|
أورهان باموك والإشكالية التركية
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1706 - 2006 / 10 / 17 - 08:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
1
على رأي الكثير من المهتمين بشؤون الكلمة ، فما كان لجائزة نوبل أن تسموَ بإسمها ، المهاب ، في عالم الأدب ، لوَ أنّ إسمَ الكاتب التركيّ ، أورهان باموك ، قد تمّ إستبعاده ، لسببٍ أو لآخر ، من حظوة جائزتها لهذا العام . إنّ تأكيدنا على المسألة " السببيّة " هنا ، له صلة بتلك العنعنات ، المعتادة ، عن ما يُزعم " تسييس " الجائزة أو رهنها لحساباتٍ ، غربيّة ، غريبةٍ عن الأدب . بعبارة اخرى ، ما يتردد في وسائل الإعلام لدينا ، بشكل خاص ، من مظناتٍ وشكوك ، مألوفة ، في كلّ مرة تذهب فيها هذه الجائزة إلى كاتب محظوظ ، ( ومبخوس الفأل ، في آن ) ، من بلادٍ أو ثقافة لها ما لها من إشكاليات . لا ريبَ أنّ إعتبارات ما ، ليست بالضرورة أدبية ، تتلاعبُ أحياناً هنا وهناك في أجواء الأكاديمية السويدية . إلا أنّ الإيغالَ بهذا الإتجاه ، غالباً ما يُشتط ُ في المبالغة به . ففي كلّ حين ، وخاصة في عصر الحرب الباردة ، كان صحفيونا يشمرون عن ساعد الجدّ ، ما أن يتناهى لعلمهم أنّ أديباً غربياً ( من الولايات المتحدة ، مثلاً ) ، قد نالَ البركة النوبلية ؛ ليبدأ هؤلاء بالتنقيب في سلالات الرجل ، السحيقة ، بحثاً عن " شبهةٍ ! " يهودية ، محتملة . أو ربما يكتفي أهل الصحافة ، إياهم ، بحقيقة أنّ كل كاتبٍ منحدر من أوروبة الشرقية ، يفوز بتلك الجائزة ، سيكون بالضرورة " منشقاً " ، معارضاً لنظام حكم بلاده ، الشيوعيّ : وكما لو أنه على اللجنة المختصة في الأكاديمية السويدية ، في هذه الحالة وتلك ، أن تتجاهلَ تقاليد بلادها ، الديمقراطية ؛ فتطبق " حدّ الشرع ! " في كلّ مرشّح للجائزة ، أو تكافيء كتبَة السلطة الديكتاتورية بميدالية " نوبل " ، الذهبية ، وشيكٍ مُعطر بقيمتها ، المليونية .
2
لطالما شكا أهلُ الثقافة عندنا ، من الإهمال الفادح الذي كانت تبديه الأكاديمية السويدية ، تجاه الإبداع الأدبيّ في المشرق . وهم على حقّ ؛ على الأقل في الجانب الظاهر ، من المسألة . بيدَ أنّ الأمرَ ، ليسَ بهذه المساهلة . لنتذكر الضجة ، المغرضة ، التي كانت قد صاحبتْ نيْلَ الروائي المصري ، نجيب محفوظ ، لنوبل الآداب في أواخر ثمانينات القرن المنصرم ؛ حينما لم يجدَ الكثيرُ من حكمائنا حرجاً في إتهامه ببيع قضايا الأمة العربية ـ كذا ـ من أجل الجائزة . ولنتذكر ، أيضاً ، ما ناله الروائي التركي ، ياشار كمال ـ المرشحُ المخضرم لتلك الجائزة العالمية ـ من " إحتفاء " مماثل ، من لدن صحافة بلاده ؛ عندما إرتفع صوته بوجه السياسيين والعسكريين ، المغالين في تطرفهم القومي ، التركي ، والذين أوغلوا في الدم الكرديّ سفكاً وإستباحة ً بحجة " مكافحة الإرهاب الإنفصاليّ " : لقد أعيدَ وجهُ المسألة نفسها ، إعتباطاً ، ما أن تجرأ مواطنه أورهان باموك ، الروائي المبدع ، على ضمّ صوته إليه . هذا الأخير ، ذهبَ إلى أبعدَ من ذلك ، بطرقه بابَ موضوع آخر ، محرّم ، في تركية الحديثة ؛ أيْ الجينوسايد الأرمنيّ . كلاهما ، المعلم ياشار وتلميذه أورهان ، تمّ التشهير به كساع لجائزة نوبل ، الأدبية ، من خلال " جواز سفر " ، سياسيّ ؛ على حدّ توصيف إعلام بلاده ، العتيد . وما عتمَ أن تبادل المعلم والتلميذ أماكنهما ، ثمة في المحاكم وعلى مرأى من أنظار محبي أدبهما في العالم أجمع ؛ ليواجها الواحد إثرَ الآخر التهمة عينها : النيل في صحافة الخارج ، من سمعة الدولة التركية .. !
3
بغض الطرف هنا ، عما أثير بحقّ أورهان باموك من لغطٍ ومغالطات ؛ يبقى القولُ ، أنّ هذا المبدع جسّدَ في أدبه ، بحق ، ما يُمكن وصفه بـ " الإشكالية التركية ". قبل كل شيء ، وعطفاً على إشارتنا للمعلم ياشار كمال ؛ فالمعروف عن رواياته تميّزها بموضوعات ، أثيرة ، مجتناة الثمار من ريف الأناضول بيئة ً وأجواءً وأساطيرَ ورؤىً . إلا أنّ تلميذه النجيب ، باموك ، وبالرغم من إبتعاده عن تلك المواضيع وإستلهامه المدينة الكبرى ، في أعماله جميعاً ؛ فإنه شاركَ معلمه في نقطة مفصلية ، غاية في الأهمية : وهيَ إبراز التنوّع في الثقافات والعادات والأعراف ، المكتنفة المجتمع التركيّ ؛ التنوّع المرفوض ، بالمقابل ، من جانب العقلية الإيديولوجية ، الكمالية ، الموجهة ذلك المجتمع ، والمفترضة تجانسه في بوتقة القومية الواحدة وثقافتها الوحيدة . كذلك تفرّدت روايات باموك بتطرقها لثيمة مستجدة ، على صعيد الأدب التركي ؛ ألا وهيَ العلاقة بين عالميْ الشرق والغرب ، على خلفية تاريخية وثقافية وحضارية . إنّ مسقط رأسه ، إستانبول ، بكونه السراط الواصل بين هذيْن العالميْن ، ما كان له إلا أن يشكل المثابة التي تنطلق منها / وإليها ، مواضيعُ أعماله الروائية : ها هنا ، إذاً ، تتمرأى ما وسمناها بـ " الإشكالية التركية ؛ بلادٌ تتوسّط القارتيْن ، اللدودتيْن ، آسية وأوروبة ـ بلادٌ ، ضائعة الإنتماء بينهما ؛ ثقافة ، هيَ مزيجٌ من ثقافات متعددة ، محيلة إلى الجغرافية والدين واللغة ـ ثقافة ٌ ، متغربة في الآن نفسه عن واقعها ، ما فتئتْ تكون أحادية ً ، مبتسرة ، ضيّقة الأفق ، منكرة ً للتنوع والتعددية .
4
ليسَ لنا ، والحالُ ما عرضناه آنفاً ، إلا أن نصدّقَ تلك الشائعة ، المستغربة ؛ والمفيدة بأنّ الدولة التركية ، وربما عبرَ وسطاءٍ نافذين ، قد سعتْ إلى منع حصول مواطنها ، الروائي الموهوب ، على جائزة نوبل . تلك الحقيقة ، المخزية ـ لو صحّتْ ـ يعززها ما تناقلته وكالات الأنباء من تصريح وزير الثقافة التركيّ ، الذي شدد على أنه يُهنيء بالجائزة : " أورهان باموك ، الأديبَ ، تحديداً " . وبعبارة اخرى ، أنّ الوزير العتيد ، غيرَ معنيّ بباموك الإنسان ، والمثقف الجريء ذي الموقف الواضح سياسياً وإجتماعياً وثقافياً ، والمثير للجدل بإختلافه عن السائد في موطنه ، وبإعلانه جهاراً وعلى الملأ صوتَ الحقيقة ، الحقيقية . الحالة التركيّة ـ كما عرضها لنا رواية ً إثرَ الاخرى ، المبدعُ باموك ـ على جانب كبير من الإشكاليّة ، وهيَ مهيأة دوماً لمزيدٍ من سوء الفهم داخلياً وخارجياً ، على حدّ المساواة : فها هنا بلدٌ متعدد الأعراق والثقافات ، آسيويّ الجغرافية ، إسلاميّ الإنتماء والهوية ، يُحاول جاهداً تملقَ المقام الأوروبيّ سعياً لمنافعَ إقتصادية وسياسية ، بالدرجة الأولى ؛ بلدٌ ، جاهدَ طويلاً وعلى مرّ تاريخه الحديث في نفض اليَد من كلّ ما يربطه من أصَرَةٍ بثقافته ، الأصلية ؛ دونما أن يبدرَ منه ، في المقابل ، إشاراتٍ عملية على تقبله الحضارة الغربية كمفهوم ومسلكٍ وخيار : فأيّ حظ لهكذا بلدٍ في ولوج الجنة الموعودة ، ( الإتحاد الأوروبيّ ) ، فيما نظامه السياسيّ وثقافته وعقليته ، ما زالت متأرجحة ً بين إيديولوجيةٍ أتاتوركية ، شبه فاشية ، منتهية الصلاحية منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية ، وإيديولوجيّة إسلاموية ، شبه عثمانية ، موصوفة كبديل للأولى وبصفة مرجعيتها الإلهية ، المفترضة .. ؛ وأيّ حظ لهذا البلد ، نفسه ، في العودة إلى محيطه الإسلاميّ ، فيما سياسته الإقليمية ، المشوشة ، تتعارض هنا وهناك مع مصالح جيرانه ، وشعوبها على وجه التحديد .. ؟؟
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معسكراتُ الأبَد : شمالٌ يبشّر بالقيامَة 2 / 2
-
العثمانيون والأرمن : الجينوسايد المتجدد
-
غزوة نوبل ، العربية
-
معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا
-
مقامُ المواطَنة ، سورياً
-
الوحدة الوطنية ، المفقودة
-
حوارُ أديان أمْ حربٌ صليبيّة
-
نصرُ الله والعَصابُ المُزمن للفاشية الأصولية
-
سليم بركات ؛ الملامحُ الفنيّة لرواياته الأولى
-
خيرُ أمّةٍ وأشرارُها
-
إعتذار بابا الفاتيكان ، عربياً
-
وليم إيغلتن ؛ مؤرخ الجمهورية الكردية الأولى
-
الثالوث غيرَ المقدّس
-
الحادي عشر من سبتمبر : خمسة أعوام من المعاناة
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 3 / 3
-
الأعلام العراقية والإعلام العربي
-
علم الكرديّ وحلمه
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 2 / 3
-
محفوظ ؛ مؤرخ مصر وضميرها
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 1 / 3
المزيد.....
-
سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفض
...
-
أحدث تردد قناة طيور الجنة على القمر الصناعي نايل سات “نزلها
...
-
-الشرق الأوسط الجديد ليس حلماً، اليهود والعرب في خندق واحد-–
...
-
بعد دعوة رجل دين درزي.. تحذير مصري من -مؤامرة- لتقسيم سوريا
...
-
الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في سوريا حكمت الهجري يطالب بحم
...
-
الدروز في دائرة الخطر: نتنياهو يستغل الطائفة لأغراض سياسية
-
جماعات الهيكل منظمات إسرائيلية تسعى لهدم المسجد الأقصى
-
الاشتباكات الطائفية في سوريا: أبرز القادة الروحيين الدروز يط
...
-
تردد قناة طيور الجنة.. نزلها على جهازك الرسيفر وتابع كل جديد
...
-
-كمين- لقوات تابعة للحكومة السورية يتسبب في مقتل 23 مسلحاً د
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|