سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1715 - 2006 / 10 / 26 - 11:07
المحور:
الادب والفن
كان يوسف أتيلا قد التقي بصديقته ( Márta Vágó ) سنة 1927 م ، وكانت هي الصديقة الثانية التي يلتقيها بعد صديقته الأولى ( Luca Wallesz ) التي تعشقها ، وهو لم يزل في سن المراهقة ، وقد قادته خيبة الأمل من هذا الحب المبكر ، وفي حال واحدة على الأقل ، الى الانتحار ، وقد كان السبب في ذلك هو أن لوكا ( Luca) التي كانت تزوره باستمرار ، لم تحقق له رغباته الجامحة ، الكثيرة ، وقد عبر هو عن ممانعتها هذه بقصيدة منها :
أحبُ حبيبتي لوكا
ولوكا لا توافيني
فما عندي ، سوى ظلي ،
خليلٌ دينه ديني
ويبدو أن علاقته بلوكا لم تكن بمتانة العلاقة التي ربطته بمارتا (Márta ) ، الفتاة التي كانت تقاربه في السن ، والتي تنحدر من أسرة يهودية ، غنية ، ومثقفة ، غالبا ما كان يجتمع هو معها ، ليناقش مسألة زواجه من مارتا ، ومن خلال علاقته الغرامية بها ، تلك العلاقة التي وقفت منها الأسرة موقفا إيجابيا في بادئ الأمر ، ولكنها في نهاية الأمر عملت بقوة على وضع حد لها ، وذلك حين رأت أن يوسف لا يمكنه أن يعيل أسرة في الغالب ، ولهذا السبب ، وفي وقت غير معلوم من سنة 1928 م ، تقطعت وشائج العلاقة تلك بينهما بعد أن رحلت مارتا للدراسة في لندن ، لكنها ظهرت في آخر أيام حياته من جديد مرة أخرى ، وخلال بعض أشهر من سنة 1936 – 1937 م ، وذلك بعد أن فشلت هي في زواجها من رجل كانت قد عاشت معه في ألمانيا ، وحين عادت منها الى بودابست عملت مع الشاعر للأشهر المذكور تلك ، وفي مجلة ( Szép Szó ) الأدبية التي كان هو رئيس تحريرها ، والتي مر ذكرها علينا في الحلقة الثالثة من هذه المقالة .
لقد كان الشاعر يوسف أتيلا قد تزوج بعد رحيل مرتا الى لندن زواج معاشرة من فتاة تكبره ببعض سنوات في العمر ، تدعى ( Judit Szántó ) ، وكان ذلك في سنة 1930 م ، واستمر هذا الزواج الى سنة 1935 م تقريبا ، أي قبل أن يلتقي بمارتا من جديد بسنة تقريبا كذلك ، وكانت زوجته هذه قد تزوجت من قبل مرتين ، كان أخرهما مع رجل مجري ، شيوعي ، هو صهر ( Béla Kun )* ، وقد كانت لها بنت منه تعيش في موسكو .
لقد كانت يوديت تعمل في معمل للمظلات ، ولكنها كانت في الوقت نفسه من نشطاء الحزب الشيوعي الهنغاري ، مثلها مثل الشاعر الذي انضم الى ذاك الحزب في السنة التي تزوج منها ، وهي سنة 1930 م ، مثلما مر ذلك من قبل ، وبرغم من أن يوديت كانت مهتمة بحياة الشاعر اليومية ، لكن أصدقاءه كانوا لا يحبونها ، وهذا ما ساعد احتمالا على انفراط علاقة زواج المعاشرة تلك في سنة 1935 م تقريبا ، هذا اللون من الزواج الذي عاد هو السائد في أوربا أيامنا هذه ، وقطعا سيكون هو السائد في أقطار كثيرة من العالم في مستقبل ليس ببعيد ، وبغض النظر عن اختلاف تسميات هذا الزواج في هذا البلد عنه في البلد الآخر ، وعلى أية حال فإن الشاعر لم يكتب غير قصيدة واحدة لزوجته يوديت هذه .
في بداية سنة 1937 م ، وهي السنة التي مات فيها الشاعر ، ظهرت في حياته صديقة جديد ، أصغر منه في العمر ، هي ( Flora Kozmutza ) التي كانت على ثلاث وعشرين سنة من العمر ، طالبة تتعشق الأدب ، وتدرس علم النفس ، ولكنها كانت مغرمة بالشاعر العبقري ، ولهذا خاطرت في أن تحبه من الأعماق ، وخلال أشهر من ربيع سنة الغرام هذه ، وفي أوقات معينة منها ظهرا وكأنهما يعيشان حياة يغمرها الحب ، وتملؤها السعادة ، ولكن عرى هذه الصداقة انفرطت بعد أيام بسبب من غيرة الشاعر المفرطة ، هذا بالإضافة الى أن حب الشاعر لها كان كأنه صورة تذكره بحبه لأمه ، فقد كتب هو في قصيدة لها يقول : ( إنني أحبك ، مثلما يحب الطفل فقط . ) ، ونوع الحب هذا يطرد في كل تجربة من تجارب الحب التي مر بها باستثناء تجربته مع ( Judit Szántó ) رفيقته في الحياة الحزبية ، ولهذا كان الشاعر يبدو غريب الأطوار أحيانا من جهة نظر بعض الناس ، فقد كان يبدو للوهلة الأولى أنه مريض عقليا ، وقد ظهر تشخيص المرض هذا في تقرير طبي أشار الى أن يوسف في طريقه للإصابة بمرض انفصام الشخصية ( Schisofrenia ) ، ولكن ما ورد في ذاك التقرير لم يصمد أمام ما كان يكتبه الشاعر من قصائد في السنتين الأخيرتين من حياته ، تلك القصائد التي لم يصبها أي تغيير عن قصائده التي كتبها في فترات أخرى من حياته، بل على العكس كانت أكثر سبكا ، وأفضل صياغة ، ومع هذا يبدو أن صور حياة الطفولة البائسة التي عاشها الشاعر ظلت تتراءى له دوما ، ولم يستطع التخلص منها ، تلك الحياة التي كان يفتقد شيئا جوهريا فيها ، كان هو يسعى للحصول عليه من امرأة ، أو أم ، أو أبوين ، يضاف الى ذلك أنه فقد في حياة الطفولة تلك حتى أسمه:( Attila ) لسنوات معلومة ، وذلك حين استلبته منه تلك الأسرة التي تبنته ، والتي كانت تعيش في ريف مدينة ( Öcsöd ) ، مثلما مر علينا ذلك من قبل .
في الأول من شهر كانون الأول / ديسمبر استلقى يوسف طواعية على سكة قطار سريع ، يلهم الأرض بسيره ، وحدث هذا بالقرب من مدينة ( Balatonszárszó ) ، هناك حيث كان يعيش هو لفترة من الزمن عند اختيه ، ويبدو أن الدافع الذي دفعه الى هذا الانتحار هو اضطراره لقبول ما أشيع عنه من أنه مصاب بمرض عقلي ، ذلك المرض الذي شاع خبره بين الناس ، وكتبت عنه بعض الصحف المجرية ، أو أنه بفعله ذاك أراد أن يضع حدا لحياته ولكتاباته الشعرية في الوقت نفسه .
لقد عادت الحديقة الصغير القائمة عند تقاطع السكك الحديدية بالقرب من بحيرة (Balaton ) مكانا اليوم لكل من يريد الموت بمحض إرادته ، وبطقس يضارع ذاك الطقس الذي مات فيه شاعر المجر العظيم ، يوسف أتيلا ، ذلك الشاعر الذي خلف وراءه للمجريين ، وعلى الرغم من من قلة الاثنتين والثلاثين سنة التي عاشها ، أكثر من ثمانيمئة قصيدة ، وبتسعة دواوين شعرية ، ترجم العديد منها الى لغات كثيرة حية، تلك القصائد التي راحت تحملها صدور الكبار من الهنغاريين ، مثلما راحت تغنيها حناجر الصغار منهم ، ويبدو أن هذا هو السبب الى دفع واحدا من النقاد المجريين الى القول : ( إن أكثر قصائده ذات العمق الفلسفي والفكري ، ذات البعد الماركسي والفرويدي يمكن لها أن تقرأ مثل الأغاني الشعبية ، وأحيانا مثل أغاني الأطفال . )
وأني أخيرا أجد أن سلسلة مقالتي هذه قد فتحت الباب لقراء العربية للتعرف على هذا الشاعر العبقري الذي عرفه قراء كثيرون في أصقاع بعيدة ، وقريبة من وطنه هو ، رغم أن ترجمة قصائده الى لغات أخرى تبدو كأنها حلم خائب ، مثلما يرى ذلك واحد من أبناء وطن الشاعر .
= = = = = = = = = = =
* ولد بيلا كون ( Béla Kun ) في العشرين من شهر شباط / فبراير 1886م ، وهو واحد من السياسيين الاشتراكيين الهنغار ، وكان قد وقع في أسر القوات الروسية أثناء الحرب العالمية الأولى ، وظل أسيرا في روسيا حتى قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية فيها عام 1917 م ، حيث أطلق سراحه بعدها ، فعاد الى هنغاريا ، ليؤسس الحزب الشيوعي الهنغاري فيها ، وذلك في اليوم الأول من شهر تشرين الثاني / نوفمبر سنة 1918 م .
#سهر_العامري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟