|
رواية للفتيان وادي الافاعي طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7608 - 2023 / 5 / 11 - 22:50
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
وادي الافاعي
طلال حسن
شخصيات الرواية
1. الفتى : إنشاج 2. الفتاة : تنتي 3.الجد : آبو 4. الأم : ننكاسي 5.الخالة : شيكال 6. أم الفتى : ننسوتو
" 1 "
استيقظ الجد آبو ، عند الفجر ، وتناهى إليه ،رغم ضعف سمعه، صوت المطر ، وهو ينهمر بغزارة خارج الكوخ. وأعتدل بصعوبة في فراشه ، وأنصت جيداًَ، يا للعجب ، لم يكن في السماء ، حين أوى إلى فراشه ليلة البارحة ، سوى غيمات متباعدة ، فمن أين جاء كل هذا المطر ؟ وهز رأسه مدمدماً : لابد أنها تلك الساحرة اللعينة شيكال . وهبت شيكال من فراشها ، وكأنها سمعت ما قاله الجد آبو . ووقفت تنظر بعينيها المشتعلتين ، عبر كوة الكوخ ، الى المطر ، وهو ينهمر كالشلال فوق الغابة. والتفتت إلى ننتي ، التي كانت تغط ، تحت فراشها ، في نوم عميق ، وراحت تحدق فيها .وتراءت لها ننكاسي، فتفجر بركانها ،وصرخت أعماقها : تباً لها ، فلتبق حيث هي ،في وادي الأفاعي ، إلا إذا .. . وعادت تنظر ، عبر الكوة ، إلى شلال المطر ،لعل مياهه تهدئ بركانها ، ولكن ..هيهات . و أشعل الجد النار في الموقد ، وراح يعد طعام الفطور ، بدون استعجال. وبدون شهية ، جلس يأكل ، منتظراً أن يكف المطر عن الهطول ، ليخرج إلى الغابة ، باحثاً عن صيد ، وإن كان لديه من الطعام ما يكفيه عدة أيام . ومرة أخرى ، التفتت شيكال إلى ننتي ، وهتفت بها : ننتي . وردت ننتي مدمدمة ، دون أن تفتح عينيها : نعم . وقالت شيكال : كفى نوماً ، انهضي . وتململت ننتي ، وقالت : المطر يهطل ، وليس لي ما أفعله . وبشيء من الحدة ، قالت شيكال : انهضي ، وتناولي طعامك. وسحبت ننتي الغطاء فوق وجهها ، وهي تقول : دعيني أنم الآن ، سأتناول الطعام في ما بعد . وظل الجد آبو ، سجين الكوخ طول النهار ، رغم أن المطر ، خفت قليلاً عند العصر . وما إن جاء الليل ، حتى ازداد المطر ثانية ، وراحت مياهه تنهمر كالشلال فوق الغابة . وخيم الظلام ، فأشعل القنديل ، وغذى نار الموقد يقطع جافة من الخشب ، ثم راح يعد طعام العشاء . وتوقف لحظة ، ينصت إلى المطر ، هذه الساحرة اللعينة شيكال ، إنه يعرف غايتها ، لتفعل ما تشاء ، فهو لن يغادر الغابة ، مهما كلفه الأمر ، إنه الوحيد ، الذي ظل متمسكاً بكوخه في الغابة ، وسيبقى متمسكاً به ، حتى النهاية . وهبت شيكال تزوم مدمدمة ، ورفعت ننتي عينيها إليها ، لكنها لم تفه بكلمة ، فهي تعرف تفجرات خالتها ، وان كانت لا تعرف أسباب هذها التفجرات . وفتحت شيكال الكوة ، فتدفق هدير المطر ، ممتزجاً بنعيب البومة : هو ..هو .. اي . وجلس الجد آبو ، قرب الموقد ، يتناول عشاءه ببطء ،وبدون شهية . فهو منذ أن رحلت ابنته بعيداً عن حياته ، لم يعد للطعام والشراب ، بل والحياة نفسها ، أي طعم . وبعد أن انتهى من تناول الطعام ، نهض بتثاقل ، وأعاد الإناء إلى مكانه . ووقف متردداً ، منقبض الصدر ، ثم اتجه إلى الكوة ، وفتحها مطلاً على الليل والمطر . لقد ولد هنا ، وولدت هنا ابنته ننسوتو ، وهنا عاش سعادته ، حتى رحلت ننسوتو ، و..وأغلق الكوة ، مبتعداً عن الليل و المطر .. و..ولاذ بفراشه ، وأندس فيه ، وسرعان ما غاب في سبات عميق .
" 2 "
أفاق الجد آبو ، على الباب يطرق طرقات مضطربة ، والمطر مازال ينهمر فوق الغابة. واعتدل بصعوبة ، آه من الشيخوخة . وأنصت ملياً، أهي طرقات حقيقية أم ..، من يدري ، لعلها ألعوبة من الألاعيب الساحرة اللعينة .. شيكال . وهم أن يعود للرقاد ،حين سمع الطرق ثانية ، فنهض متحاملاً على نفسه ، واتجه نحو الباب ، وقد كادت النار تلفظ أنفاسها الأخيرة .وتوقف ينصت إلى الخارج ،وهز رأسه ، يا للساحرة اللعينة ، لا شيء في الخارج ، سوى المطر المنهمر كالشلال . وتململت شيكال في فراشها مدمدمة ، عندما تناهى إليها ،عبر انهمار المطر ، نعيب البومة: هو .. هة .. إي ي ي . وهشت بيدها منزعجة ، وكأنها تبعد ما قالته ننتي مرة : بدل البلابل والحمام لا نسمع هنا إلا نعيب هذه البومة . وهنا طرق الباب مرة أخرى ، وخيل للجد آبو ، أنه يسمع أنفاساً ثقيلة في الخارج ،فهتف بصوت محتبس :من بالباب ؟ وعبر انهمار المطر ، جاءته تمتمة متحشرجة : أبي ، افتح ، أنا .. ننسوتو . وعلى الفور ، فتح الجد آبو الباب ،وإذا ننسوتو تقف شاحبة مرتعشة ، وماء المطر يتقاطر منها ،فتمتم مصعوقاً : يا إلهي ، من !ننسوتو! ودفعت ننسوتو صبياً ، في حدود الرابعة عشرة ، كان يقف إلى جانبها ، وقالت بصوت متحشرج متخافت : أبي ، هذا ولدي ..إينشاج . وهبت شيكال معتدلة ، وقد اشتعلت عيناها بلهب مجنون ،وألقت نظرة متوجسة إلى ننتي ، التي كانت تغط في نوم عميق . ونهضت من فراشها ، وفتحت الكوة المطلة على الغابة ،وركضت عيناها بلهيبهما المجنون ، عبر الليل والمطر ،إلى كوخ الجد آبو ،وتوقفتا عند الباب ، وقد ازداد لهيبهما ، يا إلهي ، شعلة ، يا للحر . وأشعل الجد آبو النار مجدداً ، بعد أن وضع ننسوتو في فراشه ودثرها جيداً ،ثم أرقد إينشاج في فراش قرب الموقد . وسرعان ما ارتفعت ألسنة اللهب ، خلال قطع الخشب الجافة ، التي راحت تطقطق في الموقد ، مشيعة الدفء في الكوخ كله . وتململت ننسوتو ،وهي تئن بصوت واهن ، فأسرع الجد آبو إليها ،وأخذ يمسح العرق عن جبينها بيده الشائخة . وفتحت ننسوتو عينيها ،وتطلعت إليه ، ثم قالت : أبي . ومال الجد آبو عليها ، وقال : لا تتكلمي يا بنيتي ، ارتاحي ، أنت متعبة . وهزت ننسوتو رأسها ، وقالت بصوت متحشرج : لا ، إنها النهاية ، ولهذا جئت إليك . وصمتت برهة ، ثم قالت بنبرة باكية :قتل زوجي .. قتل أبو اينشاج.. قتل .. قتل ... وقاطعها الجد مواسياً :هذا قدره . ومدت ننسوتو يديها المرتعشتين ،وأمسكت بيده ،وقالت من بين دموعها : إينشاج ولدنا .. جئت به .. إليك .. وصمتت ننسوتو ثانية ، فربت الجد آبو على يدها ، وقال : نامي يا عزيزتي ، لعلك ترتاحين . واستطردت ننسوتو من بين أنفاسها المضطربة ، أريده أن يعيش هنا .. كما عشت أنا من قبل .. حياة هادئة .. هانئة .. خالية من الأخطار . وأغلقت شيكال الكوة ، وتفجرت في أعماقها : منذ سنين وأنا أحاول عبثاً ، إطفاء شعلة العجوز آبو الذابلة ، وهاهي شعلة جديدة .. شابة .. تنضاف إليه ، الويل له . وألقت نظرة خاطفة على ننتي ، إنها فراشة ، وتراءت لها أختها ، كذلك ننكاسي ، كانت فراشة ، واحترقت تلك الحمقاء ، وأحرقتني معها . ورقدت في فراشها متفجرة ، ثم نظرت إلى النار ، المستعرة في الموقد ، ودمدمت من بين أسنانها : انطفئي . وفي الحال ، انطفأت النار ، في الموقد ، وسحبت شيكال الغطاء عن وجهها ، وأغمضت عينيها ، لعلها تنام ، لكنها لم تنم ، وكيف تنام ؟ وقد دخلت كوخ الجد آبو شعلة جديدة .
" 3 "
استمر المطر في الهطول ،طوال ساعات الليل ،لكنه خف بالتدريج في اليوم التالي ، حتى توقف قبيل الغروب . وأخذ الجد آبو وحفيده إينشاج ، جثمان ننسوتو ،ووارياه الثرى فوق التل القريب من الكوخ . وعند حلول الظلام،التمع البرق من بعيد ، ثم قرقع الرعد ، والتفت الجد آبو إلى اينشاج ، وقال : بني ، لنعد إلى الكوخ ، قبل أن يهطل المطر . واستدار اينشاج ، وبدأ يهبط التل حزيناً . وتبعه الجد آبو ، بخطواته الثقيلة الشائخة ، دون أن يتفوه بكلمة . وتوقف اينشاج ، والتفت متطلعاً إلى أعلى التل ، حيث ترقد أمه . وتوقف الجد آبو هو الآخر ، ورمق حفيده بنظرة خاطفة ، وقال : كانت أمك في طفولتها ، تلعب فوق هذا التل طول الوقت وتنهد اينشاج ، وقال : وهاهي ثانية قد عادت إلى التل . وهبت الريح باردة ، ومعها تساقطت قطرات من المطر فاستأنف الجد آبو سيره منحدراً عن التل ، وهو يقول : بني المطر بدأ يهطل مرة أخرى ، فلنسرع إلى الكوخ . وسار اينشاج صامتاً ، ولحق بالجد آبو ، ومضيا تحت نثيث المطر ، حتى وصلا الكوخ ، ودفع الجد آبو الباب ، يتبعه اينشاج ، وقال بصوته الشائخ ، المتعب : اغلق الباب ، ما أبرد الجو . وأغلق اينشاج الباب ، دون أن يتفوه بكلمة ، وقال الجد آبو ، وهو يغذي النار في الموقد ، بقطع من الخشب الجاف : لا بد أنك جائع ، سأعد بعض الطعام . وأعد الجد آبو الطعام ، وجلس هو واينشاج ، يتناولانه صامتين ، والمطر ينهمر بغزارة في الخارج ، ورفع الجد آبو رأسه ، منصتاً إلى المطر ، ثم قال : يا للعينة . ولم يفهم إينشاج من المقصود ب" اللعينة "، لكنه ظل صامتاً، وسرعان ما كف عن تناول الطعام ، فقال : شبعت ، شكراً . وكف الجد آبو هو الأخر عن تناول الطعام، ونهض حاملاً الإناء ،وقال : أنت متعب ، من الأفضل أن تنام . ونهض إينشاج ،وتمدد في فراشه قرب الموقد ، وسحب فوقه الغطاء . واستلقى الجد آبو بدوره في فراشه ، بعد أن نظف الإناء ، وأعاده إلى مكانه . ورمق اينشاج بنظرة خاطفة ، وقال : سيعجبك هذا المكان ، كما كان يعجب أمك. ولزم اينشاج الصمت ، فتابع الجد آبو قائلاً : لم تكن لتغادره ، حتى النهاية ، لولا أبوك . ومرة أخرى ، لزم اينشاج الصمت ، فسحب الجد آبو الغطاء فوقه ، وقال : نم يا بني ، نم . وأغمض عينيه الشائختين ، وقبل أن يغفو ، تراءت له ننسوتو ، وهي تعانقه مودعة ، ثم تمتطي حصانها ، وتمضي بعيداً عنه ، برفقة زوجها . وهدأت الأمطار خلال أيام ، وسطعت الشمس من جديد ، فوق الغابة . وبدأ الجد آبو ، يتجول باينشاج في كل مكان ، وإن حاول أن يتجنب الجدول ، وأراه مختلف الحيوانات ، كالأرانب والغزلان والطيور ، وكذلك الأفاعي والسحالي والضباع . وتساءل اينشاج ذات مرة : ترى ألا توجد دببة في هذه الغابة؟ ورد الجد آبو قائلاً : هناك دب فتي ، يعبر الجدول إلينا ، وهذا قلما يحدث . وطوال هذه المدة ، كانت شيكال تراقب ما يجري من بعيد ، وتحاول متابعة اينشاج ، حيثما يذهب ، كما كانت تتابع ننتي ، ولا تدعها تبتعد كثيراً عن الكوخ ، فننتي فراشة ، وهي تخاف أن تحترق ، مثلما احترقت أمها ، ذات يوم . وسألتها ننتي مرة : ما الأمر يا خالتي ؟ أراك دائماً قلقة ومتوترة . فأجابتها شيكال متفجرة : لا شيء . وابتعدت ننتي قائلة : هذا ما أرجوه .
" 4 "
مرت ، في الجدول ، مياه كثيرة . ومرت ، على الغابة ، أيام وسنون . وكما كبرت ، في الجدول ، الأسماك ، وكبرت السلاحف . وكبرت ، في الغابة ، الأشجار، وكبرت الخشوف ، كبر اينشاج . وكبرت ننتي . غدا اينشاج شاباً فتياً . وغدت ننتي شابة فتية . وربما تطلع اينشاج بينه وبين نفسه ، إلى ننتي لا يعرفها . وربما تطلعت ننتي ، بينها وبين نفسها إلى اينشاج لا تعرفه. وكيف يعرف اينشاج ننتي ؟ وكيف تعرف ننتي اينشاج ؟ وكل منهما يعيش بين جدران عالمه المقفل ؟ ظل اينشاج في عالم الجد آبو . وظلت ننتي في عالم خالتها شيكال . لم يعبر اينشاج الجدول ، بعيداً عن عالم الجد آبو . ولم تعبر ننتي ، عالم خالتها شيكال ، إلى الجدول . ومن جهته ، تحاشى الجد آبو ، أن يعبر اينشاج الجدول ، ويلتقى بعالم شيكال ، وابنة أختها ننتي . وحرصت شيكال ، أن لا تصل ننتي الجدول ، وترى ولو من بعيد ، عالم الجد آبو ، والشعلة التي دخلت الكوخ ، فهي تخاف على ننتي ، أن تحترق ، كما احترقت أمها ، منذ سنين ، وأسكنت وادي الأفاعي . وخلال تجواله في الغابة ، التي غدا خبيراً فيها ، عرف اينشاج أنه بحاجة إلى ما يساعده على مواجهة حيوانات غير الأرانب والغزلان والثعالب . وقد تأكد له هذا ، عندما فاجأه ، قرب الجدول مرة ، الدب الذي لم يعد فتياً . فقد هوى على الأرض ، بعد أن تراجع خائفاً . وكاد الدب يفتك به ، لو لم يلتقط قطعة غليظة من الخشب ، أشبه بالهراوة ، وأجبره على التقهقر ، ومن ثم الفرار . وطالما خرج اينشاج للصيد برفقة الجد آبو ، فيعودان قبيل المساء إلى الكوخ ، ومعهما غزال ، أو أرنب بري ، أو طير من الطيور ، فيعد الجد آبو ، بمساعدة اينشاج طبعاً ، طبقاً لذيذاً من الطعام . ورغم أن اينشاج ، تعلم من الجد آبو ، يوماً بعد يوم ، الكثير من فنون الصيد ، إلا أنه قلما يخرج للصيد وحده ، وكيف يسمح الجد له آبو بذلك ، وهو لا يخاف عليه الوحوش فقط ، وإنما الساحرة شيكال أيضاً ، وعالمها المليء بالمخاطر . وذات يوم مضى الجد آبو واينشاج يتجولان في الغابة ، حتى وصلا الجدول . وتوقف اينشاج مسحوراً ، ينظر عبر الجدول ، إلى الجانب الآخر من الغابة ، المتشح بالرهبة والغموض . وتوقف الجد آبو على مضض ، وقد استبد به لبقلق . وقال اينشاج وعيناه لا تفارقان الجانب الآخر من الجدول : جدي. ولم يرتح الجد آبو لنبرة صوت اينشاج ، فهمّ بمواصلة السير وهو يقول : هيا يا بني ، لعلنا نصطاد شيئاً نتعشى به. وتابع اينشاج قائلاً ، دون أن يتحرك من مكانه : لم نعبر مرة إلى الضفة الأخرى من الجدول ، ونتجول في ذلك الجزء من الغابة . ورد الجد آبو قائلاً : ولن نعبر . وتطلع اينشاج إليه متسائلاً ، فقال وهو يواصل سيره : إنه مليء بالوحوش ، لا قبل لنا بمواجهتها .
" 5 "
مرض الجد آبو ،ولم يستطع الخروج للصيد ،حتى نفد الطعام . وذات ليلة ،أوى إينشاج إلى فراشه ، ثم قال : جدي ، نحن بحاجة إلى الصيد . ورد الجد آبو ، وقد تملكته نوبة من السعال : سأخرج غداً .. وأصطاد .. سمكة . وهب إينشاج ،وأسرع إليه بقدح ماء ، وقال : اشرب يا جدي. وبعد أن شرب الجد آبو جرعة من الماء ،وهدأ سعاله قليلاً ، قال إينشاج : أنت مريض يا جدي ، سأخرج للصيد بدلاً عنك. واحتج الجد آبو قائلاً: إينشاج ... وقاطعه إينشاج برفق : جدي ، لم أعد طفلاً، وقد علمتني الصيد بنفسك . ولاذ الجد آبو بالصمت ، ثم قال : حسن ، اصطد ما تشاء ، لا أريد سمكة . وعاد إينشاج إلى فراشه ، وهو يقول : نم وارتح يا جدي . ونهض إينشاج مبكراً في اليوم التالي ، وأخذ السنارة خلسة ،وهم بالخروج ، فاعتدل الجد آبو ، وقال : إينشاج . وتوقف إينشاج ، وقال : الجو بارد يا جدي ، ابقَ في فراشك. واستطرد الجد آبو : لا أريد سمكة . وفتح إينشاج الباب ، وخرج من الكوخ ، وهتف الجد آبو ، وهو يسعل : لا تتأخر يا إينشاج . ومضى إينشاج متوغلاً في الغابة ، حتى وصل الجدول . ولاح الجانب الآخر من الغابة ، غارقاً في ضباب من الغموض والرهبة ، هاتفاً بنداء لا يقاوم . ورمى إينشاج السنارة ، محاولاً أن لا يتطلع إلى الجانب الآخر ، لكن عينيه عبرتا الجدول في غفلة منه ، والتقطتا طيف فتاة مرقت بين الأشجار . وهب واقفاً ، وقلبه يخفق بشدة ، أهي فتاة حقاً ؟ أم شبح ؟ ؟ أم ... ؟ وغمزت السنارة بقوة ، فأخذ إينشاج يسحبها ،والفتاة متوغلة في أعماقه . وفوجىء بسمكة ضخمة ، لم يصطد مثلها من قبل ، فأخرجها من الماء ، وحملها إلى الكوخ مبهوراً، وهو يقول : سيفرح جدي بهذه السمكة ، وسيعترف بأني صرت صياداً ماهراً . ولم يفرح الجد آبو بالسمكة ، رغم تعجبه من ضخامتها ، حتى أنه لم يأكل منها إلا الشيء القليل . وكلما خرج اينشاج للصيد ، في الأيام التالية ، هتف به الجد آبو : تذكر ، لا أريد سمكة . وهذا ما يتذكره اينشاج دائماً ، ويتذكر معه طيف الفتاة ، التي مرقت بين الأشجار ، في الجانب الآخر من النهر . وغدا اينشاج ، مع الأيام صياداً ماهراً ، وإن لم يكن معه سوى هراوة جده ، التي يحملها كلما خرج للصيد . ولمح الدب ، ذات يوم ، من بعيد ، وتتبعه من مكان إلى مكان ، حتى رآه يعبر الجدول ، إلى الجانب الآخر من الغابة . وهمّ أن يلاحقه ، لكنه تذكر الجد آبو ، فتوقف متردداً ثم مضى عائداً إلى الكوخ . وبعد العشاء ، تمدد في فراشه جامداً ، ولم تغمض عيناه ، رغم شعوره بالتعب . وفي أعماقه ، كانت تلوح الفتاة مرة ، ومرة كان يلوح الدب ، وفوجيء بالجد آبو يخاطبه قائلاً : بني ، أراك مشغولاً ، ما الأمر ؟ وعلى الفور ، رد اينشاج : لا شيء يا جدي ، لا شيء . واعتدل الجد آبو في فراشه ، وقال : بل هناك شيء ، صارحني ، أنا جدك . وأبعد اينشاج الفتاة عن ذهنه ، وقال : الدب ، رأيته اليوم ، مرة أخرى . وتطلع الجد آبو إليه ، ثم قال : يا للعجب ، قلما يأتي الدب إلى هنا . وهرب اينشاج بعينيه من عيني الجد آبو ، وقال : رأيته مراراً خلال هذه المدة . ولاذ الجد آبو بالصمت لحظة ، ثم قال : الدب حيوان شرس ، إياك أن تقربه . ثم قال ، وهو يسحب الغطاء فوقه : نم يا بني ، نم .
" 6 "
نام اينشاج تلك الليلة ، ملء جفنيه ، فقد انتهى إلى قرار ، لا رجعة فيه ، وراح يتهيأ لوضعه موضع التنفيذ ، في أقرب فرصة ممكنة . وغادر الكوخ مبكراً ، في اليوم التالي ، حاملاً هراوة الجد آبو ، ومضى متوغلاً في الغابة . وتفقد بعض الفخاخ ، التي نصبها البارحة بين الأشجار . وشعر بالفرح ، حين وجد ، طيراً من طيور الحجل ، في أحدها ، فلن يضيع الوقت في البحث عن طعام للعشاء . وسرعان ما انصرف إلى اقتطاع غصن غليظ ، من إحدى أشجار البلوط ، وانهمك في صنع هراوة ثقيلة منه ، ليتمكن بها من مواجهة الدب ، والقضاء عليه . وانتهى من صنع الهراوة ، قبيل المساء ، فخبأها في أجمة ، بعيداً عن الدروب المطروقة ، ثم حمل الحجل ، بعد أن نظفه ، ومضى به إلى الكوخ . وخلال الطريق ، رأى نبات الكعوب ، الذي يحبه الجد آبو ، فانشغل بعض الوقت ، في جمع كمية منه . وما إن دخل الكوخ ، وقد غابت الشمس ، حتى هتف قائلاً : جدي ، جئتك بما تحبه ، طائر حجل وكعوب . واعتدل الجد آبو في فراشه ، وقال بنبرة لوم : بني . وتشاغل اينشاج بإعداد الطعام وهو يقول : أنت لا تمل الحجل والكعوب ، حتى لو تناولتهما كل يوم . وهمّ الجد آبو أن يستطرد ، فسبقه اينشاج قائلاً : هذا ما كانت تقوله أمي دائماً ، وهي تحدثني عنك . وكأن الجد آبو ، لم يصغ إلى ما قاله إينشاج ، فقال بنبرة اللوم نفسها : تأخرت اليوم . وقلب إينشاج طائر الحجل على النار ، وقال : أنت محق ، لكني أردت أن أقدم لك على العشاء طائر حجل ومعه كعوب . وتطلع الجد آبو إليه ، وقال : الدراج نادر في هذا الجانب من الغابة . ورد إينشاج ، وعيناه لا تفارقان الحجل : ثانية أنت محق ، وقد عجبت ، أنا نفسي ، حين رأيته يخفق بجناحيه في أحد الفخاخ . وهز الجد آبو رأسه ،ثم تحامل على نفسه ، ونهض بصعوبة. وأسرع إينشاج إليه قائلاً : عد إلى فراشك يا جدي ، أنت مريض . ودفعه الجد آبو برفق ، وقال : دعني ، وانتبه إلى الحجل وإلا احترق . وعاد إينشاج مسرعاً إلى الحجل ، وراح يقلبه على النار، وهو يقول : الحجل يكاد ينضج ، وكذلك الكعوب . وتوقف الجد آبو ، وراح ينظر عبر الكوة إلى السماء ، التي كانت نجومه تتغامز في العتمة ، وقال وكأنما يحدث نفسه : الجو سيكون صحواً ودافئاً يوم غد . ثم التفت إلى إينشاج ،وقال : إنني الآن أفضل ، سأخرج غداً إلى الصيد . وصاح إينشاج ، وهو يرفع الحجل عن النار : ماذا ؟ غداً ! ثم وضع الحجل في طبق ، واستطرد قائلاً:لا ، لا يا جدي ، يجب أن تشفى أولاً . وأغلق الجد آبو الكوة ، وقال : لقد شفيت ، نعم شفيت . ووضع إينشاج الكعوب في طبق آخر ، وقال : أنت الآن أفضل ، هذا صحيح ، لكنك لم تشف تماماً، وبعد أسبوعين ، وربما أقل ، اشفَ كما تريد . واحتج الجد آبو قائلاً: إينشاج .... وقاطعه إينشاج باسماً، وهو يجلس أمام الطعام : تعال يا جدي ، تعال نأكل وإلا برد الحجل والكعوب .
" 7 "
كلما سألت ننتي خالتها شيكال : أين أمي ؟ تجيبها شيكال بشيء من الحدة : دعك من هذا الأمر ، أنت ما زلت صغيرة . حتى أنها أثرت تجنب الحديث عنها ، إلا لسبب ملح . وحاولت شيكال عبثاً ، أن تتآلف مع ننتي ، كما كانت متآلفة ، مع أختها ننكاسي ، قبل أن يظهر ذلك الفارس اللعين ، لكن ننتي ، كانت تنغلق على نفسها ، يوماً بعد يوم ، مفضلة العيش في عالم خاص بها ، بعيداً عن عالم خالتها شيكال . وذات صباح ، استيقظت ننتي ، وتطلعت إلى خالتها شيكال ، وقالت : خالتي . والتفتت شيكال إليها ، وردت متوجسة : نعم ، وقالت ننتي : رأيت الليلة أمي في المنام . وبدت شيكال منفعلة ، وهي تقول : لكنك لا تعرفين أمك . وردت ننتي بإصرار : بل أعرفها . ولاذت شيكال بالصمت ، وانفعالها يتصاعد ، واستطردت ننتي قائلة : أشارت لي ، من وراء الجبال ، أن تعالي . واشتعلت عينا شيكال مدمدمة : الجبال ! واقتربت ننتي منها ، وقالت : أريد الحقيقة ، أين أمي ؟ أين هي ؟ وتفجر بركان شيكال ، وهي تصيح : ماتت .. ماتت .. ماتت. وخرجت ننتي راكضة من الكوخ ، ومضت تضرب في الغابة على غير هدى . وبعد منتصف النهار ، تملكها التعب ، لكنها بدل أن تعود إلى الكوخ ، مضت إلى البركة ، وتمددت في مكانها المعهود ، تحت شجرة الصنوبر الضخمة ، مغمضة عينيها المتعبتين ، لعلها تغيب عن عالم خالتها شيكال . وحوالي ذلك الوقت ، توقف اينشاج عند حافة الجدول ، وهراوته الجديدة في يده ، يتطلع إلى الجانب الآخر من الغابة . لقد استيقظ صباح اليوم ، وقد أشرقت الشمس ، وهمّ بمغادرة الكوخ ، بعد أن ارتدى ملابسه ، وأخذ الهراوة . واعتدل الجد آبو ، وقال : منذ الغد ، سنخرج للصيد معاً يا اينشاج . ورد اينشاج ، وهو يغادر الكوخ ، كما تشاء يا جدي . ونهض الجد آبو ، وفتح الكوة ، وراح يتابع اينشاج ، حتى غاب بين الأشجار . ثم عاد إلى فراشه ، وهو يئن ويتمتم : فلأرتح قليلاً ، لعلي أستطيع فعلاً ، الخروج مع اينشاج غداً إلى الصيد . وأسرع اينشاج إلى الأجمة ، واستبدل هراوته بالهراوة الجديدة ، ثم مضى يتجول في الغابة ، باحثاً عن الدب ، حتى انتهى ، عند منتصف النهار، إلى حافة الجدول . وتوقف أمام الجدول مسحوراً ، يتطلع إلى الجانب الآخر من الغابة ، . وفجأة وجد اينشاج نفسه يعبر الجدول ، ويتوغل في الغابة ، ترى ما السبب ؟ هذا ما لا يعرفه اينشاج نفسه . وسار متوجساً بين الأشجار ، وهراوته الجديدة في يده . وتراءى له طيف الفتاة ، يمرق بين الأشجار ، يا لله ، أكانت فتاة حقيقية أم .. ؟ ولاحت عبر الأشجار ، بركة صافية كالمرآة ، ووجد اينشاج نفسه ، يسير باتجاهها ، كما لو كان في الحلم . وتوقف عند حافة البركة ، يتأمل وجهه في المياه . وخفق قلبه مذهولاً ، حين رأى للحظة ، وجه فتاة إلى جانب وجهه . وتلفت حوله يميناً ويساراً ، لكنه لم يجد للفتاة – ويا للعجب – أي أثر . وتراجع قليلاً ، والهراوة في يده ، ذلك الوجه الذي رآه منذ لحظة في الماء ، أهو للفتاة نفسها ، التي لمحها قبل مدة ، تمرق بين الأشجار أم .. ؟ وتلفت ثانية ، وقلبه يخفق بشدة ، يبدو أن هذا الجزء من الغابة مسحور حقاً . وعلى الفور ، قفل عائداً إلى الجدول ، دون أن يعرف ، أن ثمة عينين شائبتين ، كانتا تتابعانه من بين أغصان شجرة الصنوبر . وما إن غاب اينشاج ، حتى نزلت ننتي من الشجرة ، وبدل أن تعود إلى الكوخ ، راحت تضرب ثانية في الغابة ، على غير هدى .
" 8 "
أوى الجد آبو إلى فراشه ،تلك الليلة مبكراً ،على غير عادته ،وسرعان ما استغرق في نوم عميق ،وإن تخلله أحياناً سعاله ، الذي لم يشف منه تماماً بعد . وعلى العكس منه ، لم يغمض لإينشاج جفن ، رغم أنه أوى إلى فراشه في نفس الوقت ، وكيف يغمض له جفن ، ووجه تلك الفتاة ، الذي رآه للحظة في مياه البركة إلى جانب وجهه، يطل عليه من أعماقه ، ولا يكاد يفارقه لحظة واحدة ؟ وكذلك ننتي ، لم يغمض لها جفن ، في الجانب الأخر من الغابة ،بينما هدأ بركان خالتها شيكال ،ولو إلى حين ، واستغرقت في النوم . ورفت رموش ننتي ، فقد آنست ، مرة أخرى ، الشعلة الوليدة ، التي تخلقت في أعماقها ، حالما وقع نظرها على إينشاج لأول مرة ،يا لتلك الشعلة ، كانت تدغدغها مرة ، وتلسعها مرة ، وتدفئها مرة ،وتصيبها مرة برعشة لذيذة ، تجمد أوصالها ، ومرة تضيء لها زوايا لم تطرقها من قبل . ترى من هو ذلك الشاب ؟ ومن أين أتى ؟ أهو عابر سبيل ؟ ربما لا . ليته لا . ورفت رموش ننتي ،وهي تتلمس طريقها في غابة الحياة ، على ضوء تلك الشعلة الوليدة . وعند منتصف الليل ، أطل القمر من بين الغيوم ،مضيئاً الغابة بجانبيها ، اللذين يفصل بينهما الجدول . وعلى ضوئه الشاحب ، سرى إينشاج وننتي ، كل من جانبه ، إلى البركة المرآة . وتسلقت ننتي شجرة الصنوبر الضخمة ،واختبأت بين أغصانها . وأقبل إينشاج ، من بين الأشجار ، وتوقف عند البركة ، والهراوة الجديدة في يده . وخفق قلبه ، وهو يحدق في مرآة الماء ، حين بدأ يبرز ، إلى جانب وجهه ، وجه آخر ،أهي الفتاة نفسها أم ..؟يا للآلهة ، واعتدل جده في فراشه ،وقد تملكته نوبة من السعال ،فاختفى القمر.. والغابة.. والبركة .. ووجهه .. ووجه الفتاة .. آه . وعلى ضوء القنديل الخافت ، تطلع الجد آبو إلى حفيده ، وهتف : إينشاج . وأغمض إينشاج عينيه ، دون أن يتحرك ، أو يرد بكلمة . وتحامل الجد آبو على نفسه ، ناهضاً من فراشه بتثاقل ،وهو يقول : يبدو أنه نائم ، لا غرابة ، فهو يتعب كثيراً طول النهار . وسمعه إينشاج ، يشرب الماء ، مغالباً نوبة أخرى من السعال ، ولام نفسه لأنه لم ينهض ، ويأتيه بالماء ، وإن خشي أن يسأله جده عما يؤرقه، حتى تلك الساعة من الليل . وعاد الجد آبو إلى فراشه ،وهو يتمتم بصوت خافت : لا أدري ما الذي أصاب إينشاج ؟ من يدري، لعلي أتعبه أكثر مما ينبغي . وسحب الغطاء فوقه ، وقبل أن يغفو ثانية ، أرخى النوم أجفان إينشاج ،وسرعان ما سرى به ، عبر الجدول ، إلى الجانب الآخر من الغابة . وعلى ضوء القمر ،لمح البركة من بين الأشجار ، تتلامع كالمرآة ، فطار إليها كالعصفور الظامىء .
" 9 "
نهض إينشاج من فراشه ،عند شروق الشمس ، وهم بالخروج إلى الغابة . ومع اشراقة الشمس ،نهضت ننتي من فراشها ، وخالتها شيكال منهمكة في إعداد طعام الفطور ، وبدأت تتهيأ لمغادرة الكوخ . وهتف الجد آبو ، وهو يحاول النهوض من فراشه : مهلاً يا إينشاج ، لقد تعافيت ، وسأخرج اليوم معك للصيد . وفتح إينشاج الباب ، وقال : ليس اليوم يا جدي ، أنت لم تتعاف تماماً،وسنخرج للصيد معاً غداً أو بعد غد . والتفتت شيكال إلى ننتي ، وقالت : إلى أين ؟ أنت لم تفطري بعد . وتوقفت ننتي عند الباب ،وردت قائلة : لست جائعة ،سآكل فيما بعد. ووضعت شيكال الطعام على المائدة ، وقالت : لن تخرجي قبل أن تتناولي طعامك ، تعالي . وما إن ابتعد إينشاج عن الكوخ ، حتى أسرع إلى الأجمة ، واستبدل هراوته بالهراوة الجديدة ، ومضى صوب الجدول .
وحدقت شيكال ، وهي تلوك لقمتها في ننتي ، ثم تساءلت قائلة: اخبريني ، إلى أين تذهبين كل يوم ، في مثل هذا الوقت؟ وهربت ننتي بعينيها من عيني خالتها شيكال ،وردت قائلة : أتجول في الغابة ، كما تعلمين ، وألهو مع الأرانب والخشوف والحمام ، وأقطف بعض الأزهار . وكفت ننتي عن تناول الطعام ، ثم نهضت ، فقالت شيكال : مهلاً ، أنت لم تأكلي كفايتك بعد . ومضت ننتي نحو الباب ، وفتحته وهي تقول : لقد شبعت . وعبر إينشاج الجدول ، دون أن يهتم هذه المرة ، بالبحث عن أثر من آثار الدب . وحث خطاه متسللاً بين الأشجار ،وليس في عينيه وأعماقه ، إلا شيء واحد ، هو وجه الفتاة . ولاحت البركة من بعيد ، وبدت مياهها كالمرآة ،تتلامع تحت الشمس . وتوقف إينشاج حيث توقف في المرة السابقة ،ثم أطل على الماء ،ولم يطالعه ، رغم إنتظاره ، سوى وجهه .وداخله شيء من الإحباط والمرارة ،يبدو أن ما رآه في المرة السابقة ، كان مجرد وهم . وهنا سقطت في البركة ، على مقربة منه ، صنوبرة صغيرة . وارتج الماء ، وغام وجه اينشاج تماماً ، وسرعان ما بدأ الماء يهدأ ويشفّ ، وإذا وجه الفتاة ، يطل عليه ، إلى جانب وجهه . وتلفت ايشاج يميناً ويساراً ، لكنه لم ير أحداً ، وتوقف هنيهه، ثم رفع رأسه إلى أعلى ، وخفق قلبه بشدة ، فقد رأى الفتاة تطل عليه ، من بين أغصان شجرة الصنوبر . ونزلت ننتي ، ووقفت في مواجهة إينشاج ، وراح أحدهما يحدق في الآخر ، وتململت ننتي ، فقال إينشاج ، وعيناه لا تفارقان عينيها : هذا مكان مقفر .. وصمت إينشاج ، فقالت ننتي : ما الذي أتى بك إليه ؟ وبدل أن يرد إينشاج تساءل : وأنت ؟ وقطفت ننتي زهرة ، ورشقتها في شعرها ، وقالت : إنني أسكن قريباً من هنا . وقال إينشاج : ليس وحدك بالتأكيد . وخطت ننتي مبتعدة ، وقالت : طبعاً ليس وحدي . وخطا إينشاج قريباً منها ، وقال : إنني أعيش مع جدي ، في الجانب الآخر من الجدول ، وقد حذرني من المجيء إلى هنا . وتوقفت ننتي ، وقالت : الحق معه . ونظر إينشاج إليها صامتاً ، فتابعت قائلة : الجميع يخافون هذا المكان ، ويبتعدون عنه . وتوقف إينشاج على مقربة منها ، وقال : لن أبتعد أنا ، إلا إذا أردت أنت ذلك . ولاذت ننتي بالصمت متطلعة إليه ، ثم مضت مبتعدة ، دون أن تتفوه بكلمة .
" 10 "
تمدد إينشاج في فراشه تلك الليلة ، وقبل أن يسحب الغطاء فوقه ، التفت إلى الجد آبو ، وقال : جدي .. وقاطعه الجد آبو قائلاً : ألأفضل أن تنام الآن ، سنخرج غداً للصيد معاً ، منذ الفجر . وهمهم إينشاج محرجاً، ثم قال : قلت غداً أو بعد غد ، والأفضل بعد غد . وتجاهل الجد آبو ما قاله إينشاج ،والتفت إليه ، وقال: أخبرني ، منذ أيام ، وأنت تخرج صباحاً ، ولا تعود حتى المساء ، أين تقضي كل هذا الوقت ؟ وردّ اينشاج ، وهو يسحب الغطاء فوقه : في الغابة . وصمت لحظة ، ثم قال : جدي . ولم يرد الجد آبو هذه المرة ، فتابع اينشاج قائلاً : إنني أجهل كل شيء عن الجانب الآخر من الغابة ، أرجوك ، حدثني عنه ، وعمن يعيش فيه . ولزم الجد آبو الصمت ، كمن فوجيء بالأمر ، لكنه التفت فيما بعد إلى اينشاج ، وقال : لا تقل ، إنك عبرت إلى هناك. وتغاضى اينشاج عما قاله الجد ، وقال : أرجوك حدثني .. . وقاطعه الجد آبو قائلاً : لن أقول ، إلا أن الشر ، كل الشر هناك ، وإياك ، مهما كان الدافع ، أن تعبر الجدول . ولعل اينشاج ، كان يأمل في حديث أوضح ، فقال : جدي .. . وقاطعه الجد آبو ثانية ، وقال وهو يسحب الغطاء فوق وجهه : نم الآن ، نم . وقام اينشاج ، وظل الجد آبو مستيقظاً ، وقد تملكه القلق ، وهو يفكر فيما إذا عبر اينشاج الجدول أم لا ، ولم يغمض له جفن ، حتى وقت متأخر من الليل . وفي اليوم التالي ، تسلل اينشاج من الكوخ ، مع الفجر . وكان الجد آبو ما زال في فراشه ، يغط في النوم . ومضى مسرعاً إلى الأجمة ، واستبدل هراوته بالهراوة الجديدة ، ثم انطلق إلى الجانب الآخر من الجدول . ولاحت البركة من بين الأشجار ، ومياهها تتلامع كالمرآة . وخفق قلبه ، حين رأى ننتي تقف جامدة ، تحت شجرة الصنوبر الضخمة . وأقبل إينشاج عليها باشاً،وقال : عرفت أنك ستأتين . وتجاهلت ننتي ما قاله ، وتلفتت حولها ، ثم قالت : أظن أن الدب في الجوار . ورد إينشاج قائلاً : لا يهمني الدب ، ما دمت هنا معك . وتطلعت ننتي إليه مترددة ، ثم قالت : الأفضل أن تعود من حيث أتيت . ولزم إينشاج الصمت مصدوماً ،فتابعت ننتي قائلة : ابتعد عن هذا المكان . واستدار إينشاج ، دون أن يتفوه بكلمة ، ومضى مبتعداً ،ويده تشد بقوة على هراوته . وهتفت ننتي : إنني أخاف عليك . وواصل إينشاج طريقه ،دون أن يلتفت إليها . وتمتمت ننتي من بين دموعها : إنني لم أعرف حتى اسمه . وما إن وصل إينشاج الجدول ، وقد شد يده بقوة على هراوته الجديدة ، حتى رأى الدب ، يخبط الماء بيديه ، محاولاً اصطياد سمكة . واندفع نحوه رافعاً الهراوة ، وبكل ما يملك من قوة ، انهال بها على رأسه . وفوجىء الدب بالضربة ، وتراجع صارخاً متوجعاً ، يريد الهرب ، لكن إينشاج لاحقه ، وقد جنونه ، وانهال بالهراوة مجدداً على رأسه . وتهاوى الدب في الماء ، ثم نهض بصعوبة ، ولاذ بالفرار ، وهو يصرخ متعثراً ،والدم ينزف بغزارة من رأسه . وتوقف إينشاج في الماء لاهثاً ، محاولاً تمالك نفسه ، ثم خرج من الجدول ، وقفل عائداً إلى الكوخ ، بعد أن عرج على الأجمة ، واستبدل هراوته الجديدة ، الملطخة بدم الدب ، بهراوة جده آبو .
" 11 "
استبد القلق بالجد آبو ، عندما سمع الدب يتجول في الجوار ، خاصة وأنه لم يجد إينشاج في الكوخ ، عندما استيقظ صباحاً ، فخرج بعد منتصف النهار للبحث عنه . وقصد الأماكن ، التي كانا يترددان عليها معاً ، حتى وصل إلى الجدول ،دون أن يجد أي أثر لأينشاج . وفوجىء بوجود خط من الدماء ، على امتداد الشاطىء ، وتتبعه بحذر ، ومعه تتبع آثار أقدام ، كانت واضحة على الرمال ، وعرف أنها دماء وآثار أقدام الدب . وتوقف حائراً مذهولاً قلقاً ، ترى من يمكن أن يكون قد تصدى للدب ، وأثخنه بهذه الجراح ؟ والتمع إينشاج في خاطره ، فهز رأسه متمتماً : لا ، هذا مستحيل . وتشاغل بصيد السمك ، لعله يبعد هذه الإلتماعة عن ذهنه . وما إن اصطاد سمكة ، حتى نظفها بماء الجدول ، وأسرع بها إلى الكوخ . وتنفس الصعداء ، عندما رأى اينشاج متمدداً في فراشه ، لم يكن مصاباً بأذى . ورفع السمكة ، وقال : أنظر . واعتدل اينشاج ، فتابع الجد آبو قائلاً ، صحيح أنها ليس بحجم السمكة التي اصطدها ، لكنها سمكة كبيرة ، وتكفينا طعاماً للعشاء . ووضع الجد آبو السمكة على النار ، ثم تطلع إلى اينشاج ، وقال : لقد رأيت دماء غزيرة على امتداد شاطيء الجدول . ولزم اينشاج الصمت ، فاستطرد الجد آبو قائلاً : وتتبعت الآثار ، إنه الدب . ونهض اينشاج ووقف قرب الكوة ، دون أن يتفوه بكلمة . وقلب الجد آبو السمكة على النار ، وعلى ناره قلب أفكاره ، أيمكن أن يكون اينشاج ، قد تصدى للدب و .. ؟ من يدري . وتطلع إلى اينشاج ثانية ، وقال : رأيت آثار أقدامه ، وهو يمضي مدمى إلى البعيد ، لا أظنه سيعود إلى هذا الجزء من الغابة ثانية ، هذا إن قدرت له الحياة ، بعد هذه المواجهة الدامية . ومرة أخرى لزم اينشاج الصمت ، فرفع الجد آبو السمكة عن النار وقال : لقد نضجت السمكة ، هيا نأكل . وجلسا حول السمكة ، يأكلان صامتين . ورمق الجد آبو حفيده اينشاج ، أكثر من مرة ، أيعقل أنه تصدى للدب ؟ من يدري ، فاينشاج يمكن أن يقدم على أي شيء ، مهما كانت خطورته . وأخذ الجد آبو قطعة من السمكة ، وقدمها إلى اينشاج ، وقال : تذوقها يا بني . وأخذ اينشاج القطعة متمتماً شكراً . ودس الجد آبو قطعة من السمك في فمه ، وقال : لقد شفيت تماماً كما ترى ، وأريدك منذ الغد ، أن تبقى في الكوخ ، وترتاح بضعة أيام ، سأخرج للصيد وحدي . وتطلع اينشاج إليه لحظة ثم عاد إلى السمكة ، وراح يأكل منها ، دون أن يتفوه بكلمة . وظل الجد آبو أياماً عديدة ، يخرج للصيد مع الفجر ، ولا يعود إلا عند المساء ، وقد اصطاد غزالاً ، أو أرنباً برياً ، أو سمكة تكفيهم للعشاء . وطوال هذه المدة ، كان اينشاج يحاول عبثاً إبعاد ننتي عن ذهنه . كذلك ننتي ، فإن اينشاج لم يغب عن ذهنها ، حتى عندما كانت تلوذ بالفراش ، وتستغرق في النوم . وعلى الرغم منه ، خرج اينشاج بذهنه مراراً من الكوخ ، وعبر الجدول صوب البركة ، لعله يرى ننتي . وخرجت ننتي مراراً من الكوخ ، وراحت تحوم حول البركة ، وهي حائرة بين أمنيتين متناقضتين . تمنت أن يأتي اينشاج ، لتراه مرة أخرى ، وفي الوقت نفسه ، تمنت أن لا يأتي حتى لا تراه خالتها شيكال ، وتؤذيه . ومع الأيام ، داخلها شعور بأنه لن يأتي ، بعد ما قالته له ، فعادت إلى الجلوس ، تحت شجرة الصنوبر الضخمة ، وإن لم يغب عن بالها لحظة واحدة .
" 12 "
خرج إينشاج من الكوخ ، بعد أن مضى الجد آبو إلى الصيد ، وقرر بينه وبين نفسه ، أن يتجول في الغابة ، على أن لا يقترب من الجدول ،أو يفكر في عبوره ، مهما كلف الأمر . وقبيل منتصف النهار ، وجد نفسه قرب الجدول ،يتطلع الى الجانب الأخر من الغابة , منصتاً إلى هتافه الصامت الأسر. وكالمنوم عبر الجدول ، متجهاً صوب البركة ، التي لم تغب عنه ، طوال هذه المدة ، وتوقف هازاً رأسه ، كلا ، هذا خطأ ، لقد قالت له : ابتعد ، وعليه أن يبتعد .. و .. وواصل سيره صوب البركة . وتلفتت ننتي حولها ، ثم جلست تحت شجرة الصنوبر الضخمة ، وتراءت لها خالتها شيكال ، تحدق فيها ، وهي تراها تتهيأ للخروج من الكوخ ، وكأنها تتساءل : إلى أين ؟ ومضت ننتي إلى الخارج ، وهي تقول : سأتجول في الجوار. ولزمت الخالة شيكال ، وإن ظلت عيناها تتابعان ننتي ، كما كانتا تتابعانها في الأيام الأخيرة ، حيثما تذهب . ولعل شيكال عرفت من خبرتها ، أن ننتي مشغولة ومهمومة ، ليس بالأرانب والغزلان والحمام والأزهار ، وإنما بشيء أخر ، ربما سيقلب حياتها رأساً على عقب ، هذه الفراشة الحمقاء ، قد تحترق كما احترقت أمها ، إذا لم تعالج الأمر بروية ، وإن كان هذا يخالف طبعها البركاني . وتمددت ننتي تحت شجرة الصنوبر الضخمة ، وأغمضت عينيها ، مستسلمة للأنسام الهادئة الدافئة . وكادت تغفو ، حين شمت رائحة زهرة ، ترشق برفق في شعرها . وخفق قلبها ، وهي تفتح عينيها ، وإذا اينشاج يجلس منحنياً عليها ، وهو يرشق في شعرها زهرة نرجس . واعتدلت ننتي متمتمة : أنت! ورد اينشاج قائلاً : نعم ، أنا . وقالت ننتي بلهفة : كنت أنتظرك . وابتسم اينشاج ، وقال : لكنك قلت لي ، ابتعد . وهزت ننتي رأسها ، وقالت : يا لي من حمقاء . ثم تطلعت إليه ، وقالت : أردتك أن تأتي . واتسعت ابتسامة اينشاج ، وقال : وها إني أتيت . وصمت لحظة ، ثم قال : رغم أني كنت أخاف أن تغضبي مني . ومدت يدها ، واحتضنت يده ، وقالت : لا ، بالعكس . وانتبهت إلى يديها تحتضن يده ، فسحبتهما بسرعة ، ثم تطلعت إليه ، وقالت : إنني أخاف عليك من خالتي ، فهي لن ترحمني ، ولن ترحمك ، إذا رأتنا معاً . وصمتت لحظة ، ثم قالت : يا للجنون ، لم أعرف حتى اسمك. وحاول اينشاج أن يبتسم ، وهو يقول : اسمي اينشاج . وابتسمت ننتي ، وقالت : وأنا ننتي . وتمتم اينشاج : ننتي . ومدت ننتي يديها ثانية ، وعانقت يده بحرارة ، وهي تقول : إينشاج ، لا أريد الافتراق عنك . ورد اينشاج بحماس : وهذا ما لا أريده أنا أيضاً ، تعالي معي. وهمت ننتي أن ترد ، حين ندت حركة من بين الأشجار . فسحبت يديها ، مبتعدة عن اينشاج ، وهي تقول : أضنها خالتي . وتمتم اينشاج متلفتاً : خالتك ! وقالت ننتي بصوت مضطرب : اذهب الآن يا اينشاج ، اذهب بسرعة . ووقف اينشاج متردداً ، فدفعته ننتي برفق ، وقالت : أرجوك ، اذهب ، لا أريدها أن تراك معي . وتراجع اينشاج ، ثم مضى على مضض ، وظلت ننتي ، تتابعه بعينين قلقتين ، حتى غاب بين الأشجار .
" 13 "
عادت ننتي إلى الكوخ ، بعد أن تجولت طويلاً في الغابة ، وإذا شيكال تقف بالباب ، وقد اربدت ملامحها . وهمت ننتي أن تمضي إلى الداخل ، دون أن تحيي خالتها شيكال ، لكن شيكال هتفت بنبرة حازمة : توقفي . وتوقفت ننتي ، وقلبها يخفق ، فقالت شيكال : رأيتك معه . وبدل الخوف ، انبثق في عيني ننتي ما يشبه الغضب والتحدي ، وحدقت في خالتها شيكال ، وقالت : أعرف . وقالت شيكال مغالبة انفعالها : أنت تكادين لا تعرفينه . وردت ننتي قائلة : بل أعرفه ، اسمه اينشاج . وبشيء من الانفعال ، قالت شيكال : هذا لا يكفي . وهمت ننتي بالدخول ، وهي تقول : إنه يكفيني . واعترضتها شيكال ، وقالت : لن أسمح للنار أن تحرقك كما أحرقت أمك . لم تتراجع ننتي أو تضعف ، إنما قالت من بين أسنانها : إذا مسست شعرة منه ، لن أبقى معك لحظة واحدة . ودفعت الباب بعنف ، ومضت إلى داخل الكوخ ، دون أن تنتظر رداً من خالتها شيكال . ولبثت شيكال بالباب ، تقلب الأمر بذهنها ، هذه اللعينة ننتي ، أكثر عناداً من أمها ننكاسي ، وقد لا تجدي معها الشدة وحدها ، لا بأس ، فلنترو ، المهم أن لا تخسر ننتي ، كما خسرت من قبل ننكاسي . ودخلت شيكال الكوخ ، وقد تمالكت مشاعرها المتفجرة ، وأشاحت ننتي بوجهها ، ووقفت تنظر عبر الكوة . وقالت شيكال بنبرة مهادنة : ننتي . لم ترد ننتي ، فقالت شيكال بصوت رقيق : بنيتي . والتفتت ننتي إليها ، أهذه خالتها شيكال ؟ يا للعجب ، ماذا جرى ؟ تنتظر . واستطردت شيكال بالنبرة نفسها : أنت مازلت صغيرة ، وأخشى أن تخدعي ، كما خدعت أمك ، عندما كانت في عمرك . وردت ننتي قائلة : إنني أعرفه جيداً ، وهو يريدني ، وأنا أريده . وفوجئت شيكال بما قالته ننتي ، وكاد بركانها ينفجر ، لكنها ، ويا للعجب . تمالكت نفسها ، وتنهدت قائلة : حسن ، مادام الأمر كذلك ، فلن أعارض . وتطلعت ننتي إليها في فرح تشوبه الدهشة ، وتمتمت : خالتي . فقالت شيكال : ولكن لك أم .. . وهتفت ننتي من أعماقها : أمي ! ةتابعت شيكال قائلة : ومن حقها أن توافق أو .. . وهتفت ننتي ثانية : ستوافق . ومرة أخرى تابعت شيكال : وإذا كان يريدك حقاً ، فسيوافق على هذا . وقالت ننتي : إنه يريدني . وتنهدت شيكال ، متظاهرة بالإستسلام ، وقالت : حسن . واستطردت ننتي قائلة : إنني مستعدة للذهاب إلى أمي ، حيثما تكون . وهزت شيكال رأسها ، وقالت : لا ، لا ، يا ننتي ، أنت لا تعرفين بالضبط أين أمك . وقالت ننتي بحماس : لتكن حيثما تكون ، سأذهب إليها . وحدقت شيكال في ننتي ، وقالت : أمك في مكان بعيد ، بعيد جداً ، إنها وراء الجبال السبعة ، في وادي الأفاعي . وبدا القلق والتردد على ننتي ، لكنها حزمت أمرها ، وهمت أن ترد ، فقاطعتها شيكال قائلة : هذه مهمته ، ماذا قلت اسمه ؟ اينشاج ، نعم فليأت اينشاج غداً ، ويقابلني هنا ، وسنتفاهم.
" 14 "
مضت ننتي ، صباح اليوم التالي ، إلى البركة . وإذا إينشاج ينتظرها ، تحت شجرة الصنوبر الضخمة ، فأسرعت إليه متلهفة ، وقالت : حسن أنك أتيت هذا اليوم . وأخذ إينشاج يدها بين يديه ، وقال : سآتي كل يوم إذا أردت. وابتسمت ننتي قائلة : وكيف لا أريد ؟ ثم سحبت يدها من بين يديه ، وقالت : هناك أمر غير متوقع. وتطلع إينشاج إليها متسائلاً ، فقالت : خالتي تريد أن ترلك . وتمتم إينشاج مندهشاً : خالتك ! فردت ننتي قائلة : لقد تحدثنا البارحة عنك . وقال إينشاج : هذا يسعدني . وابتسمت ننتي ، وقالت : ليكن غداً . ورد إينشاج : ولماذا غداً يا عزيزتي ؟ الآن . واتسعت ابتسامة ننتي ، وقالت : هيا . ومد إينشاج يده ، وأمسك بيدها ، وقال : خذيني إليها . وسارت ننتي به نحو الكوخ ، ويدها في يده ، وتطلعت إليه ، وقالت : لا أريد أن أحكم على ما تريده خالتي ، فالأمر لك ، من حقك أن توافق أو لا توافق . ورد إينشاج ، ويده تعانق يدها : سأوافق على ما تريده ، إذا كان يبقيك إلى جانبي . ولاح الكوخ من بين الأشجار ، فأسرعت ننتي به ، وهي تقول : لقد وصلنا ، هيا . ودفعت ننتي الباب ، ودخلت إلى الكوخ ، وفي إثرها دخل إينشاج . واستقبلتهما شيكال بوجه جامد ، لا يكاد يفصح عن شيء . وأومأت ننتي إلى إينشاج ، وقالت : خالتي ، هذا هو إينشاج . وحدقت شيكال فيه , ثم قالت : إنه كما توقعت ، شاب صغير . وران صمت ثقيل ، وتطلعت ننتي حائرةً إلى أينشاج ، فألتفت إلى شيكال ، وقال : أخبرتني ننتي ، أنك تريدين رؤيتي . وردت شيكال ، وهي ما زالت تحدق فيه : نعم ، هذا صحيح . وابتعدت شيكال بعينيها عنه ، وصمتت .فقال إينشاج : ها أنا ذا ، تفضلي . وظلت شيكال صامتة ، وقالت ننتي : خالتي ، قولي لإينشاج ما تريدين . ورمقت شيكال إينشاج بنظرة خاطفة ، وحدقت في ننتي ، وقالت : ليس المهم ما أريده ، بل ما تريده أمك . وتطلع إينشاج إلى شيكال ، وقال : هذا حق ، ومن جهتي ، أتمنى أن أراها . وردت شيكال عليه قائلةً : بل لا بد أن تراها ، وتحصل على موافقتها ، وإلا لن تكون ننتي لك . واقترب إينشاج منها ، وقال : لأقابلها في أقرب فرصة . وطفت على شفتي شيكال ابتسامة ساخرة ، وقالت : لكنك لا تعرف أين هي . ورمق إينشاج ننتي بنظرة خاطفة ، وقال : أخبريني ، وسأذهب إليها حيث تكون . وقالت شيكال : مهلاً ، سأخبرك ، وسترى أن الأمر ليس بهذه البساطة . وحدق إينشاج فيها ، وقال : أين هي ؟ واستطردت شيكال قائلة : وإذا ذهبت إليها ، أريد أن تأتيني منها بعلامة تدل على موافقتها ، خصلة من شعرها مثلاً . ورد إينشاج : لك ما تريدين ، والآن أخبريني ، أين هي ؟ ونظرت شيكال إلى ننتي ، ثم التفتت إليه ،وقالت : إنها في كوخ ، وراء الجبال السبعة ،في وادي الأفاعي . وتطلعت شيكال إلى ننتي ، وابتسامتها الساخرة تطفو فوق شفتيها ، لكن ابتسامتها انطفأت ، حين سمعت إينشاج يقول : سأذهب .
" 15 "
تحير إينشاج ،كيف يخبر الجد آبو ، بأنه سيذهب إلى وادي الأفاعي ، حتى أنه فكر ، أن يذهب ، دون أن يخبره بذلك . واستقبل الجد آبو باشاً ، عندما عاد إلى الكوخ ، لكن بشاشته تلاشت ، إذ رآه منقبضاً ، فتساءل : ما الأمر ؟ ورد اينشاج قائلاً : لا شيء . وقبل أن يرقد الجد آبو ، تلك الليلة في فراشه ، قال لإينشاج : هناك شيء ، إنني أعرفك ، و أريد أن تخبرني به في حينه . ونهض إينشاج مبكراً ، في اليوم التالي ، وتهيأ للسفر ، فتطلع الجد آبو إليه متمتماً : بني . فقال اينشاج : جدي ، عليّ أن أسافر . واعتدل الجد آبو ، وقال : قلبي أعلمني ، أن في الأمر شيئاً . ومال اينشاج عليه ، وقبل رأسه ، وقال : اطمئن ، سأعود سريعاً ، سأعود . وانطلق اينشاج ، متجهاً صوب وادي الأفاعي ، بعد أن عرج على الأجمة ، وأخذ هراوته الجديدة ، وقبيل العصر ، لاح له من بعيد ، الجبل الأول ، فشد يده على الهراوة ، وحث خطاه. وخرج الجد إلى الغابة ، في وقت متأخر من النهار ، وتجول فيها طويلاً ، ثم عاد مع المساء إلى الكوخ ، دون أن يصطاد شيئاً . وظلت شيكال ، طوال ساعات النهار ، تتابع ننتي ، وهي تلوب داخل الكوخ ، أو تحوم في الجوار ، وقد بدا عليها الهم والقلق . وواصل اينشاج طريقه ، حتى وصل سفح الجبل الأول ، عند هبوط الظلام ، فأوى إلى شجرة ، ونام بين أغصانها ، بعد أن تناول شيئاً من الطعام . ولاذت ننتي بفراشها مبكرة ، دون أن تتعشى مع خالتها شيكال ، لكنها لم تنم . حتى ساعة متأخرة من الليل . وهبط اينشاج من الشجرة ، قبل شروق الشمس ، ومضى في طريقه ، وهراوته في يده . وبعد الشروق ، غادرت ننتي الكوخ ، وشيكال تتابعها خلسة ، وراحت تضرب في الغابة ، على غير هدى ، دون أن يغيب اينشاج عن بالها لحظة واحدة . واجتاز إينشاج الجبل الأول ، ثم الثاني ، ثم الثالث ، دون أن تؤثر فيه المصاعب ، التي يواجهها في طريقه . وكلما شعر بالتعب ، أو داخله شيء من الإحباط ، تراءت له ننتي ، مشيرة أن تعال ، فيحث الخطى بحماس ، صوب وادي الأفاعي . وفي الأيام التالية ، اجتاز إينشاج الجبل الرابع ، ثم الخامس ، ثم السادس . وأخيراً لاح الجبل السابع ، يشمخ عالياًً في السماء ، والشمس تميل للغروب . ورغم شعوره الشديد بالتعب ،حث خطاه ، حتى وصل الجبل ، وقد خيم الليل . وأفاق الجد آبو ، صباح اليوم التالي ، وكأن أحداً أيقظه من النوم ،وتساءل من بين دموعه: ترى أين إينشاج الآن ؟ وفتحت ننتي عينيها ، ربما في الساعة نفسها ، وتراءى لها إينشاج ،عبر عينيها الغارقتين بالدموع ،يضرب في طرق جبلية موحشة ،وتتربص به شتى الوحوش . وسالت ابتسامة ساخرة متشفية ، فوق شفتي شيكال ، وكأنها سمعت ما فكرت فيه ننتي ، وقالت في نفسها : سينتهي إينشاج حين يقابل ننكاسي ، هذا إذا لم ينته قبل ذلك . لكن إينشاج لم ينته ، وإنما كان يعبر الجبل السبع ، وهراوته في يده ، لينحدر أخيراً إلى وادي الأفاعي .
" 16 "
لاح وادي الأفاعي ، والشمس معلقة في أعلى الجبل السابع ، متهيئة للغروب ، ليغرب معها النهار . وسار إينشاج منحدراً نحو الوادي ، وقد تملكه التعب ، حتى كاد لا يقوى على مواصلة السير . وتوقف عند مشارف الوادي خائر القوى ، وتنفس ملء صدره . وهاهو أخيراً يصل وادي الأفاعي ، وغداً أو بعد غد يلتقي بأم ننتي ، ثم يعود على جناح السرعة إلى ننتي ، ويطير بها من جحيم خالتها إلى جنة جده آبو . وعلى العكس مما توقع ، لم ير في الوادي أفعى واحدة . أهو وادي الأفاعي بالاسم فقط ؟ ومع ذلك ، وما إن مالت الشمس للمغيب ، حتى تسلق شجرة ضخمة ، ليقضي الليل بين أغصانها . وغابت الشمس ، وراء الجبل السابع ، الذي كان يشمخ عالياً في السماء ، ومعها غاب إينشاج في نوم عميق ، وكأنه لم ينم أسابيع عديدة . وفي منامه تقلبت صور شتى ، عنيفة .. مضطربة .. مخيفة ..مرة ، ومرة هادئة .. مريحة .. شفافة .. كليالي الصيف . رأى نفسه ، وسط مياه الجدول يرفع سمكة ضخمة ، تتخبط بين يديه ، ويصيح فرحاً : جدي ، أنظر . ويلوح الجد آبو ، ينتظر ذابلاً ، عند باب الكوخ ، وتبرز شيكال بوجهها المربد ، ثم تختفي في العتمة ، فينقض عليه الدب ، من بين الأشجار ، وقد كشر عن أنيابه . ويتقلب في نومه ، فيختفي الدب ، ومعه تختفي شيكال والعتمة ، ليسود جو هادىء شفاف ، تتوضح فيه شيئاً فشيئاً ملامح ننتي ، وهي تقف عند شجرة الصنوبر الضخمة ، ملوحة له أن .. تعال .. تعال .. تعال. وانطلق نحوها فرحاً ، ليضمها بين ذراعيه ، ويطير بها إلى الجنة ، لكنه لم يصل إليها ، رغم ما بذله من جهد ، فقد شده بعيداً عنها فحيح غريب ، بدا له في نومه ، وكأنه عاصفة هوجاء . وفتح عينيه المتعبتين مرغماً ، فهو لا يريد أن يبتعد عن ننتي لحظة واحدة . وانتفض قلبه رعباً ، حين أبصر ، على ضوء القمر , عدداً كبيراً من الأفاعي ، كأنها التنانين ، تحوم حول الشجرة متزاحمة ، وهي تطلق فحيحاً رهيباً . وهب من مكانه حين رأى أفعى ضخمة ، تتسلق الشجرة متجهة إليه ، وقد فتحت فمها على سعته ، فتبدت أنيابها الحادة المعقوفة كأنها الخناجر . وعلى الفور ، رفع هراوته الثقيلة ، وأهوى بها على رأسها ، بكل ما يملك من قوة . وصرخت الأفعى الضخمة متلوية ، محطمة الكثير من الأغصان ، وجن جنون الأفعى ، وهمت أن تنقض عليه ، فعاجله بضربة أخرى من هراوته الثقيلة . وصرخت الأفعى الضخمة ثانية ، وانقضت محاولة الوصول إليه ، لكنه تراجع في الوقت المناسب ، وارتقى غصناً بعيداً عنها . وتلوت الأفعى ، وقد تراخى جسمها الضخم ، ثم تهاوت على الأرض . وعلى الفور ، انقضت الأفاعي الأخرى عليها ، وكأنها ذئاب مسعورة ، ومزقتها إرباً إرباً . وما إن افترستها ، حتى راحت تحوم بجنون حول الشجرة ، وهي تطلق فحيحاً رهيباً ، كأنه العاصفة . وظل اينشاج مستيقظاً طول الليل ، والهراوة الثقيلة في يده ، خشية أن تتسلق أفعى أخرى الشجرة إليه ، وتفتك به . وعند الفجر ، عادت الأفاعي إلى جحورها ، لتبق راقدة فيها ، حتى مغيب الشمس . وتمدد اينشاج بين الأغصان ، لعله يرتاح قليلاً قبل أن تشرق الشمس ، وينزل من الشجرة ، باحثاً عن كوخ أم ننتي ، لكنه سرعان ما استسلم للنعاس واستغرق في نوم عميق .
" 17 "
نزل اينشاج عن الشجرة ، وقد أطلت الشمس من قمة الجبل السابع . ووقف متلفتاً حوله ، يتأمل وادي الأفاعي . وسار متوجساً ويده تشد على هراوته ، رغم أنه لم ير أفعى واحدة في طريقه . وبحث طويلاً عن الكوخ ، حتى عثر عليه ، وسط أجمة منعزلة موحشة . وطرق الباب ، لكن أحداً لم يرد ، وطرق الباب ثانية ، وثانية لم يرد أحد . وارتفع وراءه وقع أقدام ، فالتفت وقلبه يخفق بشدة ، وإذا امرأة هرمة ، تتقادح عيناها وسط شعرها الرمادي الأشعث . وحدقت المرأة فيه ، وقالت : جئت أخيراً . وصمتت لحظة ، وعيناها لا تفارقانه ، ثم قالت : آه كم انتظرتك . وطفت على شفتيها ابتسامة مرة ، وأضافت قائلة : لقد وفت شيكال بوعدها ، وأرسلتك لي . وصمتت ثانية ، وهي تتأمله ، ثم قالت : يا لها من ظالمة ، أنت شاب فتي ، ووسيم ، وتبدو بريئاً مثل .. ولاذت بالصمت ، فقال اينشاج : الطريق إلى هنا طويل وصعب ، لكنني مع ذلك ، قررت أن آتي إليك ، وأتيت . ومالت المرأة عليه ، وقالت بفحيح يشوبه الفرح : أنت خلاصي . وتململ اينشاج متردداً ، ثم تمالك نفسه ، وقال : إنني أجترح المستحيل من أجل .. ننتي . وتمتمت المرأة ، وقد تلاشى فحيحها المشوب بالفرح : ننتي! ورد اينشاج قائلاً : ابنتك . وتابعت المرأة قائلة , وقد شفت عيناها : ابنتي ننتي ، إنها في عمرك الآن ، وربما أصغر قليلاً، ليتني أراها . وتقادحت عيناها من جديد ، وقالت : سأراها . ورغم اضطرابه وحيرته ، قال إينشاج : ستفرحين لرؤيتها ، وربما ستفرحين أكثر ، حين ترينها معي . ولاذت المرأة بالصمت مفكرة ، فتابع إينشاج قائلاً : إنني أريدها ، وهي تريدني . وتمتمت المرأة : ماذا ! واستطرد إينشاج : وقد اشترطت شيكال ، أن آتي إليك ، وأحصل على موافقتك ،ومن ثم أعود إليها بما يثبت ذلك ، خصلة من شعرك مثلاً . وحاولت المرأة عبثاً ، أن تكتم تفجرها ، وهي تقول ، كما لو كانت تحدث نفسها : يا إلهي ، كادت تقتل ابنتي ننتي كما قتلني . والتفتت إلى إينشاج ، وقالت : أنت لا تعرف لماذا أرسلتك لي . ولاذ إينشاج بالصمت ، فتابعت المرأة قائلة : عندما نفتني ، أختي الساحرة شيكال ، إلى وادي الأفاعي هذا ، وابنتي ننتي ، لم تتجاوز الأشهر الثلاثة الأولى من عمرها بعد ، اشترطت علي ، إذا أردت العودة إلى ببنتي وحياتي ، أن أقتل من ترسله لي . وتلوت مدمدمة ، وهي تئن متوجعة : يا للخيار الصعب ، أن أعطيك خصلة من شعري ، وأبقى هنا حتى النهاية ، أو .. أقتلك . وحدقت في إينشاج بعينين يغشاهما الانكسار ، وقالت : لقد تعبت ،تعبت ، وأريد أن أرى ابنتي ، ننتي . وصمتت لحظة ، وهي مازالت تحدق فيه ، ثم تساءلت : ما اسمك ؟ ورد اينشاج : أسمي إينشاج . واقتربت المرأة منه ، واستلت خنجره بسرعة البرق ، وراحت تحدق فيه . لم يتراجع اينشاج ، أو يرفع هراوته في وجهها ، ولبث ينتظر ما قد تقدم عليه . وبدل أن تطعنه المرأة بالخنجر ، قطعت خصلة من شعرها ، قدمتها له ، وقالت : خذ هذه الخصلة ، واذهب بسرعة . وأخذ اينشاج الخصلة ، وقال : سيدتي .. . وقاطعته المرأة ، وهي تهرب بعينيها منه : اذهب يا إينشاج ، فننتي هي أنا ، وأريد أن أعيش حياتي هذه المرة .
" 18 "
منذ أن ذهب إينشاج إلى وادي الأفاعي ، والجد آبو يجلس عند المساء ، منتظراً بباب الكوخ . ويلبث جامداً في مكانه ، حتى يهبط الليل ، ويخيم الظلام على الغابة . وكلما تراءى له إينشاج ، وغالباً ما يتراءى له ، تدمع عيناه الشائختان ، ويتساءل بحيرة : ترى أين ذهب ؟ ومتى يعود ؟ وننتي غدت كالفراشة ، لا تكاد تستقر في مكان ، فمرة تكون في الكوخ ، ومرة تخرج متجولة في الغابة . وكثيراً ما تنتهي ، خائرة القوى ، إلى شجرة الصنوبر الضخمة ، وترقد تحتها ، منتظرة الذي لم يغب عن بالها لحظة واحدة . وطالما قالت لخالتها ، وكأنها تحدث نفسها : تأخر إينشاج . وتجيبها خالتها شيكال : الطريق طويل ، وشاق ، انتظري . ورمقتها شيكال مرة بنظرة خاطفة ، وقالت : الجبال السبعة مليئة بالمخاطر ، وقلما يعود منها أحد . وردت ننتي قائلة : سيعود إينشاج ، سيعود . وطفت على شفتي شيكال ابتسامة ساخرة ، وقالت : هذا إذا لم تعد أمك . ونهضت ننتي ، وغادرت الكوخ ، وقد انتابها شيء من الانقباض ، رغم أنها لم تفهم بالضبط ما تعنيه خالتها شيكال. وتابعتها شيكال بعينيها المتقادحتين ، حتى خرجت ، ودمدمت قائلة : لن يعود إينشاج ، لن يعود ، إنني أعرف أختي ننكاسي . وفي هذا اليوم ، بعد منتصف النهار ، شعرت شيكال . ببركانها يدمدم ، منذراً بالانفجار ، فاعتدلت في فراشها ، وقالت : يا للجحيم ، لقد عاد . وتلفتت حولها ، وعيناها تتقادحان ، ودمدمت بصوت متفجر : هذا أمر مستحيل ، لكنه مع ذلك ، عاد .. عاد .. عاد . وهبت شيكال من مكانها ، وكالإعصار غادرت الكوخ . ورقدت ننتي ، على عادتها ، تحت شجرة الصنوبر الضخمة ، بعد أن تجولت طويلاً في الغابة .وأغمضت عينيها ، لعلها تغفو ، وترى إينشاج في منامها ، مقبلاً من وادي الأفاعي . ولا تدري أأغفت أم لا ، حين شمت رائحة زهرة ، وشعرت بها تتخلل شعرها كالنسيم . أهو حلم ؟ وخفق قلبها فرحاً ، لا ، ليس حلماً ، وفتحت عينيها هاتفة : إينشاج ! ورد إينشاج ، وهو ما زال يرشق الزهرة في شعرها : نعم ، إينشاج . ومدت ننتي يديها ، واحتضنت يده ، وقالت : عرفت أنك ستعود ، وها أنت قد عدت . ومال إينشاج عليها ، وقال : والفضل يعود لأمك . وشهقت ننتي ، ونهضت دامعة العينين ، متمتمة : أمي ! ومن بعيد ، أقبلت شيكال مسرعة ، لكنها توارت خلف إحدى الأشجار ، عندما رأت إينشاج وننتي ، يقفان متواجهين ، تحت شجرة الصنوبر الضخمة . وراحت تختلس النظر إليهما ، كاتمة بركانها المتفجر . وتحت أنظار شيكال المتقادحة ، أخرج إينشاج صرة صغيرة ، وفتحها قائلاً لننتي : أنظري ، هذه الخصلة منها ، وهي لي ولكِ . وأمسكت ننتي الخصلة بين يديها ، وقالت من بين دموعها : أمي .. أمي . ومد إينشاج يديه نحوها ، وأخذها إلى صدره ، وقال : قالت لي أمك ، ننتي هي أنا ، وأريد أن أعيش حياتي هذه المرة . وأمام أنظار شيكال ، وعلى مسمع منها ، نظرت ننتي إلى اينشاج ، وقالت : لنذهب ، ونعش حياتنا . وذهبا معاً ، متجهين الى كوخ الجد آبو ، لا يلويان على شيء . ووقفت شيكال ، وقد هدأ بركانها ، تراقبهما حتى غابا ، وعندئذ تنهدت ، وقالت : لن أختار ، هذه المرة ، إلا ما اختارته أختي ..ننكاسي .
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان الفتاة الغزالة طلال
...
-
رواية للفتيان غابة الذئاب
...
-
رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن
-
رواية للفتيان قمر من سماء عالية
...
-
روايةللفتيان الزنبقة
...
-
رواية للفتيان عينان في الماء طلال
...
-
رواية للفتيان يوهيرو الأمل
...
-
رواية للفتيان التاج طلال حسن
-
رواية للفتيان شترا و ريشيا
...
-
رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن
-
رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت
...
-
رواية للفتيان كهف الدب الأسود
...
-
رواية للفتيان الذئب الأحمر الصغير طلا
...
-
رواية للفتيان ابني الديسم ميشا
...
-
رواية للفتيان جبل الوعول
...
-
حكايات للفتيان حكايات عربية
-
حكايتان طلال حسن الهارب
-
رواية للفتيان ذئب الأهوار
-
رواية للأطفال هدية الإلهة بنيتين
-
رواية للفتيان خزامى الصحراء
المزيد.....
-
سفر سيران للعلاج.. مسلسل طائر الرفراف الحلقة 73 مترجمة بالعر
...
-
حصريا قيامة عثمان ح 163 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 163 متر
...
-
الآن الحلقة 27 مترجمة .. مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 27
...
-
الآن مُتابعة مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 27 مترجمة على ق
...
-
-أغنية لفرس النهر- ديوان يطرح رؤية جديدة للعالم
-
مسلسل قيامة عثمان الحلقة 163 مترجمة بجودة HD ومواعيد عرضها ع
...
-
الحياة الأكثر جمالا بعد الموت.. طبعة جديدة من رواية -بعد الح
...
-
من سمرقند إلى ممالك البارود.. -سيف الإسلام- تيمورلنك وتفكيك
...
-
-الشبكة المعادية للمجتمع-.. فيلم جديد عن كراهية الإنترنت
-
حصيلة العدوان على غزة تتجاوز 119 ألفا و500 شهيد ومصاب
المزيد.....
-
صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس
...
/ شاهر أحمد نصر
-
حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا
/ السيد حافظ
-
غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا
...
/ مروة محمد أبواليزيد
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
المزيد.....
|