية البصري هذه التي تتحدّث عن عجوز فُرِضَت عليها السياسة فرضا واضطرّت لتحمّل عواقبها جديرة بأن تكون قاعدة في تأليف مسرحية أو رواية أو حتى أوبرا.



#أحمد_القاسمي (هاشتاغ)       Ahmed_Alqassimi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاختناق بالسياسة في العراق
- ترجمة مقال : تطوّر مسار العلاقات الألمانية العراقية منذ حرب ...
- ترجمة محاورة : الرأسمالية زمن الشراء العالمي دخول السوق إل ...
- اللعب والفن محطّتا استعداد لجدّية الحياة المستقبلية؟
- لماذا لا يجب تقسيم العراق؟
- مَن هو العراقي؟
- ثلاثة نماذج للجيش العراقي
- حنا بطاطو والعراق، قصة حب أكاديمية؟
- القوة الشريرة دائمة الثبات - راينهارد هالر
- الأزمة الاقتصادية كحادث نتج عن العجالة والسرعة المفرطة مقاب ...
- العراق: من الغزو المغولي إلى العراق الحديث المستقل
- نصّان قصيران ل فرانتس كافكا
- -لُغة القلب-


المزيد.....




- فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي ...
- ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ ...
- بعد مسرحية -مذكرات- صدام.. من الذي يحرك إبنة الطاغية؟
- -أربعة الآف عام من التربية والتعليم-.. فلسطين إرث تربوي وتعل ...
- طنجة تستضيف الاحتفال العالمي باليوم الدولي لموسيقى الجاز 20 ...
- -لم أقتل زوجي-.. مسرحية مستوحاة من الأساطير الصينية تعرض في ...
- المؤسس عثمان الموسم 5.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 باللغة ...
- تردد قناة تنة ورنة الجديد 2024 على النايل سات وتابع أفلام ال ...
- وفاة الكاتب والمخرج الأميركي بول أوستر صاحب -ثلاثية نيويورك- ...
- “عيد الرّعاة” بجبل سمامة: الثقافة آليّة فعّالة في مواجهة الإ ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد القاسمي - حسين البصري والفنّ الملتزم