أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ثامر عباس - القاع والقناع : احتباس الوعي بين التاريخ والايديولوجيا (حالة العقلية العراقية إنموذجا-)















المزيد.....

القاع والقناع : احتباس الوعي بين التاريخ والايديولوجيا (حالة العقلية العراقية إنموذجا-)


ثامر عباس

الحوار المتمدن-العدد: 7455 - 2022 / 12 / 7 - 11:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في المجتمعات التي لها باع طويل في إنتاج خرافات الأصول ونسج أساطير البدايات ، غالبا"ما يختلط التاريخ بالدين ، ويمتزج المدنس بالمدنس ، ويتلابس الواقعي بالرمزي ، وبالتالي يعلق (الوعي) الاجتماعي بين شقي رحى الواقع المعيش والمتخيل المجيش . ولهذا السبب تبقى جماعات هذا النمط الاجتماعي العتيق حبيسة ضمن أطر من المفارقات الوجودية المتوالية والنكبات الحياتية المتسلسلة ، التي لا تلبث أن تخرج من واحدة حتى تسقط في أخرى أشد هولا"من سابقتها ، على خلفية احتباس وعيها بين ماض مسكون بالالتباسات المتقادمة ، وحاضر مشحون بالتناقضات المتراكمة ، ومستقبل مرهون بالتكهنات المتضاربة . ولعل الجماعات العراقية المعاصرة تعتبر من أنقى النماذج التي تعكس هذه الحالة وتبرهن عليها في نفس الآن ، لاسيما بعد أن أظهرت إلى النور تداعيات الغزو العسكري الأمريكي منذ عام 2003 ولحد كتابة هذا المقال ، كل ما كان مضمر بين طيات الذهنية من خرافات تحت بند المحرّم التفكير فيه ، وجميع ما كان مخفي تحت بطانة السيكولوجيا من عصبيات تحت بند الممنوع الإفصاح عنه .
نستخدم هنا تعبير (القاع) للدلالة على ذلك (المخزون الانثروبولوجي) الهائل من رواسب الماضي المجهول وأطياف الذاكرة المشوشة ، والتي لا تزال دينامياتها شغالة في بنى الوعي وانعكاساتها مؤثرة في مطمورات اللاوعي للجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية ، وذلك كل بحسب نوعية وخصوصية سردياتها الأسطورية وانحداراتها الاثنية وخلفياتها الثقافية ومرجعياتها الدينية . (( فالماضي القريب وحتى البعيد والأكثر بعدا"– كما لاحظ المفكر المغربي (محمد أركون) – ليس مجرد مادة للفضول التاريخي والبحث العلمي وحسب ، وإنما هو حي ومنتعش في اللغات والخطابات الشائعة (حتى العالمية منها) ، وكذلك في الشعائر والطقوس ، وفي الاحتفالات الجماعية ، وفي المدلولات الرمزية للمنزل ، والحقل ، وتبادل العطايا والهدايا . ولا يزال نمط التحسس والإدراك الأسطوري بالإضافة إلى المعرفة الأسطورية التي تغلب المخيال على العقل ، يسيطر على قطاعات واسعة من الطبقات الشعبية حتى الآن ))(1) . كما ونستعمل تعبير (القناع) للدلالة على الافتتان (بالخطاب الإيديولوجي) المضلل ، سواء جاء بصيغة حكاية (أسطورية) كما في مدونات البيداغوجيا الحكومية ، أو دعوة (دينية) كما في نصوص الحركات الدينية ، أو عقيدة (إيديولوجية) كما في أدبيات الأحزاب السياسية . وهو الأمر الذي أفضى باستمرار - وسيفضي على الدوام - إلى (تجريد) العقل من وظائفه المنطقية و(تعطيل) الوعي عن قدراته التحليلية ، بحيث لم يعد بالمستطاع رؤية ما يجري في رحم الواقع المعيش من تناقضات بنيوية حادة ، وصراعات اجتماعية متفاقمة ، واحتقانات دينية متعاظمة ، وتصادمات ثقافية متشددة ، وتنافرات لغوية متوالدة ، واستقطابات تاريخية متصلبة ، وتصدعات جغرافية متزايدة ، وانقسامات سياسية متوالية . إذ طالما إن طبيعة مفهوم الايديولوجيا يعكس نمط الأفكار السائدة ويجسّد منظومة القيم المهيمنة ، أي الحالة الذهنية والسيكولوجية والقيمية للجماعات الأساسية في المجتمع ، سواء تلك التي تتربع على عرش السلطة أو تلك التي تتموضع ضمن خندق المعارضة ، فان لديها (الايديولوجيا) ميل فطري ونزوع طبيعي للتحدث باسم الجميع والتعبير عن مصالح الكل ، بدعوى كونها الممثل الشرعي للخطاب الوطني / القومي الشامل ، وهو الأمر الذي يسوقها لإزاحة كل ما لا يندرج تحت جناحها أو يغرد خارج سربها الأوحد . من هنا فالايديولوجيا محمولة – لا فرق بين ايديولوجيا السلطة أو أيديولوجيا المعارضة - على اختلاق السرديات الأسطورية وتلفيق الذاكرات التاريخية ، بحيث يتأمثل التاريخ بعين الوعي المؤدلج ليستحيل إلى معطى من معطيات الأسطورة ، للحد الذي يمكن فصله عن الواقع وسلخه عن المجتمع ، ومنحه ، بالتالي ، خاصية مفارقة للمعيش الإنساني .
ومن جملة المآسي والفواجع التي لا تفتأ تتحكم بمصير هذه الجماعات / المجتمعات الغارقة في بؤسها الوجودي وانحطاطها الحضاري ، هي إن رواسب (قيعانها) الانثروبولوجية والسيكولوجية لا زالت تلقي بضلالها القاتمة على مختلف أنماط (أقنعتها) السوسيولوجية والإيديولوجية ، للحد الذي تبدو فيه مشاكل هذه الأخيرة في (السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والهوية) ، هي بمثابة انعكاس لإشكاليات الأولى الرابضة في مجاهل اللاوعي والقارة في طمى المخيال (الأساطير والتمثلات والتواريخ والذاكرات) . ولهذا فقد أخطأ الفيلسوف المعتزلي (الجاحظ) حين اعتبر إن ظاهرة ولع المجتمع العراقي بمظاهر الجدل الفكري والمناظرات الكلامية ، هي من باب الإفصاح عن شدة ذكاء الإنسان العراقي وقوة الفطنة لديه ، الأمر الذي يجعل علاقته بأرباب السلطة ورمزها علاقة إشكالية على نحو دائم . وإذا كانت ظروف الصراع الفكري والحضاري التي وسمت تلك المرحلة التاريخية بميسمها ، ما بين دعاة النزعة (العروبية) وبين أنصار النزعة (الشعوبية) ، قد تعتبر خلفية مناسبة (لعذر) الجاحظ على إتيانه بتلك الآراء التي لا تخلو من عصبية اقوامية ، فان ذلك لا يمنعنا من الإشارة إلى أنه أخفق في ملاحظة أن الأسباب الحقيقية والدوافع الفعلية التي تكمن خلف هذه الظاهرة ، لا تمت بصلة لما زعمه من فرط في مظاهر (الذكاء) و(الفطنة) ، بقدر ما هي تعبير خفي لا واع عن تأثيرات (القاع) الانثروبولوجي / السيكولوجي المضمر على (القناع) الإيديولوجي الظاهر . وبالتالي تشكل مركز جذب واستقطاب نحو الإغراءات التي تقدمها الخطابات الإيديولوجية وتبشر بها ، لاسيما وأن حجم تأثير ومقدار فاعلية هذه الأخيرة (الايديولوجيا) يعتمدان على زخم العواطف والانفعالات في غزو الذهنيات الرخوة واحتلال النفسيات الضعيفة ، حيث رصيدها لدى الجماعات المهمشة والمحرومة عال وفعّال جدا"، على خلفية قدرتها في اختزال تعقيدات الواقع وإمكانيتها في تسطيح الوعي الذي يستهدف فهم حراكه وتفسير تطوره .
ورغم إننا لا نشاطر كل ما ورد ضمن ملاحظة المفكر السوري (برهان غليون) حول تشخيص ارتدادات هذه الايديولوجيا على الواقع الاجتماعي والسياسي العربي ، إلاّ إنه لا يحق لنا بالمقابل أن نبخس قيمة ما فيها من صواب ، حين كتب يقول (( إن المسؤول عن الإخفاق الاجتماعي والقومي ليس ما يعتقد بأنه محافظة فكرية دينية للجماهير الشعبية ، وهذه بذاتها نظرة فاشية تعتبر الشعب بطبيعته محافظا"، وهو على العكس من ذلك ، القوة الأكثر اندفاعا"وشوقا"للتغيير المادي ، ولكن البلادة والجبن والتفكك العقلي للنخبة القائدة للمجتمع . إن المسؤول هو الإيديولوجية القائدة ، إيديولوجية الفئة الاجتماعية القائدة ، التي لن تستطع أن تكتسب العلم الغربي وتتمثله ، أو تستوعب وتدمج وتثوّر الإيديولوجية التقليدية الخاصعة ، المسحوقة في أغلب الأحيان . وان الهزيمة الفكرية ، لم تكن هزيمة دين البسطاء الإيماني العفوي والفقير ، وإنما دين السياسة (العلماني) الذي لم يكن فيه من العلمانية إلاّ عقلنة كل ما هو عشائري ، ودنيوي ، وأناني ووضيع ))(2) . هذا من ناحية ، أما من ناحية أخرى ، فهم (العراقيون) يظهرون نفورهم ويبدون عزوفهم عن تجشم صعاب التحليلات السوسيولوجية والتنقيبات السيكولوجية ، التي من شأنها ليس فقط إماطة اللثام عن حجم العيوب وكم المثالب التي تتوفر عليها الشخصية العراقية فحسب ، كما ليس فقط تعرية عقدهم النفسية وفضح نوازعهم التعصبية فحسب ، وإنما تستلزم تعقب جذور / أصول الظواهر الاجتماعية المسؤولة عن إحداث كل هذه الإضرار والتشوهات ، ومن ثم تتبع دينامياتها في تصوراتهم وتقصي سيروراتها في علاقاتهم ، وهو الأمر الذي يعني في نهاية المطاف قدح زناد الوعي وإيقاد جذوة التفكير وهذا ما لم يدخل في حساباتهم بعد .
واللافت إن هذه الحالة النكوصية / الارتدادية لم تقتصر مظاهرها فقط على جمهور العامة من الجماعات العراقية كما قد يوحي الاستنتاج السابق فحسب ، بل إن هذه اللوثة الفكرية أصابت وتصيب مختلف نخب المجتمع العراقي وبدرجات متفاوتة كذلك ، والتي يفترض إن مناعة وعيها الذاتي تمنحها الحصانة الكافية للحيلولة دون انكفائها أو نكوصها ، لا بل ربما تكون أوسع مدى في العدوى وأعمق تجذر في الوعي مما قد نتصور . وذلك متأت – في الواقع - من حقيقة إن جل الخطابات الإيديولوجية التي تنظر للواقع هي من إنتاج تلك النخب والتي هي من أبرز المروجين لها وذلك لاحتمالين ؛ الأول إما لأنها ضالعة مع السلطة ومنخرطة في سياساتها بحيث تعمل على تغطية وتمويه انحرافاتها وتجاوزاتها من جهة ، وشرعنة وجودها وتقوية نفوذها وبسط هيمنها من جهة أخرى . والثاني أو لأنها – دفاعا"عن حقوقها المغيبة ومصالحها المهدورة – تقع ضمن خانة المعارضة ، بحيث تفتقر لوسائل (القوة الخشنة) وتنعدم لديها أساليب الردع الفعالة التي تمكنها من مقارعة سلطة الدولة في مضمار صراع الإرادات ، الأمر الذي يدفعها للتوسل بكل ما في جعبة (القوة الناعمة) من تأثير عقلي وإيحاء نفسي ، حيث يجيد الخطاب الإيديولوجي – في هذا المجال - قواعد التلاعب بالألفاظ والكلمات والاستثمار للرموز وللدلالات .
وللتأكيد على أصالة هذه الظاهرة ضمن بنية الوعي الاجتماعي (أفراد وجماعات) فقد توصل المفكر السوري الراحل (جورج طرابيشي) إلى مكامن تلك الظاهرة المعنية ، فضلا"عن تمكنه من تشخيص مسببات استمرارها ، حين أشار – وهو ينتقد بصيغة الجمع كل المثقفين العرب المولعين بالخطابات الإيديولوجية – إلى انه (( وبالفعل ، ونظرا"إلى حالة الطلاق المزمنة بين الفكر والواقع في العالم العربي منذ اقتحامه من قبل الحداثة الغربية (الوافدة) أو (الغازية) أو (المستوردة) – لا مشاحة في الأسماء – فان وظيفة المثقفين كانت ولا تزال منذ عصر النهضة ، وفي شطر أساسي منها ، السيطرة على عالم الخطاب أكثر مما على عالم الحقائق ، وعلى المفاهيم أكثر مما على الوقائع ، وبالتالي ، وبلغة تراثية ، على الأذهان أكثر مما على الأعيان ))(3) . وفي السياق ذاته فقد لاحظ الباحث والدبلوماسي الليبي (محمود محمد الناكوع) إن (( الصفوة العربية عاشت طويلا"في عالم المثاليات والأحلام والأوهام ، وعلى هذه الصفوة أن تنزل إلى عالم الواقع ـ وان تبصر بنظرات واقعية ، وشديدة الالتصاق بالواقع ))(4) .
ولعل هذا الأمر يفسر لنا سرّ الاستعداد الذي تبديه العقلية العراقية حيال انخراطها التلقائي بشتى ضروب الإيديولوجيات اليمنية واليسارية التي شهدها الواقع التاريخي والسياسي ، سواء أكانت ذات صبغة دينية / إسلامية ، أو ليبرالية / علمانية ، أو ماركسية / الحادية ، طالما أنها تبشر بدعاوى خيالية لا واقعية وظيفتها مداعبة أخيلة وأحلام المضطهدين سياسيا"والمسحوقين اجتماعيا" والمحرومين اقتصاديا"والمهمشين ثقافيا". وبصرف النظر عن النوايا السلبية التي يضمرها عالم الاجتماع الفرنسي (ريمون آرون) ضد الفلسفة الماركسية بشكل عام ، إلاّ إن المآخذ التي يسوقها ضدها (كايديولوجيا) وحسب لا تخلو من وجاهة واقعية ، خصوصا"بعد أن استحالت طروحاتها ومقولاتها في مجتمعات العالم الثالث المتخلف إلى ما يشبه (الأوثان) التي يحرم المساس بها نقدا" أو تطويرا". ولهذا نجده يشير إلى إن (( الماركسية تخدع الإفريقي والآسيوي وتدغدغ المصالح التي يريد أن يكونها لنفسه بعد تخرجه من الجامعة . وبفعل الانجذاب نحو هذه الإيديولوجية تجد المثقف الآسيوي يحرف معنى ما يريده من انجازات ))(5) . ولكنه ، مع ذلك ، يتجاهل حقيقة إن الماركسية في صيغتها (النقية) و(النقدية) كانت من أبرز الفلسفات التي أشارت إلى التشوهات والانحرافات التي يمكن أن تتسبب بها الايديولوجيا لبنية الوعي الاجتماعي ، جراء ميلها الفطري – كما أشرنا - لتزييف الواقع وتحريف جدلياته بما ينسجم ومقولاتها . حيث أشار مؤسسا الماركسية (ماركس وانجلس) في نص كلاسيكي إلى إن البشر اصطنعوا (( باستمرار حتى الوقت الحاضر تصورات خاطئة عن أنفسهم وعن ماهيتهم وعما يجب أن يكونوه . ولقد نظموا علاقاتهم وفقا"لأفكارهم عن الله ، والإنسان العادي ، الخ . ولقد كبرت منتجات عقولهم هذه حتى هيمنت عليهم ، فإذا هم ، الخالقون ، ينحنون أمام مخلوقاتهم ))(6) .
وعلى ما يبدو فان تواطؤا"مضمرا"قد حصل ما بين منتجي الإيديولوجيات ومروجيها من جهة ، وبين مستهلكيها من الجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية التي تستمرأ التعاطي مع تلك المنتجات الفكرية الجاهزة والمعلبة ، طالما أنها تقدم لها العزاء وتشيع بين أوساطها السلوى . فبقدر ما تستهدف الايديولوجيا حقول التاريخ ومجالات الدين ومضامير الأسطورة وميادين الذاكرة ، بقدر ما يتيح لها هذا التوجّه استقطاب المزيد من المؤيدين والمشايعين الذين يؤثرون أطياف الماضي على أكلاف الحاضر ، لاسيما وإن معظم الإيديولوجيات تجيد العزف على أوتار المسكوت عنه في طمى السيكولوجيا ، والممنوع التفكير فيه ضمن بنى الذاكرة ، والمحرم الاقتراب منه ضمن معطى المخيال . وهي حين تمارس هذا الضرب من التوظيف والاستثمار للمواريث القديمة ، لا تستهدف الكشف عن الإشكاليات الرابضة في عمق تلك الأنشطة العقلية ومن ثم تعريضها لعمليات النقد والمساءلة ، على أمل تنقيتها مما علق بها من اختلاقات وتلفيقات من جهة ، وترميم ما تعرضت له من انقطاعات مفتعلة وردم ما أصابها من فجوات مقصودة من جهة ثانية ، جراء ضراوة الصراعات التي كانت رحاها - ولا زالت - دائرة بين مختلف الجماعات الاثنية والمذهبية والقبلية واللغوية ، الخ . وإنما لاستخدامها كغطاء يموه على رزايا الواقع المعيش ، وبالتالي نقل بؤرة اهتمام تلك الجماعات إلى قضايا لا تمت لمصالحها الحقيقية بصلة ، وجعلها تخوض فيما بينها حروب جانبية لا ناقة لها فيها ولا جمل ، سوى كونها تعلقت بسرديات الماضي المؤمثلة على حساب سيرورات الحاضر المعطلة ، وتمسكت بخطابات الايديولوجيا المجيشة على حساب جدليات الواقع المعيشة . خصوصا" وان مجتمعنا حتى الآن – كما يقول المفكر المصري الراحل (فؤاد زكريا) – (( لا يسمح بمناقشة الأسس والجذور ، ولديه من الأساليب ما يتيح له إرغام المثقف على أن يحصر تفكيره في نطاق القشور السطحية وحدها ))(7) .
وبرغم إن الإنسان العراقي ، من الناحية البايولوجية ، كائن متعضّ – يأكل ويشرب ويتناسل – شأنه في ذلك شأن أي متعضّ آخر في هذا الوجود ، فضلا"عن كونه يعيش في بيئة ايكولوجية معروفة ، ويندرج في سياق تاريخي معلوم ، وينخرط في علاقات اجتماعية ملموسة . ولكنه ، مع ذلك ، لا يعيش حقيقة الواقع كما هو قائم بالفعل كتناقضات اجتماعية واحتقانات نفسية وصراعات سياسية ، كما لا يدرك فعليا"ماهية القوى العميقة التي تحدد مساراته وتعين خياراته . أي بمعنى انه يمارس طقوس حياته بصورة (مقلوبة) – إن جاز لي القول – رأسا"على عقب دون أن يعي ذلك ، لا بل انه حتى لو أدرك ذلك فانه سرعان ما يختلق لها التبريرات ويلفق لها المسوغات ويفبرك لها التخريجات ، التي تضفي عليها – من وجهة نظره المجبولة على الأمثلة والأسطرة - الواقعية والمشروعية . وذلك ليس بواقع ما يجري له وعليه وحوله - هنا والآن - من مصائب ونوائب لا تفتأ تتفاقم وتتضخم بمتواليات هندسية ، محيلة فضاء وجوده الإنساني المرهون بالصدف والمحكوم بالطوارئ إلى سلسلة من المعاناة والمكابدات ليس لها أول ولا آخر ، وإنما بناء على ما تقدمه له مخيلته المشحونة بالخرافات الدينية من معتقدات باطلة ، وما تمنحه إياه ذاكرته المعبأة بالأساطير التاريخية من قناعات مفبركة .






المصادر
(1) الدكتور محمد أركون ؛ الفكر الإسلامي : نقد واجتهاد ، ترجمة وتعليق هاشم صالح ، ( بيروت ، دار الساقي ، 1998 ) ، ط3 ، ص21 .
(2) الدكتور برهان غليون ؛ مجتمع النخبة ، ( تونس ، دار البراق للنشر ، د . ت ) ، ص9 .
(3) جورج طرابيشي ؛ من النهضة إلى الردّة : تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة ، ( بيروت ، دار الساقي ، 2000 ) ، ص165 .
(4) محمود محمد الناكوع ؛ أزمة النخبة في الوطن العربي ، ( بيروت ، د . ن ، 1989) ، ص63 .
(5) ريمون آرون ؛ أفيون المثقفين ، ترجمة قدري قلعجي ، مواقف الفكر المعاصر ، ( بيروت ، دار الكاتب العربي ، د . ت ) ، ص192 .
(6) ماركس وانجلس ؛ الإيديولوجية الألمانية ، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب ، مصادر الاشتراكية العلمية ، ( دمشق ، دار دمشق ، د . ت ) ، ص19 .
(7) الدكتور فؤاد زكريا ؛ هل المثقف هو المسؤول ، مقال منشور في مجلة الفكر المعاصر المصرية ، العدد (2) ، ( القاهرة دار الفكر المعاصر للنشر / بيروت ، دار ابن رشد للنشر ، د . ن ) ، ص6 .



#ثامر_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السياسة والفلسفة : تقارب أم تضارب ؟!
- الاطر الحضارية للعلوم الانسانية
- مفارقات المجايلة في سيكولوجيا الجماعات العراقية
- مجتمع الاصطناع .. وفقدان الأمثولة المعيارية
- مناقب الجمهور ومثالب النخبة !
- هل الى صحة العقل من سبيل ؟!
- العامل الاقتصادي وبندول الشعور الوطني
- السؤال الموارب : هل حقا-أنا مثقف ؟!
- مصطلح (البدوقراطية) بين حق التأسيس وحق الاقتباس
- مزالق الايديولوجيا ومآزق الايديولوجيين !
- الايديولوجيا ضد الايديولوجيين !!
- خراب العقلية العراقية وطراز المثقف النيتشوي !
- صراع العقيدة والمعتقد : بين الفتاوى الدينية والتعاويذ الطائف ...
- الثقافة والديمقراطية .. تزامن أم تعاقب ؟
- صلاحية الديمقراطية في المجتمعات المتخلفة !
- العقد الاجتماعي بين اهمال الدولة وتجاهل المجتمع
- الصراع على السلطة : مقاربة في سوسيولوجيا التداول السياسي
- تتريث العقل وتوريث الجهل
- اللغة السياسية والكتابة الصحفية
- ثقافة البراكسيس : الضرورة التاريخية والاضطرار السياسي (الحلق ...


المزيد.....




- صحفي يسأل ترامب عما إذا كان قد اتصل ببوتين منذ تركه منصبه.. ...
- مسؤولة يونانية تتهم الاتحاد الأوروبي بالفشل في التعامل مع قض ...
- تقرير: إسرائيل تواجه نقصاً شديداً في الصواريخ الاعتراضية
- تواصل حملة التطعيم ضد شلل الأطفال بغزة
- واشنطن تعزز انخراطها بحرب غزة
- جنود إسرائيليون يعبثون بملابس أطفال غزة
- حزب الله يكثف قصف حيفا وإسرائيل تعلن أسر 3 من مقاتليه
- السيسي وابن سلمان: إقامة الدولة الفلسطينية السبيل الوحيد لتح ...
- إيكونوميست: جواسيس بوتين يخططون لفوضى عالمية
- بين اقتراعين.. هل تخدم الظروف ترامب هذه المرة؟


المزيد.....

- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ثامر عباس - القاع والقناع : احتباس الوعي بين التاريخ والايديولوجيا (حالة العقلية العراقية إنموذجا-)