|
تفسير الأنماط الثقافية للشخصية العراقية
ثامر عباس
الحوار المتمدن-العدد: 7586 - 2023 / 4 / 19 - 06:35
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
ليس من الصواب ولا من المنصف محاكمة الشخصية العراقية من منظور كونها حالة (غريبة) عن طبيعة المجتمعات البشرية المعروفة ، أو من منطلق اعتبارها نمط (شاذ) في عالم الثقافات الإنسانية المألوفة ، فقط لمجرد كونها تعيش حالة من (الاحتباس) و(التشرنق) داخل ثقافات (فرعية) نسقية ، استعصت بناها التحتية أمام تيارات التحديث الجارفة وموجات التجديد العاصفة التي أوجدتها البراديغمات الغربية الحديثة والمعاصرة من مثل ؛ الحداثة وما بعد الحداثة ، والبنيوية وما بعد البنيوية ، والوظيفية وما بعد الوظيفية ، ناهيك عن اجتراحات العولمة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والهوية ، فضلا"عن ميادين الجغرافيا والتاريخ والدين . هذا بالإضافة الى ما حققته المنهجيات (الجينالوجية) و(الاركيولوجية) من فتوحات مزعزعة على صعيد البحث في الأصوليات السوسيولوجية والتنقيب في الخلفيات الانثروبولوجية والنبش في المطمورات السيكولوجية . وكما سبق وأن أجمعت معظم الدراسات والأبحاث في المجالات الاجتماعية والإنسانية ، على حقيقة أنه من المتعذر العثور على جماعة بشرية – قديمة أو حديثة - تمكنت من التسامي فوق حتميات الواقع والتعالي على اشتراطات التاريخ ، بحيث استطاعت التخلص نهائيا"من مواريثها التاريخية والإفلات من أنساقها الثقافية ، حتى ولوا بلغت الذرى في مدارج التقدم الاجتماعي والتطور المعرفي والرقي الحضاري . بيد أن وجود ظاهرة ما في مجتمع ما شيء ، وطغيان تلك الظاهرة واستحواذها الكلي على ذهنيات وتصورات ذلك المجتمع وتحكمها بعلاقاته والتلاعب بخياراته شيء آخر تماما". إذ ان الأمر يخرج – في نطاق هذه الحالة – عن مألوف السياقات ومعروف الممارسات في مضمار التجربة الإنسانية ، ليستحيل من ثم الى ما يشبه (المرض) السياكوباثي الذي يحتاج الى معالجات جذرية وحلول استثنائية ، لن يكون بمقدور المجتمع المعني استعادة حالته السوية دون اللجوء إليها والاستعانة بها . وإذا كان المجتمع العراقي يشارك بقية المجتمعات البشرية الأخرى في مثل هذه الظواهر الإنسانية ، إلاّ أنه – وللأسف الشديد – لم يفتأ يشكل (استثناءا") محيرا"لكل القواعد والضوابط المتواضع عليها في هذا الشأن ، مثلما ويحتل مركز الصدارة في الخروج عن كل ما سنته البشرية من قوانين وأنظمة وتشريعات ، لجهة التخفيف من وطأة تلك المواريث التاريخية والحد من آثار الأنساق الثقافية التي لا تبرح تشد جماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية الى الوراء ، وتحول دونها والخروج من قواقع الماضي وشرانق التاريخ ، بغية التحرر من قيوده المزمنة والتخلص من آثامه المتوطنة ، أو على الأقل إجراء الموازنة بين أصوليات ماضيها (المؤمثل) وبين ضرورات حاضرها (المؤمل) ومتطلبات مستقبلها (المؤجل) ، وبالتالي جعلها أكثر سلاسة في القبول للتغيير وأقل عنادا"في الخضوع للتطوير . ولعل من تبعات هذه الحالة المأزقية واستشرائها كلما تأزمت أوضاع المجتمع العراقي وبات يواجه تحديات الكيان والمصير ، أن كثرت الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية وتنوعت المداخل التحليلية والمنهجية ، حيث يبادر أصحابها من الكتاب والباحثين والأكاديميين – من العراقيين والعرب - للكشف عن الأسباب المضمرة وإماطة اللثام عن الدوافع العميقة ، التي يعتبرونها ليس فقط كونها المسؤول عن تفاقم تلك الحالة السلبية وتعاظم تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فحسب ، وإنما يفترضون وسمها للشخصية العراقية بخصائص فريدة وسمات نادرة لا تشاطرها فيها شخصية حضارية أخرى أيضا"، ربما شكلت النزعة النكروفيلية (التدميرية) واحدة من أبرز تلك الخصائص والسمات ! . وفي هذا الإطار فقد لفتت انتباهنا دراسة انثروبولوجية أنجزها أحد الأكاديميين العراقيين (جواد كاظم التميمي) ، الذي عالج من خلالها هذه الموضوعة الإشكالية من منظور اللسانيات الانثروبولوجية ، حيث توصل - بناء على استقراء جملة من النصوص السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والإسلامية والملكية والجمهورية ، الى حصيلة مفادها ان ما تعانيه الشخصية العراقية من ارتباك ثقافي وتعسّر حضاري ونزوع تدميري ، ما هو إلاّ نتاج خلفيات أسطورية وسرديات تاريخية واعتقادات دينية وأصوليات ثقافية وصراعات سياسية واستبطانات لغوية ، شكلت ولا تزال قاعدة بنيوية صلدة ليس من السهل تفكيكها أو اختراقها من جهة ، مثلما ساهمت بتكوين راسب عقلي - نفسي ليس بالإمكان زحزحته أو إزالته من جهة أخرى . للحدّ الذي أورثها ثلاثة أنماط ثقافية وان بدت مختلفة الأدوار والوسائل إلاّ أنها متشابهة الوظائف والغايات ، لا تعدو أن تكون (أقنعة سيميائية) تخفي أو تحجب طبيعة التشظي الذي ابتليت به تلك الشخصية على صعيد بنيتها اللسانية – الثقافية – النفسية . وهكذا ، فقد لاحظ الأستاذ المذكور أن النمط الثقافي (الأول) ويتمثل بالتمظهر (الذئبي) الذي يعبر عن الشخصية التي تمتلك من مقومات القوة الفيزيائية المجردة ، ما يجعلها قادرة على فرض سلطنها وبسط هيبتها على من يحيطون بها سواء في مجال العائلة أو المدرسة أو الدائرة أو الحكومة ، لا بل حتى القبيلة والعشيرة والطائفة . وإما النمط الثقافي (الثاني) فيتمثل بالتمظهر (الثعلبي) الذي يجيد سلوك التملق ويحسن التلون إزاء عناصر النمط الأول (الذئبي) من جهة ، في حين لا يتورع ، من جهة أخرى – عندما تتاح له الفرصة وتتوفر له الإمكانية – من انتهاج سلوك التعالي وممارسة التسلط على مكاريد النمط الثقافي الثالث الذين ينتمون الى ما يسميه الباحث بالنمط (الجرذي) ، الذي تغلب على عناصره مظاهر (المسكنة) و(المظلومية) و(الانكسار) . والجدير بالملاحظة ان الباحث المذكور يلفت انتباهنا الى مراعاة حقيقة أن هذه المستويات الثلاثة (( من التمظهر السلبي للشخصية العراقية ، (الذئبية ، والثعلبية ، والجرذية) ، يتحدد ظهور أي منه – وبلحظة واحدة – بالظروف الفيزيائية للمكان ، أي بحسب الربح والخسارة الماديين . ويعود سبب وقوع بعض الباحثين العراقيين اللسانيين ، والانثربولوجيين والاجتماعيين في فخ الهتاف المدائحي للشخصية العراقية (الطيبة) ، و(الشعب العراقي الطيب) الذي يتحدون بطيبته العالم ، الى الإخفاق الذريع في قراءة المستويين (الثعلبي) ، و(الجرذي) من الثقافة العراقية ، فالمستوى الأول (الثعلبي) يحسن – بحكم صفته الثعلبية – لعبة الخديعة الاجتماعية . والمستوى الثاني (الجرذي) يبث خطابه الى العالم ، على شكل مسكنة ، يحسن العراقيون أداءها بصورة مثيرة للشفقة )) . وفي ضوء ما تقدم ، فان ما يمكن استخلاصه واستنتاجه من هذا النص التحليلي لانثروبولوجيا الشخصية العراقية ، هو أن تلك المستويات من التبلور والتمظهر لا تتموضع في السلوك الشخصي أو العلاقات الاجتماعية كممارسات منفصلة عن بعضها أو كونها غير مترابطة ، بحيث تبدو كما لو أنها خاضعة لمبدأ (التتابع) المرحلي أو (التمرحل) التاريخي ، وإنما هي أنماط (متعايشة) ونماذج (متضايفة) باستمرار وعلى الدوام داخل بنية الشخصية ذاتها . بيد أن ظهور أحدها مرهون بعامل (توازن القوى) بين قدرات الذات على صعيد الفعل والتأثير ، وبين اشتراطات المجتمع على صعيد المنع والإعاقة ، من حيث الظروف السياسية والإمكانات الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والسياقات التاريخية . فحيثما كانت الشخصية قادرة على ممارسة الفعل والتأثير في الوسط الاجتماعي ، كلما كان سلوكها أميل الى النمط (الذئبي) الوحشي ، أما إذا كانت عاجزة عن مقارعة من يتفوق عليها في المرتبة والمكانة والوظيفة ، كلما أظهرت ميلها باتجاه النمط (الثعلبي) المراوغ ، هذا في حين ليس بوسع الشخصية التي يكتوي صاحبها بلظى الجوع والمرض والجهل ، سوى الميل صوب النمط (الجرذي) البائس ! .
#ثامر_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاسطوغرافيا العراقية والدعوة للتحول من الأعلى الى الأسفل
-
المحنة العراقية : السلطة ضد الدولة
-
مفارقات المثقف المؤدلج وفخ (الهجنة) الايديولوجية
-
أرشيف الماضي وقاموس المعاني : قراءة في المقاصد والحدود
-
السبق الحضاري في المجتمع المعطوب : فاعل عراقة أم عامل إعاقة
...
-
الشخصية العراقية ورواسب الهجنة الايديولوجية
-
القاع والقناع : احتباس الوعي بين التاريخ والايديولوجيا (حالة
...
-
السياسة والفلسفة : تقارب أم تضارب ؟!
-
الاطر الحضارية للعلوم الانسانية
-
مفارقات المجايلة في سيكولوجيا الجماعات العراقية
-
مجتمع الاصطناع .. وفقدان الأمثولة المعيارية
-
مناقب الجمهور ومثالب النخبة !
-
هل الى صحة العقل من سبيل ؟!
-
العامل الاقتصادي وبندول الشعور الوطني
-
السؤال الموارب : هل حقا-أنا مثقف ؟!
-
مصطلح (البدوقراطية) بين حق التأسيس وحق الاقتباس
-
مزالق الايديولوجيا ومآزق الايديولوجيين !
-
الايديولوجيا ضد الايديولوجيين !!
-
خراب العقلية العراقية وطراز المثقف النيتشوي !
-
صراع العقيدة والمعتقد : بين الفتاوى الدينية والتعاويذ الطائف
...
المزيد.....
-
عام على الحرب في غزة.. ماذا تقول الأرقام عن البشر والحجر؟
-
فيديو طائرة دون طيار يظهر الدمار بجنوب لبنان جراء الغارات ال
...
-
-خلال ساعة واحدة-..الجيش الإسرائيلي يعلن إطلاق أكثر من 100 ص
...
-
بيروت ست الدنيا نعم.. أما صور الجنوبية فلها طعمٌ آخر
-
توصية باستخدام الوسائط الرقمية للأطفال خلال القراءة، ما أهمي
...
-
جونسون يصف شقة داونينغ ستريت بـ-وكر لتعاطي المخدرات-
-
لافروف يستفسر هل توجد في أرمينيا ظاهرة Quadrobers
-
بريطانيا تفرض عقوبات على قوات الدفاع الإشعاعي والكيميائي وال
...
-
السيسي يتحدث عن 3 أهداف لمصر منذ 7 أكتوبر 2023
-
قادة بلدان رابطة الدول المستقلة يلتقون في الكرملين تمهيدا لل
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|