|
كلمة جندي معرفة مجهول في وطن -باك صاحبي-
عبدالرحيم قروي
الحوار المتمدن-العدد: 7621 - 2023 / 5 / 24 - 16:11
المحور:
كتابات ساخرة
حضرات السادة والسيدات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: يشرفني كثيرا أن أحظى اليوم بشرف هذا الجمع المبارك حولي، الذي باستثناء اليوم الذي صدمتني فيه سيارة لم أعرف سائقها، وأنا أمتطي دراجتي الهوائية متجها فيه إلى المدرسة التي أشتغل فيها معلما، لم أكن موضوع تجمهر قبله ولا بعد، ولا بأس اليوم من شكر اﻷكاديمية والنيابة التي تواضعت أخيرا، لتنصت إلى هذا الشخص الذي لا تعتبره سوى إسمٍ من اﻷسماء النكرة، أو رقما من أرقام التأجير التي تشتغل في دوائر نفوذها، فشكرا إذن للسيد مدير المديرية اﻹقليمية الذي لا أعتقد أنه اﻵن بين هذا الحضور.. ضدا على كل العبارات البيروقراطية، والبروتوكولات، ألتمس منكم اﻹصغاء إلي ومنحي بعضا من وقتكم الثمين لموظف يعيش آخر ساعات انتسابه لوزارتكم الموقرة.. أنا عبد المجيد (...)، البالغ من العمر 63 سنة، والمتزوج اﻷب لأربعة أطفال من أبناء هذا الوطن، والحامل لرقم التأجير (...)، أصرح، وأنا ببعض قواي العقلية، التي احتفظت بها قسرا سنوات خدمتي الفعلية الطويلة داخل الفصل، أنني أرفض هذا التكريم الذي تفضلتم وتكرمتم بإقامته لشخصي.. نعم، لست في حاجة أيها السادة إلى تصفيقاتكم، وأنتم تحتجزونني هذا المساء داخل هذه القاعة كبهلوان عجوز، تعلقون على صدره أوسمة رخيصة، وتغدقون عليه بكلمات معلبة معدة بشكل رتيب، لكل مناسبة تسكتون بها موظفيكم كلما حان أجل أحدهم ليسلمكم مفاتيح فصله، ويستدير إلى ما تبقى من عمره متواريا عن أنظاركم إلى اﻷبد.. لا أيها الكرام.. هل غاب عن ذهنكم أن هذا الجسد الضامر المتهالك، تسكنه روح يعيش بها، وذاكرة طالما اختزنت ويلات النضال، وظلمات الشقاء والبؤس الذي أرادته لنا وزارتكم؟ كنت سأفرح بتكريمكم لي، يوم وصلت على ظهر حمار الجبل الذي تعتليه الفرعية التي عينت بها ذات ليلة من ليالي السبعينات الباردة، فلم أجد سكنا أقطن به، ﻷلوذ بمسجد أياما أبيت فيه قبل أن يحتضني بعض سكان القرية بكرمهم.. كنت سأفرح بتكريمكم لي، وأنا أشتغل سنتين بدون راتب، في انتظار اﻷجرة، حتى اشتكاني البقال إلى مخفر الدرك لكثرة ديوني.. كنت سأفرح بتكريمكم لي، وأنتم ترسلون إلي مديرا، يجتهد فقط بتبليغكم أيام عجزي ومرضي، وموافاتي بالاستفسارات، وإحصاء كل كبيرة وصغيرة علي، دون أن يمدني يوما بتنويه أو تشجيع لقاء كدي وجدي في سبيل تحصيل التلاميذ.. كنت سأفرح بتكريمكم، يوم لذغتني عقرب، وأنا تحت سقف مهترئ قرب الفرعية، أستجلب النوم واﻷحلام البسيطة، ﻷنسى بها الواقع الذي شكلتموه لي.. كنت سأفرح بتكريمكم، يوم انقطعت عني اﻷجرة سنة ونصف، إثر خطإ جناه علي المدير، جراء تقاعسه في إرسال مراسلة، كلفتني إرسال زوجتي لتشتغل خادمة ببيوت المدينة، حتى نجد ما نقتات به نحن وأبناؤنا.. كنت سأفرح بتكريمكم، وأنت تبعثون إلي مفتشا ببذلة وربطة عنق أنيقة، ليسخر من أحوالي، وليحاسبني على تطبيق مستجدات التدريس، داخل فصل طاولاته من مخلفات الاستعمار، وحيطانه آيلة للتهاوي على رأسي ورؤوس تلاميذي.. كنت سأفرح بتكريمكم، ذات ليلة كانت ستقضي علي فيه شمعة داخل مسكني، بعدما شبت ألسنة اللهب في أغطيتي وملاءاتي الحقيرة.. كنت سأفرح بتكريمكم، وأنا أدرس خمسين تلميذا داخل فصل واحد، بدعوى الخصاص وما إلى ذلك مما تجتهدون فيه للرد على مطالبنا ومطالب الشعب.. كنت سأفرح بتكريمكم، يوم سقطت فيه مغمى علي، إثر مرض مزمن، بعدما ضاق السيد النائب بمراسلاتي المرفقة بملف طبي مصادق عليه من قبل وزارة الصحة.. كنت سأفرح بتكريمكم، وأنا أشارك كل سنة، بعد عقود قضيتها مرابطا بجبال سوس القاسية، في الحركة الوطنية قصد الاقتراب من مستشفى بالمدينة، يحتضن سقمي وعلتي.. كنت سأفرح بتكريمكم، ولوائح الترقية تطالعني كل سنة بجدول خال من اسمي.. كنت سأفرح بتكريمكم، وأنا أشغل جميع الحرف داخل قسمي، تارة حلاقا يحلق رؤوس تلاميذي، وتارة منظفا أجمع فضلاتهم وقمامات الساحة، وتارة بناء أو صباغا أعتلي السلالم لمناشدة جدران المدرسة حتى لا تباغتني يوما وأنا أشتغل بينها.. نعم، أيها المحترمون.. كنت سأفرح بهذا التكريم، خلال تلك السنوات المديدة المريرة التي خلفت ما خلفت على تجاعيد وجهي وعظام جسدي وأكوام مكدسة من اﻷحزان داخل صدري المنهك بالربو والسعال اﻵن.. ولم يكن يزيدني إصرارا وتمسكا بالحياة، غير شرطي يستوقفني بالطريق مذكرا إياي أنه كان ذات يوم أحد تلاميذي، أو ممرضة لم تنس جهدي معها وهي تلميذة، أو... لكل هذه اﻷسباب أيها السادة، أعتذر عن قبولي هذا التكريم هذه الليلة، وأطلب منكم فقط أن تفسحوا لي طريقا ﻷخرج من هذه القاعة التي خنقتني - أنا المعاق ذا العكازين- وأنصرف إلى حال سبيلي، مستسمحكم عذرا على اﻷخذ من وقتكم لسماع أساطير شيخ في أراذل عمره.. والسلام عليكم ورحمة اللـه بقلم جندي معرفة مجهول في بلد " باك صاحبي"
#عبدالرحيم_قروي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ضرورة الارتقاء بالوعي للجماهير عوض مسايرة طبيعتها المحافظة
-
في الكرامة والمهنية ما يستحق الدكرى
-
بين التاكتيك والاستراتيجية يكمن الشيطان
-
هل تمكن محمود درويش من إخراج ناجي العلي من لندن انتقاما من ص
...
-
-دربالة الاموي-وويلات الحركة اليسارية في المغرب.
-
مأسسة الريع في الأنظمة اللاديمقراطية
-
الفردانية سلوك بورجوازي يغذي الشعبوية ويصطف في اللحظة الحاسم
...
-
الشعبوية عرقلة لكل تغيير ودعم غير مباشر للانظمة الساءدة
-
الشهيد ناجي العلي ريشة الرفض لكل المساومات والفضح لكل الخيان
...
-
الخطورة الرجعية لمقولة - كل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار -
-
يستطيع الجلاد أن يقتل الجسد لكنه لايستطيع أن يحبس الفكر
-
شهادة الفقيد أحمد بنجلون تسقط صنم عبدالرحمان اليوسفي وتفضح أ
...
-
همس نقدي لمغالطة - يسود ولا يحكم-
-
الخلفية التضليلية لمفهوم المخزن عند الأحزاب الرسمية
-
إشكالية التغيير بين الماركسية والمتمركسين
-
تخمة الفكر أم تخمة قيادات الريع المخزني
-
جدلية الثورة والثقافة في المفهوم الماركسي
-
من وصايا لقمان الى وخزات عبدالرحمان
-
الأنثى ثورة إن أعدّت ونقمة إن دمرت
-
فلنحاكم جميعا رجلا وامراة يدا في يد هذا الواقع الطبقي الداعر
المزيد.....
-
-المخبأ 42-.. متحف ستالين حيث يمكنك تجربة الهجوم النووي على
...
-
البعض رأى فيه رسالة مبطنة.. نجم إماراتي يثير جدلا بفيديو من
...
-
البحث عن الهوية في روايات القائمة القصيرة لجائزة الكتاب الأل
...
-
-لا تلمسيني-.. تفاعل كبير مع فيديو نيكول كيدمان وهي تدفع سلم
...
-
بالمجان.. موسكو تفتح متاحفها ومعارضها أمام الزائرين لمدة أسب
...
-
إسرائيل تخالف الرواية الأممية بشأن اقتحام قاعدة لليونيفيل
-
فنان مصري مشهور يستغيث بالأزهر
-
-حكي القرايا- لرمضان الرواشدة.. تاريخ الأردنيين والروايات ال
...
-
أفلام كرتون مميزة طول اليوم.. حدثها الآن تردد قناة ميكي الجد
...
-
انطلاق فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان كتارا للرواية العربية
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|