أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - دلور ميقري - مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2















المزيد.....

مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1728 - 2006 / 11 / 8 - 11:08
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


عبْرَ الحيّ الكرديّ

" وبالقرب من المكان السابق ، توجد قرية تسمى ( الصالحية ) ، تقبع على منحدر هضبة ، حيث ينبسط من هناك مشهد الريف كله ، وكم هو جميل وغنيّ ومتنوّع . وفي الصالحية هذه ، يمتلك غالبية أعيان دمشق بيوتاً للنزهة ، وهي جميلة ولطيفة جداً ، سواء للمشهد الذي تطل عليه ، أو للحدائق التي تجاورها ، ناهيك عن المياه العذبة الرقراقة الجارية في جميع أنحاء الهضبة " (1) . هكذا يلخصُ الرحالة الفرنسي ، دارفيو ، مشاهداته في الصالحية . وبغض الطرف عن مبلغ إعجابه بمناظر تلك الضاحية الدمشقية ، الجميلة ، تستوقفنا هنا ملاحظة هامة : وهيَ أنّ الصالحية ، في زمن رحالتنا هذا ، ما كانت أكثر من " قرية " ؛ ملاحظة ٌ تلخصُ ، بدورها ، ما طرأ على أحوال ضاحيتنا ، إثرَ مرور قرن واحدٍ حسب ، على الإحتلال العثماني لسورية . لنتذكرَ وصفَ إبن بطوطة ، الرحالة المغربيّ من القرن الخامس عشر، لأرباض دمشق ؛ وفيه قوله عن الصالحية ، بأنها : " مدينة عظيمة ، لها سوق لا نظير لحسنه " (2) ، كيما نقدّر ما ألحقه الأتراكُ من مضرة فادحة بهذه الحاضرة الأيوبية ، العريقة . هذا ، دونما إغفال حقيقة اخرى ؛ وهيَ أنه في زمن بني عثمان هؤلاء ، تحديداً ، أضحَتْ الصالحية هيَ النواة الاولى للحيّ الكرديّ ، " ركن الدين " ، الواقع في الحدّ الشرقيّ منها .

ساحة " شمدين آغا " ، هيَ بطنُ الأم الاولى ؛ الصالحية ، الذي حملَ جنين حيّنا . من هذا المكان ، تتنوّق جولتنا الشارعَ المعروف في محكيتنا بـ " الطريق السلطاني " . لربما تقمّصَ الشارعُ نعتَ السلطان الأيوبيّ ، الناصر ؛ بما أنه ما فتأ يحملُ إسمَ عمّه الكبير " أسد الدين شيركوه " . وعلى كل حال ، لا بدّ من العودة إلى عصر أكثر تأخراً ، ما دامتْ خطانا تتنقلُ رخية ً ، مطمئنة ، عبرَ حيّنا الكرديّ هذا . قلنا أنّ ساحة شمدين آغا ، في طرف الحيّ الغربيّ ، القصيّ ، كانت موئلَ جولتنا . فلنغذ السيرَ ، إذاً ، خلل الطريق السلطانيّ المتناثرة على جانبيه ظلالُ المحلات المتنوعة ؛ من دكاكين ومتاجر ومطاعم ومكاتب .. وغيرها . هدوءٌ من المنازل القديمة ، الوادعة ؛ بشرفاته ومشربياته وأشجاره وتعريشاته ، يتراءى من خلف تلك المحلات الضاجّة بصخب حركتها ، التجارية . ثمة عمارتان ، عملاقتان في نسبة عمارتنا المحلية ، يرخي كل منهما أناقته ، وعجرفته ربما ، على ما يحيطه من مبان سكنية . في أصل هذا المكان ، تتجذرُ ذكريات بيت عريق ، دمشقيّ ، عجلتْ بنهايته ، المحزنة ، عشوائية التخطيط السكنيّ ، الحكوميّ ، المتحالف مع جشع الإنسان : ها هنا طيفٌ من شمدين آغا ؛ الزعيمُ الكرديّ ، الذائع الصيت في تذكرات التواريخ العثمانيّ لمدينتنا ؛ طيفُ منزل ، لا أكثر . أتذكرُ رهبة طفولتنا ، في مرورها بهذا المكان . كان البيتُ آنئذٍ شبه مهجور ، يسدلُ على أسراره الحجرية بجدران عالية ، صمّاء ، ذات عيون ملغزة لشبابيكه الرثة ، المتشابكة قضبانها الحديدية ، والمطروقة رؤووسها كأسنة الرماح . يبدو أنّ شكلَ البيت قد تواءمَ أكثر من مرة ، مع قدَره . ففي إحدى جولات منشئه ، التاريخية ، كاد أن يغيب في إندثار كامل إثرَ حريق أتى على معظمه . حصل ذلك في الثلث الأول من القرن التاسع عشر ، حينما غزا دمشقَ الفاتحُ المصريّ إبراهيم باشا ، فإنصاع لإرادته العامّة والخاصة : وحدهُ ، شمدين آغا ، من تحدى ذلك الفاتح ، خضوعاً لإرادة الباب العالي (3) . إلا أنّ تعويل َ الآغا الكرديّ على مقام سلطانه في الآستانة ، كان فيه كثير من سوء التقدير . المهم ، أنّ منزل شمدين آغا هوَ الذي دفع ثمن عصيان صاحبه ، الغائب ، الملتجيء لحمى العثمانيين . بيدَ أنّ الأمر سويّ بين المتخاصمَيْن ، بوساطة ما . ليتناهض من ثمّ المنزلُ " الشمدينيّ " ، من ركام إندثاره إلى تمام أثاله وإزدهاره : وبلغ في ذلك شأواً متشامخاً ، أنّ قاعته الرئيسة ، المزخرفة ، كانت هدية شخصية من الفاتح المصريّ ، الذي أمر ببنائها كنسخة مطابقة لمثيلتها في قصره ، القاهريّ ؛ حتى أنّ المسؤولين عن آثار دمشق ، إرتأوا في مستهل سبعينات القرن المنصرم ، نقلها إلى المدينة القديمة ؛ لتعرف الآن بإسم " القاعة الشامية " . (4)

ثمة دور عديدة ، في حيّنا ، لم تقلّ رفعة عن منزل شمدين آغا ؛ كبيت محمود باشا بوظو ، أمير الحجّ الشاميّ ، وبيت علي زلفو آغا ، الوجيه المعروف . الأول ، ما زال قائماً حتى اليوم ، وقنطرته المميزة هيَ بمثابة مدخل للزقاق الصاعد إلى الساحة الشمدينية تلك . يخيّل للمتأمل عمارة البناء ، أنه بإزاء قلعة حصينة ؛ بما يطالعه من واجهته العالية ، الكامدة ، وأجزائه المتعددة المطل بعضها على كرم كثيف للصبار ، المحدقُ بدوره بضفة نهر يزيد : كانت مدرسة " ستّ الشام " ، ( الحاملة إسم شقيقة صلاح الدين ) ، متركنة في أحد أجزاء بيت بوظو هذا ؛ المدرسة الإبتدائية ، الأولى في الحيّ ، الأثيرة ذكرياتها لدى جيل أمهاتنا . هنا ، في غربتنا السويدية ، تستعيدُ والدتي مشهدَ أحد العصاري ، حينما أصرّت صديقتها ، الحميمة ، ملك زلفو ، على أن تصطحبها إلى دارها ، الواقع في جادة " بكَاري " . تنزلق وزميلتها هذه من سيارة العائلة ، الخاصة ، بمعونة من السائق الأسمر البشرة ، ثمّ تدلف إلى حرمة المنزل ، المنيف ، الذي تطأه للمرة الأولى من عمر صداقتها لإبنته . ثمة ، في الباحة المرخمة ، كان علي زلفو آغا في إستقبالهما وهوَ متكأ على حافة البحرة الكبيرة ، المتراقصة الأمواه . وهناك أيضاً ، إجتاح أمي إحراجٌ متماهٍ بخجل ماحق لسنوات عمرها الست أو السبع ، فيما كانت تتلقى أسئلة الآغا ، المجاملة ، دونما ان تجرؤ على التطلع إلى هيئته المتسمة بالهيبة والصرامة . تدور الحياة في دورتها ، المعتادة ، وأجدني بعدئذٍ في نفس عمر أمي الطفوليّ ، تقريباً : ألجُ المنزل نفسه ، الذي كانت الدولة قد إستأجرته من أصحابه وحوّلته إلى مدرسة إبتدائية ، حملت إسم " محي الدين إبن عربي " ؛ قطب الصوفيّة . المنزل يقومُ على دورَيْن ، علوي ؛ ويصعد إليه بوساطة درج حجريّ ، ضيّق ، يؤدي إلى عدد من الحجرات ، التي كانت مختصة على ما يبدو برهن " الحريم " لعزلة شبه مطلقة . أما الدور الأرضيّ ، فهوَ يستقبل الداخل إلى الدار بباحته الصغيرة ، المرخمة بحجر المرمر الناصع . تكاد هذه الباحة لا تحوي سوى غرفة لا تقل صغراً عنها ؛ شُغلت في زمن سنتي الإبتدائية ، الأولى ، كمقر للإدارة : ذلك المكان الغريب ، الموحش ، غيرَ الممكن لي نسيانه ، والذي شهدَ مدافعتي لأبي على بابه ، فيما كنتُ باكياً ملتاعاً مروّعاً ، أستعطفه إعادتي إلى طمأنينة بيتنا . إنه نفسُ المكان ، المقدّر لي إثرئذٍ أن أخلد فيه إلى الهدوء المُطمْئِن نوعاً ، وخاصة بعيدَ ملاطفة من المدير ، الأستاذ عز الدين ملا ، صديق والدي . ومن رهبة الخطوة الأولى ، إلى ما تلاها من خطىً أكثرَ ثقة ، فيما كنت يومئذٍ أتنقل من باحة المدرسة الصغرى ، هابطاً الدرجات العريضة ، إلى باحتها الكبرى ، التي كانت على الترخيم ، الفخم ، ذاته : بحيرة بيضوية ، على جانب من السعة ، تتوسط تلك الباحة ، وتقابل الإيوان الفسيح ، المسقوف ، والفاصل بقوسه الخشبيّ بين حجرتيْن كبيرتيْن . ثمة حجرات اخرى ، أقل شأناً ، في محيط المكان ؛ ربما إستعملت في زمن الآغا ، السعيد ، كغرف للمطبخ والخدم والمؤونة . دورة المياه ، القذرة دوماً ، يفضي بابها الخلفيّ إلى جنة الدار ؛ الحديقة الغناء ، المنقسمة إلى جزئين . كان الجزءُ العلويّ ، على شكل مصطبة مستطيلة ، متربة ، معدة لألعابنا الرياضية . أما الجزء السفليّ ، فمترع حتى حافة ثمالته ، بالأنواع المختلفة من الشجر المثمر ؛ كالتين واللوز والأكيدنيا والتوت والحمضيات والتفاحيات ، علاوة على الخمائل والعرائش المترامية حتى أحضان ضفة نهر يزيد : لم يبق أثرٌ لذلك الجمال ، جميعاً ؛ لا الدار ولا دررها . حلتْ علبُ الإسمنت المسلح ، بمَحل المنزل الدمشقيّ هذا ، الأثريّ ؛ وغطتْ فظاظتها ، أيضاً ، على آثار طفولتنا .

مشاهدٌ اخرى ، منذورة للحنين ، هيَ ذي ؛ منبجسة ٌ من الضباب المهيمن على الذاكرة . هكذا رأيتني ، أعودُ بأجنحة عقدَيْن من الأعوام ، التائهة ، لأحلق في سماء مسقط رأسي ، حاطاً من ثمّ على هضبة حيّنا ، الأعلى ، المحتضنة تربة " النقشبندي " . ثمة ، بين الأضرحة الرخامية والحجرية والإسمنتية والترابية ؛ هناك ، بين ألوانها الموزعة بمساواة على تدرجات الأبيض والأخضر ، كانت خطى جولتي متسامقة نحو المقام الأكثر بروزاً وهيبة وجلالاً : مقام قطب النقشبندية ؛ الشيخ خالد الشهرزوري الكردي ( توفي عام 1826 ) . قبته الخضراء ، تتشامخ على ما يحيطها من خلاء ؛ قبة ٌ ، كرأس أبي هول ، حجريّ ، يحرسُ موتانا . " يا أيها الزائر الكريم ، إقرع الباب " : جملة ٌ مستحدثة ، مدهونة بخط أسود ، قبيح ، تستقبلكَ قدام باب المقام . أقرعُ إذاً ذلك الباب الحديديّ ، المقوّس ، ذي الصبغة البنيّة ، ليفجأني ظهورُ رجل بمقتبل العمر ، أناقته لا تنتمي بصلة لعالم المتصوفة ، وكان يحفّ به موكبٌ من الأطفال : " يا الله ، يا الله ! .. ، إفتحوا الطريق ! " ، يوجهُ رجلنا نداءه إلى من في الداخل ، من الحريم ، قبل أن يفسح ليَ موطئاً للدخول إلى حرمة المقام . طريقة النداء ولهجته الدمشقية ، المعتقة ، أوحتا إليّ بأنّ الدار مقطونة من عائلة أو أكثر ؛ من سلالة النقشبنديّ ، ربما ، أو من أخلافه المعينين على شؤون وقفه . صراخ الأطفال من حولي ، أيقظ في ذاكرتي صراخاً مماثلاً ، إلا أنه أشدّ لوعة ومرارة . كنتُ بعمر أصغر أولئك الصبيَة ، حينما تناوبتْ كلا عمتيّ على إصطحابي إلى المقام المقدّس ، الأثير لدى الأهلين بشفاعة شيخه ، قدّس سرّه . لم أفقه وقتئذٍ سبباً لذلك البحران النائح ، من لدن هذه العمة أو شقيقتها ، المستصرخ روحَ الحضرة : فيما بعد ، حينما طوت التربة نفسها جسدَ الواحدة منهما تلوَ الآخر ، جازَ لعلمي الإحاطة بمأساة عائلية ، متكررة في كلّ مرةٍ ، كلعنة .

أتجاوز على أيّ حال ، المدخلَ . تلوحُ لي بركة مستطيلة الهيئة ، يبدو من وسع حجمها أنها إستعملتْ كميضئة ، فيما مضى . ويعزز هذا الإعتقادُ كونَ التكية ، تاريخياً ، بصفة المسجد المقتصر إرتياده على المريدين ؛ أولئك الدراويش المجذوبين ، ذوي الأسمال المهلهلة ، المخصص لإقامتهم مقصورات مناسبة . بيدَ إننا للحقيقة ، لا نعلمُ متى أقفر المقام من دراويشه ، فكفتْ من ثمّ أناشيدُهم الشجية ، الغامضة ، عن التناهي إلى الأزقة والحواري ، المشمولة بالعتمة . ولكننا على علم بالتواريخ ، على الأقل ، والمفيدة بأنه سبق للسلطان عبد المجيد الثاني أن تكرم على رعيته من أتباع الطريقة ببناء هذا المقام في عام 1847 (5) ؛ الطريقة النقشبندية ، التي كانت زمنئذٍ واسعة الإنتشار في عموم السلطنة ، حتى ويقالُ أنّ الباب العالي نفسه ، كان من مريديها . وفي هذا المقام ، يمكن التأكيد بأن النموذج العثماني لبناء التكية ، على شيء من التأثر بما سبقه من النموذج الأيوبي / المملوكي . إنّ خلوَ ذلك المقام من الزخارف والعقود ، علاوة على المادة الخشبية للقبة المرتكزة على قاعتها الحجرية ؛ كل ذلك يشي بتدهور المستوى المعماري في دولة عثمان . إلا أننا سنكون على حذر ، لدى إطلاق أحكام تعميمية . يسترعي كذلك إنتباهنا هنا ، أنه في هذه الدولة ، الهمايونية ، قد أستعيض بالتكايا عن المدارس ، المميّزة للعصر الأيوبي / المملوكي . مع أنه تبقت بعض المدارس من زمن العثمانيين ، إنشيء معظمها في عهد ولاة أسرة " العظم " ، المعروفة ( القرن الثامن عشر ) . ومن تلك المدارس ، ما كان منها في سوق ساروجة ، الحيّ الأرستقراطيّ ؛ كمدرسة المرادية ، وكان شيخها يُدعى أبو قميص الكردي . وفي المدينة القديمة ، مدرسة الشيخ عبد الرحمن الكردي ، في محلة القباقيبية (6) . هذا مع الجزم بأن التكايا ، ( أو " الخانقاهات " ، بلفظ ذلك العصر ) ، المخصصة للطرق الصوفية ، ليست إبتداعاً عثمانياً . ولدينا شهادة الرحالة الأندلسي ، إبن جبير ، الذي سبقت جولته جولتنا هذه بأكثر من ثمانية قرون . ها هوَ يتنعّم برؤية دمشق ، في زمن صلاح الدين ، وينوّه بفضل السلطان على الصوفيين ، حدّ المبالغة بالقول أنهم : " الملوك بهذه البلاد ، لأنهم قد كفاهم الله مؤن الدنيا وفضولها .. وأسكنهم في قصور تذكرهم قصور الجنان " (7) . ومفردة " خانقاه " ، التي تأخذ بالعربية معنى التكية ، محرفة من الكردية " خانكَه " ؛ وتعني زاوية ، رباط . وكانت الخانقاهات شائعة في زمن بني أيوب ، كزوايا للدراويش ؛ ومنها الخاتونية والناصرية ، في حيّ الصالحية . غير أنه تبقى الحقيقة ، المفصحة عن كون هذا النمط من المعمار الإسلاميّ ، أضحى سمة لما نعرفه عن المنشأة الدينية ، العثمانية : ولنتذكر أنّ التكية السليمانية ، المشهورة في دمشق ، هيَ نسخة مطابقة بهذه الدرجة أو تلك ، للتكية السنانية في إستانبول ؛ بقبابها المتعددة ، الرقيقة ، ومآذنها النحيلة . ولا يمكن للحديث عن العمارة العثمانية ، أن يكون بمعزل عن تقليد بناء نزل التجار ( أو " الخانات " ، بلفظ ذلك الزمن ) ، الذي كان مزدهراً وقتها : ومن الذين إهتموا بعمارتها ، كان الوالي أسعد باشا العظم ، الذي يحمل إسمَه الخانُ الكبير في محلة البزورية . جدير بالذكر ، أنّ لامارتين ، الشاعر الرومنتيكي الفرنسي ، كتب بإعجاب عن هذا الخان ، اثناء رحلته المشرقية ، بحدود العام 1760 . (8)

وكما تنتهي الأجسادُ الإنسية ، الفانية ، في ملكوت الموت ؛ هاهيَ جولتنا بدورها ، تتناهى إلى خاتمتها على طريق اليقين هذا : أجدني في محيط المقام ، النقشبندي ، أين تتناثر بكثافةٍ مشهودة ، مشاهدُ وأضرحة " كراد الحارَة " ، وتغطي التلّ العملاق ، المترامي الأطراف . تجلبُ الإنتباهَ أضرحة خلفاء مولانا خالد ، النقشبنديين ، الملتصق بعضها بجدران مقامه . وعلى بعد أمتار قليلة ، يثوي جدث بدرخان باشا ( توفي عام 1868 ) ، أمير " بوطان " الشهير ، الذي أماد الجبال الكردية تحت أقدام السلطنة العثمانية . حفيداً إثرَ الآخر ، إنضمّ جلادت بك وزوجه ، روشن خانم ، إلى رقدة جدهم الكبير هذا . كذلك يحدقُ بالضريح نفسه ، قبورُ بعض صانعي النهضة الكردية ، التي شهدتها دمشق في النصف الأول من القرن العشرين ؛ قبورٌ ، شاءت وصايا قاطنيها ، في حياتهم ، أن تحمل شواهدها كتابة وقصائد ، كردية ، مرقشة بأحرف لاتينية . مقام مولانا ، إذاً ، ذاكرة لأكثر من عصر . فما فتأت إحدى حجراته الرطبة ، الضيقة ، تأتلفُ بآثار " نالي " ( توفي عام 1857 ) ؛ أكبر شعراء الكرد الكلاسيكيين ، المتغنين باللهجة السورانية ؛ ومن كان مجاوراً في المقام لسنين ثلاث ، قبيْل إرتحاله ، الأخير ، إلى الآستانة . وبعكس تلك الرحلة ، شاءَ قدَرُ الأمير جلادت بدرخان ( توفي عام 1951 ) ، أن تكون ولادته في الآستانة نفسها ؛ في قصر عمّه الباشا ، المتنفذ في البلاط ، ليلتجيء من ثم ّ في شبابه إلى الشام ، وبعد حياة حافلة يغمض عينيه أبداً ، تحت سمائها . ثمة في المكان المخضوضر ، على ضفة يزيد ، جذورٌ متبقية من ذكرى أميرنا هذا ، متواشجة مع جذور أشجار دار زلفو آغا ؛ أين قضى الأول في ضيافتها ، الأشهر الأولى من إقامته بدمشق .

الهوامش

1 ـ الفارس دارفيو ، وصف دمشق في القرن السابع عشر ـ الطبعة العربية في دمشق 1982 ، ص 52 2 ـ رحلة إبن بطوطة ، تحقيق وطبع ـ القاهرة 1967 ، ص 61 ج 1
3 ـ يوسف جميل نعيسة ، مجتمع مدينة دمشق ـ دمشق 1986 ، ص 480 ج 2
4 ـ عز الدين ملا ، حيّ الأكراد في مدينة دمشق ـ بيروت 1998 ، ص 59
5 ـ الشيخ الشطي ، أعيان دمشق في القرن الثالث عشر ـ تحقيق وطبع في دمشق 1973 ، ص 291
6 ـ الشيخ البديري ، حوادث دمشق اليومية ـ تحقيق وطبع في القاهرة 1959 ، ص 144
7 ـ رحلة إبن جبير ، تحقيق وطبع ـ بيروت 1964 ، ص 256
8 ـ يوسف جميل نعيسة ، مصدر مذكور ، ص 184 ج 1



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 1 / 2
- رحلاتٌ إلى مَوطن الجرمَان 1 / 3
- الحارَة ؛ بابُها وبشرُها
- مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 2 / 2
- زبير يوسف ؛ في منحَتِ الحَديد والتحدّي 2 / 2
- مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 1 / 2
- زبير يوسف ؛ منشدُ الأزمان القديمة
- إسمُ الوردَة : ثيمة الجريمة في رواية لباموك
- أورهان باموك والإشكالية التركية
- معسكراتُ الأبَد : شمالٌ يبشّر بالقيامَة 2 / 2
- العثمانيون والأرمن : الجينوسايد المتجدد
- غزوة نوبل ، العربية
- معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا
- مقامُ المواطَنة ، سورياً
- الوحدة الوطنية ، المفقودة
- حوارُ أديان أمْ حربٌ صليبيّة
- نصرُ الله والعَصابُ المُزمن للفاشية الأصولية
- سليم بركات ؛ الملامحُ الفنيّة لرواياته الأولى
- خيرُ أمّةٍ وأشرارُها
- إعتذار بابا الفاتيكان ، عربياً


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - دلور ميقري - مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2