أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - أحمد القاسمي - القوة الشريرة دائمة الثبات - راينهارد هالر















المزيد.....


القوة الشريرة دائمة الثبات - راينهارد هالر


أحمد القاسمي
(Ahmed Alqassimi)


الحوار المتمدن-العدد: 4598 - 2014 / 10 / 9 - 00:35
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


القوة الشريرة دائمة الثبات
ترجمة: أحمد القاسمي، عن الألمانية
اختص المعالج النفساني والمرجع القضائي للتقييم النفساني النمساوي راينهارد هالر Reinhard Haller منذ أكثر من ربع قرن بدراسة نفسيات عتاة القتلة، ومرتكبي جرائم الاغتصاب وجرائم أخرى مرتبطة بالعنف. وهدفه هو الكشف عن الدوافع التي تؤدي بهم لارتكاب ما قاموا به وكذلك عن مدى إمكانية تحميلهم مسؤولية تلك الأفعال الشنيعة. هذه مقابلة تتناول الشر ووجوهه المتعددة.


مجلة بسيكولوجي هويته: كتابك الأخير يحمل عنوان "الشر الطبيعي للغاية" رغم أنك أوردت فيه قصصا مرعبة عن قسوة البشر. ولا يمكن للمرء وصفهم إلا على أنهم غير طبيعيين. هل كنت تريد القول إن الشر هو شيء طبيعي لدى الإنسان، أكثر مما نعتقد؟

راينهارد هالر. الشيء الذي يسُمى الشر موجود لدى كل إنسان، فيك وفيّ أنا أيضا. وأردت الإجابة عن السؤال عن كيفية تخطي الشر لكل الحدود وعن مدى تمكنه في تثبيط القيم الأخلاقية التي نحملها ليصبح بعدها الشر شيئا مألوفا وروتينيا. وأصابتني الدهشة لدى معرفتي السهولة التي يمكن أن يقع فيها الإنسان ليصبح الشر بالنسبة له حدثا عاديا. ويمكن إيراد أمثلة على ذلك من قصص جرائم الحروب حيث يعد قتل الآخرين من الأعمال اليومية المألوفة للعسكريين أثناء الحروب. واستمعت مرة لقصة رواها لي مجرم عن عبء العمل الذي يتطلبه خنق امرأة.“

مجلة بسيكولوجي هويته: إذا كان الشر كامنا في كل إنسان، فما هي الأسباب التي تتيح له الانفلات من عقاله؟

راينهارد هالر. عادة ما تكون الأسباب تافهة، مثل التعرّض لخبرات المضايقة المستمرة، فهي لا تؤدي للمرض فقط، بل أنها يمكن أن تقود للجريمة أيضا. كما أن للعواطف الشديدة واللحظات المعاشة غير العادية دورا في فقدان السيطرة على الذات لتعبّر بعدها كل الميول المكبوتة عن نفسها دون قيود أو كوابح. النزاعات بين البشر الذين يعرفون بعضهم بعضا في أوروبا مثلا هي السبب الأول للأعمال الشريرة، وثلثا جرائم القتل في النمسا يرتكبها أشخاص يعرفون بعضهم البعض جيدا. كما أنه لا يمكن التقليل من دوري تعاطي الكحول أوالمخدرات في إضعاف الكوابح الذاتية التي يسيطر عليها الإنسان عندما يكون بوعيه.“

مجلة بسيكولوجي هويته: توجد تأويلات فلسفية ونفسانية كثيرة لتفسير الشر، ابتداءً من القديس أوغسطينس مرورا بـ كانت وفرويد الذي عرّف الشر على أنه غريزة التدمير لدى الإنسان. ما هو تعريفك أنت للشر؟

راينهارد هالر. نستخدم كلمة "الشر" الوصفية في تصنيفات لغوية عديدة وعادة ما يكون معناها واضحا بالنسبة لنا مثل تعبير أعاني من قدم "شريرة" أو مرض شرير أو زوج شرير أو حتى المثل الساخر "ستصل البنات الطيبات للجنة أما الشريرات فبإمكانهن الوصول إلى كل مكان". وعلى الضد من ذلك تكون كلمة الشر، التي تستعمل كـ اسم، متعددة المعاني إلى درجة أن علينا تحديد ما نعني بها في كل مرة نستخدمها فيها. فالشر بالمعنى الديني يعني عصيان أوامر ونواهي الخالق، أما بالمعنى الفلسفي فيتناول مسألة حرية الإرادة بمعنى أنه يجب وجود الشر حتى يقرر الإنسان أن يختار الخير، أما علماء البيولوجيا فيعتبرون الشر غريزة العدوان لدى الكائن.
أما أنا فأنظر للشر على أنه فعل اعتداء يخرق مبدأ التوافق بين القيم الأخلاقية للفرد وتطبيقاتها الواقعية عند التعامل مع الآخرين وغياب لمشاعر المشاركة الوجدانية تجاههم أو إهانتهم ونزع الصفة الإنسانية عنهم. وليس شرطا أن تتم هذه الأشياء بصورة فيزيائية محسوسة، بل أنها يمكن أن تتم بطرق نفسية لها أثر مؤلم. ويدخل الشر حيز التنفيذ عندما يتحول إلى فعل. للشر التخيلي دور في الصحة النفسانية. فمَن لم تخطر بباله أعمال شريرة يوما ما؟ حتى أن الشاعر الألماني غوته قال ذات مرة "لا يوجد نوع من أنواع القتل لم أمارسه في الخيال.“.

مجلة بسيكولوجي هويته: توجد نظريات حديثة تقول أن الإنسان الشرير هو ذلك الذي يفتقر لغريزة الأخلاق.

راينهارد هالر. لا يوجد فهم علمي واضح لما يُسمى بالغريزة الأخلاقية. ولكن رغم ذلك وِجِدَت في كل الثقافات والحضارات وفي كل الأزمان جُنح تم اعتبارها شريرة ومُدانة مثل القتل في الأحوال الطبيعية، أي ليس في زمن الحرب، أو الاغتصاب أو سرقة ممتلكات الآخرين. أعتقد أن بعض الناس يفتقرون لهذه الغريزة الأخلاقية. وهم أولئك الذين يتم تصنيفهم في حقل الصحة النفسية على أنهم مرضى. ورغم أن نسبتهم ضئيلة للغاية إلا أن لأفعالهم وقع مدو. وعادة ما يمتلك الإنسان غريزة أخلاقية ولكنه يتخلى عنها في بعض الأحيان."

مجلة بسيكولوجي هويته: ما الذي سيكون عليه الأمر إذا ما كان لقيم أخرى الدور الأساسي مثل أن يتم ارتكاب الأفعال الشريرة بأمر ملزم أو عندما ترتبط الأفعال الشريرة بالنجاح الوظيفي. كيف سيكون دور الغريزة الأخلاقية في هذه الأحوال؟

راينهارد هالر. الناس الذين "ينفذون الأوامر فقط" رغم معرفتهم بأنها شريرة، هم أشخاص ضعيفي الشخصية غالبا. إنهم أشخاص يشعرون بالسعادة عندما يستلمون أوامر تحدد لهم الأفعال الشريرة والأفعال الخيّرة وتلغي دور موقفهم الأخلاقي الذاتي في الموضوع، عندما يُبَت في الأوامر التي يتلقونها ويكون عليهم التنفيذ فقط. إن اضفاء مرجعية رسمية على الأفعال الشريرة هو الأخطر على الإطلاق، ولا يوجد زمن أو ثقافة ما يتمتعان بالحصانة ضد هذا النوع من الأفعال الشريرة. سيتم القبول بأداء الأفعال الشريرة إذا كانت تأديتها تتم في إطار خدمة العلم، كما أثبتت تجربة ميليغرام، أو لخدمة العِرق أو الأمة كما أثبتت التجربة النازية في ألمانيا. أما اليوم فتحدث أشياء كثيرة لأجل خدمة الاقتصاد مثل ما يقوم به بعض المدراء بطرد العاملين لديهم ليدفعوهم بذلك، بالمعنى الحرفي للكلمة، للانتحار. كما أن هناك محاولات لعمل قضية من خلال المقارنة بين النفقات التي يكلفها الأشخاص العجزة ومرضى الزهايمر والمعوقين وبين إمكانية انفاقها لشراء بيت لزوجين شابين. ولقد حضرت مؤخرا مؤتمرا بعنوان "علم النفس والأخلاق" وكان أحد المشاركين ألقى فيه محاضرة عن "الدور السلبي الذي أداه علم النفس في ألمانيا النازية في مجال القتل الرحيم" وسرعان ما شعر المشاركون وكلهم من علماء النفس بالخجل من وظيفتهم. ولكن بعدها مباشرة ألقى مشارك آخر محاضرة عن "النموذج الهولندي في القتل الرحيم ومحاسنه“. ولكن المشاركين أنفسهم سرعان استحسنوا المحاضرة واعتبروها مثيرة للاهتمام وجديرة بالمناقشة."

مجلة بسيكولوجي هويته: أوضحت التجربة النازية بجلاء من خلال أمثلة كثيرة الجانب المتناقض في الشخصية الإنسانية: ما هي الظروف التي تجعل من إنسان ما معيل عائلة صالحا أو محبا للفنون الجميلة وفي ذات الوقت إنسانا عديم الضمير وقاتلا بالجملة؟

راينهارد هالر "لم تكن تتجاوز نسبة زبانية النظام النازي في ألمانيا من الأشخاص غير الأسوياء نفسيا والساديين الخمسة إلى العشرة في المئة. أما زبانية النازية الآخرين، أي التسعين إلى الخمسة والتسعين في المئة منهم، فكانوا أشخاصاً عاديين. تم إجراء فحوص نفسية أثناء محاكمات نورينبرغ لجرائم الحرب على المتهمين بها، أجراها صفوة علماء النفس في العالم لأجل تقييم حالاتهم النفسية. وتم إعداد أسئلة وزِّعَت عليهم وأجابوا عنها دون ذكر أسمائهم. وكانت النتيجة التي حصل عليها علماء النفس هي أن هؤلاء الأشخاص كانوا أشخاص غير مثيرين للشبهة ويتمتعون بالخيال الواسع والقدرة المرهفة على الشعور وكانوا يعملون في وظائف لها علاقة بالفنون الجميلة أو الإبداعية، بل أن قسما منهم كانوا يعملون كمعالجين نفسانيين. وكان قسما منهم يتمتع بقدرة كبيرة على الفصل بين السلوك الخيّر والسلوك الشرير، مثل أن يقوموا بالعمل في أفران الغاز عصرا ويذهبوا بعدها للغناء في جوقة دينية مساء. لذا أصيب الناس قبل عدة سنوات بصدمة كبيرة عندما علموا بما قام به الرجل النمساوي جوزيف أس. فالجريمة لم تحدث في مزرعة نائية مثلا، بل حدثت في مكان مألوف يشبه بيوتهم التي يعيشون فيها وتمكّن فيه ذلك الشخص من القيام بجريمة احتجاز ابنته واغتصابها لتلد أطفالا في قبو المنزل، وبعدها كان يخرج ليمثل دور الجد اللطيف الوديع والمواطن الصالح، في ذات الوقت الذي كان فيه غارقا في تناقض صارخ في العالم الأسفل في ذلك القبو."

مجلة بسيكولوجي هويته: لم يعد بمقدور جوزيف أس. مواصلة هذه الحياة المزدوجة بعد القبض عليه. كيف سيتعامل شخص مثله مع نفسه عندما يتم الكشف عن جرائمه؟

راينهارد هالر "يخضع الآن للمعالجة النفسانية. وآمل أنه سيتمكن من الشعور بالذنب. وما يلفت الإنتباه في سلوك هذا الرجل المنحرف هو "العادية" التي تعامل بها مع جريمته. إنه رجل مسن لطيف يحكي كيف كان يذهب للقبو، دون أن تظهر عليه أي مظاهر للشعور بالذنب، ويعتبر الفظائع التي ارتكبها أشياء عادية وبديهية.“

مجلة بسيكولوجي هويته: حاولتَ طرح رسم نظري لشفرة الشر، حدثنا عن محاولاتك وما تتضمن؟

راينهارد هالر "هناك ثلاثة ترتبط بالعمل الشرير هي : الشخص الذي يقوم بالعمل الشرير والذي تميزه خصال معينة، والحالة التي يتم فيها ارتكاب العمل الشرير وثالثا تبعات العمل الشرير على الضحية. أما الشخص الذي يرتكب العمل الشرير فيمكن وصفه بأنه شخص لا يحوز على مشاعر تعاطف وجداني ويمتاز بنوع متطرف من فرض الإرادة على الآخرين. ابتكر المحلل النفساني أوتو كيرنبرغ مصطلح "النرجسية المُهلِكَة". وهذه النرجسية تختلف عن النرجسية التي تحقق غايتها مثلا عند امتلاك ساعة يد ثمينة أو سيارة فاخرة. ولكن النرجسي المرضي الشرير لا يلفت النظر دوما، بل يظهر وكأنه شخص عادي، إلا أنه يشعر بتفوق شخصي عندما يذل أشخاصا آخرين. والشكل الأقسى من ذل الآخرين يحقق له تفوقا شخصيا نسبيا ويحصل عليه عندما يقوم بتعذيب الضحية او اغتصابها أو التقرير في مسألة حياتها أو موتها وكأنه إله. ونستطيع القول مباشرة أن ميزته الثانية هي أنه سادي، وإلا لن يتمكن من تعذيب ضحيته. أما ميزته الثالثة فهي أن يعاني من عدم تأقلم مرضي مع مجتمعه والميزة الرابعة هي أنه شخص مصاب بجنون اضظهاد متفاقم. ولأنه يظن أنه محاط بالأخطار والأعداء، يقوم بالتخطيط الدقيق والحذر لأفعاله ولذا يصعب اكتشاف ما يخطط له.“
مجلة بسيكولوجي هويته: وأي دور تقوم به الحالة التي يحدث فيها الفعل الشرير؟
راينهارد هالر "يقوم الشخص الذي يعاني من النرجسية المُهلِكَة بنزع الصفة الإنسانية عن ضحيته عن طريق وصفها بأنها حثالة أو طفيلي أو مستهلك للطعام أوغير ضروري، أو أيضا كنقطة تظهر على شاشة التصويب، كما حصل في العراق وأفغانستان. أما بالنسبة للحالة التي يحدث فيها الفعل الشرير فهناك علاقة سلطة وحيدة المنظور هي علاقة القوي بالضعيف.
أما بالنسبة لعواقب الفعل الشرير فيمكن القول: كلما تم التخطيط للفعل بطريقة متقنة، كلما تم تنفيذه بأعصاب باردة، وكلما كان الفعل جالبا للشعور بالفخر، كلما كانت العواقب أشد وطأة بالنسبة للضحية. وفي هذه النقطة نجد أنفسنا مرغمين على القول أن ذلك ينطبق على تعريف مفهوم الحرب. ففي هيروشيما مثلا يموت ألف شخص سنويا حتى الآن بسبب عواقب الهجوم النووي عليها. تحتوي الحرب على كل ما نبحث عنه لصياغة شفرة الشر: السادية، والعنف الذي ينفذ بأوامر من مرجعيات ما، ونزع الصفة الإنسانية عن الضحية والتخطيط الدقيق واستخدام الوسائل الأشد إيقاعا للأذى.“



ـ مجلة بسيكولوجي هويته: كيف يتحول إنسان ما إلى ما أسميته بـ النرجسي المرضي المُهلِك؟
راينهارد هالر "لم يعد الكثيرون يرغبون بسماع ما سأقوله: شخصية النرجسي المرضي المُهلِك هي نتيجة لأشخاص عاطفيين تعرضوا للإهانة والتعذيب أثناء تطورهم بطرق مختلفة. واضطروا للكبت وللانفصال عن شعورهم بالإهانة والألم، لأنهم لا يستطيعون تحمل وجود تلك المشاعر. وميكانيزم الإصلاح الداخلي يتمثّل بإعادة تمثيل ما عانوه ولكن بتبادل الأدوار: إذ يتحوّل الضحية إلى مجرم يخشاه الآخرون، وممارسته للتعذيب تجعله يقتل خوفه ولكن سيكون على الضحية معاناة ذلك الخوف.

مجلة بسيكولوجي هويته: يتأثر الكائن الإنساني في مراحل تطوره بعوامل عديدة، ومع ذلك يبقى سؤال مهم هو: إلى أي مدى يمكن الحديث عن حرية الإرادة؟

راينهارد هالر ـ"توصّل الباحثون في الدماغ البشري بالاستناد لقرائن عديدة إلى أن الإنسان ليس حرّاً. وهذا النقاش طرح مرارا خلال التاريخ البشري ـ فمرة كان الحديث عن إرادة الإله، ومرة كان عن القدر أو أثر النجوم وبعدها تحوّل الحديث إلى اللاشعور الذي يسلب الإنسان حرية إرادته. ولكن ليس بإمكاننا الإدلاء بجواب قاطع على هذا السؤال.
هناك قبول لعدم إمكانية وجود جواب حاسم لمشكلة حرية الإرادة في التقييم النفساني للمحاكم وكذلك في القوانين التشريعية. ويتم هناك النظر للموضوع من منظار مختلف: يعتبر الإنسان حر الإرادة كمبدأ عام، إلا إذا كان يعاني من اختلالات يمكن البرهنة عليها بوضوح مثل حالات الجنون، أو الأمراض النفسية أو فقدان الإرادة المؤقت الحاد، أي الخضوع لتأثير الكحول أو المخدرات. وهناك نكتة تُروى عن هذه المعضلة وهي أن متهما أخبر القاضي: لم أكن أنا المذنب الحقيقي في فعل السرقة، بل كان ذلك فص دماغي الجبهي (أي فص الدماغ المسؤول عن تقدير الأوضاع المختلفة للإنسان وإيجاد طريقة التعامل المناسبة معها، كما أنه الفص المسؤول عن تنظيم الانفعالات وصيرورتها) فردّ عليه القاضي قائلا: حسنا، أعلن أنك بريء من فعل السرقة هذا وأصدر حكما بالحبس على فص دماغك بالسجن مدةَ خمسة أعوام.
أما تأثير التربية فيمكن القول أن هناك أطفالا كثيرين قد نشأوا في عائلات لم تمنحهم أي قدر من الحب، ورغم ذلك فلم يصبحوا مجرمين فيما بعد. إن تأثير التربية في التحول لاحقا للإجرام محدود، لأن هناك عوامل مؤثرة أخرى على الأطفال مثل المدرسة أو الرفاق والأصدقاء ولكن أيضا هناك حرية الإرادة. يستطيع الإنسان أن يقرر أي طريق يريد أن يسلك."
مجلة بسيكولوجي هويته: إلى أي مدى تؤثر تيارات مجتمعية سائدة تستند إلى إيديولوجيات مدعومة من الدولة والقانون في تعريف الشر؟
راينهارد هالر ـ"يجب التمييز بين ثلاثة مفاهيم: أولاً قانون العقوبات في بلد ما ـ وهو قابل للتغيير والتحديث بحسب تَغيُّر الثقافة ومرور الزمن. كانت المِثلية الجنسية تُعدّ جريمة حتى عقد الستينات من القرن العشرين، أما حيازة الماريوانا والقنب فهي لا تزال تُعدّ جريمة حسب القانون في أغلب البلدان، ولكن هذا الوضع قد يتغير في الأعوام العشرة القادمة.
ولدينا ثانيا مفهوم الجرائم الطبيعي المختلف عن الأول، لأنه يتجاوز تأثيرات الثقافة والزمن. ولدينا ثالثا وأخيرا مفهوم الجرائم الاجتماعية ـ فرغم أن هذه الأفعال لا تندرج تحت طائلة العقوبة، إلا أنها الأفعال الشنيعة التي يتخذها المدراء عندما يلغون وظائف تؤدي لفقدان الناس مصدر رزقهم، مستهدفين من ورائها تحسين أجورهم الخاصة غير آبهين بتعريض مستقبل الناس لمخاطر جسيمة.
إذاً فقد قام المجتمع بإباحة أشياء كثيرة، كانت تعتبر جرائم حتى لحظة اعتبارها شرعية. ولنفكر هنا بمثال إحراق الساحرات لأجل القضاء على الشر المتجسد فيهن.“

مجلة بسيكولوجي هويته: من الشائع في صناعة الترفيه والأفلام السينمائية والتلفزيون وألعاب الكمبيوتر مشاهدة أعمال شريرة أو قضاء الوقت في مصارعتها. هل تشجع وسائل الإعلام الجماهيرية الشر؟

راينهارد هالر "أثبتت مقولة للفنان الأمريكي آندي وارهول صحتها عندما قال ذات مرة إن لدى كل إنسان رغبة، على الأقل للحظات قصيرة، في أن يصبح مشهورا. ولكن الرغبة في الشهرة داخل المجتمع كانت موجودة حتى في الماضي السحيق. فهناك قصة عن شخص يُدعى هيروستراتوس والذي قام بإحراق معبد آرتميس في آفيسوس الإغريقية واعترف فيما بعد أنه أراد أن يحقق الشهرة بفعلته هذه. لقد أصبح اسمه مرادفا لما يقوم به أشخاص من قبيل إشعال الحرائق أو الإضرار المتعمد بقصد تحقيق شهرة ما. ووفر الإنترنت فرصة أن يحبس العالم بأسره الأنفاس نتيجة لما قد يقوم به شخص ما في مكان ما، وهذا الاهتمام يمنح شعورا بالرضى لذلك الشخص.“
مجلة بسيكولوجي هويته: ما هي الأشياء التي تجذب البشر للأعمال الشريرة؟
راينهارد هالر "الإثارة المصاحبة لها، أو ما يُسمى متعة الخوف التي تحفز نظام الإثارة في الدماغ. الروايات البوليسية مثلا هي أيضا مثيرة ومشوقة، لأنها تثير الفضول ولعبة الاحتمالات. تتيح الرويات البوليسية لقارئها البحث عن شره الخاص. فالقارئ يشعر بوضوح أن هناك شيئا من الشر الذي يقرأ عنه موجود فيه، ولكنه لم يتعرّف عليه جيدا بعد. وهناك عبارة شائعة يستخدمها الناس أثناء الغضب من الآخرين وهي "سأجعلك تعرف مَن أنا!“
مجلة بسيكولوجي هويته: على مدى التاريخ الثقافي للبشر كانت هناك محاولات لإضفاء تجسيدات شخصية على الشر. لماذا يريد البشر إعطاء الشر اسما محدداً وربطه بشخصيات أو مسميات محددة؟
راينهارد هالر "عندما يكون للشر اسم ما سيفقد الكثير من قدرته على إثارة الفزع في النفوس. إن الرغبة في تسميته هي جزء من عملية مواجهة الخوف الشخصي الناتج عنه. فقد أُطلِقَ على الشر تسمية غضب الطبيعة أو غضب الإله أو تجسيد لكائن ما مثل الشيطان أو إبليس الخ. وبإمكاننا فهم محاولات تحديد المنطقة المسؤولة عن الشر في الدماغ التي أُجريت في القرن التاسع عشر بنفس الطريقة.“

مجلة بسيكولوجي هويته: تعطي وسائل الإعلام الانطباع بأن معدلات العدوان والعنف والكره، أي الشر بصورة عامة، تواصل الارتفاع. هل هناك ما يدعم مثل هذه الرأي حقا؟

راينهارد هالر "قوة الشر ثابتة ولكن أشكالها هي ما يتغير. وهناك تمركز في عصرنا لقوة الشر في مجالات العلاقات الإنسانية كالإيذاء المعنوي والاعتداء على كرامة الآخرين وإهانتهم وعدم الاعتراف بمواهبهم أو التقليل من شأن إنجازاتهم وإفساد حياتهم بالملاحقة والإيذاء النفسي أثناء العمل( موبينغ) وأيضا أشكال الشر التي يتيح الإنترنت نشرها.“
مجلة بسيكولوجي هويته: يميز الطب النفساني بين أفعال مصحوبة بدوافع وبين أفعال غير مصحوبة بدوافع، هل يمكن الحديث عن أفعال دون دوافع ما؟
راينهارد هالر "يندر وجود أفعال دون دوافع جلية. والأشخاص الذين يرتكبون أفعالا شاذة دون دوافع هم أشخاص يعانون من شعور بالفراغ والخواء وتدفعهم رغبات قوية للشعور بأنفسهم. هناك ازدياد في مجتمعنا في جرائم القتل التي ترتكب لأسباب أنانية. وخاصة في تلك الحالات التي يرتكب فيه الرجال عمليات قتل تأتي بعد الطلاق أو بعد الفشل في الحصول على حق حضانة الأطفال ويقوم أولئك الرجال بقتل الأطفال أولا ثم الانتحار، وذلك لتحقيق نصر أخير على الزوجة. هناك صلة قوية بين القدرة على ارتكاب جرائم القتل وبين الانتحار ويحدث هذان الأمران في أحيان كثيرة معا.“

مجلة بسيكولوجي هويته: لديك بحكم وظيفتك اتصال وثيق بمجرمين مارسوا عمليات قتل مروعة أو آخرين ارتكبوا أفعالا شنيعة، هل ترافقك تأثيرات الاتصال بهم عندما تعود إلى منزلك بعد نهاية يوم عملك الرسمي؟

راينهارد هالر "تسبب لي بعض الأفعال الإجرامية التي أتعامل معها أذى نفسيا هائلا. ولكني أحاول قدر الإمكان حماية نفسيتي بتذكر الطبيعة الأكاديمية لعملي، لأجل منح نفسي مناعة ضد الخوف. إلا أن تعاملي مع مجرمين مروعين يبدون مع ذلك أشخاصا طبيعيين للغاية يدفعني للحذر عند التعامل مع الناس بصورة عامة وكذلك للشعور بشيء من الخوف من الآخرين وعدم الثقة والشك فيما يقال عن الطبيعة الخيّرة للإنسان.“

مجلة بسيكولوجي هويته: كيف تبني تواصلك الشخصي مع المجرمين؟

راينهارد هالر "أركّز على أهمية التواصل المتبادل معهم وتعميقه. بعض المجرمين هم أناس لطفاء. فلقد شعرت بشيء من الرثاء عندما تعاملت مع مجرم الرسائل الملغومة النمساوي فرانتس فوكس، عندما شعرت بعزلته واندفاعه في تكريس نفسه "للرسالة" التي نذر نفسه لها. يجب على الإنسان الانتباه لعدم وقوعه في مخالب نظام شرير ما.“

مجلة بسيكولوجي هويته: ما الذي دفعك لشغل وظيفة مُقيَّم طب نفساني لدى المحاكم إلى جانب عملك الأصلي في مستشفى للمدمنين؟

راينهارد هالر "كانت عائلتي التي نشأت فيها فقيرة، ورغم ذلك كانت طفولتي سعيدة. إلا أن العالم الحميم الذي كنت أنتمي إليه قد تغير دفعة واحدة عندما شاهدت وأنا طفل صغير جثة لشخص مقتول في الشارع. ربما كان ذلك دافعي في اللاوعي للعمل في المحاكم.“


أجرت المقابلة: سيبيل فريتش من مجلة Psychologie Heute الألمانية

البروفسور راينهارد هالر طبيب متخصص في الصحة النفسانية والعصبية ومعالج نفساني ورئيس مركز فورالبيرغر لعلاج المدمنين. بدأ منذ عام 1993 بالعمل كمُقيِّم نفساني في المحاكم، كما أنه أحد كبار المتخصصين الدوليين في طب الجريمة. ويركز اهتمامه على مواضيع الإدمان والانتحار والطب العدلي وعلم الجريمة. أحدث كتبه هو "ذلك الشر العادي جدا" وصدر عام 2009.



#أحمد_القاسمي (هاشتاغ)       Ahmed_Alqassimi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأزمة الاقتصادية كحادث نتج عن العجالة والسرعة المفرطة مقاب ...
- العراق: من الغزو المغولي إلى العراق الحديث المستقل
- نصّان قصيران ل فرانتس كافكا
- -لُغة القلب-


المزيد.....




- هل كان بحوزة الرجل الذي دخل إلى قنصلية إيران في فرنسا متفجرا ...
- إسرائيل تعلن دخول 276 شاحنة مساعدات إلى غزة الجمعة
- شاهد اللحظات الأولى بعد دخول رجل يحمل قنبلة الى قنصلية إيران ...
- قراصنة -أنونيموس- يعلنون اختراقهم قاعدة بيانات للجيش الإسرائ ...
- كيف أدّت حادثة طعن أسقف في كنيسة أشورية في سيدني إلى تصاعد ا ...
- هل يزعم الغرب أن الصين تنتج فائضا عن حاجتها بينما يشكو عماله ...
- الأزمة الإيرانية لا يجب أن تنسينا كارثة غزة – الغارديان
- مقتل 8 أشخاص وإصابة آخرين إثر هجوم صاروخي على منطقة دنيبرو ب ...
- مشاهد رائعة لثوران بركان في إيسلندا على خلفية ظاهرة الشفق ال ...
- روسيا تتوعد بالرد في حال مصادرة الغرب لأصولها المجمدة


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - أحمد القاسمي - القوة الشريرة دائمة الثبات - راينهارد هالر