أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هايل نصر - محامي الشيطان. مبالغة لفظية, أم إلزام مهني؟















المزيد.....


محامي الشيطان. مبالغة لفظية, أم إلزام مهني؟


هايل نصر

الحوار المتمدن-العدد: 1732 - 2006 / 11 / 12 - 09:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


رغم عراقة مهنة المحاماة ونبل رسالتها تبقى عند الكثير من غير الحقوقيين, غير معروفة حق المعرفة. ولا عجب في ذلك إذا عرفنا أن هذا هو حال الكثير من الحقوقيين, أو حتى بعض ممارسي هذه المهنة ــ ليس جهلا بأصولها وإنما تقصيرا بمتطلباتها . وهذا ما يتبين من أعمال المجالس التأديبية وأحكام المحاكم المختصة ــ فعند الإنسان العادي, العربي بشكل خاص, المحامي هو " رجل الخطابة" وصناعة الكلام, الذي يقف في المحاكم يلقي الخطب المنمقة باسم موكله ولصالحه في القضايا المدنية, ويدافع عن البريء وعن المجرم في محاكم الجنح والجنايات. ويقبل أن يكون " محامي الشيطان" ليكسب معيشته من هذه المهنة.

لقد كان لمواقف بعض المحامين في العالم العربي, من تنكر لأدبيات المهنة déontologie ومنها, بل وأخطرها, السكوت على استمرار أنظمة الطوارئ والأحكام العرفية المستمرة منذ عقود, وعدم الإشارة إليها و المطالبة الدائمة والفعّالة بإلغائها, وإشادة بعضهم, أفرادا ومجموعات, بواضعي هذه الأنظمة والأحكام, ( المخالفة للحريات الفردية والعامة, ولحقوق الإنسان, ولحق الدفاع, مهمتهم الأساسية ), والهتاف لهم, بشكل غير لائق برصانة المهنة , في المؤتمرات والتجمعات المهنية والعامة, كأعوان للسلطة التنفيذية وليس للقضاء المستقل, جعل صورتهم تهتز في نظر الإنسان العادي, وخاصة المتضرر من هذه الأنظمة, وبالتالي إثارة تساؤلات عديدة ليست في مصلحة المهنة.

وقبل محاولة التعريف بأدبيات مهنة المحامي La déontologie de l’avocat نرى ضرورة الاستشهاد بموقف لمحامي تولوز (مشار إليه في مقال سابق لنا في الحوار المتمدن), يبين الأدبيات المهنية العالية, والتمسك بالدفاع عن الحق مهما كان الثمن, ومهما كانت صفة صاحبه, وذلك في قضية المرافعات في مراكز حجز الأجانب الداخلين لفرنسا أو المقيمين بها بصورة غير قانونية. فقد رفض جميع المحامين, مؤيدون بنقابتهم, التوجه إليها للمرافعات الشفهية واكتفوا بتقديم مذكرات دفاع عن موكليهم مكتوبة, وذلك منذ شهور, رغم عقد جلسات محكمة قاضي الحريات والحجز. ومحكمة الاستئناف, في عين المكان لإجبارهم على الحضور. كل ذلك لم يثن هؤلاء عن موقفهم الذي يعتبر محاكمة المحتجز في مركز الحجز غير قانوني, و يمس بحق الدفاع الذين هم حماته.

مهنة المحاماة جديرة بان تسلط عليها الأضواء بهدف التعريف الصحيح بها, وإيصال صورتها الحقيقية للجميع. وهذا ما لا نراه في الواقع العربي, حيث لا يخصص منتسبوها والمهتمون بها ما يكفي لإعطائها حقها في هذا المجال. فالمؤلفات والمقالات والندوات التي تشير إليها نادرة ومتخصصة تخاطب أعضاء المهنة بشكل خاص. والبرامج الإعلامية (بما فيها المتلفزة, (المخصصة في غالبيتها العظمى للمسلسلات وللفن الصاعد منه والهابط), لا تخصص لها أية مساحة. هذا إلى جانب الإغفال الكامل للتربية الحقوقية في كل مراحل التعليم بما فيها الجامعي, ما عدا كليات الحقوق التي تدرس القانون وليس المهن القانونية ومنها المحاماة.

تعود أصول المحاماة إلى العصور الضاربة في القدم. كان قانون سولون Solon يفرض على المواطن الأثيني الدفاع عن نفسه بنفسه أمام محكمة الشعب. وكانت الخطابة ميزة طبيعية عند اليونان, وعامل نجاح وشهرة لممتهنيها, وعليه كان صاحب القضية يفضل إسناد قضيته للدفاع عنها إلى خطيب سياسي من المشهورين في هذا الفن في أثينا كلها ومنهم ديمستان Démosthène , تيمستوكل Thémistocle , و ليزياس Lysias الذين يعتبروا في هذا المجال من أوائل المدافعين في التاريخ. ( Bernard Sur. Histoire des Avocats en France, Dalloz ). و لم تكن مهنة المحاماة قد وجدت بعد في اليونان. كان المدافعون يعملون على الدفاع عن حقوق موكليهم وحماية مصالحهم عندما تطلب منهم المساعدة في حالة وجود صعوبة قانونية. ومع تعقد مجال الحقوق كان من الضروري الاستنجاد بمختصين يعرفون لغة القانون وعلمه. (Roger Perrot ; institution judiciaire, 12 édition ).

وكان لما ساد في أثينا أثره في روما القديمة. حيث لعب الخطباء السياسيون دورهم في الحاضرة Cité لمصلحة موكليهم , بناء على مبادرتهم الخاصة, أو على طلب المساعدة من الموكلين. يقومون بمرافعاتهم الشفهية, بتأكيد من اوكيست Auguste على مجانيتها, لكون المجموعة القانونية الرمانية معقدة في الموضوع وفي القواعد الإجرائية. وقد وجد في القرن الأول قبل الميلاد من يمتهن كتابة المذكرات القانونية لمصلحة المترافع. ثم تم توحيد العملين: المرافعة الشفهية وكتابة المذكرات. وأخذ دور المحامي advocatus يتعاظم شيئا فشيئا في روما. وقد أعطت مرافعات ورسائل سيسرون Cicéron نبلا وأهمية لهذه المهنة ولفن الدفاع. وكذلك محامون مثل كاتون Caton . كراسيس Crassus . كانتيليان Quintilien . وغيرهم. وتحت رعايتهم عرفت مهنة المحاماة سموها واتساعها المذهل. وقد شكل المحامون هيئة مهنية تم تنظيم نشاطاتها. وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية, لم يعد من بقي من ممارسي مهنة الدفاع عن الآخرين, في إطار الدعاوى, يشكلون مهنة حقيقية. و شهد القرن الثامن عودة اكتشاف القانون الروماني. فقامت المحاكم الكنسية, ثم العلمانية بإعادة إنشاء مهن حقيقية للدفاع القضائي. وكان المرسوم الملكي الأول الذي نظم نشاط المحامين يعود لعام 1274 معلنا أن على المحامين المترافعين أمام المحاكم الملكية ان يؤدوا اليمين بان لا يدافعوا إلا عن القضايا العادلة juste . وان لا تتجاوز أتعابهم حدا معينا.

ولسنا هنا بصدد تتبع تطور مهنة المحاماة منذ ذلك التاريخ وعبر العصور الوسطى (على الراغب في ذلك العودة, بشكل خاص, إلى أعمال André Damien, les avocats du temps passé. R. Martin, la déontologie de l’avocat, éd. 2004. Bernard Sur. Op. cit. ). وإنما الإشارة إلى أدبيات المحاماة وستكون مرجعيتنا, في هذا المقال العجالة, نظام المحاماة في فرنسا, المتبع في الكثير من الدول العربية, والذي يهم آلاف المهاجرين من أصول عربية.

كانت مهمة المحامي في فرنسا القديمة (ما قبل ثورة 1789 ) تتمثل في الدفاع الشفهي عن موكليه أمام المحاكم. في حين كان يقوم بالإجراءات المكتوبة متخصص آخر يسمى وكيل procureur الذي عرف فيما بعد بوكيل الدعاوى avoué.

وقد ألغت الثورة فور قيامها كل الوسطاء في القضاء, محامون ووكلاء. من منطلق أن الثورة قامت للقضاء على كل أنواع الفساد. وإنها ضد كل المؤسسات القضائية للنظام القديم.
ورغم وجود أكثر من 200 محام في الجمعية الوطنية التأسيسية لم يتصد هؤلاء لمرسوم إلغاء مهنة المحاماة ولا لمنع حل نقابات المحامين les Ordres d’avocats الذي أعلنه مرسوم 11 سبتمبر 1790 :" رجال القانون الملقبون " محامين" لا يستطيعون تكوين نقابة أو حرفة. ولا يجب أن يكون لهم لباس خاص بهم خلال عملهم".

وقد نتج عن ذلك حالة من الفوضى شملت إدارة القضاء. مما أجبر نابليون بونابرت لاحقا على أن يقوم بإعادة مهنة الوكلاء الذين أصبحوا يسمون منذ ذلك التاريخ وكلاء الدعاوى (قانون 27 فانتوز عام 1810 ).ثم إعادة المحامين فيما بعد (قانون 14 ديسمبر 1810 ). وعندما تمت صياغة القانون الجزائي Code pénal لم تكن أية هيئة للمحامين قائمة وهذا ما يفسر ان قانون التحقيق الجنائي الذي بقي قائما حتى عام 1958 لم يتحدث عن محامين بل عن مستشارين Conseils .( Bernard Beignier et autres, Droit et Déontologie de la profession d’avocat, puf ).

لم تكن السلطات السياسية وقتها مرتاحة لاستقلالية المحامين. وينسب إلى نابليون القول: " طالما السيف إلى جانبي, سيكون ضمن سلطتي قطع لسان كل محام يتجرأ على استخدامه ضد الحكومة ". وقد برهن الزمن,كما أشار روجيه برروت, ان لسان المحامي أكثر صلابة من سيف الجنرال. بدليل ذهاب هذا الأخير وبقاء مهنة المحاماة وتوطيدها.

كما لم تكن المحاماة وحياة ممارسيها سهلة وعادية منذ النشأة وعبر القرون الوسطى إلى أيامنا هذه. وكان على المحامين في كل العصور, ومع تطور المجتمعات وتحولها, ابتكار التشكيل la structure الذي يحميهم ويسمح لهم ممارسة مهنتهم بما يتناسب مع الواقع الجديد.

في عام 1920 ظهر المحامي المعاصر. قبل هذا التاريخ كان لقب "محامي" يستخدم من قبل من لا يمارس المحاماة كمهنة. فقد لبى مرسوم 20 جوان (حزيران للعام المذكور طلبا قديما للمحامين لحصر ممارسة المهنة بالمسجلين على لائحة المحامين le Tableau بنصه على أن: " يحق فقط لحملة الليسانس في الحقوق, المسجلون على لائحة المحامين, أو على لائحة المتدربين, ممارسة مهنة المحاماة". وابتداء من عام 1927 فرضت عقوبات على كل من يمارس المحاماة دون أن تتوفر فيه الشروط المطلوبة لذلك: المؤهل العلمي والتسجيل على قائمة المحامين, أو المحامين المتدربين. وقد تتالت المراسيم والقوانين المنظمة للمهنة إلى أن وصلت لشكلها الجديد عام 1971.

عرف عام 1971 صياغة جديدة لمهنة المحاماة في فرنسا مع الإصلاح الجذري الذي حمله قانون 31 ديسمبر للعام المذكور بنصه في المادة الأولى على ان " المهمة الجديدة للمحامين حلت محل المهن السابقة لهم لدى المجالس القضائية les cours) ), والمحاكم. ومهن وكلاء الدعاوى لدى المحاكم الابتدائية الكبرى ( tribunaux de Grande instance ) .." . كما جاء في المادة الرابعة منه " لا يستطيع أحد, إن لم يكن محام, أن يقوم بتقديم مساعدة للأطراف أو بتمثيلهم , أو المرافعة عنهم أمام المحاكم و الهيئات القضائية, أو التأديبية بأي شكل من الأشكال" .
وقد وضع هذا القانون أسس وشروط التكوين المهني المتعلقة بمهنة المحاماة وطرق ممارستها. وبهدف تمتين واغناء تكوين المحامين من النواحي العلمية والعملية. وتوضيح الحقوق والواجبات وأدبيات المهنة, أوجد مراكز للتكوين المهني centres des formation professionnelle (CFPA ). وقد تتالت الإصلاحات وبشكل متواتر. فقد اشترط قانون 30 جوان 1977 في طالب الالتحاق بمهنة المحاماة حيازة شهادة المتريز في الحقوق. وسنة دراسية للإعداد لدخول تلك المراكز يليها امتحان الدخول, الذي هو في الواقع, اقرب للتصفيات القاسية جدا منه للامتحانات. بعدها يتابع الطالب سنة دراسية, 12 شهرا, في المراكزالمذكورة, تكون الدراسة فيها نظرية وعملية, وتدريب في مكاتب المحامين والمحاكم والشركات الوطنية والأجنبية. يمنح من يجتاز امتحانها بنجاح شهادة أهلية ممارسة المهنة (CAPA). يحلف بعدها المتخرج يمين المهنة و يتابع تدريبه كمحام متدرب لدى محام أستاذ لمدة سنتين ليصبح بعد قبوله في التسجيل على لائحة المحامين Le Grand Tableau محام أستاذ maître. وقد تبع هذه التعديلات الجوهرية تعديلات لاحقة تنظيمية وتكوينية للمحامي وللنقابة ولمجلس النقابات, حتى يومنا هذا, ولا نرى هنا مجال الإشارة إليها. وقد جاء قانون 130ـ2000 الصادر بتاريخ 2004 ليلغي فترة التدريب بعد التخرج من مراكز التكوين, ويسمح للحاصل منها على شهادة التأهيل لممارسة المهنة, التسجيل على لائحة المحامين مباشرة. وفي مقابل ذلك فرض عليه مبدأ التكوين المتواصل الإجباري طيلة حياته المهنية. هذا التكوين تقوم به مراكز تكوين المحامين المشار إليها أعلاه. وعلى كل مجلس نقابة أن " يسهر على التأكد من أن المحامين المنتسبين له يتابعون, بشكل مرض وكاف, التكوين الإلزامي لدى المراكز المذكورة" ( L.31 déc.1971, art.17-11°, mod. Par la loi de 2004 ). غير أن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى الواجبات الأدبية لمهنة المحاماة, التي تدرس في مراكز التكوين وتلتزم النقابات بمراعاتها وفرضها على جميع أعضائها طيلة حياتهم المهنية والخاصة.

أدبيات مهنة المحاماة la déontologie .
تاريخ أول تدوين في فرنسا للواجبات الأدبية للمحامين يعود لعام 1535. فقد كانت قبل ذلك موزعة في نصوص متفرقة وعامة . ( على الراغب بذلك مراجعة برنار سير. مرجع مشار إليه سابقا و جان لويس دوبريه, جمهوريات المحامين. Gean-Louis DEBRE, les Républiques des avocats. ). و تعرف الواجبات الأدبية على أنها "نظرية الواجبات" ( مصطلحات لالند Vocabulaire Lalande) ). لعل التعريف الأكثر قبولا وشيوعا هو ما يعتمده بهذا الصدد قاموس المصطلحات القانونية المنشور من قبل جمعية هنري كابيتان Henri Capitan:
" مجموعة الواجبات الملازمةinhérent لممارسة نشاط مهني حر. وتحددها غالبا النقابة المهنية".


يحدد يمين القبول لممارسة مهنة المحاماة حاليا المبادئ الأساسية التي ستوجه سلوك طالب دخول المهنة, بعد توفر كل الشروط المطلوبة لدخولها بالعبارات التالية: " أقسم, كمحام, بأن أمارس مهامي بكرامة, وضمير, واستقلال, و استقامة وإنسانية". يمين تقع تحت طائلته كل تصرفات ونشاطات المحامي, المهنية منها والشخصية, طيلة حياته.

عقدت في لبنان عام 2000 ندوة عالمية تحت عنوان "كرامة, أبعاد, وحماية Dignité dimensions , et protection ). تم فيها البحث في الأبعاد المتعلقة في الواجبات الأدبية المشتركة لمهنة القضاة والمحامين. وقرر الكثير من المشاركين انه بقدر ما تكون الالتزامات الأدبية كبيرة بقدر ما تسمو المهنة. وأكدوا على ضرورة مراعاة هؤلاء لبعض الشروط مثل التحفظ, والحذر, والرزانة . وكثيرا ما يقعوا تحت طائلة الملاحقة التأديبية ليس فقط للإخلال بواجبات المهنة, وإنما كذلك لوقائع تتعلق بحياتهم الخاصة. ( A. Sériaux, le droit, une introduction ). فقد أراد المشرع أن يفرض في مواجهتهم التزاما كبيرا بالأخلاق يفوق ما هو مطلوب من المواطن العادي. فلا يستطيع محام, على سبيل المثال, أن يترافع في قضية طلاق إذا كان هو نفسه تهرب من دفع النفقة الغذائية الواجبة عليه تجاه أبنائه. كما ان مسؤوليته في مخالفة قانون السير اكبر من مسؤولية المواطن العادي. ( برنار بينيه . المرجع السابق).
يعتبر المحامي في فرنسا "عون القضاء Auxiliaire de la justice." . وهناك عناصر مشتركة بين الواجبات الأدبية للمحامي و للقاضي تتعلق بالالتزام الواجب على كل منها في احترام المؤسسة القضائية. وهذا الالتزام لا يقتصر على المحامي وحده أو القاضي وحده وإنما هو التزام مشترك. كما أن احترام المتقاضي هو أيضا التزام مشترك يقع على عاتقهما. op.cit.Canivet

فالمحامي الجيد يساهم في إيجاد القاضي الجيد ونوعية العمل الذي يقدمه وجودته تظهر في صياغة أحكام القاضي. المحامي الجيد كما أشار الرئيس فارانت E. Varant ليس ذلك الذي يستشهد بإحكام القضاء فقط, وإنما الذي يقدم بعمله الخاص ما يمكن أن يصبح أحكام قضاء. وقد لاحظ العميد كاربونييه Jean Carbonnier ان « ما يسمى أحكام القضاء ليس هو في غالبيته العمل الذهني للقضاة, وإنما يعود, جزء كبير منه, لعمل المحامين. ووكلاء الدعاوى. والمحامين لدى محكمة النقض. فهم في ملخصاتهم ومرافعاتهم يبتكرون الأنظمة الجديدة في التفسير أو البناء القضائي. ودور القضاة هو الاختيار بين الاطروحات المقدمة لهم ( مدخل puf coll. « Thémis » 1999, p.146).

وقد أشار النقيب Bâtonnier داميان في المؤتمر الدولي للقانون الجزائي المنعقد في روما عام 1952 أن " على المحامي أن يقول ما هو في مصلحة موكله وليس فقط ما يرضي القاضي". وهذا ما يبين استقلالية المحامي في مواجهة القاضي سواء أكان قاض حكم أم قاضي نيابة. وما يؤكد دوره كقوة توازن في الدعوى و الحوار القضائي. ولا يكون ذلك إلا إذا توفرت له الاستقلالية, وحرية التعبير, والحماية, والحصانة في مرافعاته الشفهية والكتابية. فالمحامي في غياب الاستقلالية لا يمكن أن يدافع عن مصالح موكيليه التي يحميها القانون و حق الدفاع المقدس في دولة القانون والديمقراطية (الغائب في الدول الدكتاتورية والشمولية).

وكما أن للموكل حرية اختيار محاميه فان للمحامي حرية رفض طلب التوكيل حين توافر شروط معينة. فزيادة عن تلك التي لا تتلاءم مع المهنة, وتعارض مصالح موكيليه, أو طلب مد يد العون لارتكاب جنحة أو جريمة, أو الغش الضريبي, يمكن للمحامي رفض التدخل إذا كان ذلك ضد مبادئه الأساسية وضد مبادئ المهنة. ولعل ما أشار إليه المحامي جاك فيرجاس Jacques Vergès بقوله على المحامي أن يدافع عن كل الحالات التي تعرض عليه على شرط: أن لا تكون هذه الحالات متناقضة مع مبادئه. ومع مبادئ المهنة وأصولها. عندما دافعت عن باربي Barbie لم أكن امجد النازية. لو كان باربي طلب مني الدفاع عن العرق الآري كنت سأدعوه لاختيار محام آخر غيري, ما هاجمته في دعوى باربي هو الاستعمار.(مقابلة مع الجريدة الجزائرية. وهران بتاريخ 17/2/2006 .). " حلمي أن أدافع عن ألد أعدائي بهدف معرفتهم. . لو كان ذلك ممكنا لدافعت عن هتلر. كما يمكن أن أدافع عن بوش" ( VSD le Duel 2006. ).

ليس على المحامي وضع نفسه كليا في خدمة رغبات موكله. وإنما عليه أن بقدم له النصيحة القانونية بصدق فيما يتعلق بالقضية الموكلة إليه. ويدخل ضمن اختصاصه أن يردع بالإقناع رغبات موكله إذا كانت قضيته غير قابلة للدفاع عنها قانونيا indéfendable ( فقد تمت إدانة أحد المحامين لمساندته قضية غير قابلة الدفاع عنها قانونيا. CA. Paris, 1ère chambre, A, 8 novembre 2000, jcpg 2001,1,I, 348, n°24, obs.Martin ). أما في المواد الجزائية, وحيث لا يمكن تلافي الجريمة التي تم ارتكابها لكون الواقعة قد وقعت فعلا فان المجرم, مهما كانت خطورته, يجب أن يجد محام يدافع عنه.

وهناك أراء ونقاش مستمر حول موقف المحامي في حالة اعتراف المجرم له بجريمته طالبا إليه, مع ذلك, المساعدة والدفاع عنه كبريء. حيث يرى البعض أن عليه أن يتنحى se demattre . في حين يرى آخرون انه في حالة كون الملف قابل للمرافعة بالبراءة, عليه أن يقوم بذلك, مع معرفته بجريمة موكله. لأن هذه المعرفة تدخل ضمن سر المهنة, أو سرية الاعتراف. فهذه السرية تفرض نفسها على حاملها. وعليه فالمحامي يدافع عن الملف وليس عن الشخص. وهذا, حسب ما يقدرون, لا يتعارض مع الواجبات الأدبية. وحسب فرنسوا بيركلان Jean-François Burgelin النائب العام في محكمة النقض الفرنسية فان موقع المحامي إلى جانب موكله ولكن ليس معه. ( le procès de la justice, Plon. ).
على المحامي عمل كل ما في وسعه للحصول على أفضل النتائج وله في ذلك الحق كله, شريطة أن يبقى ضمن إطار الالتزامات الضرورية بالواجبات الأدبية للمهنة.

مضيفا ان المحامي ليس عون القضاء, فالكلمة فيها انتقاص من دوره, ولكنه وسيط بين المتهم وقاضيه. مثل ذلك هو وكيل الجمهورية. إذا خان المحامي يمينه الذي أداه يخرج من موقعه ويصبح غير جدير بلقبه. مثل هؤلاء قلائل. وعليه يجب تعزيز استقلاليته حتى يكون القوة الموازنة في الدعوى. يجب أن يبقى دون ارتباط. أولئك الذين يحاولون توظيف المهنة (جعلها وظيفة) هم الذين يحنون لماضي محاكم التفتيش حيث كان الشيطان le Diable وحده محام.
والحديث عن المحامي يعني الحديث عن الدفاع. والحديث عن الدفاع يعني الحديث عن القضاء. فالمحامي ضروري لتوازن القضاء مثل القاضي وقاضي النيابة. ففي الدعوى ثلاثة مصالح: مصلحة المجتمع, الموكول الدفاع عنها للنيابة. ومصلحة المعتدى عليه الموكول الدفاع عنها للمدعي بالحق المدني partie civile وبالتالي المحامي. و مصلحة المتهم التي يدافع عنها موكله. المحامي.

هل إقامة العدالة تتطلب إصلاح مهنة المحاماة وحدها. أم إصلاح النيابة. أم إصلاح القضاة بدرجاتهم. أم أن الإصلاح لا يستقيم إلا في عمل ذلك كله. وفي نظر الفرنسيين ليس المحامي وحده المسؤول عن حالة وجود خلل أو فساد في القضاء والتعامل القضائي. و لا القاضي وحده, قاضي النيابة أو قاضي الحكم, هو المسؤول .

حينما تقع أخطاء أو تشتم رائحة فساد, مها كانت درجته أو نسبته, في القضاء الفرنسي تطرح قضية الإصلاح. فتعقد لها الندوات, والمناقشات, والتدخلات, على كل المستويات ويأخذ الأعلام دوره في إبرازها وإيصالها للمواطن العادي, والمهتم, والمتخصص. وما نشره التلفزيون الفرنسي من جلسات وندوات و لقاءات, مع قضاة ومشرعين, ورجال قانون, وأساتذة جامعات, ومحامين, وأناس عاديين, في قضية اوترو Outreau , وظهور عشرات المؤلفات ولعل من أهمها, لصفة مؤلفيها الوظيفية, كتاب صدر عن الرئيس الأول لمحكمة النقض في باريس, Cour de cassation , جي كانيفه Guy Canivet بعنوان الواجبات الأدبية للقضاة (Déontologie des magistrats, Dalloz ) يقرر فيه الكاتب أنه " تغير الزمن الذي يفترض فيه أن سلطة ومصداقية القضاء تتطلب السكوت عن الأخطاء المرتكبة من قبل القضاة, للتغطية عليهم بأسطورة القاضي غير القابل للمساس به . فثقافة السرية لم تعد مقبولة من المجتمع. وبالعكس فان سلطة القضاء وثقة المتقاضي هما اليوم, أكثر من أي وقت مضى, تستندان على شفافية الإجراءات, وعلى الأحكام التأديبية التي تسمح لكل مواطن التأكد من أن الأخطاء المكتشفة معاقب عليها فعلا بما يناسبها". وكتاب النائب العام في محكمة النقض المذكورة بعنوان الدعوى على القضاء. وكتاب المحامي العام في محكمة الاستئناف بباريس فيليب بيلجيه Philippe Bilger من اجل شرف القضاء.., لدليل قاطع على أن في دولة القانون والديمقراطية تحصل تجاوزات وأخطاء ويظهر فساد. لكن هناك رقابة. ومحاسبة. ومقدرة على الإصلاح. والتغيير. وأخذ العبر.

و في عالمنا العربي, أليس على المحامي إن اضطر مرة, لإلزام مهني, أن يكون محام ملف الشيطان, وليس الشيطان نفسه, أن يقف صادقا في كل المرات الباقية, ليكون محام العدالة والقضايا العادلة. والواقع إنه إضافة إلى الجهل المعمم أو لتجهيل, بمهنة المحاماة ومحاولات إفسادها, هناك التطاول على القضاء. والقضاة. والسعي المستديم لإخضاعهم بشتى الوسائل للسلطة التنفيذية ورغباتها. وإفساد ما يمثل ضمير الأمة وكرامتها.

وأخيرا الم يحن الوقت لنا بعد, في المنطقة العربية, أن نفكر بمواكبة العصر والسير فيه, وتذوق العدالة. أو على الأقل أن نحلم بها في حالة عجزنا عن السعي إليها ؟. د. هايل نصر.
فرنسا . تولوز.



#هايل_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في معنى المواطنية
- حول علم السياسة
- اضافات عربية على الديمقراطية
- هجرة. التفاف على الوعود, وتسوية هزيلة
- هجرة ولتذهب القيم للجحيم!!!
- المنطقة العربية . منطقة تصد وممانعة للديمقراطية
- محامو تولوز. اخلاق مهنية عالية
- وهم أيضا من دعاة حقوق الإنسان !!!
- وهم أيضا دعاة حقوق إنسان !!!
- مثقفون ولكن ...
- حول دولة القانون
- حق اللجوء في فرنسا
- حق الدفاع في المواد الجزائية 2
- التطاول على القضاء 2
- التطاول على القضاء
- هجرة -منتقاة- وليست مفروضة 2
- هجرة - منتقاة- وليست- مفروضة
- حول حق الدفاع في المواد الجزائية - في القانون الجزائي الفرنس ...
- الاقتياد إلى الحدود


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هايل نصر - محامي الشيطان. مبالغة لفظية, أم إلزام مهني؟